صبر درويش
الحوار المتمدن-العدد: 1614 - 2006 / 7 / 17 - 11:17
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
النص الذي ننقد هو نص للسيد ياسين الحاج صالح, منشور على الحوار المتمدن - العدد: 1591- 2006 / 6 / 24. بعنوان "الليبرالية والديمقراطية والحداثة السياسية" ومنه يبدأ النقد.
1- مجموعة من المصادرات و البداهات, يفتتح بها السيد ياسين مقالته المعنونة بالليبرالية والديمقراطية ..إلخ. وكيف لا تكون لغة الباحث هي لغة البداهات, وهي هي- أي البداهات- لغة الفكر اليومي؟!
إذا كنت تريد معرفة المفكر- أي مفكر- معرفة جيدة فاسأل عن عطشه على حد تعبير الياس مرقص, ابحث عن الطريقة, الطريقة التي يفكر فيها فكره.. . مع السيد ياسين عبثاً تحاول معرفة عطشه, وعبثاً تستطيع تحديد طريقته, أو إذا شئتم منهجه في التفكير. فليس لدينا هنا سوى منهج توفيقي, على غرار منهج الدكتور برهان غليون, مؤسس الفكر اليومي في سوريا؛ وهو ما سنتناوله بالنقد في مكان آخر.
وأين يكن من أمر هذا الفكر التوفيقي, إلا أننا سندعه يعبر عن نفسه بنفسه.
يقرر الباحث: " الليبرالية أساس" .." لا بناء بدونها"... " أي أنها أمست ثقافة". وأما الليبرالية التي يتحدث عنها فهي "الليبرالية كثقافة". إذن يحدد الباحث مادة بحثه, بما هي "الليبرالية الثقافية" إذا جاز التعبير, دون الليبرالية السياسية أو الاقتصادية... إلخ.
بيد أنه لا يلبث يقرر "أما محاولات إعادة الليبرالية إلى عربة القيادة السياسية.. فرجعي بالمعنى الحرفي للكلمة". ونحن نتساءل هل الليبرالية التي يحذر الكاتب من عودتها هي ذاتها الليبرالية الثقافية التي أشار إليها قبل لحظات؛ أي بمعنى آخر, هل الليبرالية الجاري الحديث عنها على امتداد النص, هي ذاتها الليبرالية الثقافية, أم هذه الأخيرة هي هي بطبعتها المتعددة؟ وإذا كان هذا كذلك, فما المعنى من تمييز الباحث أعلاه بين ليبرالية ثقافية وأخرى سياسية.. إلخ؟!. لن نستبق النقد ولندع صاحب النص يعبر عن نفسه.
" المبدأ الإيجابي في الليبرالية هو الفرد حقوقه وحرياته" على أن " التجربة التاريخية لا تثبت توافقاً تلقائياً بين المصالح الخاصة والخير العام". فالتنافس الليبرالي "يفضي إلى الاحتكار الذي يتعارض تماماً مع الروح الليبرالية..".
ونحن نتساءل, ما هي هذه المنافسة الليبرالية التي تقود إلى التعارض مع الليبرالية؟! بمعنى, هل نحن بإزاء ليبراليتين مختلفتين الواحدة عن الأخرى, كاختلاف الجسد عن الروح مثلاً, تقود فيها الواحدة إلى التعارض مع الأخرى.ثم ما هي روح هذه الليبرالية وكيف تؤدي الأولى إلى التعارض معها؟!.
في الحقيقة لم أجد في سياق النص تحديداً واضحاً لتلك الليبرالية التي يجري تحليلها. لذا أغلب الظن أنها واحدة في فكر الباحث, بيد أن لها نسخ متعددة, بتعدد زاوية النظر.
في هذا السياق يتابع الباحث بالقول أن "المبدأ الفردي في الليبرالية وحرية العمل يقفان في تعارض مع المبدأ الجماعي ومع أولية السلطة" ويتابع بالقول "شاغل أساسي في الفكر الليبرالي هو كيفية تقييد السلطة وضبطها من التعدي على حقوق الأفراد".
وقفت مطولاً أتأمل هذه العبارة الغامضة. وتساءلت, ماذا يقصد الباحث بالمبدأ الفردي في الليبرالية؟ وكان الجواب قبل عدة أسطر: إنه مبدأ إيجابي في الليبرالية, أي "حقوق الفرد وحرياته" وهو رغم إيجابيته, متعارض مع روح الجماعة وأولية السلطة, كتعارض التنافس الليبرالي مع الليبرالية. وفي هذا السياق من معمعة الأفكار, يقرر الباحث فجأةً أن شاغل الفكر الليبرالي هو تقييد السلطة!. وهنا لا أكف عن التساؤل حول هذه الليبرالية السحرية التي تقف تارة متعارضة وتارة حامية وتارة بين بين.
