أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعد الساعدي - وقفةُ تأمّلٍ مع الذات..















المزيد.....

وقفةُ تأمّلٍ مع الذات..


سعد الساعدي

الحوار المتمدن-العدد: 6777 - 2021 / 1 / 3 - 21:51
المحور: الادب والفن
    


لم أكن أعلم أنني في يوم ما سأكتب شعراً تملأ كلماتُه نفسي، بعد أن كنت أقف كلّ يوم خميس في ساحة المدرسة وأنا في الصّف الخامس الابتدائي مع مجموعة رافعي العلم، بعدها أقرأ ما أحفظ من قصيدة، ولم تكن غير: " إذا الشّعبُ يوماً أراد الحياة .. فلابد أن يستجيب القدر ".. كانت هذه القصيدة ضمن ما مطلوب حفظه من المنهج الدراسي. لم أعرف الشّابي، ولا أين تقع تونس على خارطة الوطن العربي حينها؛ أمّا اليوم فلديّ من الأصدقاء هناك ما لا أقدرُ على إحصائه.
كان الشّعرُ عصياً عليًّ حفظه؛ فمع حبي للجواهري كنت أعاني جداً من حفظ ما مطلوب مني وأنا أخوض غمار دراستي أملاً في إنهاء الثانوية بسلامة بعيداً عن إعادةِ سنةٍ جديدة، ومجال تخصصي في الفرع العلميّ وليس أدبياً.. حتى أشعاري لم أستطع حفظها بعد كتابتها؛ والى يومنا هذا، ومع كل هذه المعاناة أجدني أحياناً أحفظ الشعر منذ الوهلة الأولى لقراءته، ما سرُّ هذا التباين؟ لا أعرف.
منذ صغري حفظت لقباني أشعاراً كثيرة، وللسّياب، والمتنبي. أتعجّبُ كيف تدخل تلك الكلمات بلا استئذان الى عقلي، وتحفظها ذاكرتي، وتكمن هناك بلا قطيعة، لكني نسيت كلّ ما حفظتهُ أثناء دراستي ضمن المنهج المقرر، ولم يبقَ الاّ ما كان خارج المنهج أحياناً كثيرة.
ذات مرة طَلبَ أستاذنا ممتحناً؛ أن نكتب سبعةَ أبياتٍ مما نحفظ لأبي الطيب المتنبي؛ كنت أحفظ من المقرّر سبعة أبيات بالتّمام والكمال؛ لكني أحفظ من ذاكرتي أكثر؛ فكتبت أثنين وعشرين بيتاً.. لماذا فعلت ذلك؟ قد يكون السبب هو إثارة إعجاب استاذي الذي لم يتوانَ بمنحي أعلى درجة نهاية العام الدراسي، فكانت أول درجة امتيازٍ لي، ولعله هو المطلوب آنذاك حين التحقت بدراسة أدبية جديدة بعد سنوات مرَّت مسرعة أخذت الكثير بين اجهاض ونموٍ متسارع.
كانت أشعارُ الثّورة والحب تتملّكني، ولا حدودَ لها؛ الثورة على الواقع، وعلى الوجدان، وحتى على الأحلام. لم أحفظ لنازك، ولا للبياتي حتى هذه اللحظة شيئاً، لكني معهما أجدُ نفسي أعانق خيالاتي، وأهيم مع نسائم الحياة. حفظتُ أنشودةَ المطر للسيّاب لأني أحبه، وأحبّها، وما زلت الى الآن أتصورُ نفسي ذلك العاشق الذي ينظرُ للأعلى أملاً بإشارةٍ، أو ابتسامةٍ رقيقة من محبوبته، أو أتعلّقُ بقطعةٍ صغيرة من الورق فيها مكتوبٌ: أحبك، أو أعشقك، أو أنت حبيبي الذي لن أنساه؛ لكن هل قصد السياب حبيبته أم غير ذلك؟
حفظت بيتين للجواهري: "حييّتُ سفْحكِ عن بعدٍ فحييني.. يا دجلةَ الخيرِ يا أمَّ البساتينِ..
حييتُ سفحكِ ظمآناً الوذُ به.. لوذَ الحمائمِ بين الماءِ والطّينِ"... لكني أقف مبهوراً جامداً أمام ما كَتب؛ كأني جالس بينه وبين المتنبي مستمعاً لحوارٍ قلّما أعرف تفسيرَ معانيه؛ لكني أذوب في سحره وبيانه.
أسماءٌ كثيرة؛ كنجومِ السّماء، أو شُهبٍ تتساقط كل حين أمام ناظري، والمدهشُ أنّ أولَ كتابَ شعرٍ قرأته كان للشّاعر (بابلو نيرودا )الذي ذكّرني قوله بعد مقتل صديقه رئيس تشيلي (سلفادور الليندي) برصاص عسكرِ الانقلاب (البينوشيتي) حين هجم على بيته العسكر يفتشون عن السلاح لأنه صديق الرئيس، ولمّا سئل عن السلاح قال: شعري هو سلاحي.. بقيت هذه الكلمات عالقة في ذهني؛ حقاً هو سلاحٌ جميلٌ وخطير.
ومع هذا لم أكنْ أعرف نيرودا، ولا الليندي إلاّ بعد موت الشاعر وهو يقول كلماتَه الأخيرة:
"إنَّ تلك الشخصية (سلفادور الليندي) المجيدة، الميتة، كانت تمضي وهي مخرّقة برصاص رشّاشات عساكر تشيلي؛ الذين خانوا تشيلي مرة أخرى. لكنّي لم أحفظ من شعره سوى صورة البطولة، والثورة، والحرية؛ مع أنّي لم أكن يسارياً، أو يمينياً، وطالما قرأتُ في نهاري الأدبَ الروسيّ، وفي ليلي أتهجّدُ بدعاءٍ الى الآن أردّدهُ: (اللهمّ إنّا نرغبُ اليكَ في دولةٍ كريمةٍ تخلّصنا فيها من الظّالمين)..
