|
كتابة السلطة – سلطة الكتابة
وليد المسعودي
الحوار المتمدن-العدد: 1618 - 2006 / 7 / 21 - 10:07
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
السلطة والكتابة :
لقد عرّف فوكو السلطة بأنها علاقة مجموعة قوى تنتج بدورها مجموعة مستقبلات متعددة من الافعال الممكنة كالتحريض والاثارة ، وهذه القوى تتوزع في المكان والزمان وفقا لتقسيم كليهما الى اجزاء مختلفة فالمكان يحمل صفات الاعاقة والمنع والحضروعدم الامكان من التجاوز والوصول الى غاية بشرية مثلى ، أما الزمان يتضمن "تقسيم العالم الى اجزاء ، برمجة الفعل الانساني" كما يوضح ذلك جيل دولوز في موضوعه حول السلطة والمعرفة (1) وهذا التعريف ليميشيل فوكو يندرج ضمن جاهزية تطور المجتمعات الغربية وتحولاتها المستمرة من مراحل الاقطاع والعصور الكنسية اللاهوتية الى العصور الحديثة متمثلة بالنهضة التجارية والصناعية الغربية الحديثة وما وصلت إليه البشرية من منجزات وتطورات شملتها الارادة الفردية متمثلة بمجمل الابنية والانظمة الشمولية التي استطاعت ان تنجزها تحت طائل الكثير من يوتوبيات الحقوق الطبيعية والحريات التجارية التي تستهدف في النهاية القضاء التام على نفوذ المكان والزمان المصاحب لسيطرة دول وإرادات اخرى ، ان لم نقل مجتمعات بأكملها تحاول ان تؤسس سجونها المجتمعية الخاصة بها . إذ يذكرنا هنا بيار فرانسوا مورا بطبيعة المعاملة التي كانت تفرضها الامبراطورية الاسبانية على المجتمعات غير متأصل فيها مفاهيم المجتمع التجاري من حرية كبيرة في رفع الحواجز وفتح الابواب امام السلع والبضائع والثروات .. الخ إذ تقرر السلطات الاسبانية بأن مجتمعات الهنود " برابرة يرتكبون بحق الاسبان ظلما حين يمنعونهم من التمتع بحقوق البشر ، ويمكن للاسبان شرعيا أن يشنوا حربا إذا لزم الامر لكي يفرضوا احترام الحق " ( 2) ذلك القانون ترسخه كتابة السلطة طيلة الازمنة البشرية المعاصرة من حيث سيادة وانتشار قيم الفرد التجاري الذي يسبغ جميع معطيات الواقع ضمن جاهزية قيمة ، إذ من الممكن ان نجد ذلك المنطق ماثلا في طبيعة التدخلات السلطوية التي تباشرها القوى الكبرى على الاطراف التي لا تستجيب لمصالحها التجارية ومن ثم هي عرضة دائمة للادانة والتجاوزات والانتهاك الاخلاقي والانساني ، وهكذا تتم الصيغة النهائية لصناعة الموافقة والتسليم حسب تعبير جومسكي لدى المجتمعات الخاضعة تحت هيمنة هذه الدول ومن ثم تعد هذه الاخيرة حمالة لجاهزيات وقيم الخلاص والانبعاث الحضاري لقيم العالم المتمدن بعيدا عن ثوابت ومطلقات الاطراف او الهوامش من الدول الضعيفة التي لا تستطيع الركون الى مستويات متطورة ومستقلة عن مؤثرات الدول الكبرى ذات السطوة والهيمنة ، وهكذا تبرر الكثير من الحقوق الطبيعية والحريات في الخلاص ضمن ذهنية مجتمعاتها ، بأنها يجب ان" تصحح أخطاء العالم وآثامه والى الجحيم كل ما ينشأ من متناقضات وعدم اتساق واطراد " (3) ان السلطة تحمل في داخلها ميتافيزيقا دائمة الحضور إذا تمثلت ضمن قوالب جاهزة تفرض على المجتمع ، ومن ثم هنالك طابع الخلود من خلال كتابة مطلقة تتمثل في جعل العالم واحدا مقوننا بطبيعة ثابتة تؤسسها خيارات الافراد ليس إلا ، فخلف الكلي كما يقول فوكو" ثمة ألاعيب الفرديات وانتشارها وما شمولية الانسان وخلوده سوى ظل تركيبة فردية عابرة حملتها الى الوجود ابنية تاريخية " (4) ، ذلك ما يتكرر بشكل دائم من قبل السلطة التي تمتلك الكمال من حيث قدرتها على التبرير وصياغة العالم الانساني بشكل زائف وايديولوجي ، بحيث لا تحمل كتابتها اي