ً
معروف عن العراقي, الولع بالحديث في السياسة لحد الثرثرة, مع ان التجربة العملية برهنت بأن العراقي هو آخر من يحق له الحديث في السياسة!! و اهتمامه هذا لا يتعدى الهواية الضارة التي ألحقت الضرر به أولاً و بالآخرين ثانياً. حياة العراقي السياسية في العصر الحديث هي تشكيلة من الأخطاء و قصر النظر و الحسابات الخاطئة و الممارسات السادية العنيفة و الاهم من كل ذلك هو الاصرار العجيب على عدم الاستفادة من التجارب.
و لا تشذ تطورات الاحداث الحالية عن المواقف العراقية السياسية السابقة. و لغرض التعريف , فالمقصود بالعراقي هنا هو الانظمة السياسية المتوالية على حكم العراق و الاحزاب السياسية بلا استثناء و جمهور الشارع اللاهث وراء الشعارات البراقة الفارغة و المقلد الببغائي لمقولات لايفهمها و لا يجهد النفس في البحث عن مضامينها الحقيقية .
لقد تنقل عباقرة العوجة من خطأ كارثي الى آخر, و أحرقوا الأخضر و اليابس و جعلوا البلاد شذرا مذراً, و أوصلوها الى ما وصلت اليه. نرى على الطرف النقيض مجموعة من الاحزاب التي يصح ان نطلق عليها نوادي لهواة السياسة, و لكن اية هواية خطرة تلك التي راح على مذبحها الآلاف من جماهير الشعب البريء الطامح الى حياة افضل, و ترملت نساء و تيتم أطفال في مسار العنف الدموي العراقي الذي تكاد لا تبدو له نهاية.
لقد توصل هؤلاء الهواة الى قناعة بصعوبة ان لم يكن استحالة إسقاط نظام صدام في المدى المنظور, ليس بالطبع لسعة قاعدته الجماهيرية بل لتعقد و تعدد أجهزته الأمنية التي بذخ عليها ثروات العراق و اشترى ما اشترى من ذمم, و ما أرخصها. بينما نجد الطرف الآخر يتمكن بالكاد من إصدار صحيفة حزبية متواضعة جداً و بفترات متباعدة, و يكاد يكون جمهورها نخبوي محدود. لذا بدأ الجهد و السعي يتجه نحو ادخال العامل الخارجي و بالذات الأمريكي لما له من سطوة و قوة في المعادلة العراقية. و شاءت الصدف السعيدة! ان يصبح للولايات المتحدة مصلحة في اسقاط نظام صدام, ومن الخطأ الادعاء بأن احد ما تمكن من اقناع الادارة الامريكية بالتدخل لانقاذ الشعب العراقي من مافيا أبناء العوجة.
انهمك المحترفون السياسيون الامريكيون في الأدارة الأمريكية , منذ سنين طوال في حسابات لهذه المهمة من جميع الجوانب, عسكرياً و سياسياً و أقتصادياً. و بعد ان أكملوا حساباتهم شمروا سواعدهم و حملوا هراواتهم و جاءوا الى المنطقة فشجوا رأس هذا, و فقئوا عين ذاك و كسحوا من استطاعوا تكسيحه حتى استتب لهم الامر و دخلوا مدينة السلام ظافرين.
جيشهم هنا, و عددهم و عدتهم هنا, و هراواتهم هي و ليس غيرها من هشم رأس الأفعى و قطع ذيلها, و لولاهم, و الاعتراف فضيلة, لحكمنا أحفاد أحفاد صدام حسين. و ما أن ترنحت الأفعى من هول الضرب, حتى توهم لاعبينا الهواة بأنها قد ماتت, ليبدؤوا رقصهم المضحك المبكي على الحبال و اعتقدوا انه آن أوانهم لفرض ما بدا لهم و كل حسب هواه و كأن خيوط اللعبة سائبة لكل من هب و دب!!