فضيلة هذا الفكر أنه لا يشغل نفسه في تعريف مفاهيمه, فما المقصود بالسلطة هنا؟ وهذه السلطة أليس لها قاعدة مادية تنبني عليها, أم أنها سلطة وكفى الباحث شر البحث؟!. ربما نظلم الباحث قليلاً, فهو يعني بالسلطة, "السلطة الدينية وسلطة التقليد وكل أنواع السلطات الجمعوية". (وأنا لا أعلم لماذا جمعوية وليس جماعية مثلاً).
*********************************
2- تتحدد الليبرالية كونها تشكل أيديولوجيا وفلسفة الطبقة البرجوازية؛ وهو غالبا ما يتم خلطه مع مفهوم الحداثة. وكأن بالظاهرتين وجهين لنفس الشيء. وهنا لا يجد باحثنا غضاضة في إرجاع مفاهيم الحداثة ذاتها إلى الليبرالية, وكأن هذه الأخيرة هي الوعاء الذي منه تفهم الحداثة.
إن ميزة الفكر اليومي أنه لا يطرح على نفسه تساؤلات جادة, فهو بهذا المعنى, لا يعيش قلقاً معرفياً. وهذه السمة بالضبط هي التي تجعل من البداهات عكازاً, يتكأ عليها في مسيرته وفي محاولته التعبير عن نفسه.
فما هي هذه الليبرالية التي يحاجج ضدها ومن أجلها الباحث؟ هذا السؤال وغيره من الأسئلة لا تعني هذا النموذج من الفكر. وهنا أي في غياب التحديد النظري وضبط المفاهيم يصبح الخلط السمة الأساسية للنص فيتشوش ويشوش القارئ معه.
في النص الذي ننقد, استطعت أن أميز نسخ متعددة لليبرالية, فهي سياسة أحياناً وثقافية تارة واقتصادية.. إلخ في أحيان أخرى. بيد أني لم أعثر حتى على تعريف واحد لها وذلك في سياق النص كله.
وقد يرد علينا الباحث أن الليبرالية بداهة, فلما التعريفات إذن؟! ونحن نقول, نعم الليبرالية كغيرها من الظواهر والمقولات .. كلها بداهات من وجهة نظر الفكر اليومي.
لقد قلنا أعلاه أن الليبرالية هي أيديولوجية وفلسفة الطبقة البرجوازية, و نظرة هذه الفلسفة-الايدولوجيا الليبرالية للواقع والظواهر والمقولات المحيطة فيه, تختلف إن لم نقل أنها تتناقض مع وجهة نظر الطبقات الاجتماعية النقيض.
تنبني الفلسفة الليبرالية على ثلاثة ركائز أساسية وهي مفاهيم المساواة والعدالة والحرية. وهذه المفاهيم هي بالضبط ما كان يوماً شعاراً للحداثة, وهي هي التي كانت يوماً شعاراً لثورة 1789 الفرنسية.
أحبطت ثورة الفلاحين في فرنسا 1789. وأحلامها في العدالة والمساواة والحرية, ذهبت أدراج الريح, ولم تتحقق.
كان يفترض في هذه الثورة الانتقال من سلطة الطغيان إلى سلطة الحرية والعدالة والمساواة, إذا جاز التعبير. ما حدث هو العكس. إذ تم هنا استبدال سلطة طغيان الإقطاع بسلطة طغيان رأس المال.وهو على كل حال ما فتح الباب أمام ظهور اليعقوبية فيما بعد.
تفترض الفلسفة الليبرالية الحرية,وتفترض هذه الحرية وجود أفراد أحرار, يلتقون بملأ إرادتهم في السوق. أفراد لا أحد يملكهم وهم لايملكون شيئاً سوى قوة عملهم وذلك بعد أن كانوا طردوا من الأرض.ومن جهة ثانية تفترض أيضاً وجود أفراد أحرار لا يملكون سوى رأس المال.
للطرف الأول من المعادلة الحرية الكاملة في الاختيار؛ فهم قادرين على القبول في تأجير قوة عملهم وفق الشروط التي يمليها عليهم السوق.وهم قادرين أيضاً على رفض هذا التعاقد والاختيار بملأ إرادتهم الموت جوعاً.