حتى في محراب صلواتي أتذكّرُ الشعرَ الشهيد؛ المضمّخة دماؤه بلونها الأحمر، وأنا لا أحبُّ كل ثوبٍ أحمر، إلاّ راياتِ الشّهادة، وبطولة الأبطال، وعَلم بلادي، والصّرخات الحمراء المدويّة ضدَ العنف والاستغلال، واستعبادِ البشرِ أينما كانوا. هنا تذكرت محمّد مفتاح الفيتوري، شاعر الحرية السوداني، فما تزال الى الآن اصداءُ كلماتِه التي رسخَت، وتعمّقت تناغيني: "الملايينُ افاقت من كراها.. ما تراها.. ملأ الأفقَ صداها".. ومحمود درويش وهو يوقّعُ وثيقته الشخصيّة: "أنا عربي.. ورقمُ بطاقتي خمسون ألف.. أطفالي ثمانية.. وتاسعهم سيأتي بعد صيف.."
هذه الصور المتّقدة لم يتعلق بالذّاكرة فقط، لكنها ترسخت في اللا شعور، أو ما يسمّى العقلُ الباطن، ومتى ما احتجتُ اليها فإنها تقفزُ أمامي كدليلٍ للسّائحين لا يفارقُ الجماعةَ خوفاً من الضّياع؛ لذلك ربما حفِظَتْها الذاكرةُ بلا تعبِ الحفظ.
كذلك لم يكن لعملاقي الشعر والفصاحة عبد المحسن الكاظمي، أو محمد مهدي البصير نصيبٌ من الحفظ، وهما لم يفارقا دراستنا أينما كنّا. وإنْ كان الشعر حجازياً، أو يمنياً؛ لكنّ بناءه، وكمالَ عذوبته، وجمالَ سحره، وبيانه استقرَّ عراقياً دون منازع الى الحين باعتراف الجميع؛ لذلك لم يكن غريباً عندما تطفو كلُّ الأشعار وتسبحُ في عقلي، وروحي، وذاكرتي لشعراء عراقيين قبل غيرهم بلا شعوبية أو شوفينية تعصبية، وكأنهم بالفطرة ولدوا هكذا، وجُبلوا بالشّعر، وقد تكون هذه الحقيقة. حتى كتّاب الشعر العاميّ (الشّعبي) لا يجاريهم أحدٌ فيما يكتبون، وكأنهم ينفثون سِحرَهم الأخّاذ بين الكلمات؛ ليصنعوا مجدَها وعُلاها، والاسماءُ لا تُحصى.
مما أعشقه من الشّعر كانت كلمات الغزل، وكتبْتُ ما أحسبه أجمل غزليّاتي حين اشتعلتْ حربُ الثمان سنوات؛ فكانت ملاذي ألآمن وأنا أكتبُ بعيداً عن كلّ شيء، لئلا تقعَ إحدى القصائدَ بيد العيون الماكرة آنذاك، وأقبعُ بعدها خلف أبوابٍ من حديدٍ لا يُعرفُ لونها وأين مكانها ، فكان الغزل هو حارسي الأمين الذي فارقني الآن بعد أن ذهبَ في إجازة طويلةٍ، ربما بلا رجعة، لأن الورد يعشق الماء، وأنا الآن بين ظلالٍ من لهبٍ لا يلحفُني وحدي، بل هناك ملايين مثلي تبحث عن ظِلٍّ آمن غيره، ولم تجد!
لم أكن أعلم أنّ للشعر طقوساً، ومواسمَ كغيره من الكتابة إلاّ بعد سنواتٍ من البعد والقطيعة، لكنها ما كانت طلاقاً خلعيّاً مؤبداً؛ إنما كان طلاقاً رجعيّاً؛ عِدّتُه جيلٌ كامل؛ فلو تزوجَتْ إحدى قصائدي وقتئذ لأنجبتْ الآن أطفالاً وأراهم بين يديَّ كتباً بأغلفة وألوان شتى.
مارستُ طقوسي من جديد بهدوءٍ مع ألوانٍ تهبها لي الطبيعة تارةً، وأحياناً يفرزها ظلمُ الانسان لأخيه الانسان.. أرسم بها لوحاتي ساعةَ يحين اللقاء، أو يدقّ ناقوسُ الأرواحِ العطشى للحروف ونشوة الخلجات المتدفقة بينا حناياها.
لم تعُد الجميلاتُ ما أطمح اليه من وصفهنَّ؛ فالجمال ليس أبداً وجهُ امرأةٍ، أو جسدٌ تترقرق مفاتنه بين القلب والعينين. الشعرُ له شهوة خاصّة مفضوحة لا حياء لها، ولا تخشى أقسى العقوبات إنْ تخلع ثوب الابتذال عنها، أمّا شهوات قصائدي فقد انحرفت صوبَ الورود وصباها، وندى الصّباح، وأريجَ زينته، وكلَّ أوراقِ الأشجار حتى الذابلة منها قبل الخريف، وما تحملُ من ألوان.
بسمةُ طفلٍ صغيرٍ، أو جدائل طفلةٍ جميلة تُدَهشُ أحاسيسي لصفائها، ونقائها، أو ترجعني لذكرياتٍ لم أرَ مثلها في حياتي حين كنتُ صغيراً، وحياتي اليوم كقطارٍ يكادُ يخرجُ عن محلِ سيره، ويهوي في مكانٍ سحيقٍ لا يعرفُ قراراً، أو زمناً للرحيل رغمَ الاستعدادِ والتأهّب.
أسئلةٌ شتّى تراودني كثيراً: مَنْ منّا أوصل رسالتَه بما تحملُ من جُملٍ تخلو من تعقيد؟ مَنْ مازال الى الآن يلهثُ خلف سرابٍ من ضوءٍ متشتت؟ من انتصفَ من نفسه قبل أن يقولَ وداعاً؟
اكملتُ كلَّ عباراتِ رسالتي إلاّ سطرين قربَ الهامش، كي أذيّلُها بتوقيعٍ استنبطه مع آخر كلمةٍ، حتى لا يتكرّرُ بينَ يديَّ مرةً ثانية، فقد يضيع القلم، أو لا تقوى أصابعي على إمساكِه، أو يسرقه طامعٌ بجماله مع ما سُرقَ وسيسرق لأنّ الأمور أحياناً تخرجُ من بين أيدينا ونحن ننظرُ بدهشةٍ لا نعرفُ ماذا نفعل، أمّا أنتم أصدقائي فلا أعرفُ ماذا تضمِرون، أو ماذا ستكون رسائلُكُم، ولعلّي مِن هوسِ الشّعرِ وذكرياته أوجّه أسئلتي مُجبِراً من لا يسعى لإجابةٍ أبداً، أو لا يحبّذ سماعَها منّي أو من غيري، أن يعود الى نفسه يتساءل من جديد ليعرف أين موقِع النَّصَف..!