و مثلما يصح القول بأن العبقرية هي موهبة ربانية, فان الغباء المفرط هو أيضاً موهبة ربانية لا يمنحنها الله لأي كان!! لكنه سبحانه قد منَ على سياسيينا بقدر ليس قليل منها. فأحدهم هنا يقرقع بمقولات نارية و يصرخ بانه حان للأمركيين أن يرحلوا, لقد سقط صدام و لا نريدهم بعد ذلك هنا( هكذا ببساطة)!!. و غيره هناك يستأسد و يريدها اسلامية وشيعية وبيد الحوزة ايضاً. و آخرين يظنون انه جاء وقت التنصل من هذا الوعد أوذاك من الوعود التي قطعوها في هذه المناسبة أو تلك. بمعنى آخر, مدارس مختلفة من (اللواتة) العراقية التي أوصلتنا الى ما وصلنا اليه الآن!! و الأخطر من كل ذلك عودة الشعارات الايرانية البحتة الى الشارع العراقي. بل و مطالب ايرانية بحتة و لاتشكل في المرحلة الحالية اية أولوية عراقية و على سبيل المثال الشعارات المرفوعة ضد مسعود رجوي و مجاهدي خلق. ما زلت أذكر كيف تعمدت المخابرات العراقية خلال و بعد انتفاضة آذار في عام 1991من ترويج وكتابة شعارات ايرانية في شوارع العراق لتحقيق أهداف باتت معروفة و نجحت في مسعاها. فكان شعار ( لا شرقية لا غربية) و غيره قد بقي و بخط محترف (خلافاًُ لبقية الشعارات العفوية)مكتوباً على الجدران لأسابيع بعد دخول الجيش العراقي و اغتصابه للمدن العراقية ولم يشطب على خلاف الشعارات الأخرى. آلآف من الابرياء ذهبوا ضحية ذلك.و يحضرني في هذا المجال تصريح أحد الوجوه المعروفة من الحاضرين في مؤتمر لندن للمعارضة في تصريح له لجريدة( الحياة) في أوائل التسعينات من القرن الماضي, بأنه كان أحد المساهمين المباشرين في قمع الانتفاضة بسبب تلك الشعارات و انه قال للحكيم( و العهدة عليه) بأنه اذا عادت هذه الشعارت في مناسبة أخرى فأنه سيغادر موقعه المعارض و سيعود الى اسناد صدام حسين و يقوم بنفس ما قام به!! و المقصود هنا ليس أهمية و خطورة هذا الشخص أو تياره, لكن منطقه مؤشر على مدى حساسية وهشاشة مفهوم(الوحدة الوطنية) و ضرورة انتقاء الكلمات و التأني بالتصريحات قبل الإدلاء بها.
أمنياتكم سادتي هواة السياسة في العراق بعضها نبيلة, و لا جدال في ذلك. و أحلامكم الوردية أجمل.لكني فقط أرجوكم ان لا تحلموا احلاماً قاتلة, ووفروا علينا كارثة سقوط مئات الالاف من الضحايا ان تماديتم في احلامكم الخطرة . فلم تعد في جعبتنا أرواحاً زائدة عن الحاجة لنفتدي بها شعارات رومانسية و عنتريات فارغة و مفاهيم بهلوانية لا يفهمها حتى قائليها.
و لكل حالم و هاوي سياسة احب ان اضع بعض الحقائق امامه, ليوزع أطراف حلمه بقدر المساحة المسموح بها:
*الطرف الامريكي, و بقدر تعلق الامر بالمصالح الامريكية الحيوية, فانه صلف و جلف و قادر و مقتدر و مستعد لأي سيناريو. ومن نافلة القول بأننا نعيش الآن مرحلة جنون العظمة الامريكية.
*الجيش الامريكي لم يأتي الى العراق حباً بسواد عيوننا حتى لو كحلناها بسخام كعب قدر محترق! و انما يقف وراء هذا القدوم برنامج متكامل و لن تتوقف الولايات المتحدة من استكماله بأي ثمن, اكرر, بأي ثمن مهما كان. و غالباً ما يكون الثمن مدفوعاً من الطرف العراقي.
*جاءت الجيوش بدون قرار أو تخويل من الامم المتحدة و هذا يعني انه لا يردعها رادع على الاقل في الواقع الدولي المنظور.
*ان على العراق ديوناً تكسر ظهر البعير, هذا اذا كان لم يزل عند البعير العراقي ظهراً ليكسر! بمعنى آخر, لن تقوم لنا قائمة مهما كان شكل نظامنا السياسي القادم بدون اعفاء أو تخفيف لهذه الديون. و امريكا هي الطرف الوحيد القادر على ممارسة الضغط على هذا و ذاك لتحقيق هذا الهدف. بالطبع لن يكون ذلك بدون شروط و اشتراطات.
*اعادة بناء العراق ستحتاج الى خدمات الشركات الاجنبية. و هذه الحقيقة سيواجهها اي نظام قادم. و سيكون للشركات الامريكية و البريطانية حصة الاسد بدون شك.
*لن تسمح قوات التحالف بقيام نظام سياسي في العراق يهدد مصالح الولايات المتحدة الحيوية.
*اصبح من الواضح للجميع ان العراق تحت ظل اي نظام مهما كان , لن يكون مسموحاً له بالتسلح بالسلاح الذي يتجاوز المهام الدفاعية. و هذا يعني ان العراق لن يكون قادراً أو مسموحا له خوض أية معركة. و هذا الامر يحضى بموافقة المؤسسة الدولية المتمثلة بالامم المتحدة و الدول العظمى جميعها. و اية عنتريات حول المستقبل العسكري للعراق سيكون نوعاً من المزايدات الرخيصة.
*تأسيساً على النقطة السابقة, فان عراق المستقبل سيحتاج الى علاقات دولية جيدة و حماية دولية, و خاصة ونحن دولة شرق أوسطية في منطقة تعج بالمشاكل و المطامع و لسنا سويسرا في محيط أوربي مسالم. و هذا النوع من الحماية سيكون للامم المتحدة و لحلف الاطلسي و الولايات المتحدة دورا مركزياً فيه.