السلطة سوى منتجات دائمة لذات الصيغ والعلامات ، لأنها منبثقة من ذوات تفضل مصالحها الآنية بعيداعن انتاج قيمة بشرية مثلى من الممكن تصدر عن طريق الحوار والعرض والتبادل الذي لا يتضمن الاحتواء ومحاولة الغاء الاخرين ، كل ذلك لا نجده ماثلا في نظام السلطة المعاصر فحسب بل هو موجود وسائد لدى اكثر الانظمة والامبراطوريات التي حاولت ان تشمل العالم عن طريق تحرير الاخرين من اخطائهم و" حقهم " الزائف الذي يمتلكون بأعتبارهم غير مؤهلين لصياغة عالمهم الذاتي المستقل ، وما تحت الغطاء الفكري والايديولوجي هنالك الابنية التاريخية التي من خلالها يستطيع ذلك الفرد او مؤسساته ان تديم الهيمنة والاحتواء وتكوين الكثير من فائض القيمة المعنوية والمادية ، وذلك المنطق من الممكن ان نجده ماثلا ضمن مؤلفات افلاطون الذي كان يرفض سياسة التوسعات الاستعمارية التي كانت تقوم بها أثينا ، إذ يعترض قليقلس عليه قائلا " ان القوانين مجرد مواضعات تعارف عليها عامة الناس فيما بينهما ليذودوا عن انفسهم شر جشع الاقوياء ، والعدالة الطبيعية ، ألا تقوم على علاقات القوة ؟ والسلطة الا تفترض فيها ان تعود الى الاقوى ؟ " (5) ان السلطة تنقسم في عالمنا المعاصر الى مجموعات سلط تباشر ما اسميه وفقا لتعبير فوكو حول السجون ب " بيوت القوة "، وهنا لا يتضمن ذلك النظام الذي يكتشفه فوكو ضمن آلية السجون وتحديد طبيعة الحياة التي يعيشها المحكومون من عزلة دائمة وإمحاء لاية ذاتية من الممكن ان تظهر بشكل مستقل ضمن طبيعة النظام السجني بل من خلال قدرة هذه المجموعات والمؤسسات على صياغة وعي السجن لدى الافراد متمثلا يثقافة عابرة استهلاكية فارغة من اية محتوى ، ذلك ما تؤسسه أكثر قنوات بث المعرفة والثقافة في زمننا المعاصر، من خلال انتاج تصورات نهائية غير حاملة لفكرة الاختلاف والتعدد القيمي والمعرفي ، بالرغم من تعددية وسائل الانفتاح التي تبث لدى الكثير من الافراد إلا ان العزلة التي تمارسها بيوت القوة لا تحمل في داخلها بوادر الاصلاح والتفكير الذي يدعو الى الاستقلال وتكوين الخيار المختلف والفريد من نوعه . ان السلطة لدى الانظمة الواحدية التقليدية التي تشي بالمراقبة الدائمة لافرادها ، وخصوصا ضمن المجتمعات العربية الاسلامية ( العراق إبان الدكتاتورية على وجه الخصوص ) تختلف عن السلطة ضمن اطارها الحديث فالاولى لاتثق بالافراد ولا تملك اية ستراتيجية لتصورات مغايرة عن اطارها المحلي السائد والذي يكتب من خلال المنع والحضروتأسيس السجون المجتمعية الكبيرة ضمن آلية تعامل اجتماعي معين ، هذه السلطة تخاف تجمع الافراد ، التكتلات ، الاتحادات السرية ، وما تفعله يتمثل برمي الوجود اليومي الاجتماعي بمقذوفاتها السلطوية من اجهزة عنف ومخابرات وتشكلات تمنع الحركة ومباشرة السلوك الطبيعي للبشر، كل ذلك تمارسة السلطة ضمن نموذجها التقليدي القائم على الاعتداء الجسدي المباشر، اما السلطة الحديثة فأننا قد اسهبنا في بداية موضوعنا هذا عنها ولكننا نقول انها سلطة غير مباشرة ، تتحرك ضمن فضاء حر ، تكتسب القبول المجتمعي ، من خلال تعددية وسائل بثها وديمومتها على وعي الافراد من خلال الاستهلاك وطغيان الرغبة حسب تعبير اريك فروم الذي يصف هذه السلطة بأنها تجعل المجتمع بلا عاطفة خاضع الى سيطرة الآلة الحديثة متماهيا مع مقولة ماركس " ان الآلة تتلائم مع ضعف الانسان من اجل ان تحول الانسان الضعيف الى آلة " (6).