|
الظروف الجغرافية لليونان
فارس تركي محمود
الحوار المتمدن-العدد: 6782 - 2021 / 1 / 8 - 23:41
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
تميزت بلاد اليونان بظروف جغرافية ومناخية كانت هي السبب المباشر في خلق وإنتاج إيقونان التمدن، وقد تناول الكثير من الكتاب والباحثين تأثير تلك الظروف ودورها الحاسم في رسم وتشكيل ملامح الحضارة اليونانية وصفات الشخصية اليونانية وتكلموا بإسهاب عن تضاريس اليونان الوعرة والتي تجعل من مسألة الاتصال بين جميع أجزائه أمراً صعباً يحتاج إلى بذل الجهد العضلي والفكري، وتنوع تلك التضاريس ما بين جبال ومرتفعات وسهول ووديان وأنهار، وتوغل البحر في أراضيه توغلاً شديداً حيث لا يوجد مكان في بلاد اليونان يبعد عن البحر بأكثر من أربعين ميلاً، فضلاً عن أن الحالة النباتية في بلا اليونان تتميز بظاهرة التغير المفاجئ من نوع إلى نوع، فكثيراً ما توجد منطقة خصبة وفيرة الزرع إلى جانب منطقة قاحلة جرداء. وقد نشأ عن الاختلاف في ارتفاع السطح عن مستوى سطح البحر اختلاف في المناخ ، وزاد من حدته القرب من البحر أو البعد عنه ، فضلاً عن الاختلاف الكبير في درجات الحرارة بين الصيف والشتاء، فالشتاء كان قارس البرد بينما الصيف يكون معتدل، وقد أدى ذلك إلى اختلاف كبير في شدة الرياح ودرجة الحرارة وكمية المطر بين ومكان. وقد تضافرت هذه العوامل على جعل الحياة في بلاد اليونان شاقة وسهلة، وعلى جعل شعبها صلباً ولين العريكة في الوقت نفسه. ذلك أن وعورة الارض واختلاف المناخ من فصل إلى فصل، وقسوة الشتاء، قد جعلت البقاء للأصلح وبالتالي جعلت اليونان شعباً متقشفاً شديد المراس. غير أن اعتدال الجو في الصيف الطويل الجاف، مع قدرة اليوناني على أن يعيش عيشة الكفاف، ترتب عليها ان أصبح الكفاح من أجل القوت لا يستغرق كل وقته، فلم يكن بحاجة إلى الكد المستمر من الصباح إلى المساء الأمر الذي جعله يتمتع بوقت فراغ استثمره في التفكير والتأمل وطرح المشكلات وقتراح الحلول والدخول في مناقشات مع الافراد الآخرين وإثارة التساؤلات حول مختلف القضايا وفي كافة المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، مما ساعد على خلق عقلية نقدية منطقية متسائلة متشككة، وجعل من الفرد اليوناني – كما سماه أرسطو - حيواناً مدنياً، أي شغوفاً لا بالحياة في المدينة فقط بل بالوقوف على أحوالها والمشاركة في تدبير شؤونها ومناقشة سياستها من خلال تواجده في الجمعية الشعبية أو مجلس الشورى أو المحكمة أو النادي الرياضي الثقافي. كما أن هذه الظروف الجغرافية والمناخية التي عاش في ظلها اليونانيون نمَّت لديهم روح الحرية والنزعة الاستقلالية وكما يذكر أحد المؤرخين فإن الإغريق كالشعوب التي تعيش في مثل مناخهم، شعب يألف العشرة ويميل إلى الاندماج في جماعات كبيرة ولذا كانوا حتى في حالة الهجرة إلى ساحل أسيا الصغرى أو إيطاليا، لا يخرجون فرادى بل زرافات أي في حشود تشيع فيها روح الصداقة والود. فإذا حطوا رحالهم في المستعمرة الجديدة على الشاطئ الآخر من البحر لم يكن يعنيهم أن يجدوا الظروف الاقتصادية بقدر ما كان يعنيهم أن يجدوا الظروف الاجتماعية المناسبة. وحياة النوادي تقوي روح الزمالة ، والزمالة الطيبة تعني المساواة، لا المساواة الصورية بل المساواة الحقيقية التي تنبع من الاحساس بالمصلحة المشتركة ووحدة الهدف ومن الاتصال المستمر في الاماكن العامة. ومساواة من هذا القبيل تصلح لأن تكون أساساً للنظم السياسية. وفي مجتمع صغير بسيط لا يتغير فيه المناخ إلا بتغير الفصول، لن يكون الموضوع الرئيس الذي يشغل بال الجماهير هو الجو أو المال أو الزواج بل الدولة. فالدولة في حقيقة الامر هي المصلحة المشتركة ( Koinon ) كما يسميها اليونان أو المصلحة العامة ( Res puplica ) كما يسميها الرومان. ففي المنتديات العامة تتهيأ الفرصة لمناقشة