لم تكن هذه المعادلة هدف من أهداف الثورة الفرنسية, كما أنها لم تكن حلم ذلك القن المتخلص حديثاً من قنانته. لقد رفضت المعادلة هذه, وهو الذي بطبيعة الحال ما دفع قادة الثورة إلى استبدال شعارها بشعار آخر هو لا لله لا لقيصر لا للخطباء. أليس لذلك من دلالات تاريخية؟
في الحقيقة نحن هنا بإزاء إضفاء مضمون جديد لمفهوم الحداثة, وهو ما سنعود إليه بعد قليل.
لم تولد الديمقراطية كتقييد لليبرالية كما يزعم الباحث؛ كما أنها ليست الابن البار لليبرالية.
إن كان علينا أن نرى بوضوح الممارسة الشفافة لليبرالية, علينا حين إذ التوجه إلى مهد الليبرالية, وأقصد هنا إنكلترا بداية استقرار نمط الإنتاج الرأسمالي فيها.
يفترض النظام الرأسمالي وجود أفراد أحرار, بيد انه يفترض بهؤلاء الأحرار أن يكونوا أحراراً من كل أشكال الملكية ما عدا ملكية قوة عملهم.
يحول النظام الرأسمالي وسوقه المقدسة, هذه الملكية- أي قوة العمل- إلى سلعة, ترمى في السوق كباقي السلع. بيد أنها تمتاز عن جميع السلع كونها تمتلك خاصية خلق القيمة.هذه القيمة التي تتضمن الربح إله رأس المال. الربح أو قل السعي وراء الربح هو جذر النظام الرأسمالي.
إن تحقيق أكبر قدر من الربح يشكل هاجس رأس المال.هذا الهاجس يفترض إخضاع قوة العمل وإدماجها في إطار نظام الإنتاج الرأسمالي, كما يفترض استنزاف قوة العمل هذه إلى آخر حد ممكن.
إنكلترا قدمت تجربة غنية عن ذلك. فعلى امتداد القرن الثامن عشر وحتى منتصف القرن التاسع عشر سوف تصل ساعات العمل إلى 15 و16 و 18 ساعة عمل. أما شروط الحياة اليومية لهؤلاء المسحوقين, فعلى المهتم مراجعة السرد الغني الذي يقدمه ماركس حول ذلك في كتابه رأس المال.
ماذا يعني ذلك؟ يعني ذلك أن الفلسفة الليبرالية تفترض الربح, وليس الحرية كما يتوهم البعض؛ وأن هذا الربح يفترض حجم من المآسي الاجتماعية تمر بالضرورة عبر إخضاع قوة العمل إلى شروط غاية في البؤس.
بالضد من هذه الممارسة السياسية لليبرالية البرجوازية, بدأت التكوينات الديمقراطية بالظهور.
إن لحظة تكون الديمقراطية, هي بالضبط لحظة تكون سلطة الطبقة العاملة. إن لحظة تاريخ تكون هذه السلطة يعود إلى تلك اللحظة التاريخية التي بدأت فيها الطبقة العاملة بخلق تنظيماتها النقابية والسياسية.
لقد احتاج تخفيض ساعات العمل على سبيل المثال من حده الأقصى إلى إحدى عشر ساعة وبعده إلى إصدار قانون الساعات العشر, إلى صراع مريع خاضته الطبقة العاملة عبر تنظيماتها.إن هذا الصراع هو الذي سيعطي الديمقراطية مغزاها. فالديمقراطية ليست نظاماً سياسياً, وإنما هي الشكل الذي عبره تتحرر طاقات القوى الاجتماعية, وعبره يصبح للقوى الاجتماعية المسحوقة القدرة في الدفاع عن حقوقها.
إذن تتبدى الديمقراطية هنا من خلال الشكل الذي عبره تنفتح صيرورة الصراعات الاجتماعية بين سلطات طبقية متناقضة. فلحظة الديمقراطية هي بالضبط تلك اللحظة التي تحررت فيها سلطة الطبقات الاجتماعية المسحوقة وراحت عبر هذا التحرير تبتكر الأشكال المتعددة في التعبير عن مصالحها. وأما ( اقتران الليبرالية بالتسامح) فلا أدري كيف وصل الباحث إلى هذه النتيجة المذهلة.
