|
تقاطعات بين الأديان 19 إشكاليات الرسل والأنبياء 4 لوط
عبد المجيد حمدان
الحوار المتمدن-العدد: 6779 - 2021 / 1 / 5 - 23:40
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
تقاطعات بين الأديان 19 إشكاليات الرسل والأنبياء 4 لوط لوط نبي ورسول ، كما يقول القرآن . { ولوطا آتيناه حكماً وعلماً ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث إنهم كانوا قوم سوء فاسقين 74 وأدخلناه في رحمتنا إنه من الصالحين 75 } سورة الأنبياء . و { وإن لوطا لمن المرسلين } 133سورة الصافات . لكن سيرة لوط ؛ النبي والرسول ، تكتنفها ، كغيره من الأنبياء والرسل ، سلسلة من الإشكاليات العصية على الفهم ، والمثيرة لسلسلة أطول من الأسئلة والتساؤلات . لإلقاء الضوء على تلك الإشكاليات ، وَاستباقا لِلأسئلة والتساؤلات الخاصة بها ، نبدأ بالسؤال : من هو لوط ؟ 1 لوط ، كما تعرفه التوراة ، هو لوط بن هاران بن تارح ، المنحدر من سام بن نوح . والإصحاح الحادي عشر من سفر التكوين ، وابتداء ً من الآية 27 ، يعرفنا أن لوطا كان يتيم الأبوين . وأنه ، حين كان فتى ، وكما أسلفنا في الحلقة السابقة ، والخاصة بإبراهيم ، خرج مع جده تارح ، وعمه أبرام - إبراهيم - وزوجة عمه ساراي - سارة - ، من أور الكلدانيين ، الواقعة في جنوب العراق ، إلى حاران في شماله . ولا تحكي التوراة عن مسببات هذا الخروج ، وبصورة أساسية خروج تارح الأب ومعه ابن ابنه ، اليتيم لوط ، وإنما اكتفت بالقول أنهم خرجوا ليذهبوا إلى أرض كنعان - فلسطين - . وتضيف ، ومرة أخرى كما أوضحنا في الحلقة السابقة ، أنهم مكثوا في حاران ، عند أهل لهم هناك ، فترة من الزمن طالت ، مات فيها الأب تارح ودفن في حاران ، وًليتوجه بعدها الثلاثة ؛ أبرام ، ساراي ، ولوط إلى فلسطين . كان مسبب هذا الخروج ، كما تقول الآيات ، من 1 إلى 10 من الإصحاح الثاني عشر ، كي يعلن الرب عهده لَأبرام ، بمنحه ونسله الأرض ، بعد أن يريه إياها ، والتي كان الكنعانيون يسكنونها آنذاك . وليأتي سؤال جديد : وماذا عن لوط ؟ ولماذا تم اصطحابه في هذه الرحلة والرحلات التالية ، ولم يترك عند عمه ناحور في أرض ميلاده ، أور الكلدانيين ، وهو الذي ليس له وَلنسله من هذا الوعد نصيب ؟ 2 الجواب على السؤال ، كما عن مسببات الخروج ، يقدمه لنا القرآن . القرآن يقول ، كما أوردنا في الحلقة السابقة ، أن أبرام - إبراهيم - لم يرض عن دين أجداده ، وأنه قبل أن يكسر أصنامهم دعاهم لعبادة الله وحده ، فما كان منهم ، وبينهم أبوه الذي تبرأ منه ، وباقي أسرته ، إلا أن حكموا عليه بالموت حرقا ، لكن الله جعل نارهم بردا وسلاما عليه . ولكن إبراهيم بعد النجاة من الحرق لم يجد أمامه من سبيل غير الفرار من ملاحقة قومه له . ولأن الفتى لوط كان الوحيد من أسرته الذي آمن به ، فقد كان بديهيا أن يأخذه إبراهيم معه في رحلة الفرار هذه . ومن جديد يبرز سؤال : إذاً لماذا استثنى الرب لوطا من عهده مع إبراهيم ، بالرغم من نقاوة عنصر النسب بينهما ، فَانتفاء مبرر استثناء إسماعيل ابن الخادمة هاجر المصرية ، واستثناء أولاد إبراهيم الآخرين ، من الأم قطورة الكنعانية ، وأولاده من إمائه الأخريات ؟ لماذا كان استثناء لوط من ذلك العهد ، وهو صاحب السبق ووحدانية الإيمان برسالة ودين إبراهيم ؟ سأترك الجواب معلقا هنا ، لنمضي بعض الوقت مع رحلة لوط . 3 يقول لنا الإصحاح الثاني عشر من سفر التكوين أن لوطا صَحب أبرام - إبراهيم - في رحلتهم لمصر ، إثر الجوع الذي ضرب أرض كنعان آنذاك . وبالتالي كان شاهدا على تأجير إبراهيم لفرج زوجته للفرعون . لكن آيات الإصحاح لا تشير ، من قريب أو بعيد ، لموقف لوط من فعل عمه هذا ، وبما يدعنا نستنتج أن لوطا ، كمؤمن برسالة عمه ، لم يكتف بالرضى فقط ، وإنما حظي هذا الفعل عنده بالدعم والمساندة . ليس هذا فقط ، إذ يبدو أن خير ساراي - سارة - ، الخير الذي أفاضه الفرعون على أبرام - إبراهيم - قد عم لوطا أيضا . كيف ؟ يحدثنا الإصحاح الثالث عشر عن الخلاف الذي نشب بين الإثنين ، بعد العودة من مصر والاستقرار في أرض كنعان - فلسطين - . يقول الإصحاح أن أبرام ، عاد من مصر غنيا جدا ، كما أوضحنا في الحلقة السابقة ، لكن الآية 5 تفاجئنا بالقول أن لوطا كان هو الآخر غنيا جدا ، دون أن تكشف لنا عن مصدر هذا الغنى . ويضيف أن غنى الاثنين في المواشي والخدم والعبيد أدى إلى احتكاك على المراعي ، أوجب حله بالفصل بينهما . يقول الإصحاح ، بدءا من الآية 5 :" ولوط السائر مع أبرام كان له أيضا غنم وبقر وخيام * ولم تحتملهما الأرض أن يسكنا معا . إِذ كانت أَملاكهما كثيرة . فلم يَقدرا أن يسكنا معاً * فحدثت مخاصمة بين رعاة مواشي أبرام ورعاة مواشي لوط . وكان الكَنعانيون والفِرزيون حينئذٍ ساكنين في الأرض * فقال أَبرام للوط لا تكن مخاصمة بيني وبينك وبين رعاتي ورعاتك لأننا نحن أخوان * أليست كل الأرض أمامك . اعتزل عني . إن ذهبت شمالا فأنا يمينا ، وإن يمينا فأنا شمالا " . لا تقدم لنا هذه الآيات تفسيرا لأسباب غنى لوط فقط ، وكيف أنه هو الآخر عَمَّهُ خير ساراي فقط ، ولكنها تعرض لنا صورة لعلاج نبيين وَرسولين لِخلاف نشأ بينهما على مراعي مَواشيهما . حل لا يقدم عليه أهل البادية ، بالرغم من قلة الكلأ وشحة المياه في مراعيهم . لكن الإصحاح يكمل عرض الأحداث التي تلت حل الانفصال ، الافتراق ، بدءا من الآية 10 قائلا : " فرفع لوط عينيه وراى كل دائرة الأردن أن جميعها سقي قبلما أخرب الرب سدوم وعمورة كجنة الرب .كَأرض مصر . حينما تجيء إلى صوغر * فاختار لوط لنفسه كل دائرة الأردن وارتحل لوط شرقا فاعتزل الواحد عن الآخر * أبرام سكن أرض كنعان ولوط سكن في مدن الدائرة ونقل خيامه إلى سدوم * وكان أهل سدوم أشرارا وخطاة لدى الرب جدا " . قارئ الآية الأخيرة هذه يقفز إلى لسانه سؤال : هل كان النبيان ، الرسولان ، أبرام - إبراهيم - ولوط يعلمان بأن أهل سدوم أشرار وَخطاة جدا في عيني الرب ؟ وإذا كانا يعلمان ، فكيف نفسر اختيار لوط لسدوم مكان إقامة جديدا له ؟ كما كيف نفسر لامبالاة أبرام تجاه إختيار لوط ذاك ؟ 