إذ يصف اريك فروم هذه السلطة بأنها تجعل المجتمع اشبه بالرضيع الابدي " مفتوح الفم " والمرحب بلا اية مقاومة داخلية او تفضيل مختلف اي بلا جهد وامكانيات مغايرة وذلك لانه خاضع لسلسلة طويلة من من الاساطير التي تتمثل بالسينما والموسيقى والمستطرفات التجارية ولايحده ضمن ذلك سوى امكاناته المادية وحدها (7) ان نموذج السلطة الحديث يختلف عن ذلك المرتبط بالازمنة التقليدية الغابرة ، ولكنهما يلتقيان من حيث التماثل وانتاج الطاعة بشكل مختلف على الرغم من ان نموذج السلطة الحديث أكثر استيعابا لرغبات الانسان ، ومتضمنا الكثير من المكتسبات التي تشيع الحركة والحرية والتجاوز ضمن مجموعة إطروقواعد معينة ، هذه الاخيرة تعتمد على درجة امتلاك الامكانات المادية المتاحة ، ولكن من لا يقع ضمن حيز الامتلاك لهذه الامكانات المادية فان الحرية تغدو ناقصة وغير مكتمله ضمن مجالات هذه السلطة ، وهذه الاخيرة تختلف من مجتمع الى أخر ولا تحمل في طياتها صفات الاطلاق السلبي بشكل دائم ، إذ يتعلق ذلك الامر وفقا لطبيعة النظام السياسي والاجتماعي والثقافي ، إظافة الى طبيعة المخزون الاحتياطي من ثقافة العقل والتمدن ، التي تتيح مجالا كبير للتحول والتغييروانتاج الاختلاف ضمن بيئة ثقافية زمكانية معينة .
سلطة الكتابة – كتابة السلطة
تبدأ فاعلية اية سلطة كانت كمعطى اولي جاهز من خلال الشمول ، اي الانتشار الذي من الممكن ان يغطي الافراد عموما ، ومن ثم هنالك الثبات للوقائع والاحداث والازمنة ، وهنالك التراتب المستمر في انتاج الخضوع والانصياع والطاعة لمدركات الواقع المعاش ، وذلك الاخير حمال لجاهزيات كثيرة من قيم الثبات التي تدعم وتؤيد وتسند السلطة وجميع محركاتها المتعلقة بالافراد او بالانظمة الثابتة لها ، وذلك الامر يكاد ان ينسحب على أكثر المؤسسات والانظمة التي تعمل على خلق سجون مجتمعية كبيرة تتعلق بالافكار والايديولوجيا والمعرفة ووسائل وطرق العيش والتبعية المستمرة من أجل الانتفاع ، اي ممارسة العدم الوجودي لصالح الآخرين كطاقة وقوى مهيمنة تحد من خروج الانسان من النسق الثابت والمطلق على ذاكرة الانسان ووجوده . ان سلطة الكتابة منبثقة من الذات التي يحتويها كل ماهو مؤسساتي كمعطى اولي اي كل ماهو مشكّل ضمن تاريخية الذات الكاتبة من افكار ومعتقدات وجاهزيات قيم معينة ، إظافة الى وجود قوى الاحتواء الداخلي المجتمعي ، المرتبطة بالازمنة المعاصرة للذات الكاتبة ، وهذه القوى لا تعد في مجملها منتجة للآثار السلبية للافكار والمعرفة ، حيث هنالك الحراك الاجتماعي ودور الصراع بين الانظمة والطبقات الاجتماعية السائدة ، كل ذلك من شأنه ان يغطي وعي الكاتب ويضفي عليه شكلا معينا من السلطة ضمن مستوى الذهن والابداع ، فتكون منتجاته منتمية الى إتجاهات الواقع الذي يعيشه ، ومن ثم هنالك التبيئة للآثارالتي ينتجها الكاتب ، وقد تحمل آثار الكاتب آحيانا صفات سلبية تتعلق بطبيعة النسق السياسي والاجتماعي السائد بحيث ، يعد الخروج من ذلك الاطار او الشكل غير ممكن من حيث التأثير والاحاطة على الآخرين مادام نسق السلطة التي تؤسس الكتابة والحرية ذاتها متماهيا مع البنية السياسية والاجتماعية السائدة ، فسلطة الكتابة مثلا إبان الانظمة الدكتاتورية تؤسس لثقافات وحيدة مدعومة من قبل سلطة الدولة ، وهذه الاخيرة تنتج جميع الاجساد الطيعة وضمن مختلف الحقول والمجالات بدءا بالتربية والتعليم والتلقي اليومي للاحداث والمعارف والمكتسبات وانتهاءا بالامتثال والانصياع للقوانين المجحفة التي تنتجها البنية السياسية الاستبدادية ، من أجل ضمان الانتفاع والبقاء قدر الامكان ، كل ذلك يتم بطريقة انضباطية تحسب بشكل دقيق من قبل السلطة وعلاقاتها