والمثير في الأمر عندما يتحدث الكاتب عن [ رأسمالية تقتضي قيوداً تسخر القوى الإنتاجية الجديدة لخدمة المجتمع "التشديد لنا" ] ( لاحظ هذا التعبير المهذب "لخدمة المجتمع"). إن هذا الإرباك والتشويش ينبع من محاولة الكاتب الخروج عن كل المواقع, فهو الذي يسعى إلى التحليل من موقع اللاموقع وأقصد هنا من موقع الحياد. وكيف لا وهو من ألد أعداء الأيديولوجيات شراسة, وهي أي الأيديولوجيا التي تحيل إلى المواقع؟!!
إن الرأسمالية تقتضي قيوداً تسخر القوى الإنتاجية من أجل مصالحها أي بالضبط من أجل عملية تراكم رأس المال, وهو الذي يفترض الليبرالية كفلسفة تشرع استلاب قوة العمل وامتصاصها إلى آخر حد ممكن وذلك ليس من أجل خدمة المجتمع بل بالضبط من أجل خدمة عملية الربح.
ومن هنا لم تكن الديمقراطية يوماً تقييداً لليبرالية, بل قامت الديمقراطية بأبعادها الاجتماعية في سياق نقض الليبرالية فلسفتاً وسياستاً.
3- الحداثة
إن الحداثة تفترض بشراً فاعلين – صانعين لتاريخهم؛ إن جذر مفهوم الحداثة يقوم على أن الإنسان هو صانع تاريخه, ولا صانع آخر سواه.
إن الفلسفة الليبرالية بما هي تعبير عن مصالح البرجوازية, تذهب بالعكس من ذلك. فالفلسفة الليبرالية تقوم أساساً على مفهوم الاستلاب ليس بالمعنى الهيغلي بل بالضبط بالمعنى الماركسي,أي بما هو استلاب اقتصادي , يدحر مفهوم التاريخ من أساسه. وهو الذي قاد ماركس وانجلس بطبيعة الحال إلى الحديث عن التاريخ الرأسمالي بما هو تاريخ سابق للتاريخ الفعلي للبشر, أي هو تاريخ استلابهم.
إن التاريخ الفعلي للبشر يفترض تحرير طاقات الفاعلين الاجتماعيين, فهؤلاء هم وحدهم من يصنع التاريخ, ويعيد إنتاجه.
إن تحرير هؤلاء الفاعلين يمر بالضرورة عبر تجاوز الاستلاب الاقتصادي من خلال تجاوز القاعدة التي ينبني عليها, أي تجاوز مفاعيل النظام الرأسمالي بما هي مولدة للاستلاب.
عبر هذه الصيغة يصبح تحرير طاقات الفاعلين الاجتماعيين هو هو العودة إلى مضمون الحداثة. أليس مضمون الحداثة هو هو مضمون التاريخ الفعلي للبشر؟؟
إن مشروع الحداثة مشروع أبدي, ونحن الآن في بدايته؛ ينبني هذا المشروع تناقضياً. بمعنى أن القوى الاجتماعية الواقعة في ظل الاستلاب لها المصلحة الفعلية في بناء هذا المشروع, بخلاف البرجوازية بفلسفتها الليبرالية التي تنحو باتجاه هدم مفهوم الحداثة. هذا ما تعبر عنه فكرة نهاية التاريخ وهي فكرة ليبرالية بامتياز.
إن مفهوم التقدم في التاريخ – وهي فكرة حداثوية- يشكل هاجساً للفلسفة الليبرالية. فهذا التقدم يفترض أفول النظام الرأسمالي بما هو نظام محدد من الإنتاج. إن عداء الفلسفة الليبرالية لمفهوم التاريخ نابع أساساً من رعبها من مفهوم التقدم في التاريخ.وهو الذي دفعها بطبيعة الحال إلى "تحطيم العقل", فعبرت عن رجعية نقيضه تماماً لثوريتها الأولى.
ليست عودة الليبرالية في المرحلة الراهنة سوى تعبير عن رجعية البرجوازية, ورجعية فكرها الذي راح على أساس من الأوهام والأحلام التي لا تقوم سوى بتكريس العودة إلى الخلف ووقف حركة التاريخ. أليس هذا هو مغزى فكرة نهاية التاريخ؟؟
لقد كان الصراع الطبقي محركاً للتاريخ فيما مضى, وهو هو الآن المحرك للتاريخ, يتجلى عبر علاقة تناقضية, تقوم على أساس من الصراع بين ليبرالية رجعية تسعى إلى الخروج عن التاريخ. وديمقراطية بأبعادها الاجتماعية العالمية تسعى إلى إعادة المغزى للتاريخ.
