مارك مجدي
الحوار المتمدن-العدد: 6781 - 2021 / 1 / 7 - 15:43
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
ورقة حوار حول الحداثة
"كل ما هو صلب يذوب في الهواء, و كل المقدسات تُنتهك, و يصبح البشر مجبرين أخيراً علي مواجهة ظروف حياتهم و علاقاتهم بحس واقعي" البيان الشيوعي
الحداثة هي قضية إشكالية بلا شك, و ينبع طابعها الإشكالي من الانقسام الملحوظ بين درجة تطور المجتمعات المختلفة في ظل عالم رأسمالي ينقسم إلي مجتمعات متقدمة وأخرى متخلفة.
فنحن نعرف جميعاً أن المجتمعات الأوروبية انتقلت لمستوى تطور أعلى من المجتمعات الأخرى في الشرق الأدني و الأقصي, و غالباً ما يشار إلي هذا التطور الذي حدث في المجتمعات الأوروبية على أنه "الدخول إلي مرحلة الحداثة".
مفاهيم متداخلة
و لا ينبغي أن نقع في الفخ الذي يقع فيه الكثيرون, حيث يتم الخلط بين "مذهب" الحداثة و الحداثة بصفتها" محطة تاريخية يُنجز فيها الانتقال من مرحلة إلى مرحلة أخري"هنري لوفيفر.
و مذهب الحداثة يختلف عن الحداثة كمرحلة تاريخية, هو مذهب و اتجاه فكري له انعكاسات نظرية فلسفية و سياسية و اقتصادية, و يستهدف في النهاية بلوغ المرحلة الحداثية أو الوضع الحداثي (ديفيد هارفي).
و يصف( يورجن هابرماس) مذهب الحداثة بصفته " مشروع ولده جهد غير عادي من جانب مفكري التنوير لتطوير علوم موضوعية و أخلاق كونية و قانون كوني و فن مستقل, وفقاً لمنطق داخلي".
و السمة المميزة لمذهب الحداثة هي العقلانية التي يرافقها التمرد على الأعراف و التقاليد, كما يتضمن مبدأ سيادة علوم الطبيعية على أي مصدر فكري آخر. و هو يقدم وعداً بالتحرر من الندرة و الحاجة و اعتباطية الكوارث الطبيعية. كما يسعى لتطوير أشكال التنظيم الاجتماعي على أساس عقلاني متحرر من الأسطورة و الدين و الخرافة، و من الاستخدام الاعتباطي للسلطة. والانعكاس السياسي لهذا المذهب يتجسد في مبادئ الحرية و المساواة و الحرية و الإيمان بالمعرفة الإنسانية و الفرد (فؤاد زكريا).
أما مرحلة الحداثة فهي تلك المرحلة التي يبدأ النمط الرأسمالي الجديد فيها بالاستقرار. هذا النمط الذي سيحطم النمط السابق عليه وهو النمط الإقطاعي, و لكي يُحطم هذا النمط الإقطاعي كان من الطبيعي أن تظهر الأفكار المناوئة للأفكار التي تبرر قيام و استقرار الإقطاع، و تحلل وجوده علي المستوي الفكري, كانت مبررات الإقطاع الفكرية في أوروبا هي بشكل رئيسي المسيحية الكاثوليكية, بالإضافة لما نتج عنها من تبريرات لاهوتية و سياسية لتبرير القنانة و الحكم الملكي.
و لذلك كان من الطبيعي أن تسعي الطبقة البرجوازية لأن تفرز و تتبني الأفكار المعادية للأفكار المرتبطة بالإقطاع, و كانت هذه الأفكار هي ما تسمى بأفكار التنوير و الحداثة.
و علينا أن نشير سريعاً إلى أن كل من "التنوير" و الحداثة" لا يمكن اعتبارهما وصفاً لشيئاَ واحداً، على الرغم من أن المستهدفات واحدة, ف"عصر التنوير" يرتبط بمرحلة ظهور أفكار تُفكك الفكر الديني القروسطي لصالح العقلانية و العلم و الفردية و الحرية و المساواة( ديكارت, كانط, روسو, فولتير, لوك, هيوم, كوندورسيه, توكفيل, ديدرو و غيرهم) و هي أفكار تطورت مع صعود النمط الرأسمالي و الطبقة البرجوازية عبر قرنين من الزمان. أما الحداثة فهي مرحلة تمثل بداية استقرار النظام الرأسمالي بمجمل منجزاته العلمية و التكنولوجية المهولة, و معه يستقر أسلوب جديد في الحياة معتمداً على العقلانية التي ترافقها الثورة التكنولوجية. و هو يرتبط كذلك بمذهب الحداثة الذي وضحنا سابقاً عناصره الرئيسية, و الذي يستهدف إجمالاً بناء عقل كلي، يتعاطي و يفسر الظواهر من منظور كلي شامل. و هذا يعني أن أفكار الحداثة هي أفكار أكثر تقدماً من أفكار عصر التنوير, حيث تستهدف نقاط وصول أبعد من الأولي. فالتنوير هو مرحلة تحرير العقل البشري و الحداثة هي مرحلة تأسيسه علي المستوي النظري الكلي, و التي تشترك فيها مذاهب فكرية متنوعة(هيغل, ماركس, نيتشة, فرويد, الوضعية المنطقية و غيرها) و جميعها تؤلف المناخ و الأساس الفكري للحداثة في إطار الصراع الفكري الدائر بينها.