السائدة والمتشعبة كنماذج دائمة الحضور والهيمنة على الافراد عموما ، فالكتاب الذين لم ينخرطوا ضمن ما يسمى بأدب الحرب في العراق على سبيل المثال او ضمن ثقافة السلطة او الايديولوجيا المعبرة عن جهاز الدولة سوف يكون تأثيرهم محدودا ومن ثم هنالك الانزواء والنهاية فيما بعد لذات الكاتب ولكن قد يظل اثر الكتابة يمارس الحضور والسلطة من خلال اللجوء الى ما اسمية بسلطة " الكتابة المستقبلية" التي من الممكن ان تظهر بعد زوال هذه البنية السياسية لتضفي أثرها ونموذجها ، وان يكن بطريقة بدائية اولية ليصار الامر فيما بعد الى الانتشار والتعرية لهذه السلطة وأثرها على المجتمع . ان كتابة السلطة تنشد الكمال في كثير من الاحيان وبمختلف اشكالها وطقوسها ومراسيمها ونادرا ما تجد سلطة لا تتدعي الكمال والنهاية ، حيث من الممكن ان تظهر كتابة السلطة مدعومة من قبل القوانين والتحولات الجديدة التي تقود المجتمع الى اشكال وصور مختلفة عن جاهزية الماضي وقيمه ، ومن ثم هنالك التدشين الكتابي الجديد للسلطة وأدواتها وابطالها ورموزها ، ويمكننا ان نعطي الكثير من الامثلة على ذلك من خلال وجود المجموعة الكتابية التي تعبر عن تحولات السلطة وطبيعة تكوينها وأثرها على المجتمع ، إذ من الممكن ان يظهر لدينا مفكرون مثل روسو ومونتسيكيو وفولتير كمجموعة كتابية تعبر عن تحول معين في اثر وعلاقات السلطة داخل المجتمع ، وكذلك الحال مع الثورة الروسية التي تملك جاهزها القيمي والمعرفي من طلائع جديدة للكتابة والتأثير على المحيط الاجتماعي والثقافي ،وهكذا تغدو كل سلطة لديها الجاهز الكتابي الذي تريد له الحضور والتأثير دون غيره ،وذلك الحضور ماثل في كثير من الاحيان ضمن ستراتيجيات البقاء والتطور لهذه السلطة ومديات تحركها عموديا وافقيا وضمن المثال والواقع ، اي انها تنتج صورة مثالية لذاتها من خلال ضمان بقاءها كسلطة دائمة الحضور بشكل مستقبلي من حيث الاتجاه الفكري والايديولوجي المصعد بشكل مثالي او من حيث اتجاهها بشكل افقي لتحجز وتضبط وتديم ذاتها بشكل واقعي عنفي سلطوي ، ومن خلال مجاميع كتابية كثيرة تضمن بقاءها وسيطرتها ،ماديا ومعنويا ، وهنا لا ننسى مكامن القوة والقدرة التي تمتلكها هذه السلطة ، وكلما اتسعت السلطة كلما اصبح لديها مخزون معنوي كبير مؤثر على المستقبل ذاته ومن ثم هنالك التراتب المستمر للانتشار والاحتواء لكافة الاشكال التي تقع خارج نطاقها من مجتمعات ودول وثقافات .. الخ فكتابة الاستبداد كسلطة مادية ومعنوية من الممكن ان نجدها ماثلة لدى المجتمعات العربية الاسلامية من خلال انتصار التاريخ السلبي لسلطة الافراد منذ التحولات الاولى في هذه المجتمعات اي منذ تحول الاسلام الى ملك عضوض سلالي ،لايتم التغيير إلا ضمن الامتثال الى ذات الصيغ والوسائل من التعامل مع السلطة عن طريق الغلبة والصراع وتماثل الانسان ضمن جاهزيات المصالح والخيرات المادية ، وهكذا يمكننا ان نجد الاستبداد كسلطة معنوية ماثلة في طبيعة مجتمعاتنا المعاصرة من حيث تفضيلها لنماذج منتهية من المعرفة والحقيقة انتجتها السلطة ضمن شكليها التاريخي القديم والمعاصرعلى حد سواء ، وذلك بسبب الاجترار لذات الصيغ في الركون الى مقررات الافراد وإرادتهم في السيطرة والهيمنة ، ضمن اشكالها التاريخية قديمة وحديثة دينية وعلمانية قومية استبدادية ، هذه الكتابة كانت لديها مجموعتها التاريخية متمثلة بمجاميع متكررة تفضل النموذج الواحدي الاستبدادي المؤيد للملك - الخليفة ومن ثم ما يجري من عصيان او خروج على سياسته يعد ضمن مفاهيم الخروج على