داخل حسن جريو
أكاديمي
(Dakhil Hassan Jerew)
الحوار المتمدن-العدد: 6777 - 2021 / 1 / 3 - 10:29
المحور:
التربية والتعليم والبحث العلمي
شهد مؤسسات التعليم العالي والبحث العلمي في العراق منذ نشأتها في مطلع القرن العشرين تطورا مستمرا, حيث كانت منظومة التعليم العالي تعد أحد أفضل نظم التعليم العالي والبحث العلمي في البلاد العربية وعموم منطقة الشرق الأوسط , لما إمتازت به من رصانة علمية وإنضباط عال وتمسكا بالقيم والأعراف الجامعية , وإعتماد أفضل النظم التعليمية المعروفة في جامعات الدول المتقدمة , وطرائق التدريس وأساليب التربية الحديثة , وإجراءات ضبط الجودة والسيطرة النوعية, والمراجعة المستمرة للمناهج الدراسية بهدف تنقيحها وتقويمها وتحديثها بما يتماشى ومستجدات العلوم والتكنولوجيا المتقدمة , وتلبية متطلبات سوق العمل لضمان تخريج كوادر علمية عالية التأهيل ورفيع المستوى في جميع صنوف المعرفة . وقد أثبتت الوقائع ومعطيات سوق العمل داخل العراق وخارجه جودة الخريجين وكفاءتهم العالية , ولم يجد أيا من خريجيها أية صعوبة بمواصلة دراسته العليا في أي من جامعات العالم .
حضي قطاع التعليم العالي والبحث العلمي برعاية الحكومات العراقية التي تعاقبت على حكم العراق , حيث أولت هذا القطاع إهتماما خاصا , على الرغم من أن طلبة الكليات كانوا مصدر إزعاج لهذه الحكومات, لممارسة معظمهم أنشطة سياسية معادية لها وقيامهم بالإضرابات والمظاهرات الصاخبة ضد سياساتها . كانت الكليات بؤرا سياسية لمعظم الأحزاب , وبخاصة الأحزاب اليسارية والقومية والدينية. سأتطرق هنا إلى بعض الإجراءات التي أتخذت لتعزيز مسيرة التعليم العالي والبحث العلمي في فترة عقود السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات من القرن المنصرم , بوصفي تدريسيا عايشتها وكنت جزءا من العملية التعليمية يومذاك , نوجزها بالآتي :
1.صدور قرار مجلس قيادة الثورة ذي الرقم ( 342) في 5/8/1969 المتضمن إعادة تنظيم الجامعات , وتشكيل لجنة لإعادة النظر في الوضع الجامعي والتخطيط التربوي, وذلك بناءا على توصية المجلس الأعلى للجامعات. قدمت اللجنة تقريرها في أيلول عام 1969 حيث أشارت إلى عدم وجود فلسفة واضحة لتعليم جامعي مستمدة من فلسفة تربوية واضحة مستندة بدورها إلى الفلسفة الإجتماعية التي يرتضيها المجتمع لنفسه, فضلا عن عدم تكامل التخطيط للتعليم العالي مع التخطيط الإقتصادي والإجتماعي والسياسي, وعدم تكامل وإنسجام التخطيط للتعليم العالي مع التخطيط للتعليم العام. إقترحت اللجنة إستحداث وزارة خاصة بالتعليم العالي والبحث العلمي لتنفيذ سياسة الدولة التربوية والثقافية والعلمية والتكنولوجية.
2.جعل التعليم بجميع مراحله مجانا ومتاحا لجميع طالبيه , وهو أمر لم يتحقق حتى يوما هذا في معظم دول العالم بما فيها دول الخليج العربي المتخمة بمواردها المالية . وبذلك تمكن العراق من القضاء تماما على الأمية حيث منحته منظمة اليونسكو جائزة تقديرا لهذه الجهود في أواخر عقد السبعينيات من القرن المنصرم .
3.وبغية إزالة الفوارق المظهرية بين الطلبة داخل الحرم الجامعي فقد إلزم الطلبة بإرتداء الزي الجامعي الموحد. ولإحكام سيطرة الدولة على جميع مفاصل التعليم فقد ألغي التعليم الأهلي بجميع مراحله وأشكاله.