#سعد_الساعدي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نظرية التحليل والارتقاء النقدية.. ما الضرورة اليها اليوم؟
- القيم الأخلاقية والصورة الفنية في القصيدة الجاهلية.. مقاربة ...
- القيمة التجديدية الابداعية المضافة في عملية نقد النقد استناد ...
- ما هي نظرية التحليل والارتقاء النقدية التجديدية؟
- أستطيقيا اللون والتشكيل.. العراقية شفاء هادي أنموذجاً
- توظيف القصيدة النثرية الأفقية كقصة قصيرة
- النّاص بين قراءة الناقد ومرتكزات التحليل وفق نظرية التحليل و ...
- التآلف اللغوي في بناء النص حسب نظرية التحليل والارتقاء
- رواية حب عتيق تحصد المركز الثاني
- توظيف التساؤلات في تشكيل القصيدة التجديدية.. قراءة نقدية في ...
- حياة البائسين بين السوط، والجلاّد.. قراءة نقدية
- النص بين التهويل والتهميش، ودور الناقد
- شخصنة النقد الجدلي بين التجديدية والكلاسيكية موتٌ للإبداع أم ...
- اثر الفيسبوك في تنشيط الحركة الادبية
- هشيمٌ برذاذِ المرآيا..
- أهزوجةُ أوراقٍ قديمة
- قراءة في قصة شاعرة بعنوان ( بيان ) للدكتورة أحلام الحسن من ا ...
- مازالتِ الطرقاتُ تبحثُ عن حزن ..