4 الإصحاح الرابع عشر لا يزيد من صعوبة الإجابة على السؤالين السابقين ، ولكنه يضيف مزيدا من الغموض على موقف أبرام - إبراهيم - من هؤلاء الأشرار الخطاة جدا في عيني الرب . الإصحاح يقول أن خمسة من ملوك المنطقة تحالفوا ضد ، وَشنوا حربا على تحالف يقوده ملكا سدوم وَعموره ، وأن التحالف الأول كسب هذه الحرب ، والتي سقط فيها ملكا سدوم وعموره ، وغنم التحالف كل أملاك سدوم وَعموره . وكان الأمر المهم في هذه الحرب أن المنتصرين سبوا لوطا وأسرته واستولوا على أملاكه . أبلغ الناجون أبرام بسبي ابن أخيه ومصادرة أملاكه . عبأ أبرام غلمانه - عَبيده - وعددهم 318 . تبع المنتصرين وأغار عليهم ليلا . كسرهم و طردهم من المنطقة ، " وَاسترجع كل الأملاك ، وَاسترجع لوطا أخاه أيضا وأملاكه والنساء أيضا وكل الشعب " الآية 16 . لم يقف الأمر عند هذا الحد . فقد خرج ملك سدوم الجديد لاستقباله . وبعد تقديمه لآِيات الشكر والعرفان ، طلب الملك من أبرام أن يعيد له النفوس - الأسرى - أما الأملاك فقد وهبها له . رد أبرام بالتالي :" فقال أبرام لملك سدوم رفعت يدي إلى الرب الإله العلي ، مالك السماء والأرض لا آخذنَّ لا خيطا ولا شراك نعل ولا من كل ما هو لك فلا تقول أنا أغنيت أبرام " الآيتان 22 و23 . ملاحظة : أُذّكِّر أن الصفات التي ذكرها أبرام عن الرب هي صفات الإله إيل . إذاً ، فكيف للقارئ أن يفهم كل هذا الكرم . من النبي الرسول مع ملك الشر والخطيئة ذاك ؟ السؤال هذا يصبح ضروريا ، لأن أبرام ولوط إن كانا لا يعلمان بممارسات أهل سدوم وَعموره للشرور والخطايا ، وهي الشذوذ الجنسي ، فقد وفرت مساكنة لوط لهم في سدوم هذه المعرفة ، من خلال الإطلاع على هذه الممارسة ، وَعن قرب . لكن .. 5 لكن ذكر لوط يغيب عن الإصحاحات 15 ، 16 و17 ليعود ويطل علينا في الإصحاح 18، بحديث نزول الرب ومعه مَلاكان عند إبراهيم ، في طريقهم لتنفيذ قرار الرب محو سدوم وًعموره عقابا لِأهلهما على خطاياهم . ولكن مرة أخرى . …. ولكن ما يثير انتباه ، فَاهتمام القارئ ، واقع وحقيقة بدء ذكر فسيرة لوط في القرآن من هذه النقطة . ففي القرآن ورد ذكر لوط في عشر سور هي : الأعراف ، هود ، الحجر ، الأنبياء ، الشعراء ، النمل ، العنكبوت ، الصافات ، القمر ، والتحريم ، وبمجموع 83 آية . المدقق في آيات السور العشرة يقع على : 1- أن السور العشرة تكرر رواية التوراة عن حادثة نزول الملائكة لتنفيذ قرار عقاب أهل سدوم وعموره بمحو المدينتين ، وأحداث تنفيذ القرار ، وبأساليب وعبارات مختلفة : بشيء من التفصيل في بعضها ؛ هود ، الحجر ، والشعراء ، وبإيجاز مقتضب ومكثف في الأخريات . 2- أن الرواية في جوهرها تتفق ، وإلى حد شبه التطابق مع رواية الإصحاح 18 من سفر التكوين ، أي باختلافات طفيفة هنا وهناك . 3- وأن المتمعن في الآيات القرآنية يلاحظ اختلافات طفيفة بين رواية سورة هنا ورواية أخرى هناك ، وهو ما سنتوقف عند بعضه لاحقا . وإذاً ، تعالوا ندع التطابق بين رواية سورة هود ، ورواية الإصحاح ال18 بتبشير إبراهيم وَسارة بإسحاق ، وَندع الاختلاف بأن الرب ذاته ، والذي اصطحب مَلاكين ، هو صاحب فعل التبشير ذاك في الإصحاح ، وأن رسلا مكلفين بتنفيذ القرار ، دون إيضاح هويتهم ، هم ما قاموا بفعل التبشير ، فَإعلام إبراهيم والسير لتنفيذ القرار قي القرآن ، لنبدأ بالتالي : 6 في سورة هود وفي الآيات 74 ، 75 ، 76 ورد التالي : { فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط 74 إن إبراهيم لحليم أواه منيب 75 يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك وإنهم آتيهم عذاب غير مردود 76 } . قراءة الآيات تطلق سؤالا : كيف دار ، وبأي عبارات تم ذلك الجدل ؟ الإجابة الشافية لا نجدها في القرآن . فهو كالعادة يحكي بإيجاز ، والإيجاز كثيرا ما يكون شديد الاقتضاب . فقط جاء في سورة العنكبوت ما يلي : { ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا إنا مهلكو أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين 31 قال إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين 32 } . يعني أن كل جدال إبراهيم للرب توقف عند التذكير بوجود لوط في سدوم . لكن ، وعلى عكس القرآن وَإيجازه ، قدمت التوراة ، وفي الإصحاح 18 إياه ، عرضا واسعا لهذا الجدل ، وكما يلي :" ثم قام الرجال من هناك - الرب والملاكان - وتطلعوا نحو سدوم وكان إبراهيم ماشيا معهم ليشيعهم 16 فقال الرب هل أخفي عن إبراهيم ما أنا فاعله 17 " . ولأن الرب ، حسب الآية الأخيرة ، لم يسمح لنفسه بإخفاء قراره ، فقد قام بعرض مبررات القرار ، أي بسرد خطايا أهل سدوم وَعموره ، ثم عرض القرار بمَحوهما ، وبعدها بدأ الملاكان سيرهما لتنفيذ القرار . أمسك الذهول بلسان إبراهيم عن الكلام . سار الملاكان نحو سدوم وبقي إبراهيم قائما أمام الرب . وبعد الإفاقة بدأ إبراهيم الجدل مع الرب ، حسب نص الآيات ، وعلى النحو التالي : " فتقدم إبراهيم وقال أَفتهلك البار مع الأثيم 23 عسى أن يكون خمسون بارا في المدينة أَفتهلك المكان ولا تصفح عنه من أجل الخمسين بارا الذين فيه 24 حاشا لك أن تفعل مثل هذا الأمر أن تميت البار مع الأثيم فيكون البار كَالأثيم . حاشا لك . أديان كل الأرض لا يصنع عدلا 25 فقال الرب إن وجدت في سدوم خمسين بارا في المدينة فإني أصفح عن المكان كله من أجلهم 26 " . لا يكتفي إبراهيم بهذا الجواب ، ويواصل الجدل : وإن كانوا 45 ، وإن كانوا 40 ، وإن كانوا 35 ، وإن … وإن .. حتى وصل العد إلى عشرة والرب يجيب بأنه سَيصفح عن المكان من أجلهم إن وجدوا . وأخيرا قال إبراهيم :" فقال لا يسخط المولى فأتكلم هذه المرة فقط . عسى أن يوجد هناك عشرة . فقال لا أُهلك من أجل العشرة 32 وذهب الرب عندما فرغ من الكلام مع إبراهيم ورجع إبراهيم إلى مكانه 33 " . 7 قارئ هذا الحوار ، إن صدف واستعمل الطاسة التي تعلو كتفيه ، لا بد أن يسأل : تحت أي مصنف يمكن وضع هذا الحوار - الجدل ؟ هل ينتمي إلى مسرح العبث ؟ إلى مسرح اللامعقول ؟ إلى مسرح الكوميديا - الفكاهة - ؟ ، أم أن كل الأمر من أجل رفع وتعزيز مكانة إبراهيم بعد أن كانت الإصحاحات السابقة قد عرضته في صورة النذل الديوث الذي أجر عرض زوجته لفرعون مصر ، وقبض هو ولوط أجرا مجزيا ، ذهب وفضة ، مواشي ، وعبيد وإماء ..الخ ، أم للتعريف بمواضيع أفعال الخطيئة التي يمارسها هؤلاء الأشرار الخُطاة جدا في عيني الرب ؟ ولكن ... ولكن الغريب والمثير للدهشة أن التوراة لا تقدم تعريفا ، أو توضيحا لأفعال الخطيئة التي يستحق فَاعلوها ذلك العقاب الذي قرره الرب بالإبادة الكاملة وَالناجزة . التعريف بفعل أولئك الأشرار الخطاة قدمه لنا القرآن ، في أكثر من سورة ، وإن كان أوضحها قد ورد في سورة النمل ، وكما يلي : { ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة وأنتم تبصرون 54 أَإِنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم تجهلون 55 فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون 56 } . إذاً يقول تعريف القرآن ، بلغتنا الحاضرة ، أن رجال - ذكور - سدوم وعموره كانوا شاذين جنسيا ، أو مثليين ، يمارسون اللواط الذي اسماه مرات بالفاحشة ومرات بالخبائث . وجدل إبراهيم مع الرب ، السالف الذكر ، يقول أن نسبة الممارسة بين هؤلاء الذكور بلغت مئة بالمئة . لا أحد في القريتين برئ من فعل الفاحشة هذه ، ولذلك اسْتحقت القريتان ، بشرا وحجرا ، المَحو من الوجود . ويبرز السؤال : كيف يكون ذلك ؟ كيف يحدث أن لا يكون في المدينتين عشرة أشخاص لا يمارسون فعل الشذوذ ؟ ألم يكن فيهما أطفال رضع ؟ نساء يحملن أجنة في بطونهن ؟ نساء لا يمارسن الشذوذ الذي تؤكد روايات الإصحاح ، وروايات القرآن ، أنه كان منتشرا بين الرجال الذكور فقط ؟ ألم يكن بين هؤلاء الذكور بعض لا يمارس هذا الشذوذ ؟ قبل الإجابة تعالوا نعود مجددا إلى التوراة وإلى الإصحاح التاسع عشر ، والرواية الصادمة التالية . " إذ قال الملاكان للوط من لك أيضاً ههنا . أَصهارك وبنيك وبناتك وكل من لك في المدينة أَخْرِجْ من المكان 12 لأننا مهلكان هذا المكان . إذ قد عظم صراخهم أمام الرب فَأرسلنا الرب لِنهلكه 13 فخرج لوط وكلم أصهاره الآخذين بناته وقال قوموا أخرجوا من هذا المكان . لأِن الرب مهلك المدينة . فكان كمازح في أعين أصهاره 14 ولما طلع الفجر كان الملاكان يعجلان لوطا قائلين قم خذ امرأتك وابنتيك الموجودتين لئلا تهلك بإثم المدينة 15 ولما توانى أمسك الرجلان بيده وبيد امرأته وبيد ابنتيه لشفقة الرب عليه وَأخرجاه وَوضعاه خارج المدينة 16 " . هذه الآيات تقول أنه كان لديه أولادا ذكورا ، وبناتا أخريات إلى جانب ابنتيه البكرين اللتين بقيتا معه ، وتقول أن هذا النبي الرسول صاهر هؤلاء الأشرار ، الشواذ المثليين . وأن أبناءه وأصهاره وبناته ، والذين لا تذكر التوراة عددهم ، كانوا بارين ، غير شاذين ، بدليل أن الملاكين أرادا إنقاذهم ، لكن الأصهار ظنوا أن حديث إهلاك المدينة كان مزاحا فلم يَستجيبوا لطلب الأب وَالحمي بالخروج . لكن التوراة تسكت عن جواب أبناء لوط الذين أراد الملاكان إنقاذهم . وما يلفت الانتباه أكثر ، أن القرآن صادق ضمنيا على هذه الرواية ، من خلال تكرار الآيات في كل السور تقريبا ،أن عملية الإنقاذ شملت أهل لوط كلهم . وعبارة أهل لوط ، مضافا إليها كلمة أجمعين ، تعني أن هؤلاء الأهل أكثر من ابنتين وزوجة . فَالآية 83 من سورة الأعراف تقول :{ فأنجيناه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين } . وَالآية 81 من سورة هود تنص : { قالوا يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك فاسرِ بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك إنه مصيبها ما أصابهم إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب } . وفي سورة الحجر :{ قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين 58 إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين 59 إلا امرأته قدرنا إنها لمن الغابرين 60 } . وفي سورة الشعراء :{ ربِ نجني وأهلي مما يعملون 167 فنجيناه وأهله أجمعين 168 إلا عجوزا في الغابرين 169 ثم دمرنا الآخرين 170 } . وتكرر مثل هذا في : سورة النمل الآية 57 . سورة العنكبوت الآية 32 . سورة الصافات الآيتان 134و135 . وأخيرا سورة القمر الآية 34 . ومرة أخرى ، يحار القارئ في أمر زوجة لوط ، والتي يستبدلها القرآن في سورتين وآيتين بعجوز في الغابرين . لماذا قالت التوراة بقرار ضمها لآل لوط ونجاتها ، ولكنها تحولت لعمود ملح لأنها خالفت الوصية ونظرت خلفها ، فيما أكد القرآن على قرار استثنائها من نجاة أهل لوط ؟ الحكاية هنا ليست حكاية مخالفة إمرأة لزوجها ، كما تعرضها الأدبيات الإسلامية . لأنها ضُمَّتْ إلى كل نساء سدوم وعموره اللواتي شملهن قرار الإبادة بما فيهن الطفلات الرضيعات والطفلات الصغيرات والبنات والصبايا اللواتي لم يعرفن الرجال بعد . والقرار هذا كان بسبب ممارسة فعل الشذوذ ، والذي لا علاقة لهن به ، بل هن ضجاياه . القرآن يقول صراحة أنهن كن متضررات ، لأن رجالهن يفضلون معاشرة بعضهم البعض على معاشرتهن . فلماذا ، وتحت أي مفهوم أو منطق ، يُناقضن مَصلحتهن وَيساندن الرجال في شذوذهم لِيستحققن هذا العقاب بالحرق والإبادة ؟ ولكن من جديد …. 8 ولكن من جديد ، لم يكن كل ما أوردناه هو غرائب حكايات لوط . فَالإصحاح 19 إياه يبدأ الحديث عن زيارة الملاكين لبيت لوط ، وإحاطة أهل سدوم بالبيت طلبا للملاكين ليفعلوا بهما الفاحشة ، وبتعريفنا بأنه كان للوط ابنتان بكريتان غير أولئك المتزوجات في سدوم ، وأن لوطا عرض على الرجال ابنتيه هاتين يفعلون بِهما ما شاءوا بديلا للملاكين . ولكن ، وقبل أن يسارع أحد للسؤال : هل يمكن أن يكون هذا سلوك نبي ، تعالوا ننقل كامل نص الحكاية . يقول الإصحاح :" فجاء الملاكان إلى سدوم مساءً وكان لوط ساكنا في باب سدوم . فلما رآهما لوط قام لِاستقبالهما وسجد بوجهه إلى الأرض 1 وقال يا سيديَّ ميلا إلى بيت عبدكما وبيتا واغسلا أرجلكما . ثم تُبكران وَتذهبان في طَريقكما . فقالا لا بل في الساحة نبيت 2 فألح عليهما جدا فمالا إليه ودخلا بيته . فصنع لهما ضيافة وَخُبزا فطيرا فَأكلا 3 وقبلما اضْطجعا أَحاط بالبيت رجال المدينة رجال سدوم من الحدث إلى الشيخ كل الشعب من أقصاها 4 فنادوا لوطا وقالوا له أين الرجلان اللذان دخلا إليك الليلة . أَخرجهما إلينا لِنعرفهما 5 فخرج إليهم لوط إلى الباب وأقفل الباب وراءه 6 وقال لا تفعلوا شرا يا أخوتي 7 هوذا لي ابنتان لم تعرفا رجلا . أُخرجهما إليكم فافعلوا بهما كما يحسن في عيونكم . وَأما هذان الرجلان فلا تفعلوا بهما شيئا لأنهما قد دخلا تحت ظل سقفي 8 فقالوا أبعد إلى هناك . ثم قالوا جاء هذا الإِنسان ليتغرب بيننا وهو يحكم حكما .الآن نفعل بك شرا أكثر منهما . فألحوا على الرجل لوط جدا وتقدموا ليكسروا الباب 9 فمد الرجلان أيديهما وأدخلا لوطا إِليهما إلى البيت وَأغلقا الباب 10 وأما الرجال الذين على الباب فَضرباهما بالعمى من الصغير إلى الكبير فعجزوا عن أن يروا الباب 11" . القرآن ، وإن صادق على صحة هذه الحكاية فإنه ، كالعادة ، أوردها في عدة سور موجزة وَباقتضاب شديد . ففي سورة القمر جاء ما يلي :{ ولقد راودوه عن ضيفه فطمسنا أعينهم فذوقوا عذابي ونذر } الآية 37 .