4.عقد في تموز عام 1981 برغم ظروف الحرب العراقية الإيرانية المستعرة يومذاك, مؤتمرا موسعا في مبنى المجلس الوطني على مدى ستة أيام , برئاسة النائب الأول لرئيس مجلس الوزراء , ومشاركة عدد كبير من الوزراء وبعض كبار المسؤلين في الدولة ورؤساء الجامعات ومساعديهم وعمداء الكليات كافة , ومشاركة رئيس الجمهورية بين الحين والآخر, وذلك لمناقشة أوضاع قطاعي التربية والتعليم العالي في ضوء ورقة عمل معدة لهذا الغرض , بهدف النهوض بقطاع التعليم العالي والبحث العلمي .
4.عقدت إجتماعات في شهري حزيران وتموز عام 1992 بديوان رئاسة الجمهورية, برئاسة رئيس الجمهورية ومشاركة وزراء التعليم العالي والتربية والتصنيع العسكري والنفط والصناعة والإتصالات ورؤوساء الجامعات ووكيل وزارة التعليم العالي والمدراء العامين بديوان الوزارة, ووزير التعليم العالي السابق ورئيس مجلس البحث العلمي المنحل , وذلك لمناقشة ورقة معدة لتطوير قطاع التعليم العالي والبحث العلمي.
5. عقدت وزارة التعليم العالي والبحث العلمي عدة مؤتمرات علمية, جرى الإعداد لها جيدا لمراجعة مسيرة التعليم العالي والبحث العلمي وإقتراح بعض سبل تطويرها , بمشاركة رؤساء الجامعات وعمداء الكليات كافة وأساتذة الجامعات وبعض كبار المسؤلين في الوزارات , نذكر منها المؤتمر المنععقد عام 1989 والمؤتمر المنعقد عام 2000 ,والتي تمخضت عنها قرارات مهمة أسهمت بتطوير قطاع التعليم العالي والبحث العلمي .
هذا فضلا عن المؤتمرات العلمية التي دأبت الكليات والجامعات على عقدها دوريا , والتي أرتؤي لاحقا في نهاية عقد التسعينيات إعادة تنظيمها , لتكون مؤتمرات قطرية تخصصية , بحيث تتولى كل جامعة عقد مؤتمرا علميا وطنيا بتخصص محدد , كأن تتولى جامعة ما عقد المؤتمر الهندسي , وأخرى المؤتمر الطبي , وأخرى المؤتمر العلمي وهكذا . تتولى الجامعة المعنية تنظيم المؤتمر ونشر وقائعه بصورة دورية منتظمة . كما تم تنظيم إصدار المجلات والدوريات العلمية بالطريقة نفسها , أي أن تكون كل جامعة مسؤولة عن إصدار مجلة قطرية دورية بتخصص معين , وذلك لضمان جودتها ورصانتها من جهة , ومنع تبعثر الجهود من جهة أخرى .
أن ما أردنا تأكيده هنا أن تطوير منظومة التعليم العالي والبحث العلمي وضمان جودتها ورصانتها , مسؤولية كبرى لا يمكن لوزارة التعليم العالي والبحث العلمي أو الجامعات الإضطلاع بها بمفردها أبدا , إنما هي مسؤولية المجتمع برمته , تتحملها الحكومات التي يفترض أن تولي هذا القطاع جلّ إهتمامها , من منطلق أن التعليم ولا شيئ سواه يمكن أن يفضي لتحقيق تنمية شاملة مستدامة وضمان تقدم المجتمع ورقيه وإزدهاره , وهذا ما أثبتته كل الوقائع والأحداث قديمها وحديثها في جميع أرجاء العالم . ولا نبلغ كثيرا إذا قلنا أن الإهتمام بالتعليم العالي والبحث العلمي باتت مسألة أمن قومي في نظر الكثير من الدول .
