|
ألم ألألم … ! ( قصة قصيرة )
جلال الاسدي
(Jalal Al_asady)
الحوار المتمدن-العدد: 6779 - 2021 / 1 / 5 - 10:32
المحور:
الادب والفن
جبار .. شاب طيب لا يزال يتعثر في سنواته العشرين .. شاءت الاقدار ان يتجه تفكيره توجها دينيا عاديا .. متدين روتيني لا يضر ، ولا ينفع كما اغلب المتدينين التقليديين البسطاء .. يذهب الى الجامع كل يوم يؤدي باختياره ما مفروض عليه من واجبات يعتبرها مقدسة بطيبة خاطر .. ينفذها بحذافيرها كالآلة دون جدل او نقاش او حتى مراجعة ! اثناء تردده على الجامع تقع بساطته ، وطيبته فريسة لحفنة من الشبان المؤدلجين ، فيسحبون عقله ، وتفكيره الى مكان آخر خطير ، بل في غاية الخطورة .. لم يدرك في البداية مداه ، ولا عمقه ، فينساق معهم دون ايمان حقيقي بطروحاتهم .. لم يشعر والده الكادح المسكين بهذا التحول المفاجئ في مسار حياة ولده العزيز ، والغالي .. فهو لا يملك غيره ، وهو ما طلع به من الدنيا ، وسبعة من البنات حتى يكاد لا يذكر اسماء البعض منهن … ! وتمر الايام هادئة رتيبة .. ولا اي مشاكل من اي نوع ، لكن الاتصالات بينه ، وبين رفاقه الجدد لم تنقطع ، ولم تخُف .. تستحوذ عليها انفاس السياسة العطنة اكثر من الدين .. مما ازعج جبار لان الدين هو اهتمامه الاول .. فكر كثيرا مع نفسه ، وتوصل الى قرار شد العزم عليه .. ان يبتعد عن هذه المجموعة ، ويتجنب الشر ، فتوقف عن الذهاب الى الجامع ، وبقي في البيت لا يغادره .. لكن هل يمكن ان يرخي الشر قبضته من على رقبته ، ويتركه في حاله ؟ تاتيه يوما احدى شقيقاته ، وتخبره بأن شخصا واقف على الباب يريده .. يسألها عن اوصافه فتخبره بانه شاب ضعيف البنية ملتحي .. يقفز من مكانه ، وكأنه شاهد ثعبان .. كيف عرفوا بمكانه ؟ تسائل مرتبكاً ، وهو يهم بالخروج .. استقبل ضيفه ، وادخله مُرحباً ، وبعد ترديد كلمات الضيافة سأله جبار السؤال الذي حيره قبل لحظات كيف عرفوا بمكانه .. اجابه الشاب بكل ثقة ، واطمئنان بانهم لا يخفى عنهم شئ ، ثم اخذ الشاب بدوره يسأل جبار عن اسباب تخلفه عن اللقاءات ، والحضور لاداء صلاة الجماعة .. فاعتذر جبار متعللاً بالمرض ، ومشاغل الحياة .. لكن الشاب قاطعه مستنكرا بان لا شئ يمكن ان يقف امام الرسالة المكلف بها الاخيار من المسلمين .. وعده جبار بانه سيعود الى اللقاء بهم بعد ان تستقر اموره ، وتتحسن صحته … في تلك الليلة بقي ساهراً .. ليل مخيف لا يريد ان يتزحزح .. بانتظار نوم معاند لا يجئ .. أنشب القلق مخالبه في سكينته .. اي ورطة تورط ؟ فهو يعرف مدى شراسة النظام ، وبطشه .. قارب الفجر الاخرس على الانبلاج .. سمع عواء كلاب سائبة كأنه بكاء .. يحذره .. انقبض قلبه ، واحس بضيق كأنه على وشك ان يختنق .. بكى حتى شرق بدمعه .. أمسك نفسه حتى لا يتقيأ ، عقله لم يتوقف عن النشاط .. استعاد تصميمه على ان لا يذهب الى الجامع ثانية بعد اليوم مهما كان الامر ، ويكتفي بما يشاء من عبادة ، وغيرها في البيت … ! ظلت الشمس تواصل سقوطها الهادئ خلف حافة الافق البعيد .. تودع الارض الغريبة التي لم تعد ارضاً .. الا للموت والجفاف ، واللهاث .. خرج جبار ليروِّح عن نفسه ، ويشتري حاجياته بعد ان سئم البقاء في البيت ، وافترسه الملل .. جمعته الصدفة بواحد من معارفه المترددين على الجامع ، فاخبره بان كبسة قد حصلت قبل يومين على الجامع ، واعتقلوا المجموعة التي كان يلتقي بهم ، وحذره من الذهاب الى هناك .. راعه ما سمع ، وحمد الله لانه لم يستأنف علاقته بهم بعد ان زاره ذلك الضيف … عاد الى البيت مسرعا يرتعد .. يملأ الخوف قلبه الصغير .. يا تُرى لمَّ لم يأتوا لاعتقاله ؟ هل يمكن ان من كان يجالسهم لم يذكروا اسمه ، ام لم يحن دوره بعد … ؟ مضت ايام كأنها قرون في ثقلها دون ان يحصل شئ .. شعر بشئ من الاطمئنان ، وبأن الخطر قد زال .. فقام ، وصلى ركعتين شكراً لله على السلامة .. لكنه بقي في البيت لم يغادره … وفي ليل مجهول لا شخصية له ، اوغلت فيه الظلمة الموحشة .. بينما هجع الكل .. جاء ضباع الليل ، وانتزعوه من دفء الفراش .. تفوح في الجو انفاس الخوف والرعب .. ابوه لم يفهم شيئاً .. توسل اليهم بأن ابنه ليس له اي اهتمامات بالسياسة ، ولكنه كان يُكلم آلات لا احاسيس ، ولا مشاعر لها .. حتى الكلام كأنهم نسوه او نسيهم .. اخذوه ، وانصرفوا .. صمتٌ كالموت يستحوذ على المكان الذي فقد قيمته ومعناه بعد ان ذهب جبار الى المجهول .. تمر الايام كأنها جبال على ابو جبار لا تقبل ان تتزحزح ، لايستطيع فيها النوم .. يهجر النوم او يهجره ، وتخاصمه الطمأنينة .. كيف له ان ينام وقد اخذوا منه جزءً مهماً من قلبه ، وروحه .. لا يمكن ان يعوض .. يعيش العذاب ، والالم يوماً بيوم ، لحظةً بلحظة .. وام جبار المسكينة تنوح ملتاعة ليل نهار ! وها هي الأيام تمر ثقيلةً ، وتتبعها الشهور ، وابو جبار يلف على دوائر الامن الواحدة تقذفه على الاخرى ، ولكن من يعير اهمية لرجل فقير بائس مثله .. انه لا شئ بالنسبة لمنزوعي القلوب ، والرحمة من وحوش العصر المفترسة .. لا يتلقى منهم سوى الطرد او اللامبالاة ، وفي افضل الاحوال وعود مؤجلة كاذبة … ! وفي يوم توقف فيه كل شئ .. وتراجع الزمن حتى فقد كل معانيه ، كأنه لا لزوم له .. حتى الريح كانت خرساء بلا صوت ، وساكنة .. جاء من ينعي موت جبار معدوماً ، ويطلب من ابيه ان يذهب لاستلام جثة ابنه .. الموت قبيح ، قاس ، وعنيف .. مهما حاولنا مداراته ، وتجميله ، واعطيناه اسماءً أخرى مخففة … ! تُرى من منا يمتلك قلما عبقريا يستطيع ان يصف تلك اللحظة الرهيبة ، ويكتب الكلمات الاخيرة في خاتمة هذا الجزع العظيم … ؟ لحظة تذوب فيها المعاني ، وتتبدد الكلمات ، وتغادر الاقلام على عجل محرجة خجلةً ، ومعتذرة عن تصوير تلك اللحظة المسروقة من عمر الزمن ! ألا ما افزع فكرة النهاية … !! ألا ما أصعب الفراق .. لحبيب انتظرته ، وبنيت آمال الطيور في ان يضمك معه حيزاً صغيراً ، مهما كان ، واينما كان ! شهق الصمت بعبرته ، وبكت الازهار حزناً .. وانحنت الحياة اجلالاً امام تلك المعاناة الانسانية … ! عجباً .. من اي صمت يخرج كل هذا الالم ، وكل هذا الوجع … ؟! كان جسد ابنه الغالي مسجى ميتا او شهيداً .. لا فرق مجرد تبديل كلمات ، وتداخل مفاهيم … هذا هو كل ما تبقى من جبار المسكين .. يحدق فيه ابوه بوجه ملئ بالتفجع ، والاسى .. يحمله بين ذراعيه ، ويضمه الى صدره بشوق .. يبكى بكاءً حاراً يمزق نياط القلوب ، وجسده الهزيل ينتفض ، ويتلوى .. يواصل احتضانه كأنه يحرس جسده الساكن من ان يأخذوه منه ثانيةً .. يشتم رائحته … وهو يصيح بصوت مجروح يمزقه الألم .. مستغيثا بكل ما تحتويه دواخله من حرقة ، ولوعة : أُفيش … ولك جبيّر اشگد ريحتك طيبة … !!!
#جلال_الاسدي (هاشتاغ)
Jalal_Al_asady#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
علماني … ولكن ! ( قصة قصيرة )
-
إستعادة الحب من مخالب الكبرياء … ! ( قصة قصيرة )
-
دعوني لأحزاني … ! ( قصة قصيرة )
-
إمرأة بمئة رجل … ! ( قصة قصيرة )
-
زوجة نائمة في العسل … ! ( قصة قصيرة )
-
ما وراء الشمس … ! ( قصة قصيرة )
-
من قتل فائزة … ؟ ( قصة قصيرة )
-
الظاهرة الترامبية العابرة … !
-
انتفاضة تشرين … مخاض أملٍ جديد ! ( قصة قصيرة )
-
غرباء في هذا العالم … ! ( قصة قصيرة )
-
حُلمٌ … مخجِّل ! ( قصة قصيرة )
-
من هنا مرّت فاطمة … ! ( قصة قصيرة )
-
القمار ، وعواقبه … ! ( قصة قصيرة )
-
التطبيع خيار سلام … ام مشروع فتنة ؟!
-
جنون ، وضياع … ! ( قصة قصيرة )
-
الشعوب العربية … آخر من يعلم ، وآخر من يهتم !
-
المصالحة الفلسطينية … الحلم !
-
هل اصبحت الحرب مع ايران قدرا … لا مفر منه ؟
-
عودٌ على بدء … !
-
هل يمكن ان يعيد التاريخ نفسه في 2024 ، ويفوز ترامب !
المزيد.....
-
الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
-
يفوز بيرسيفال إيفرت بجائزة الكتاب الوطني للرواية
-
معروف الدواليبي.. الشيخ الأحمر الذي لا يحب العسكر ولا يحبه ا
...
-
نائب أوكراني يكشف مسرحية زيلينسكي الفاشلة أمام البرلمان بعد
...
-
مايكروسوفت تطلق تطبيقا جديدا للترجمة الفورية
-
مصر.. اقتحام مكتب المخرج الشهير خالد يوسف ومطالبته بفيلم عن
...
-
محامي -الطلياني- يؤكد القبض عليه في مصر بسبب أفلام إباحية
-
فنان مصري ينفعل على منظمي مهرجان -القاهرة السينمائي- لمنعه م
...
-
ختام فعاليات مهرجان القاهرة السينمائي بتكريم الأفلام الفلسطي
...
-
القاهرة السينمائي يختتم دورته الـ45.. إليكم الأفلام المتوجة
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|