وفي سورة العنكبوت : { ولما أن جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا وقالوا لا تخف ولا تحزن إنا منجوك وأهلك إلا امرأتك كانت من الغابرين } الآية 33 . وفي سورة الحجر : { فلما جاء آل لوط المرسلون 61 وجاء أهل المدينة يستبشرون 67 قال إن هؤلاء ضيفيَّ فلا تفضحون 68واتقوا الله ولا تخزون 69 قال هؤلاء بناتي إن كنتم فاعلين 71 لعمرك إنهم في سكرتهم يعمهون 72 } . وأخيرا في سورة هود :{ ولما جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا وقال هذا يوم عصيب 77 وجاءه قومه يهرعون إليه ومن قبل كانوا يعملون السيئات قال يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم فاتقوا الله ولا تخزوني في ضيفي أليس منكم رجل رشيد 78 قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد 79 قال لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد 80 } . ولعلنا هنا نسأل : هل ضعف إيمان ، أو ثقة نبي - لوط - بقدرة الملاكين على حماية نفسيهما ، وحمايته وأهله ، من عدوان رجال سدوم ، ومن ثم عرض ابنتيه البكرين عليهم ليفعلوا بهما ما شاءوا ، دليل شهامة نبي أم ماذا ؟ 9 وهنا ، وبعد إنجاز الملاكين حسب التوراة ، الرسل حسب القرآن ، لمهمة مَحو سدوم وَعموره من الوجود ، ينهي القرآن سيرة هذا النبي الرسول ، فيما تتابع التوراة عرض إشكالية ، هي الأكبر ، الأسخم والأشنع كَخاتمة لِهذه السيرة . يتابع الإصحاح 19 ذاته قائلا : " وصعد لوط من صوغر وسكن في الجبل وابنتاه معه . لأنه خاف أن يسكن في صوغر . فسكن في المغارة هو وابنتاه 30 وقالت البكر للصَّغيرة أبونا قد شاخ وليس في الأرض رجل ليدخل علينا كعادة كل الأرض 31 هلم نسقي أبانا خمرا ونضطجع معه فنحيي من أبينا نسلا 32 فسقتا أباهما خمرا في تلك الليلة ودخلت البكر واضطجعت مع أبيهما ولم يعلم باضطجاعها ولا بقيامها 33 وحدث في الغد أن البكر قالت للصغيرة إني قد اضطجعت البارحة مع أبي . نسقيه خمرا الليلة أيضا فادخلي اضطجعي معه فنحيي من أبينا نسلا 34 فسقتا أباهما خمرا في تلك الليلة أيضا . وقامت الصغيرة واضطجعت معه . ولم يعلم باضطجاعها ولا بقيامها 35 فحبلت ابنتا لوط من أبيهما 36 فولدت البكر ابنا ودعت اسمه موآب وهو أبو الموآبيين إلى اليوم 37 والصغيرة أيضا ولدت ابنا ودعت اسمه بن عمي وهو أبو بني عمون إلى اليوم 38 " . وقبل أن نسأل : هل يعقل أن هذا النبي والرسول لم يعرف أنه مارس خطيئة السفاح مع ابنتيه وأنهما حملتا منه ؟ والجواب : يمكن ذلك إذا كان قد توفي بعدها مباشرة ، أو قبل ظهور الحمل عليهما . لكن التوراة لا تقول ذلك ، كما لا تقول أن وِلادتيهما لم تحدثا في حياته . لنعود ونسأل : إذاً ما العبرة من إيراد مثل هذه الحكاية في كتاب مقدس ؟ هل لتقول أن كل شيء مبرر للأنبياء والرسل ، كما في حادثتي سكر نوح وَلعنه كنعان ، والحكم بعبوديته وَنسله لِنسل سام ويافث ، وتأجير إبراهيم فرج زوجته للفرعون مرة ، ولملك جرار الفلسطيني ثانية ، واستمتاعه بالخير الذي تدفق عليه من هذا التأجير في المرتين؟ 10 لكن هذا السؤال الأخير يعيدنا إلى سؤال سابق قال : هل كان لوط نبيا رسولا ؟ والجواب : نعم يمكن أن يكون نبيا ، فهل كان رسولا ؟ كنا قد أجبنا على هذا السؤال بنعم ، استنادا لنص الآية 133 من سورة الصافات { وإن لوطا لمن المرسلين } . لكن القرآن ذاته علمنا أن الرسول يكون في قومه . وأهل سدوم وَعموره لم يكونوا قوم لوط . والقرآن ذاته يعترف بذلك في الآية 71 من سورة الأنبياء والتي تتحدث عن هجرة إبراهيم ولوط من أرض ميلادهم ، أور الكلدانيين { ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين } مؤكدا ، أي القرآن ، ما ذهبت إليه التوراة . صحيح أن القرآن يكرر بأن لوطا كان يخاطب قومه : { ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة … } آية 8 من سورة الأعراف ، و { وجاءه قومه يهرعون إليه ….} الآية 78 من سورة هود . و{ كذبت قوم لوط المرسلين } الآية 16 من سورة الشعراء . و{ ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة وأنتم تبصرون } 54 النمل . و{ ولوطا إذ قال لقومه إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم أحد من العالمين } 28 العنكبوت و { كذبت قوم لوط النذر } 33 القمر . لكن الآية 56 من سورة النمل ، والتي تورد رد أهل سدوم على دعوة لوط لهم بترك ممارسة الشذوذ وباقي الشرور ، تشير ، ولو بغموض ، إلى اعتراف القرآن بأن لوطا ليس منهم وليسوا قومه . تقول الآية :{ فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون } . هذه الآية تعيدنا إلى الآية 9 ، سالفة الذكر ، من الإصحاح 19 والتي نصها :" فقالوا أبعد إلى هناك . ثم قالوا جاء هذا الإنسان ليتغرب بيننا وهو يحكم حكما ….} . وهي الآية التي تذكر القارئ بخلاف إبراهيم ولوط على المراعي ، وتوجه لوط شرقا ، واللجوء على سدوم بعد قضاء إبراهيم بالافتراق . 11 وخاتمة : وأعود لأذكر بأن علم الآثار ينفي كلية أحداث التوراة هذه ، وَبالضرورة أحاديث القرآن المطابقة لها ، وبينها وجود إبراهيم ولوط ، كما حكاية سدوم وَعموره والزلزال الذي ضربهما . ولكن قبل ذلك وبعده فإن عسر قبول العقل لها يمكن تذليله ، في حال وضعها في خانة الأسطورة ، بديلا للتعامل معها كَوقائع حقيقية ، يقول بها المؤمنون ويرفض العقل قبولها . أسطورة تتعلق بمحاولة أهل ذلك الزمان تفسير واقعة الانهدام القاري الذي نشأ عنه غور الأردن والبحر الميت . الانهدام الذي امتد عبر البحر الأحمر إلى شرق إفريقيا . والملفت للنظر أن التوراة ذاتها تلمح إليه في الإصحاح الثالث عشر ، وفي الآيات التي سبق وَثبتناها في بداية هذه الحلقة عن مخاصمة إبراهيم ولوط على المراعي وقرار الافتراق . ولأن في الإعادة إفادة نعيد تثبيت ذلك التلميح . يقول الإصحاح :" فرفع لوط عينيه ورأى كل دائرة الأرض أنها كلها سقي قبلما أخرب الرب سدوم وَعموره كجنة الرب كَأرض مصر حينما تجيء إلى صوغر 10 " . كلها أرض مروية . مثل جنة الرب . مثل أرض مصر . هذا ما تصوره إنسان ذلك الزمان قبل الزلزال الهائل الذي أحدث الانهدام القاري .