ولي النعمة ومن ثم الخروج عن الشريعه بأكملها ، وذلك بأعتبار الخليفة ولي شرعي للمؤمنين ضمن سياقات الفكر الاسلامي المرسخ من قبل طبقة الكتاب التابعين لنموذج الملك – الخليفة هذه الكتابة الاستبدادية ماثلة في طبيعة التعامل التي ينجزها المثقف المعاصر من السياسي السلطوي من حيث وجود الكليشه الدائمة في تقديم الولاء والطاعة وانتاج المتشابهات ضمن الوعي اليومي العقائدي ،إذ نجد الشاعر على سبيل المثال مقذوفا ضمن وعيه الشعري جميع الاساليب القديمة في تفضيل مدح السلطان واعتبار المدح جاهز ثقافي دائم لابد ان يقدم بشكل مستمر من اجل نيل الحضوة والكرامة من قبل السلطة ومغرياتها ، كذلك الحال مع الآداب الاخرى التي انجزت ذات المقاييس من التعامل مع جاهز السلطة الثقافي من رواية وقصة ومقالة استمدت كتابتها لتنجز تاريخا مشوها من اساطير السلطة العنفية ودمويتها على ذاكرة الانسان ووجوده ، وكلنا يتذكر كيف كان ادباء " قادسية صدام " يندفعون من اجل التعبير عن هذه المهزلة التاريخية التي مارست كتابتها بقسوة على جسد الانسان العراقي فضلا عن المهازل الاخرى التي وجد من يتمثلها ضمن وعي مشوه وزائف مرتبط بنظام السلطة ودمويتها . ان سلطة الكتابة تشتغل على وعي الزمان الثابت ، اي انها مكونة من صور ومدركات واتجاهات مستقبلية ثابتة ضمن التصور النهائي للقيم والايديولوجيا المنبثقة منها ، وذلك بحكم تكوينها النهائي وهنا تشمل هذه السلطة جميع السرديات الكبرى التي عبرت الازمنة وكونت حقولا منتهية من الحقيقة المؤبدة على وعي الانسان ومحيطة الاجتماعي والثقافي وفقا لظروف نشأتها وعوامل انبثاقها المادي والمعنوي المصاحب لظهور الفاعلين فيها من القادة والابطال التاريخيين الذين يجترحون المختلف والمغاير عن جاهزية الماضي ولكن ضمن ذات الاطار والشكل من الحقيقة الثابتة التي لا تتزعزع إلا عن طريق سلطة جديدة تحمل سمات العالم القديم وان اختلفت معه بعض الشئ ، من حيث التعامل الوجودي والانساني مع الافراد والمجتمعات ولكنها تظل في غايتها سلطة منتهية وعيا ومعرفة وادراكا من حيث البقاء والجوهر ولنأخذ مثالنا هنا من خلال التغيرات التي اصابت المجتمع العربي بعد ظهور الاسلام ، لقد كانت الجاهلية تحمل ثقافات متعددة وسلط متداخلة مع بعضها ، ولكنها تحمل الاطاراوالشكل الواحد الذي تحركه الطبقة الاقتصادية الارستقراطية الحاكمة لتضفي عليه طابع النهائية رغم وجود التعددية السائدة آنذاك ، إذ تصور نفسها اي الطبقة الارستقراطية بأنها تملك الديمومة والتواصل من خلال الهيمنة على العالم المحيط بها ، وهكذا كل ذلك منبثق من معنى ثقافي مجتمعي ، جاء الاسلام فحاول ان يؤسس نقيضه من حيث الاعتماد على معنى جديد لما هو سائد من قبل يكمن في زحزحة الشروط السلطوية التي تنتجها الطبقة الارستقراطية على مقدرات الطبقات الاكثر ضعفا ومسكنة ، ومن ثم زحزحة الشرط الثابت للسيطرة العقائدية على التي كانت تحتويها الجاهلية ضمن متتاليات كثيرة من الاوهام والزيف ، كانت تدعيها ثقافة الاصنام ، ولكن مع مرور الزمن تتغير المصالح ويتغير معها الفاعلون الاجتماعيون الذي يعملون على تدشين النهايات بشكل دائم ، وهكذا عودة مستمرة للطبقة الارستقراطية مع الحكم الاموي ، الامر الذي أتاح للمعنى ان يمتلك الدائمية والثبات المطلقين بلا اية قيمة تذكر للتواصل والتطور والتغيير ومن ثم عودة متكررة للدوائر المغلقة والمنتهية من المعرفة والحقيقة والسلطة ، كل ذلك تبثه سلطة الكتابة المرافقة للمنتصر السياسي والاقتصادي ، كذلك الحال مع الازمنة الراهنة التي نعيش ، تعاني السلطة الكثير من التأبيد للقيمة المعنوية من خلال وجود " الجوقات الكتابية " سواء تعلق بأنظمة استبدادية تحتوي الجميع او تعلق الامر بنظام الاقلية الراسمالية الذي يحتوى الفاعلون الاجتماعيون من خلاله وبطرق ووسائل متعددة تشمل الاحتواء والترغيب والتقريب