فقد أولى رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية الدولة الأعظم في العالم , التعليم جلّ إهتمامهم , فقد شكل الرئيس أيزنهاور لجنة التعليم في ما بعد المرحلة الثانوية عام (1956), والرئيس كينيدي فرقة العمل المعنية بالتعليم عام (1960) , والرئيس جورج دبليو بوش لجنة مستقبل التعليم العالي التي قدمت تقريرها عام 2006. ولعل البعض يتذكر التقرير الصادر في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1983 في عهد الرئيس الأمريكي دونالد ريغن , بعنوان " أمة في خطر " , حيث أشار التقرير إلى أن النظام التعليمي في الولايات المتحدة قد فشل في تلبية الحاجة الوطنية للقوة العاملة التنافسية.وتدني التحصيل الأكاديمي على الصعيدين الوطني والدولي في الولايات المتحدة الأمريكية . فعلى سبيل المثال أن هناك قرابة أربعين في المائة من اختبار الذين تتراوح أعمارهم( 17) عامًا لم يحصلوا على استنتاجات ناجحة من المواد المكتوبة, وأن هناك الخُمس فقط يمكنهم كتابة موضوع إنشائي مُقنع والثُلث فقط يمكنهم حل مشكلة رياضية تتطلب عدة خطوات. وبالرجوع إلى الاختبارات التي أجريت في السبعينيات، تشير الدراسة إلى مقارنات غير مواتية مع الطلاب خارج الولايات المتحدة: في الاختبارات الأكاديمية لتسعة عشر من الطلاب حيث لم يحصل الأمريكيين على المركزين الأول أو الثاني، وبالمقارنة مع الدول الصناعية الأخرى، كانوا في المركز الأخير لسبع مرات.
وقد عد الرئيس ريغن ذلك بمثابة شن حرب ضد الولايات المتحدة الأمريكية , بل أخطر من ذلك , الأمر الذي يستدعى بذل قصارى الجهود للنهوض بالتعليم العالي في الولايات المتحدة , لضمان تصدرها قائمة الدول الأجود تعليميا في العالم , وتعزيز تفوقها على جميع دول العالم في كافة العلوم والمعارف . وهكذا كان فقد إستنفرت الولايات المتحدة الأمريكية كل جهودها للنهوض بالتعليم العالي ليتبؤ مركز الصدارة في العالم . فإذا كان هذا هو الحال في أعظم دول العالم وأكثرها رقيا وتقدما , فحري بنا أن نحث الخطى للنهوض بقطاع التعليم العالي كل من موقعه وحسب قدرته وإمكاناته, لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
ومنذ غزو العراق وإحتلاله عام 2003 وقطاع التربية والتعليم العالي يشهد تدهورا مستمرا في جميع المستويات وعلى مختلف الأصعدة , حيث بات الفساد منتشرا في جميع مفردات العمل الجامعي , فالشهادات تباع وتشترى أو تزور حسب الطلب , والفوضى تضرب أطنابها في كل مكان ,فكل يغني على هواه . وإزدادت أعداد المتسربين من الدراسة لتبلغ أعداد الأميين أعدادا مخيفة . ولا عجب بذلك فالحالة هذه هي جزء من حالة التداعي والإنهيار التي يشهدها العراق برمته حتى يومنا هذا , دون أن تلوح في الأفق بادرة أمل بالخلاص من هذا الكابوس الثقيل.
وفي الختام نقول أن إصلاح منظومة التعليم العالي والبحث العلمي في العراق لا يتم عبر إلقاء المحاضرات أوتنظيم الندوات والمؤتمرات وكتابة المقالات , على الرغم ما لكل ذلك من أهمية , إنما يتطلب العمل على إصلاح المنظومة السياسية القائمة حاليا في العراق , ذلك أن منظومة التعليم العالي تمثل جزء من منظومة الحكم السياسية , فإصلاح الجزء يتطلب بطبيعة الحال إصلاح الكل, لخلق البيئة السليمة التي يمكن أن ينمو فيها التعليم العالي ويزدهر إزدهارا حقيقيا , وبخلافه يبقى الحديث عن إصلاح التعليم العالي ورسم خططه المستقبلية , نوعا من الكلام الجميل لا يقدم ولا يؤخر شيئا .
#داخل_حسن_جريو (هاشتاغ)
Dakhil_Hassan_Jerew#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