تقاطعات بين الأديان 19 إشكاليات الرسل والأنبياء 4 لوط لوط نبي ورسول ، كما يقول القرآن . { ولوطا آتيناه حكماً وعلماً ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث إنهم كانوا قوم سوء فاسقين 74 وأدخلناه في رحمتنا إنه من الصالحين 75 } سورة الأنبياء . و { وإن لوطا لمن المرسلين } 133سورة الصافات . لكن سيرة لوط ؛ النبي والرسول ، تكتنفها ، كغيره من الأنبياء والرسل ، سلسلة من الإشكاليات العصية على الفهم ، والمثيرة لسلسلة أطول من الأسئلة والتساؤلات . لإلقاء الضوء على تلك الإشكاليات ، وَاستباقا لِلأسئلة والتساؤلات الخاصة بها ، نبدأ بالسؤال : من هو لوط ؟ 1 لوط ، كما تعرفه التوراة ، هو لوط بن هاران بن تارح ، المنحدر من سام بن نوح . والإصحاح الحادي عشر من سفر التكوين ، وابتداء ً من الآية 27 ، يعرفنا أن لوطا كان يتيم الأبوين . وأنه ، حين كان فتى ، وكما أسلفنا في الحلقة السابقة ، والخاصة بإبراهيم ، خرج مع جده تارح ، وعمه أبرام - إبراهيم - وزوجة عمه ساراي - سارة - ، من أور الكلدانيين ، الواقعة في جنوب العراق ، إلى حاران في شماله . ولا تحكي التوراة عن مسببات هذا الخروج ، وبصورة أساسية خروج تارح الأب ومعه ابن ابنه ، اليتيم لوط ، وإنما اكتفت بالقول أنهم خرجوا ليذهبوا إلى أرض كنعان - فلسطين - . وتضيف ، ومرة أخرى كما أوضحنا في الحلقة السابقة ، أنهم مكثوا في حاران ، عند أهل لهم هناك ، فترة من الزمن طالت ، مات فيها الأب تارح ودفن في حاران ، وًليتوجه بعدها الثلاثة ؛ أبرام ، ساراي ، ولوط إلى فلسطين . كان مسبب هذا الخروج ، كما تقول الآيات ، من 1 إلى 10 من الإصحاح الثاني عشر ، كي يعلن الرب عهده لَأبرام ، بمنحه ونسله الأرض ، بعد أن يريه إياها ، والتي كان الكنعانيون يسكنونها آنذاك . وليأتي سؤال جديد : وماذا عن لوط ؟ ولماذا تم اصطحابه في هذه الرحلة والرحلات التالية ، ولم يترك عند عمه ناحور في أرض ميلاده ، أور الكلدانيين ، وهو الذي ليس له وَلنسله من هذا الوعد نصيب ؟ 2 الجواب على السؤال ، كما عن مسببات الخروج ، يقدمه لنا القرآن . القرآن يقول ، كما أوردنا في الحلقة السابقة ، أن أبرام - إبراهيم - لم يرض عن دين أجداده ، وأنه قبل أن يكسر أصنامهم دعاهم لعبادة الله وحده ، فما كان منهم ، وبينهم أبوه الذي تبرأ منه ، وباقي أسرته ، إلا أن حكموا عليه بالموت حرقا ، لكن الله جعل نارهم بردا وسلاما عليه . ولكن إبراهيم بعد النجاة من الحرق لم يجد أمامه من سبيل غير الفرار من ملاحقة قومه له . ولأن الفتى لوط كان الوحيد من أسرته الذي آمن به ، فقد كان بديهيا أن يأخذه إبراهيم معه في رحلة الفرار هذه . ومن جديد يبرز سؤال : إذاً لماذا استثنى الرب لوطا من عهده مع إبراهيم ، بالرغم من نقاوة عنصر النسب بينهما ، فَانتفاء مبرر استثناء إسماعيل ابن الخادمة هاجر المصرية ، واستثناء أولاد إبراهيم الآخرين ، من الأم قطورة الكنعانية ، وأولاده من إمائه الأخريات ؟ لماذا كان استثناء لوط من ذلك العهد ، وهو صاحب السبق ووحدانية الإيمان برسالة ودين إبراهيم ؟ سأترك الجواب معلقا هنا ، لنمضي بعض الوقت مع رحلة لوط . 3 يقول لنا الإصحاح الثاني عشر من سفر التكوين أن لوطا صَحب أبرام - إبراهيم - في رحلتهم لمصر ، إثر الجوع الذي ضرب أرض كنعان آنذاك . وبالتالي كان شاهدا على تأجير إبراهيم لفرج زوجته للفرعون . لكن آيات الإصحاح لا تشير ، من قريب أو بعيد ، لموقف لوط من فعل عمه هذا ، وبما يدعنا نستنتج أن لوطا ، كمؤمن برسالة عمه ، لم يكتف بالرضى فقط ، وإنما حظي هذا الفعل عنده بالدعم والمساندة . ليس هذا فقط ، إذ يبدو أن خير ساراي - سارة - ، الخير الذي أفاضه الفرعون على أبرام - إبراهيم - قد عم لوطا أيضا . كيف ؟ يحدثنا الإصحاح الثالث عشر عن الخلاف الذي نشب بين الإثنين ، بعد العودة من مصر والاستقرار في أرض كنعان - فلسطين - . يقول الإصحاح أن أبرام ، عاد من مصر غنيا جدا ، كما أوضحنا في الحلقة السابقة ، لكن الآية 5 تفاجئنا بالقول أن لوطا كان هو الآخر غنيا جدا ، دون أن تكشف لنا عن مصدر هذا الغنى . ويضيف أن غنى الاثنين في المواشي والخدم والعبيد أدى إلى احتكاك على المراعي ، أوجب حله بالفصل بينهما . يقول الإصحاح ، بدءا من الآية 5 :" ولوط السائر مع أبرام كان له أيضا غنم وبقر وخيام * ولم تحتملهما الأرض أن يسكنا معا . إِذ كانت أَملاكهما كثيرة . فلم يَقدرا أن يسكنا معاً * فحدثت مخاصمة بين رعاة مواشي أبرام ورعاة مواشي لوط . وكان الكَنعانيون والفِرزيون حينئذٍ ساكنين في الأرض * فقال أَبرام للوط لا تكن مخاصمة بيني وبينك وبين رعاتي ورعاتك لأننا نحن أخوان * أليست كل الأرض أمامك . اعتزل عني . إن ذهبت شمالا فأنا يمينا ، وإن يمينا فأنا شمالا " . لا تقدم لنا هذه الآيات تفسيرا لأسباب غنى لوط فقط ، وكيف أنه هو الآخر عَمَّهُ خير ساراي فقط ، ولكنها تعرض لنا صورة لعلاج نبيين وَرسولين لِخلاف نشأ بينهما على مراعي مَواشيهما . حل لا يقدم عليه أهل البادية ، بالرغم من قلة الكلأ وشحة المياه في مراعيهم . لكن الإصحاح يكمل عرض الأحداث التي تلت حل الانفصال ، الافتراق ، بدءا من الآية 10 قائلا : " فرفع لوط عينيه وراى كل دائرة الأردن أن جميعها سقي قبلما أخرب الرب سدوم وعمورة كجنة الرب .كَأرض مصر . حينما تجيء إلى صوغر * فاختار لوط لنفسه كل دائرة الأردن وارتحل لوط شرقا فاعتزل الواحد عن الآخر * أبرام سكن أرض كنعان ولوط سكن في مدن الدائرة ونقل خيامه إلى سدوم * وكان أهل سدوم أشرارا وخطاة لدى الرب جدا " . قارئ الآية الأخيرة هذه يقفز إلى لسانه سؤال : هل كان النبيان ، الرسولان ، أبرام - إبراهيم - ولوط يعلمان بأن أهل سدوم أشرار وَخطاة جدا في عيني الرب ؟ وإذا كانا يعلمان ، فكيف نفسر اختيار لوط لسدوم مكان إقامة جديدا له ؟ كما كيف نفسر لامبالاة أبرام تجاه إختيار لوط ذاك ؟ 4 الإصحاح الرابع عشر لا يزيد من صعوبة الإجابة على السؤالين السابقين ، ولكنه يضيف مزيدا من الغموض على موقف أبرام - إبراهيم - من هؤلاء الأشرار الخطاة جدا في عيني الرب . الإصحاح يقول أن خمسة من ملوك المنطقة تحالفوا ضد ، وَشنوا حربا على تحالف يقوده ملكا سدوم وَعموره ، وأن التحالف الأول كسب هذه الحرب ، والتي سقط فيها ملكا سدوم وعموره ، وغنم التحالف كل أملاك سدوم وَعموره . وكان الأمر المهم في هذه الحرب أن المنتصرين سبوا لوطا وأسرته واستولوا على أملاكه . أبلغ الناجون أبرام بسبي ابن أخيه ومصادرة أملاكه . عبأ أبرام غلمانه - عَبيده - وعددهم 318 . تبع المنتصرين وأغار عليهم ليلا . كسرهم و طردهم من المنطقة ، " وَاسترجع كل الأملاك ، وَاسترجع لوطا أخاه أيضا وأملاكه والنساء أيضا وكل الشعب " الآية 16 . لم يقف الأمر عند هذا الحد . فقد خرج ملك سدوم الجديد لاستقباله . وبعد تقديمه لآِيات الشكر والعرفان ، طلب الملك من أبرام أن يعيد له النفوس - الأسرى - أما الأملاك فقد وهبها له . رد أبرام بالتالي :" فقال أبرام لملك سدوم رفعت يدي إلى الرب الإله العلي ، مالك السماء والأرض لا آخذنَّ لا خيطا ولا شراك نعل ولا من كل ما هو لك فلا تقول أنا أغنيت أبرام " الآيتان 22 و23 . ملاحظة : أُذّكِّر أن الصفات التي ذكرها أبرام عن الرب هي صفات الإله إيل . إذاً ، فكيف للقارئ أن يفهم كل هذا الكرم . من النبي الرسول مع ملك الشر والخطيئة ذاك ؟ السؤال هذا يصبح ضروريا ، لأن أبرام ولوط إن كانا لا يعلمان بممارسات أهل سدوم وَعموره للشرور والخطايا ، وهي الشذوذ الجنسي ، فقد وفرت مساكنة لوط لهم في سدوم هذه المعرفة ، من خلال الإطلاع على هذه الممارسة ، وَعن قرب . لكن .. 5 لكن ذكر لوط يغيب عن الإصحاحات 15 ، 16 و17 ليعود ويطل علينا في الإصحاح 18، بحديث نزول الرب ومعه مَلاكان عند إبراهيم ، في طريقهم لتنفيذ قرار الرب محو سدوم وًعموره عقابا لِأهلهما على خطاياهم . ولكن مرة أخرى . …. ولكن ما يثير انتباه ، فَاهتمام القارئ ، واقع وحقيقة بدء ذكر فسيرة لوط في القرآن من هذه النقطة . ففي القرآن ورد ذكر لوط في عشر سور هي : الأعراف ، هود ، الحجر ، الأنبياء ، الشعراء ، النمل ، العنكبوت ، الصافات ، القمر ، والتحريم ، وبمجموع 83 آية . المدقق في آيات السور العشرة يقع على : 1- أن السور العشرة تكرر رواية التوراة عن حادثة نزول الملائكة لتنفيذ قرار عقاب أهل سدوم وعموره بمحو المدينتين ، وأحداث تنفيذ القرار ، وبأساليب وعبارات مختلفة : بشيء من التفصيل في بعضها ؛ هود ، الحجر ، والشعراء ، وبإيجاز مقتضب ومكثف في الأخريات . 2- أن الرواية في جوهرها تتفق ، وإلى حد شبه التطابق مع رواية الإصحاح 18 من سفر التكوين ، أي باختلافات طفيفة هنا وهناك . 3- وأن المتمعن في الآيات القرآنية يلاحظ اختلافات طفيفة بين رواية سورة هنا ورواية أخرى هناك ، وهو ما سنتوقف عند بعضه لاحقا . وإذاً ، تعالوا ندع التطابق بين رواية سورة هود ، ورواية الإصحاح ال18 بتبشير إبراهيم وَسارة بإسحاق ، وَندع الاختلاف بأن الرب ذاته ، والذي اصطحب مَلاكين ، هو صاحب فعل التبشير ذاك في الإصحاح ، وأن رسلا مكلفين بتنفيذ القرار ، دون إيضاح هويتهم ، هم ما قاموا بفعل التبشير ، فَإعلام إبراهيم والسير لتنفيذ القرار قي القرآن ، لنبدأ بالتالي : 6 في سورة هود وفي الآيات 74 ، 75 ، 76 ورد التالي : { فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط 74 إن إبراهيم لحليم أواه منيب 75 يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك وإنهم آتيهم عذاب غير مردود 76 } . قراءة الآيات تطلق سؤالا : كيف دار ، وبأي عبارات تم ذلك الجدل ؟ الإجابة الشافية لا نجدها في القرآن . فهو كالعادة يحكي بإيجاز ، والإيجاز كثيرا ما يكون شديد الاقتضاب . فقط جاء في سورة العنكبوت ما يلي : { ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا إنا مهلكو أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين 31 قال إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين 32 } . يعني أن كل جدال إبراهيم للرب توقف عند التذكير بوجود لوط في سدوم . لكن ، وعلى عكس القرآن وَإيجازه ، قدمت التوراة ، وفي الإصحاح 18 إياه ، عرضا واسعا لهذا الجدل ، وكما يلي :" ثم قام الرجال من هناك - الرب والملاكان - وتطلعوا نحو سدوم وكان إبراهيم ماشيا معهم ليشيعهم 16 فقال الرب هل أخفي عن إبراهيم ما أنا فاعله 17 " . ولأن الرب ، حسب الآية الأخيرة ، لم يسمح لنفسه بإخفاء قراره ، فقد قام بعرض مبررات القرار ، أي بسرد خطايا أهل سدوم وَعموره ، ثم عرض القرار بمَحوهما ، وبعدها بدأ الملاكان سيرهما لتنفيذ القرار . أمسك الذهول بلسان إبراهيم عن الكلام . سار الملاكان نحو سدوم وبقي إبراهيم قائما أمام الرب . وبعد الإفاقة بدأ إبراهيم الجدل مع الرب ، حسب نص الآيات ، وعلى النحو التالي : " فتقدم إبراهيم وقال أَفتهلك البار مع الأثيم 23 عسى أن يكون خمسون بارا في المدينة أَفتهلك المكان ولا تصفح عنه من أجل الخمسين بارا الذين فيه 24 حاشا لك أن تفعل مثل هذا الأمر أن تميت البار مع الأثيم فيكون البار كَالأثيم . حاشا لك . أديان كل الأرض لا يصنع عدلا 25 فقال الرب إن وجدت في سدوم خمسين بارا في المدينة فإني أصفح عن المكان كله من أجلهم 26 " . لا يكتفي إبراهيم بهذا الجواب ، ويواصل الجدل : وإن كانوا 45 ، وإن كانوا 40 ، وإن كانوا 35 ، وإن … وإن .. حتى وصل العد إلى عشرة والرب يجيب بأنه سَيصفح عن المكان من أجلهم إن وجدوا . وأخيرا قال إبراهيم :" فقال لا يسخط المولى فأتكلم هذه المرة فقط . عسى أن يوجد هناك عشرة . فقال لا أُهلك من أجل العشرة 32 وذهب الرب عندما فرغ من الكلام مع إبراهيم ورجع إبراهيم إلى مكانه 33 " . 7 قارئ هذا الحوار ، إن صدف واستعمل الطاسة التي تعلو كتفيه ، لا بد أن يسأل : تحت أي مصنف يمكن وضع هذا الحوار - الجدل ؟ هل ينتمي إلى مسرح العبث ؟ إلى مسرح اللامعقول ؟ إلى مسرح الكوميديا - الفكاهة - ؟ ، أم أن كل الأمر من أجل رفع وتعزيز مكانة إبراهيم بعد أن كانت الإصحاحات السابقة قد عرضته في صورة النذل الديوث الذي أجر عرض زوجته لفرعون مصر ، وقبض هو ولوط أجرا مجزيا ، ذهب وفضة ، مواشي ، وعبيد وإماء ..الخ ، أم للتعريف بمواضيع أفعال الخطيئة التي يمارسها هؤلاء الأشرار الخُطاة جدا في عيني الرب ؟ ولكن ... ولكن الغريب والمثير للدهشة أن التوراة لا تقدم تعريفا ، أو توضيحا لأفعال الخطيئة التي يستحق فَاعلوها ذلك العقاب الذي قرره الرب بالإبادة الكاملة وَالناجزة . التعريف بفعل أولئك الأشرار الخطاة قدمه لنا القرآن ، في أكثر من سورة ، وإن كان أوضحها قد ورد في سورة النمل ، وكما يلي : { ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة وأنتم تبصرون 54 أَإِنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم تجهلون 55 فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون 56 } . إذاً يقول تعريف القرآن ، بلغتنا الحاضرة ، أن رجال - ذكور - سدوم وعموره كانوا شاذين جنسيا ، أو مثليين ، يمارسون اللواط الذي اسماه مرات بالفاحشة ومرات بالخبائث . وجدل إبراهيم مع الرب ، السالف الذكر ، يقول أن نسبة الممارسة بين هؤلاء الذكور بلغت مئة بالمئة . لا أحد في القريتين برئ من فعل الفاحشة هذه ، ولذلك اسْتحقت القريتان ، بشرا وحجرا ، المَحو من الوجود . ويبرز السؤال : كيف يكون ذلك ؟ كيف يحدث أن لا يكون في المدينتين عشرة أشخاص لا يمارسون فعل الشذوذ ؟ ألم يكن فيهما أطفال رضع ؟ نساء يحملن أجنة في بطونهن ؟ نساء لا يمارسن الشذوذ الذي تؤكد روايات الإصحاح ، وروايات القرآن ، أنه كان منتشرا بين الرجال الذكور فقط ؟ ألم يكن بين هؤلاء الذكور بعض لا يمارس هذا الشذوذ ؟ قبل الإجابة تعالوا نعود مجددا إلى التوراة وإلى الإصحاح التاسع عشر ، والرواية الصادمة التالية . " إذ قال الملاكان للوط من لك أيضاً ههنا . أَصهارك وبنيك وبناتك وكل من لك في المدينة أَخْرِجْ من المكان 12 لأننا مهلكان هذا المكان . إذ قد عظم صراخهم أمام الرب فَأرسلنا الرب لِنهلكه 13 فخرج لوط وكلم أصهاره الآخذين بناته وقال قوموا أخرجوا من هذا المكان . لأِن الرب مهلك المدينة . فكان كمازح في أعين أصهاره 14 ولما طلع الفجر كان الملاكان يعجلان لوطا قائلين قم خذ امرأتك وابنتيك الموجودتين لئلا تهلك بإثم المدينة 15 ولما توانى أمسك الرجلان بيده وبيد امرأته وبيد ابنتيه لشفقة الرب عليه وَأخرجاه وَوضعاه خارج المدينة 16 " . هذه الآيات تقول أنه كان لديه أولادا ذكورا ، وبناتا أخريات إلى جانب ابنتيه البكرين اللتين بقيتا معه ، وتقول أن هذا النبي الرسول صاهر هؤلاء الأشرار ، الشواذ المثليين . وأن أبناءه وأصهاره وبناته ، والذين لا تذكر التوراة عددهم ، كانوا بارين ، غير شاذين ، بدليل أن الملاكين أرادا إنقاذهم ، لكن الأصهار ظنوا أن حديث إهلاك المدينة كان مزاحا فلم يَستجيبوا لطلب الأب وَالحمي بالخروج . لكن التوراة تسكت عن جواب أبناء لوط الذين أراد الملاكان إنقاذهم . وما يلفت الانتباه أكثر ، أن القرآن صادق ضمنيا على هذه الرواية ، من خلال تكرار الآيات في كل السور تقريبا ،أن عملية الإنقاذ شملت أهل لوط كلهم . وعبارة أهل لوط ، مضافا إليها كلمة أجمعين ، تعني أن هؤلاء الأهل أكثر من ابنتين وزوجة . فَالآية 83 من سورة الأعراف تقول :{ فأنجيناه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين } . وَالآية 81 من سورة هود تنص : { قالوا يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك فاسرِ بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك إنه مصيبها ما أصابهم إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب } . وفي سورة الحجر :{ قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين 58 إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين 59 إلا امرأته قدرنا إنها لمن الغابرين 60 } . وفي سورة الشعراء :{ ربِ نجني وأهلي مما يعملون 167 فنجيناه وأهله أجمعين 168 إلا عجوزا في الغابرين 169 ثم دمرنا الآخرين 170 } . وتكرر مثل هذا في : سورة النمل الآية 57 . سورة العنكبوت الآية 32 . سورة الصافات الآيتان 134و135 . وأخيرا سورة القمر الآية 34 . ومرة أخرى ، يحار القارئ في أمر زوجة لوط ، والتي يستبدلها القرآن في سورتين وآيتين بعجوز في الغابرين . لماذا قالت التوراة بقرار ضمها لآل لوط ونجاتها ، ولكنها تحولت لعمود ملح لأنها خالفت الوصية ونظرت خلفها ، فيما أكد القرآن على قرار استثنائها من نجاة أهل لوط ؟ الحكاية هنا ليست حكاية مخالفة إمرأة لزوجها ، كما تعرضها الأدبيات الإسلامية . لأنها ضُمَّتْ إلى كل نساء سدوم وعموره اللواتي شملهن قرار الإبادة بما فيهن الطفلات الرضيعات والطفلات الصغيرات والبنات والصبايا اللواتي لم يعرفن الرجال بعد . والقرار هذا كان بسبب ممارسة فعل الشذوذ ، والذي لا علاقة لهن به ، بل هن ضجاياه . القرآن يقول صراحة أنهن كن متضررات ، لأن رجالهن يفضلون معاشرة بعضهم البعض على معاشرتهن . فلماذا ، وتحت أي مفهوم أو منطق ، يُناقضن مَصلحتهن وَيساندن الرجال في شذوذهم لِيستحققن هذا العقاب بالحرق والإبادة ؟ ولكن من جديد …. 8 ولكن من جديد ، لم يكن كل ما أوردناه هو غرائب حكايات لوط . فَالإصحاح 19 إياه يبدأ الحديث عن زيارة الملاكين لبيت لوط ، وإحاطة أهل سدوم بالبيت طلبا للملاكين ليفعلوا بهما الفاحشة ، وبتعريفنا بأنه كان للوط ابنتان بكريتان غير أولئك المتزوجات في سدوم ، وأن لوطا عرض على الرجال ابنتيه هاتين يفعلون بِهما ما شاءوا بديلا للملاكين . ولكن ، وقبل أن يسارع أحد للسؤال : هل يمكن أن يكون هذا سلوك نبي ، تعالوا ننقل كامل نص الحكاية . يقول الإصحاح :" فجاء الملاكان إلى سدوم مساءً وكان لوط ساكنا في باب سدوم . فلما رآهما لوط قام لِاستقبالهما وسجد بوجهه إلى الأرض 1 وقال يا سيديَّ ميلا إلى بيت عبدكما وبيتا واغسلا أرجلكما . ثم تُبكران وَتذهبان في طَريقكما . فقالا لا بل في الساحة نبيت 2 فألح عليهما جدا فمالا إليه ودخلا بيته . فصنع لهما ضيافة وَخُبزا فطيرا فَأكلا 3 وقبلما اضْطجعا أَحاط بالبيت رجال المدينة رجال سدوم من الحدث إلى الشيخ كل الشعب من أقصاها 4 فنادوا لوطا وقالوا له أين الرجلان اللذان دخلا إليك الليلة . أَخرجهما إلينا لِنعرفهما 5 فخرج إليهم لوط إلى الباب وأقفل الباب وراءه 6 وقال لا تفعلوا شرا يا أخوتي 7 هوذا لي ابنتان لم تعرفا رجلا . أُخرجهما إليكم فافعلوا بهما كما يحسن في عيونكم . وَأما هذان الرجلان فلا تفعلوا بهما شيئا لأنهما قد دخلا تحت ظل سقفي 8 فقالوا أبعد إلى هناك . ثم قالوا جاء هذا الإِنسان ليتغرب بيننا وهو يحكم حكما .الآن نفعل بك شرا أكثر منهما . فألحوا على الرجل لوط جدا وتقدموا ليكسروا الباب 9 فمد الرجلان أيديهما وأدخلا لوطا إِليهما إلى البيت وَأغلقا الباب 10 وأما الرجال الذين على الباب فَضرباهما بالعمى من الصغير إلى الكبير فعجزوا عن أن يروا الباب 11" . القرآن ، وإن صادق على صحة هذه الحكاية فإنه ، كالعادة ، أوردها في عدة سور موجزة وَباقتضاب شديد . ففي سورة القمر جاء ما يلي :{ ولقد راودوه عن ضيفه فطمسنا أعينهم فذوقوا عذابي ونذر } الآية 37 .وفي سورة العنكبوت : { ولما أن جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا وقالوا لا تخف ولا تحزن إنا منجوك وأهلك إلا امرأتك كانت من الغابرين } الآية 33 . وفي سورة الحجر : { فلما جاء آل لوط المرسلون 61 وجاء أهل المدينة يستبشرون 67 قال إن هؤلاء ضيفيَّ فلا تفضحون 68واتقوا الله ولا تخزون 69 قال هؤلاء بناتي إن كنتم فاعلين 71 لعمرك إنهم في سكرتهم يعمهون 72 } . وأخيرا في سورة هود :{ ولما جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا وقال هذا يوم عصيب 77 وجاءه قومه يهرعون إليه ومن قبل كانوا يعملون السيئات قال يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم فاتقوا الله ولا تخزوني في ضيفي أليس منكم رجل رشيد 78 قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد 79 قال لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد 80 } . ولعلنا هنا نسأل : هل ضعف إيمان ، أو ثقة نبي - لوط - بقدرة الملاكين على حماية نفسيهما ، وحمايته وأهله ، من عدوان رجال سدوم ، ومن ثم عرض ابنتيه البكرين عليهم ليفعلوا بهما ما شاءوا ، دليل شهامة نبي أم ماذا ؟ 