هل هنالك سلطة بلا كتابة ؟ ان الكتابة التي تباشر سلطتها بشكل نهائي من الممكن ان توجد في مجتمعات منعزلة ليس ضمن اطارها الخاص وما يحوي من عادات وتقاليد ثقافية معينة فحسب بل عن تاريخ وثقافات الامم الاخرى ، وذلك يعد من أكبر العاهات الثقافية المرضية التي تصيب المجتمع وتبتلي بها الجماعة البشرية كما يعبر عن ذلك ليفي شتراوس (8)، إذ من الممكن ان تؤسس العزلة على بقاء المجتمع ضمن قالبية ثقافية لا تدعو الى الحراك والتطور وتغيير البنى الثقافية المجتمعية من خلال تطورها وتغيرها الى اشكال اكثر تطورا وفقا لتطور المجتمعات وتعددية حاجاتها ، هذه المجتمعات المنعزلة دائما ما تحركها الغريزة اكثر مما يحركها العقل المكتشف من قبل الانسان عن طريق المران والممارسة والملاحظة التي من الممكن ان يكون الانفتاح والتبادل المادي والثقافي داعما رئيسيا لها ، فمجتمعات الغريزة مقادة بشكل دائم من قبل سلطة الفرد ، وما على الحشود سوى الانصهار ضمن الكل الاجتماعي الخاضع لطاقة الفرد المعنوية الهائلة ، ذلك ما تمارسه اكثر المجتمعات البدائية التي يوجد فيها العقل ضمن مستوى العزلة والغياب الى حد كبير ، إذ تغدو معها سلطة الكتابة المعنوية ماثلة لدى الافراد وكأنها نسقا نهائيا يملك السحر والهيبة التي لا يجاريها اي مثيل آخر ، كل ذلك ماثل لدى الفرد كصانع نهائي لمستقبل الجماعة البشرية من خلال " شامانها " الكبير وامتدادته المعاصرة متمثلة بالقائد الحزبي " رجل المرحلة ، صانع البطولات " ، رجل الدين الذي يغرق الكل الاجتماعي ضمن طاقته المعنوية بسبب قيادة الفراغ الثقافي والسياسي للحشود والجماهير، كل ذلك يجعل السلطة نهائية ومنبثقة بشكل عجيب لا ينفك يولد الكثير من المتناقضات التي تؤسس الايديولوجيا والزيف المرتبطين بجاهزية المصالح لدى التشكيلات السياسية المختلفة في عقائديتها الشمولية . ان السلطة التي لا تحتوي على كتابة مطلقة لا توجد إلا ضمن لغة العلم الحديثة التي تجاوزت الكوسموس كمعبر نهائي وكعقل كلي انتجته القوى المفارقة للطبيعة من انظمة فكر وابنية تاريخية ، ولكن ذلك العلم كثيرا ما يستخدم لغايات تتعلق بالايديولوجيا والافكار السائدة لدى نظام معين او دولة معينة ، وهكذا يغدو متماهيا مع نسق السلطة ويتم تفريغه من محتواه النسبي ليخدم الاغراض السياسية والثقافية السائدة ، إذ تم تأسيس الكثير من الافكار او الدفاع عنها من خلال ارتباطها بالعلم قديما وحديثا ، ولاننس هنا كيف كانت تتدعي الكنيسة في الماضي شمولها ضمن تاريخ طويل ومنجز من العلوم المنتهية والتي تعد استمرارا طبيعيا لما ينتجه العقل البشري ، كذلك الحال مع الكثير من الآراء التي تحاول ان تبخس جهود العلماء وبذلهم لتؤسس قالبيات جاهزة حول الاكتشافات الحديثة من خلال توزعها ضمن ذاكرتنا المعرفية والثقافية ، اي ارتباطها بما هو موجود من جاهز ثقافي معين لدى مجتمعاتنا ، ذلك ما تكتبه السلطة الفكرية والسياسية لدى الكثير من المؤسسات الدينية التي تحاول اسباغ الاصالة والنبوغ الدائم على على ذواتنا العاطلة كثيرا عن انتاج لحظات جديدة من العلم والاكتشاف والتجاوز لما هو محلي غارق في عقليات النفي المطلق لإرادة الانسان ووجوده ، كذلك الحال مع العقل الكلياني