الحداثة إذن هي تلك المرحلة التي يستقر فيها النظام الرأسمالي بشقيه المادي التحتي والفوقي, و الشق المادي يمكن تلخيصه في تفتيت كافة أشكال البنى الاجتماعية التقليدية لصالح الفرد, و هو الدور الذي تنجزه الطبقة البرجوازية في المسار الكلاسيكي, حيث يعيش الإنسان في مجتمع تقوده المعرفة العلمية و التقدم العلمي، المقدم إليه من قبل منجزات الثورة الصناعية و التكنولوجية, أما الشق الفوقي، الفكري والثقافي، فهو الخاص بتسييد العقلانية العلمية و تحرير البشر من سيطرة الأسطورة و الفكر الغيبي الديني عبر تحجيم المؤسسات الدينية ووكلائها, و إرساء قيم الدولة الحديثة الخاصة بالديمقراطية البرجوازية بمؤسساتها و قيمها, و التي تتيح بدورها مساحة لنشأة التنظيم المجتمعي غير الحكومي و الذي يسمى بالمجتمع المدني(النقابات و الجمعيات و الأحزاب الرسمية).
و قد أجمل ماركس حالة البشر في الحداثة في النص المقتبس""كل ما هو صلب يذوب في الهواء, و كل المقدسات تُنتهك, و يصبح البشر مجبرين أخيراً علي مواجهة ظروف حياتهم و علاقاتهم بحس واقعي".
مشروع الحداثة العربية المجهض
"الحداثة ليست محطة وصول بل سيرورة متصلة تتجاوز ذاتها باستمرار".
حسب محمود أمين العالم، هناك خمس رؤى للحداثة في واقعنا العربي.
الأول
هو المنظور الليبرالي للحداثة، و جوهر هذا المنظور هو تسييد العقلانية الأداتية التكنولوجية من أجل تجديد الحياة و تطويرها و الخروج بها من جمود العصور الوسطى . يعبر عنه كثيرون ، و هو التيار المسيطر في الساحة الثقافية من الطهطاوي حتي زكي نجيب محمود . و يعتبر العالم هذا التيار المعبر عن الليبرالية و فلسفتها تيار عاجز، فهو بالفعل لم يثمر عن أي تحديث في المجتمعات العربية، بل كان أداة لتعميق التبعية البنيوية للتقسيم الدولي الرأسمالي للعمل .
الثاني
هو المنظور الديني للحداثة، أي هذا المنظور الذي يسعى للاجتهاد في الدين و تجديده. و ركيزة هذا المنظور الرئيسية هي التأويل للنص بما يتلاءم مع مصالح البشر. و نقطة البداية لديه علي العكس من المنظور الليبرالي هي التمايز مع الغرب و ليس التماثل معه . و المفهوم المحوري عند رواد هذا التيار هو العقيدة و الإيمان. حسن حنفي و جلال أمين و طارق البشري كنماذج .
ورغم دعوة التيار المعبر عن هذا المنظور إلي التعقل و التنمية المستقلة المرتكزة علي الذات، إلا أن معظم المعبرين عنه انتهوا إلي الاصطفاف مع الأصولية . و كان افضل نموذج يعبر عن هذا المنهج التوفيقي بين منجز الغرب و خصائص الشرق هو عادل حسين الذي انتهى به الأمر ليكون رئيس تحرير جريدة الشعب لسان حال الإخوان المسلمين وحلفائهم. و أجمل العالم دعوة هذا التيار إلي أنها دعوة إلي تنمية رأسمالية مرشدة تحت مظلة إسلامية سلفية.
الثالث
هو المنظور القومي للحداثة. و رغم اعتراف العالم بأن منظري هذا التيار قد لعبوا دوراً بارزاً في التحرر، إلا أنه يشترك مع الفكر الديني في الموقف من الحضارة الغربية ، فهو يسعى إلي طريق ثالث عن الرأسمالية والاشتراكية في التنمية . فيوجه دعوة هي أقرب إلي النظام الرأسمالي المرشد ديمقراطيا و قوميا, انتهي نديم البيطار مثلاً إلي أن التغيير سيأتي مدفوعا من الطبقة الوسطى .
و هذا التيار يدعو إلي الوحدة في سبيل التقدم ،و لكن يعلق العالم بأن ليس الوحدة القومية وحدها شرطا لضمان التقدم، ما لم تتوفر شروط سياسية و اجتماعية و طبقية معينة في هذه الوحدة.