9 وهنا ، وبعد إنجاز الملاكين حسب التوراة ، الرسل حسب القرآن ، لمهمة مَحو سدوم وَعموره من الوجود ، ينهي القرآن سيرة هذا النبي الرسول ، فيما تتابع التوراة عرض إشكالية ، هي الأكبر ، الأسخم والأشنع كَخاتمة لِهذه السيرة . يتابع الإصحاح 19 ذاته قائلا : " وصعد لوط من صوغر وسكن في الجبل وابنتاه معه . لأنه خاف أن يسكن في صوغر . فسكن في المغارة هو وابنتاه 30 وقالت البكر للصَّغيرة أبونا قد شاخ وليس في الأرض رجل ليدخل علينا كعادة كل الأرض 31 هلم نسقي أبانا خمرا ونضطجع معه فنحيي من أبينا نسلا 32 فسقتا أباهما خمرا في تلك الليلة ودخلت البكر واضطجعت مع أبيهما ولم يعلم باضطجاعها ولا بقيامها 33 وحدث في الغد أن البكر قالت للصغيرة إني قد اضطجعت البارحة مع أبي . نسقيه خمرا الليلة أيضا فادخلي اضطجعي معه فنحيي من أبينا نسلا 34 فسقتا أباهما خمرا في تلك الليلة أيضا . وقامت الصغيرة واضطجعت معه . ولم يعلم باضطجاعها ولا بقيامها 35 فحبلت ابنتا لوط من أبيهما 36 فولدت البكر ابنا ودعت اسمه موآب وهو أبو الموآبيين إلى اليوم 37 والصغيرة أيضا ولدت ابنا ودعت اسمه بن عمي وهو أبو بني عمون إلى اليوم 38 " . وقبل أن نسأل : هل يعقل أن هذا النبي والرسول لم يعرف أنه مارس خطيئة السفاح مع ابنتيه وأنهما حملتا منه ؟ والجواب : يمكن ذلك إذا كان قد توفي بعدها مباشرة ، أو قبل ظهور الحمل عليهما . لكن التوراة لا تقول ذلك ، كما لا تقول أن وِلادتيهما لم تحدثا في حياته . لنعود ونسأل : إذاً ما العبرة من إيراد مثل هذه الحكاية في كتاب مقدس ؟ هل لتقول أن كل شيء مبرر للأنبياء والرسل ، كما في حادثتي سكر نوح وَلعنه كنعان ، والحكم بعبوديته وَنسله لِنسل سام ويافث ، وتأجير إبراهيم فرج زوجته للفرعون مرة ، ولملك جرار الفلسطيني ثانية ، واستمتاعه بالخير الذي تدفق عليه من هذا التأجير في المرتين؟ 10 لكن هذا السؤال الأخير يعيدنا إلى سؤال سابق قال : هل كان لوط نبيا رسولا ؟ والجواب : نعم يمكن أن يكون نبيا ، فهل كان رسولا ؟ كنا قد أجبنا على هذا السؤال بنعم ، استنادا لنص الآية 133 من سورة الصافات { وإن لوطا لمن المرسلين } . لكن القرآن ذاته علمنا أن الرسول يكون في قومه . وأهل سدوم وَعموره لم يكونوا قوم لوط . والقرآن ذاته يعترف بذلك في الآية 71 من سورة الأنبياء والتي تتحدث عن هجرة إبراهيم ولوط من أرض ميلادهم ، أور الكلدانيين { ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين } مؤكدا ، أي القرآن ، ما ذهبت إليه التوراة . صحيح أن القرآن يكرر بأن لوطا كان يخاطب قومه : { ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة … } آية 8 من سورة الأعراف ، و { وجاءه قومه يهرعون إليه ….} الآية 78 من سورة هود . و{ كذبت قوم لوط المرسلين } الآية 16 من سورة الشعراء . و{ ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة وأنتم تبصرون } 54 النمل . و{ ولوطا إذ قال لقومه إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم أحد من العالمين } 28 العنكبوت و { كذبت قوم لوط النذر } 33 القمر . لكن الآية 56 من سورة النمل ، والتي تورد رد أهل سدوم على دعوة لوط لهم بترك ممارسة الشذوذ وباقي الشرور ، تشير ، ولو بغموض ، إلى اعتراف القرآن بأن لوطا ليس منهم وليسوا قومه . تقول الآية :{ فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون } . هذه الآية تعيدنا إلى الآية 9 ، سالفة الذكر ، من الإصحاح 19 والتي نصها :" فقالوا أبعد إلى هناك . ثم قالوا جاء هذا الإنسان ليتغرب بيننا وهو يحكم حكما ….} . وهي الآية التي تذكر القارئ بخلاف إبراهيم ولوط على المراعي ، وتوجه لوط شرقا ، واللجوء على سدوم بعد قضاء إبراهيم بالافتراق . 11 وخاتمة : وأعود لأذكر بأن علم الآثار ينفي كلية أحداث التوراة هذه ، وَبالضرورة أحاديث القرآن المطابقة لها ، وبينها وجود إبراهيم ولوط ، كما حكاية سدوم وَعموره والزلزال الذي ضربهما . ولكن قبل ذلك وبعده فإن عسر قبول العقل لها يمكن تذليله ، في حال وضعها في خانة الأسطورة ، بديلا للتعامل معها كَوقائع حقيقية ، يقول بها المؤمنون ويرفض العقل قبولها . أسطورة تتعلق بمحاولة أهل ذلك الزمان تفسير واقعة الانهدام القاري الذي نشأ عنه غور الأردن والبحر الميت . الانهدام الذي امتد عبر البحر الأحمر إلى شرق إفريقيا . والملفت للنظر أن التوراة ذاتها تلمح إليه في الإصحاح الثالث عشر ، وفي الآيات التي سبق وَثبتناها في بداية هذه الحلقة عن مخاصمة إبراهيم ولوط على المراعي وقرار الافتراق . ولأن في الإعادة إفادة نعيد تثبيت ذلك التلميح . يقول الإصحاح :" فرفع لوط عينيه ورأى كل دائرة الأرض أنها كلها سقي قبلما أخرب الرب سدوم وَعموره كجنة الرب كَأرض مصر حينما تجيء إلى صوغر 10 " . كلها أرض مروية . مثل جنة الرب . مثل أرض مصر . هذا ما تصوره إنسان ذلك الزمان قبل الزلزال الهائل الذي أحدث الانهدام القاري .
#عبد_المجيد_حمدان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تقاطعات بين الأديان 18 ، إشكاليات الرسل والأنبياء 3 إبراهيم
-
تقاطعات بين الأديان 17 إشكاليات الرسل والأنبياء 2
-
تقاطعات بين الأديان 16 إشكاليات الرسل والأنبياء 1
-
يا مثقفي التنوير اتحدوا
-
تقاطعات بين الأديان 15 الحكمة والحكماء
-
تقاطعات بين الأديان 14العادل المعذب ....صبر أيوب
-
تقاطعات بين الأديان 13 الصعود إلى السماء
-
تقاطعات بين الأديان 12 الروح والموت
-
تقاطعات بين الأديان 11 المرأة في روايات الخلق
-
تقاطعات بين الأديان 10 غايات الآلهة من خلق الإنسان
-
تقاطعات بين الأديان 9 خلق الإنسان
-
تقاطعات بين الأديان 8 قراءة في رواية حلق الكون القرآنية
-
حدود الدولة
-
تقاطعات بين الأديان 7 قراءة في روايات خلق الكون
-
تقاطعات بين الأديان 6 نظرية الخلق 1 خلق الكون
-
تقاطعات بين الأديان 5 قراءة مقارنة في روايات الطوفان
-
تقاطعات بين الأديان 4 الطوفان
-
في البحث عن الأمل والسقوط في الأحضان االقاتلة
-
تقاطعات بين الأديان 3 الأضاحي البشرية
-
الإستراتيجية الفلسطينية .....وضرورة التغيير 3/3 البديل تقصير
...
المزيد.....
-
دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه
...
-
في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا
...
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
-
نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله
...
-
الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|