*دور الولايات المتحدة معروف في وأد انتفاضة آذار عام 1991 و نهايتها الدموية. بعد التصرفات و الممارسات قصيرة النظر لبعض المشاركين في الانتفاضة. و قد اوضح جيمس بيكر حينها لوفد المعارضة الذي ضم بعض رجال الدين المعروفين بعد شهور من ذبح الانتفاضة و الذين اسهبوا في شرح اهداف الانتفاضة و التأكيد على انها لا تتعدى هدف اقامة نظام ديمقراطي في العراق, فرد" لو قلتم هذا الكلام قبل شهور لكان الحال غير ما هو عليه الآن". امكانية تكرار هذا السيناريو ما زالت قائمة و بمأساوية أشد.
*ما زال أركان نظام صدام و الآلاف من الحرس الجمهوري مصيرهم غير معروف! و اختفوا في ظروف غامضة! فقد انشقت الارض و ابتلعتهم ! و للذكي اللبيب في هذا رسالة واضحة. صدام في ظرفه المزري الحالي مستعد لذبح الملايين من الشعب العراقي من اجل الابقاء على حياته أو تعيينه حتى ولو مدير ناحية في منطقة صغيرة في الربع الخالي!! و حتى لو كانت ورقة صدام محترقة فمازال في الجيش و الحرس الجمهوري و حتى في المعارضة السياسية سابقاً رجالاً بواسل مستعدون للقيام بالمهمة في قمع اية تطلعات غير مرغوبة. و العملية لا تتطلب من الأمريكيين الا ضوءاً أخضراً و إرخاءاً للحبل لهؤلاء العراقيين النشاما!!
*لقد قتل السيد عبد المجيد الخوئي بعملية غادرة و دنيئة. و تم تهديد السيد السستاني وآخرين. عند الضرورة! يمكن ان تتكرر هذه الحادثة لمئات المرات و تسجل ضد مجهول او بأيدي عراقية بحتة!! و لا يتطلب من المعنيين! الا ارخاء الحبل للكلاب المسعورة, و ما أكثرهم.
* نهاية الحرب لم تعلن رسمياً , بمعنى ان القوات الامريكية بأمكانها اللجوء الى القوة و بأي حجم و اي مستوى. و هذا الاستخدام ممكن ان يهدف الى قمع اي مقاومه سواء اكانت صدامية او غير صدامية.
*يتكبل العراق بسلسلة طويلة من القرارات الدولية و التي لا يمكن ان تتنصل منها اية حكومة عراقية. و الكل يعرف دور و قدرة الولايات المتحدة تحديدا في إصدار أ و الغاء أو تجميد أو تفعيل تلك القرارات.
*تجري جهود دولية كبيرة للمساعدة في اعادة اعمار العراق . و هذه الجهود يمكن و بقدرة قادر! ان تتوقف او تتعرقل او ان يتم الغائها.
يمكن ايراد سلسلة طويلة من الحقائق الضاغطة التي تفرض على عباقرة السياسة العراقية القدماء و الجدد ان ينتقلوا من الهواية الى الاحتراف و حساب الامور بدقة اكثر و الابتعاد عن المرحلة الشعاراتية الفارغة و القاتلة.
تعزيز المسيرة باتجاه الديمقراطية , ما زال ممكنا و مطلباً ملحاً. تقديم الحلول العملية للمشاكل الحالية ممكن. السعي لانشاء حكومة مؤقتة من التكنوقراط ممكن و ضروري. اقامة دولة القانون مازال ممكناً و ضرورياً.
كانت و مازالت هناك امكانية للتوافق في المصالح و لفترة طويلة بين العراق و الغرب عموما ًو الولايات المتحدة خصوصاً. و لا أعتقد بأننا نختلف عن دول سبقتنا في اقامة العلاقات المتوازنة بالغرب و السير على طريق التقدم و الاستقرار.
و الى من يعنيهم الامر أقول, افتحوا عيونكم و العبوها جيدا هذه المرة و برهنوا على ان العراقي مازال قادراً على استيعاب تجاربه و الاستفادة منها, و اعرفوا موطئ أقدامكم و دققوا فيما تقولون أو تفعلون, فكلاب الحرس الجمهوري و فدائيي صدام مازالوا تحت الطلب و رهن الاشارة, و اذا اعيد اطلاقها فلا يتوهم احدكم (و مع الاحترام لجهود الجميع) بأن قوات بدر أو البيشمركة أو قوى الشعب الحية كما يسميها البعض, ستكون قادرة على الوقوف في المواجهة. رحم الله من عرف قدر نفسه, و ارحموا شعبكم من مغامرات جديدة. و لنعمل على نقل شعبنا الى الحالة الإنسانية, فليس قدرنا ان نظل شعباً يتنطط كالقردة في الشوارع نصرخ بما لا نفهم و نصفق لمن لا نعرف. لقد انحنى الكثير منا و قبَل الحذاء الأمريكي ليأتي لإنقاذنا من صدام, فلا تجعلونا ننحني جميعاً مرة أخرى لنقبل نفس الحذاء ليأتي لإيقاف الحرب الأهلية!!