العلموي في القرن التاسع عشر، الذي استند على افق معرفة نهائية من الممكن ان تعمل على " إمحاء الكتابة وذوبانها في اللوغوس وابتلاع الاثر في الحضور واحتواء الاختلاف واتمام ميتافيزيقا الخصوصي " (9) ان المعرفة العامة التي تنتجها السلطة في مجتمعاتنا اي سلطة كانت تحمل في ثناياها صفات العمومية والاطلاق القيمي ، ومن ثم هي معرفة مصابة بعوامل تأبيدها كنسق سلطوي يمتلك الحضور ، بحيث لايمكننا ان نتصور هذه المعرفة منتجة لكتابة بلا سلطة شمولية او هي لا توزع سلطتها بشكل يضمن قيام اشكال جديدة من التعامل الاجتماعي الوجودي ، اي انها سلطة لاتنتج التسامح داخل بنيتها ، ومن ثم يتطلب عملية تهشيمها الكثير من الوقت ، كي يتم تجاوزها الى أطر واشكال سلط مختلفة عنها ، بحيث تتحول هذه السلطة ضمن منابعها القائمة على التفضيل المطلق للقيمة الفكرية الى انتاج التسامح مع الافكار المختلفة ، لتغدو الحقيقة ذاتها غير منتجة لشمول قيمي ومدارك تتفانى حول فكرة النهاية اي نهاية الانسان ، هذه السلطة الجديدة تتجاوز الكتابة بشكلها الذي يمحو عزلة الانسان ماديا ومعنويا عن كل ماهو ضابط وقاهر من شأنه ان يلغي الذاكرة والعقل والغريزة والاندفاع نحو اشكال جديدة من القبول المجتمعي غير المؤسس على تكوين ثوابت معينة سواء تلك التي تعلقت بطبيعة الحياة الاستهلاكية المقادة من قبل السلطة غير المدركة او المعروفة لدى الفرد او من قبل الحياة التي تخلو من توفر الامكانات المادية المتاحة ومنع عناصر الحصول عليها بشكل يضمن الكرامة البشرية المثلى . ضمن التسامح تستطيع السلطة ان تتضاءل ومن ثم تغدو مالكة للأثر المخفف من حيث جوهر ممارستها على صعيد الوعي والمعرفة والتمثل الحقيقي لوسائلها وطرق تنفيذها المجتمعية ، وهنا التسامح لايعني انتاج الحريات كافة من خيار وسلوك بشريين مرتبطين بالمجتمع وتطوره فحسب بل هنالك التسامح في انتاج السلطة ذاتها ، اي مدى اثرها على الاخرين وهنا لنعط مثالا على ذلك يتمثل في صياغة الوجود الاجتماعي لدى الافراد عموما من خلال ايجاد منافذ اكثر استيعابا لكرامة الانسان ووجوده من خلال التجاوز لما هو سائد ومحلي مرتبط بكثرة التشوهات التي تعانيها الذات المجتمعية ، بالرغم من صعوبة طرحنا ذلك بسسب وجود الكثير من المعوقات التي تفرضها اشكال السلط التي تباشر الانحساروالتفضيل الحقيقي لنماذج معينة دون غيرها وفقا لدرجة الامتلاك الجوهري للمصالح والخيرات التي يسبغ عليها الكثير من الاوهام التي تغطي المجتمع في كثير من الاحيان ان عملية خلق عالم اقضل تمثل مقاومة حقيقية لصالح الحياة وضد فكرة الموت التي تسود وتسيطر عبر قنوات بثها المتعددة في عالمنا المعاصر ، مرتبطة بأجهزة الاقتصاد والسياسة والايديولوجيا التي تصدر الالغاء للاخرين وبكافة الاشكال والمستويات ، وما دعوة نهاية التاريخ ضمن شكل معين للحياة والمجتمع إلا دعوة للموت اي موت المجتمعات الاخرى وان الذي يفكر لا يرتبط بالذات المجتمعية بقدر ما يرتبط بآلية الانساق الجاهزة والمباشرة من قبل الاخر، الذي يمتلك مقومات السيطرة والهيمنة على جميع مقدرات الحداثة ومنجزاتها ، كل ذلك يتم من خلال سلطة غير ممأسسة على عزلة الانسان ضمن قوالب معينة جاهزة تفرضها اشكال السلط المتعددة ، التي تباشر الحضور والامتلاك على وعي الافراد بشكل عام ، هذه السلطة غير موجوده لدى مجتمعاتنا من حيث التأسيس والفعل والممارسة ، انها سلطة من الممكن ان تنجز الكتابة المستقبلية لذوات غير منتجة للوهم والموت والتلاشي ضمن قيم وقواعد السلطة ومفاعيلها المعاصرة .