و يرى العالم أنه لا توجد فواصل عميقة حاسمة بين فكر الحداثة الليبرالية و الدينية و القومية، فالقاسم المشترك بينهم جميعا هو التوفيقية .
الرابع
و هو منظور ثقافي للحداثة، أي أنه يرتكز على تغيير وتجديد البنية الفكرية كأساس للتحديث. و هو لا يدعو مثل من سبقوه إلي حضارة أخري متميزة شأن التيار الديني و القومي، و إنما يدعو للاندماج و الامتزاج بالحضارة العالمية القائمة، ويجد هذا التيار مفكرين معاصرين يمثلونه مثل العروي و الجابري و أدونيس و فؤاد زكريا و لويس عوض و نصر حامد أبو زيد و غيرهم.
الخامس
و هو المنظور و التيار الذي يجد فيه محمود أمين العالم ضالته، و يطلق عليه تيار التغيير الجذري الشامل. فهو تيار لا يقلل من أهمية العمليات الثقافية والتنويرية، و لكنه لا يرى فيها وحدها السبيل لتحقيق التغيير الحداثي الحقيقي . فالتخلف ليس أساساً في العقل، و إنما في الواقع، في البنية السلطوية و الاجتماعية و الاقتصادية للواقع . و لهذا لابد من تغيير هذا الواقع تغييراً جذرياً. و يتزعم هذا المنظور الاتجاه الماركسي، إنه تيار حداثي لا يري سبيل لسيادة العقلانية و العلمنة، وتصفية الطابع المزدوج في ثقافتنا، إلا بتحقيق التنمية الوطنية.
و إذا كان التخلف و التراجع ينبع من الواقع, فتخطي الواقع المتخلف و تحطيم أركانه هو الأساس المادي المؤهل لقيام التنوير و الحداثة, و هو ما يتم عبر عملية إتمام الانتقال من العلاقات ما قبل الرأسمالية المندمجة مع الرأسمالية التابعة إلي علاقات رأسمالية تنموية ناضجة, و في إطار عملية الانتقال هذه تتفكك البني التقليدية العشائرية أو الدينية مع القيم التي تحملها لصالح قيم الحداثة.
و لقد ذكرنا عرض محمود أمين العالم للمدراس الفكرية المختلفة و رؤيتها للحداثة باعتبارها جميعها تؤلف شكلاً من أشكال الممهدات الفكرية لمشروع حداثي عربي مكتمل, بالإضافة طبعاً للمشروع التنويري العربي المجهض الموجود عند الطهطاوي و محمد عبده و علي عبد الرازق و الكواكبي و الخولي و سلامة موسي و لطفي السيد و طه حسين). و نجد لدى محمود أمين العالم في كتابه معارك فكرية عرضاً نقدياً مفصلاً لمجمل أعمال هؤلاء المفكرين بما يتلاءم مع مهمة إعادة تأسيس مشروع التنوير العربي.
هل اكتمل مشروع الحداثة الغربي ؟
مشروع الحداثة الغربي لم يكتمل علي مستوي المستهدفات المعرفية و لا العملية, و يرجع الأمر في ذلك للتحولات التي واجهت الرأسمالية العالمية بعد الحرب العالمية الثانية و تحولها نحو النيو ليبرالية, و هو ما تطلب الارتداد المعرفي عن الموقع الحداثي و تفكيك منجزاته الكلية, و كانت عملية التفكيك هذه هي ما سيطلق عليه لاحقاً مسمي ما بعد الحداثة.
و من المهم جداً أن نشير إلى أن الحداثة قد تحقق مجمل مستهدفاتها, و رغم ذلك, لن تحظي بصفة الاكتمال أو "التمام" حسب لفظ عبد الله العروي فهي " سيرورة متصلة تتجاوز ذاتها باستمرار" العالم.
و لقد وضحنا سابقاً أن الحداثة تحمل توجهات و مدارس فكرية متناقضة, لكن يؤسس التفاعل القائم فيما بينها للجانب الفكري للحداثة. كذلك هو الحال بالنسبة لمشروع التنوير و الحداثة العربية المجهض, و عندما نقر بحقيقة أنه مجهض أو مهزوم فنحن نرجع ذلك, بناء علي ما سبق, إلي فشل الانتقال من التخلف المادي نحو التقدم, أي إلي الأسباب الواقعية و ليس الفكرية. فرجاحة الفكر و تماسكه الداخلي ليست معياراً لانتصاره.
قراءات :
- ما الحداثة, هنري لوفيفر
- القول الفلسفي للحداثة, يورجن هابرماس
- حالة ما بعد الحداثة, ديفيد هارفي
- معارك فكرية, محمود أمين العالم
- مفهوم التاريخ, عبد الله العروي
#مارك_مجدي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