4- في علاقة السياسي - الاقتصادي
يقول الكاتب في مستهل نمذجته [ تحرير الاقتصاد من السلطة (ومن الدين) كان شيئاً ثورياً...] ويوضح بالقول [ كانت الديمقراطية الغربية أو البرجوازية تعيد تقوية السياسة على حساب الاقتصاد دون التخلي عن الحقوق والروح الليبرالية].
وقفت مطولاً أمام هاتين العبارتين, الذي لا يفصل بينهما سوى بضع كلمات. فماذا يقصد الكاتب بالسلطة التي كان تحرير الاقتصاد منها فعلاً ثورياً؟ وما هي هذه السياسة التي تم تقويتها على حساب الاقتصاد؟
ميزة الفكر اليومي أنه كما أسلفنا لا يطرح على نفسه تساؤلات, فهو الخالي من القلق, القلق المعرفي. لذا لا يجد الكاتب ضرورة لتحديد مفهوم السياسة الذي يعتمده هنا, ولا مفهوم الاقتصادي؛ وبالتالي يصبح تحديد العلاقة التي تربط بين السياسي والاقتصادي عملاً نافلاً, وهكذا يبقى الفكر اليومي يدور في فراغ فكره, يقول ولا يقول.
تعرف السياسة على أنها الاقتصاد مكثف. تفترض السياسة السلطة, السلطة الاجتماعية أي سلطة الطبقة أو التحالف الطبقي.. . وتفترض السلطة, الدولة, الدولة هنا هي المرآة التي تتكثف السلطة داخل أبنيتها.
تفترض الدولة قاعدة اقتصادية تنبني عليها- فالدولة في المحصلة هي دولة هذه القاعدة الاقتصادية- تتمفصل وتقوم عليها.
يحيل الاقتصادي إلى نمط الإنتاج, بينما يحيل السياسي إلى شكل توزع السلطات داخل أبنية التشكيل الاجتماعي, وأشكال تجلي الصراع بين هذه السلطات. الدولة هي المرآة التي تعكس جملة توزع هذه السلطات الفاعلة في قاع التشكيل الاجتماعي. فتعيد توزيعها داخل أبنيتها المختلفة. الدولة هنا هي تكثيف للسياسي.
تحدد الصراعات الاجتماعية شكل العلاقة بين السياسي والاقتصادي, كما سنلاحظ مباشرةً.
في بداية استقرار النظام الرأسمالي, كانت سلطة البرجوازية هي السلطة السائدة بالمعنى السياسي والاقتصادي, أي أن البرجوازية هي التي كانت مهيمنة اقتصادية ومسيطرة سياسياً.
على هذه القاعدة لم تكن الدولة, بما هي تكثيف للسياسي, منفصلة عن الاقتصادي, أي أنها لم تكن حارثة كما تدعي الأساطير الليبرالية " فالبرجوازية التجارية لم تنجز قط بنفسها عملية الانتقال إلى الرأسمالية الصناعية وكانت بحاجة دائماً إلى تأييد نشط من جانب الدولة التي أخضعت لسيطرة الطبقة الرأسمالية الصاعدة" من هنا يتجلى السياسي كمستوى خاضع للاقتصادي وفي خدمته. إن هذا التمفصل بين السياسي والاقتصادي سيعبر عن نفسه من خلال هيمنة البرجوازية على الدولة وإخضاعها لمصالحها. وبكلمة واحدة نقول, إن الدولة الناشئة حديثاً كانت المرآة التي عكست مصالح الطبقة الرأسمالية الناهضة ونمط إنتاجها الحديث.
هذا يجعلنا نتحدث عن دولة رأسمالية بامتياز, وذلك خلافاً للخطابات الأخلاقية الليبرالية وغير الليبرالية والتي تكثر من الحديث عن دولة جميع رعاياها, أي الدولة الحيادية.
هل هذا ما حاول الباحث قوله حين قال في تقوية السياسي على حساب الاقتصادي؟ ربما.
بيد أن للمعادلة السابقة وجه آخر, فمع تنامي وبدأ تكون الوعي الطبقي للقوى الكادحة- هنا الطبقة العاملة بطبيعة الحال- أبصرت هذه الأخيرة إمكانية تغيير معالم هذه اللوحة القاتمة. إن بدء تكوّن هذا الوعي هو بالضبط لحظة بدء تكوّن التعبيرات السياسية لهذه القوى, النقابي والتنظيمي.