المشاكل علناً وبحثها على مشهد من الجميع. ومثل هذه الحياة الجماعية كفيلة بأن تخلق وعياً وإرادة شعبية قوية أي تخلق ما نسميه اليوم بالرأي العام. وكان اليوناني يناقش كل موضوع يطرح أمامه، وكان من بين حقوقه الأثيرة إلى نفسه هو أن يتكلم بحرية ويقول كل ما يخطر له، وكانت أثينا تفتخر بما تكفله من حريات للأفراد على اختلاف أمزجتهم الشخصية. وبشكل عام يمكن القول أن تنوع تضاريس بلاد اليونان ووعورتها ، وتميز مناخها بشتائه البارد وصيفه المعتدل الطويل ، وتعدد أنشطتها الاقتصادية من زراعة وتجارة وصيد ورعي، كل ذلك جعلها تقع على طرفي نقيض من سمات المجتمع البدائي. حيث أن مثل هذه الظروف الجغرافية تتصادم بنسبة عالية جداً مع تلك السمات وتجبر من يعيش في ظلها على الابتعاد بشكل تدريجي عن تلك السمات وعلى أنتاج وتطوير سمات جديدة تتلاءم ومحيطه الجغرافي. إذ أن وعورة تضاريس بلاد اليونان وصعوبة الاتصال بين كافة أجزائها من جهة، ووجود الكثير من السهول والأراضي المنبسطة التي يمكن للأفراد الانتقال اليها والعيش فيها من جهةٍ أخرى يجعل من الصعب جداً إن لم يكن من المستحيل قيام سلطة دكتاتورية قمعية تستطيع أن تفرض سيطرتها وسلطانها على البلاد كلها، مما يعني بالنتيجة إضعاف واحد من أهم أسس وسمات المجتمع البدائي وهي السلطة الدكتاتورية الفردية المطلقة لأنها ستكون سمة مسببة للخسارة بمعنى أن من يحاولها - فرداً كان أو جماعة - ستكون خسائره أكبر بكثير مما يمكن أن يجنيه في مثل تلك الظروف الجغرافية، وبالتالي سيتم استبدالها بسمة جديدة هي سمة الديمقراطية والمشاركة الشعبية في الحكم لأنها ستكون سمة مربحة في ظل ذات الظروف. كما أن مثل هذه الظروف الجغرافية بتنوعها وبتعدد أنشطتها الاقتصادية وبقدرتها على تحفيز الفعل الإيجابي والإبداعي وبما تطرحه من فرص وتحديات ومشاكل تستدعي استجابات منطقية وحلول عقلانية ورؤى بنَّاءة ونقاشات حرة منفتحة، ستؤدي بالتأكيد إلى رفع سقف الحريات السياسية والفكرية والاجتماعية لأن مثل هذه الحريات ستكون مطلوبة وضرورية ومربحة في بيئة جغرافية بهذه المواصفات وستساهم بشكل فعَّال في تحقيق الاستثمار الأمثل لخيرات هذه البيئة ولما تقدمه من إمكانيات، وسيكون التضييق عليها أو إلغائها مضراً وجالباً للخسارة. ومما لا شك فيه أن إضعاف سمة الديكتاتورية سيساهم هو الآخر في رفع سقف الحريات والعكس صحيح أي أن رفع سقف الحريات سيزيد من إضعاف وتراجع سمة الديكتاتورية وتقوية وتدعيم الديمقراطية وهكذا دواليك. إن البيئة الجغرافية التي تصطدم بسمة الديكتاتورية وتنتج مفهوم الديمقراطية كبديل لها، والتي تدفع باتجاه رفع سقف الحريات، ستصطدم بالتأكيد بسمة أخرى من سمات المجتمع البدائي ألا وهي سمة العقل الجمعي وستعمل على إقصائها واستبدالها بسمة أخرى أكثر ملاءمةً لها وانسجاماً معها وهي سمة الفردية أو العقل الفردي والتفكير الفردي. فالبيئة المشجعة للحرية بكل أنواعها والبيئة التي ترفع من سقف الحريات بشكل عام والبيئة المنتجة لفكرة الديمقراطية، ستنتج بلا شك الإنسان الفرد صاحب الفكر الحر والتفكير غير النمطي، القادر على طرح أفكار ورؤى مبتكرة وإبداعية ومغايرة لما تعارف عليه المجتمع، الإنسان غير المنقاد لفلسفة القطيع والرافض لها والغير منسجم ومتناغم معها. إن هذا الإنسان الفرد المبدع والمبتكر والمبادر هو الذي ستكافئه تلك الظروف الجغرافية وتفتح له أبوابها وهو الذي ستكون فرص بقائه ونجاحه أكبر. مما يعني في النهاية تراجع سيطرة واستحواذ العقل الجمعي على المجتمع لصالح مزيد من السيطرة والتجذر لفكرة الفردية والتعددية الفكرية وتنوع الآراء. أما فيما يتعلق بالعقلية الوعظية التي تتسم بها كل المجتمعات البدائية فإنها لا تستطيع أن تبقى وتستمر وتفرض سيطرتها في ظل ظروف جغرافية كتلك التي تتميز بها بلاد اليونان لأنهما سيدخلان في