المزيد.....




- حكاية الشتاء.. خريف عمر الروائي بول أوستر
- فنان عراقي هاجر وطنه المسرح وجد وطنه في مسرح ستوكهولم
- بالسينمات.. فيلم ولاد رزق 3 القاضية بطولة أحمد رزق وآسر ياسي ...
- فعالية أيام الثقافة الإماراتية تقام في العاصمة الروسية موسكو
- الدورة الـ19 من مهرجان موازين.. نجوم الغناء يتألقون بالمغرب ...
- ألف مبروك: خطوات الاستعلام عن نتيجة الدبلومات الفنية 2024 في ...
- توقيع ديوان - رفيق الروح - للشاعرة أفنان جولاني في القدس
- من -سقط الزند- إلى -اللزوميات-.. أبو العلاء المعري فيلسوف ال ...
- “احــداث قوية” مسلسل صلاح الدين الجزء الثاني الحلقات كاملة م ...
- فيلم -ثلاثة عمالقة- يتصدر إيرادات شباك التذاكر الروسي


المزيد.....

- خواطر الشيطان / عدنان رضوان
- إتقان الذات / عدنان رضوان
- الكتابة المسرحية للأطفال بين الواقع والتجريب أعمال السيد ... / الويزة جبابلية
- تمثلات التجريب في المسرح العربي : السيد حافظ أنموذجاً / عبدالستار عبد ثابت البيضاني
- الصراع الدرامى فى مسرح السيد حافظ التجريبى مسرحية بوابة الم ... / محمد السيد عبدالعاطي دحريجة
- سأُحاولُكِ مرَّة أُخرى/ ديوان / ريتا عودة
- أنا جنونُكَ--- مجموعة قصصيّة / ريتا عودة
- صحيفة -روسيا الأدبية- تنشر بحث: -بوشكين العربي- باللغة الروس ... / شاهر أحمد نصر
- حكايات أحفادي- قصص قصيرة جدا / السيد حافظ
- غرائبية العتبات النصية في مسرواية "حتى يطمئن قلبي": السيد حا ... / مروة محمد أبواليزيد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعد الساعدي - وقفةُ تأمّلٍ مع الذات..