فهذا الوعي وتجسيده السياسي على الأرض هو الذي سيفتتح سلسلة الصراعات الاجتماعية, والتي أي الصراعات ستشكل مفهوم الصراع الطبقي في أوربا ومغزاه.
ستقود سلسلة هذه الصراعات إلى تكون- تدريجياً- سلطة نقيض بإزاء سلطة البرجوازية, إنها السلطة الاقتصادية- السياسية للطبقة العاملة الفتية.
إن ولادة التنظيمات السياسية للطبقة العاملة, سيعلن لحظة بدء مشاركة هذه الطبقة في السلطة السياسية, بعد أن كانت نضالاتها, محصورة في الحيز الاقتصادي فقط. ولهذا التطور دلالاته التاريخية الهامة جداً في سياق تطور أشكال الدولة الحديثة, بيد أننا لن نسترسل في هذه المسألة المهمة حول تاريخ تمرحل الدولة الحديثة, بل سأركز فقط على زاوية ضيقة في النقاش وهي علاقة السياسي - الاقتصادي.
مع تبلور تنظيمات الطبقة العاملة دخلت هذه الأخيرة حيز التاريخ بوصفها قوة فاعلة في موازين القوى. وهو ما عكسته الدولة ذاتها فأعادت توزيع السلطات الاجتماعية داخل أبنيتها.
إن تنامي هذه السلطة والضغط الذي شكلته على البرجوازية, أقول أن كل هذا سيفتح الباب أمام البرجوازية للعمل على فصل السياسي عن الاقتصادي.
أليست هذه المعادلة هي التي أنتجت مقولة السوق العقلانية, والتي دفعت الفكر الليبرالي إلى تحميل الدولة مسؤولية الأزمة البنيوية التي راحت تهز أركان النظام الرأسمالي؟
على هذه القاعدة راحت الليبرالية تعمل على فصل السياسي عن الاقتصادي , وذلك بحجة أن الاقتصاد – والسوق هنا هو تعبيره- مضبط من تلقاء ذاته ولا يعيق قوانينه الخلاقة من العمل سوى تدخل الدولة المرفوض أصلاً. إن هذا الفصل الدراماتيكي بين السياسي والاقتصادي هو الذي سيفرغ الديمقراطية من محتواها. فعلى المستوى السياسي اختر ما تشاء أصفر... أحمر.. أخضر ..إلخ بينما الاقتصادي فيعمل من تلقاء نفسه على حد تعبير سمير أمين.
ما أردنا قوله سابقاً, أن الليبرالية,بما هي فلسفة البرجوازية, تقود إلى الفصل بين السياسي والاقتصادي وهو ما يشكل صدمة لتقدم المشروع الديمقراطي على صعيد عالمي.
هذا بينما إعادة مفصلة العلاقة بين هذين المستويين فهو الذين يقود إلى إنعاش وتجذير المشروع الديمقراطي, أيضاً على صعيد عالمي.
وبالتالي ليس شرط الديمقراطية والليبرالية هو نمو الطبقة الوسطى كما يزعم الباحث في ختام دراسته. بل شرط الديمقراطية هو تحرير الفاعلين الاجتماعيين, وتحرير قوى الطبقات الكادحة وارتصافها على صعيد عالمي في مواجهة ليبرالية مستبدة راحت تأخذ بعداً عالمياً بدورها.
إن هذا التحرير (وأنا هنا أستخدم مصطلح آلان تورين) هو الذي يمكن أن يؤدي إلى إعادة تأصيل الديمقراطية, ويفسح المجال لإعادة إنعاش دور القوى الاجتماعية المستلبة واستنهاض فاعليتها في التاريخ, وهو الذي يفسح المجال لإعادة التصور حول إعادة بناء نظام بديل لما هو قائم. أليس هذا هو مغزى مشروع الحداثة؟
**************************
كثيراً ما يتم الخلط بين مفهوم الاستلاب الهيغلي ومفهوم الاستلاب الماركسي, فالسيد جاد الكريم جباعي يقول في أحد نصوصه بما معناه" ومفهوم الاستلاب الذي أخذه 1-ماركس عن هيغل ... إلخ" إن عدم وضع حد فاصل بين المفاهيم الهيغلية والمفاهيم الماركسية يضيع النظرية الماركسية بالكامل. أليس تضييع هذه الحدود كان أحد أشكال التصدي للماركسية من قبل الفكر النقيض؟ سندع حوارنا مع جاد الكريم إلى ورقة أخرى
2 - بول باران, الاقتصاد السياسي للتنمية, ص 229-230.
#صبر_درويش (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