الهوامش : 1- الفكر العربي المعاصر / العدد 46/ 1987/ مركز الانماء القومي - بيروت 1987 2- بيار فرانسوا مورا / الطبيعة والثقافة والتاريخ / ترجمة- سهيل القش / مجلة دراسات عربية / بيروت 1984 ص 120 3- إدوارد سعيد / الثقافة والامبريالية / ترجمة : كمال ابو ديب / دار الاداب – بيروت ص 343 4- جيل دولوز / المعرفة والسلطة / مركز الانماء القومي / بيروت / ص 40 5- تاريخ الفلسفة اليونانية / اميل برهية / ترجمة جورج طرابيشي / الطبعة الاولى / دار الطليعة بيروت 1982 ص 188 6- ثورة الامل / اريك فروم / ص 50 7- المصدر نفسه / ص 50 8- موت الانسان في الخطاب الفلسفي المعاصر / عبد الرزاق الدواي / المركز الثقافي العربي / بيروت / ص 96 9- جاك دريدا / الكتابة والاختلاف / ترجمة : كاظم جهاد/ دار توبقال للنشر / الدار البضاء / الطبعة الاولى 1988ص129
#وليد_المسعودي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تاريخية العنف في المجتمعات العربية الاسلامية
-
سلطة الايديولوجيا
-
المصالحة الوطنية بين الوهم والحقيقة
-
نحو رسم خارطة جديدة للمواجهة مع القوى الكبرى
-
العلمانية المنفتحة - خيارا بشريا جديدا لدى المجتمعات العربية
...
-
جاهزية الخطاب الفضائي محاولة لبناء مجتمع عراقي تواصلي
-
الحداثة المسلّحة بأشكالها الثلاث
-
العنف المنزلي .. سلطة ذكورية أم خضوع نسائي
-
صورة أميركا في العراق
-
الرأي العام وآيديولوجيا الدولة
-
في التربية والعولمة - نحو تربية حداثية جديدة
-
الحداثة والتراث في مقاربة جديدة
-
أسس الانتماء الى الثقافة والمثقف
-
الحريات السياسية ضمن جدلية البناء والتغيير
-
الارهاب والطائفية في العراق - نحو إعادة تشكيل الواقع السياسي
...
-
المعرفة وأدوات البناء في المؤسسة التربوية العراقية
-
أخلاقيات السجن - أخلاقيات العذاب
-
الاعلام العربي .. الى اين
-
مشروع الدولة في العراق بين الطائفة والعرق
-
الفلسفة والدولة
المزيد.....
-
كيف يعصف الذكاء الاصطناعي بالمشهد الفني؟
-
إسرائيل تشن غارات جديدة في ضاحية بيروت وحزب الله يستهدفها بع
...
-
أضرار في حيفا عقب هجمات صاروخية لـ-حزب الله- والشرطة تحذر من
...
-
حميميم: -التحالف الدولي- يواصل انتهاك المجال الجوي السوري وي
...
-
شاهد عيان يروي بعضا من إجرام قوات كييف بحق المدنيين في سيليد
...
-
اللحظات الأولى لاشتعال طائرة روسية من طراز -سوبرجيت 100- في
...
-
القوى السياسية في قبرص تنظم مظاهرة ضد تحويل البلاد إلى قاعدة
...
-
طهران: الغرب يدفع للعمل خارج أطر الوكالة
-
الكرملين: ضربة أوريشنيك في الوقت المناسب
-
الأوروغواي: المنتخبون يصوتون في الجولة الثانية لاختيار رئيسه
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|