حالة صدامية مستمرة وحرب دائمة ستكون نتيجتها الحتمية تقهقر العقلية الوعظية وتقليص مساحة نفوذها ودرجة سيطرتها وإيجاد بديل لها يتمثل بالعقلية التي تعتمد المنهج التحليلي التجريبي. لأن البيئة الجغرافية التي تحتاج إلى إعمال العقل لجني ثمارها لا يمكن أن تكون بيئة ملائمة لنمو وتجذر المنهج الخطابي الوعظي، والبيئة التي تدفع باتجاه تبني فلسفة التجربة والخطأ والتعلم من التجارب والأخطاء لا يمكن أن تكون إلا بيئة خانقة ومقصية لعقلية الوعظ والإرشاد ومشجعة وراعية للعقلية العلمية العملية التجريبية، والبيئة التي ترفع من سقف الحريات وتنمو وتزدهر فيها الديمقراطية والفردية والتعددية الفكرية هي البيئة المثالية للتفكير المنطقي العقلاني الذي يربط ما بين الأسباب والنتائج، وهي العدو اللدود للعقلية الخطابية الوعظية. والقول ذاته ينطبق على كل سمات المجتمع البدائي التي ستصطدم حتما بالظروف الجغرافية لليونان وستدخل معها في صراع سيؤدي في نهاية المطاف إلى تراجع وانكفاء تلك السمات لتحل محلها سمات أكثر ملائمة وانسجام مع تلك الظروف. إذاً فإن الظروف الجغرافية هي السبب الأساسي الذي يقف وراء ما شهدته بلاد اليونان وما يزخر به تاريخها من أحداث وتطورات وشواهد دالة على وجود المخاضات الأولى لولادة وظهور إيقونات التمدن. والظروف الجغرافية أيضاً هي التي تقف وراء ظهور بدايات وجذور تلك الإيقونات في التاريخ الروماني وهي التي زرعت بذورها الأولى ورعتها ونمَّتها ، فمثلما اصطدمت جغرافية اليونان ومناخها بسمات المجتمع البدائي كذلك اصطدمت بها جغرافية ومناخ روما وإيطاليا - بل والقارة الاوربية برمتها – بغطائها النباتي الأخضر وبتنوع تضاريسها وتعدد أنشطتها الاقتصادية وبتحفيزها للعمل المثمر والإبداع وبتشجيعها للتفاعل الإيجابي والحوار المنطقي ما بين الإنسان ومحيطه وبمباركتها لمفهوم التجربة والخطأ وفلسفة السبب والنتيجة . وكانت من نتائج هذا الصدام ما أوردناه من شواهد وأدلة تشير إلى وجود بوادر وإرهاصات الديمقراطية والحرية والمشاركة الشعبية بالحكم وحقوق الإنسان في التاريخ الروماني المبكر .
#فارس_تركي_محمود (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ايقونات التمدن 3
-
ايقونات التمدن 2
-
ايقونات التمدن 1
-
الجغرافيا الأوربية والدولة الحديثة
-
خامساً: الديمقراطية
-
رابعاً: النضوج العقلي
-
ثالثاً: المنهج التجريبي التحليلي
-
ثانياً: الحرية
-
سمات الدولة الحديثة/ أولا: الفردية
-
تأثير الجغرافيا على أفكار البشر وسلوكياتهم
-
الدولة الحديثة
-
سادساً: غياب منظومة حقوق الإنسان
-
خامساً: الروح الحربية وفلسفة القوة
-
رابعاً : العقلية البدائية
-
ثالثا: المنهج الوعظي الخطابي
-
ثانياً : النظام الأبوي والديكتاتورية
-
سمات الدولة القديمة / اولاً : العقل الجمعي
-
الدولة القديمة
-
ثالثاً : الصراع من أجل نيل الاعتراف ( الثيموس )
-
ثانيا: التاريخ حر
المزيد.....
-
هل يعارض ماسك الدستور بسبب حملة ميزانية الحكومة التي يقودها
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وأخرى تستهدف للمرة الأولى-..-حزب
...
-
حافلة تسقط من ارتفاع 12 مترا في حادث مروع ومميت في فلاديفو
...
-
بوتين يتوعد.. سنضرب داعمي أوكرانيا بالسلاح
-
الكشف عن التاكسي الطائر الكهربائي في معرض أبوظبي للطيران
-
مسيرات روسية اختبارية تدمر مركبات مدرعة أوكرانية في اتجاه كو
...
-
مات غيتز يتخلى عن ترشحه لمنصب وزير العدل في إدارة ترامب المق
...
-
أوكامبو: على العرب الضغط على واشنطن لعدم تعطيل عمل الجنائية
...
-
حاكم تكساس يوجه وكالات الولاية لسحب الاستثمارات من الصين
-
تونس.. عبير موسي تواجه تهما تصل عقوبتها للإعدام
المزيد.....
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
-
في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|