|
الميثولوجيا الدينية
عبد الغني سلامه
كاتب وباحث فلسطيني
(Abdel Ghani Salameh)
الحوار المتمدن-العدد: 6756 - 2020 / 12 / 9 - 12:26
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
الميثولوجيا مصطلح يوناني يعني الأسطورة؛ أو هي حكايات شعبية فولكلوريه تخص منطقة معينة، قد تكون وصف لأحداث حقيقية جرت بالفعل، أو من نسج الخيال، لكن الناس وعبر تناقل الحكاية فيما بينهم، ومن جيل إلى آخر أضافوا إليها، وبالغوا في وصف مجرياتها، وتعظيم قدرات وسمات شخوصها وأبطالها. وغالبا ما تتضمن الأساطير آلهة، أو كائنات، أو أبطال، أو أحداث لا يمكن للعقل العلمي تصديقها نظرا لشدة غرابتها، وتناقضها مع نواميس الطبيعة والكون.
وقد وظف الإنسان الميثولوجيا لبناء فلسفته الخاصة لفهم بعض الظواهر الطبيعية، أو للإجابة على أسئلته المحيرة، من مثل: من خلق الكون؟ أين سنذهب بعد الموت؟ كيف نشأت الحياة؟ كما وظفها لتبرير وإدامة نظم اجتماعية معينة، من خلال تكريس عادات وطقوس وممارسات، من شأنها تثبيت النظم السياسية والمفاهيم الاجتماعية والدينية القائمة. وللميثولوجيا اليوم علم قائم بذاته، يدرس ويفسر الأساطير القديمة.
وحسب التعريف العلمي للميثولوجيا، ليس بالضرورة أن تكون الأسطورة كاذبة؛ فقد يكون لها أساس تاريخي، وأشخاصها حقيقيون، وبغض النظر عن حجم المبالغات فيها، المهم أنها أصبحت "قصة مقدسة"، أو جزءا من التراث الشعبي الشفهي؛ لذا قد يستخدم البعض كلمة "أساطير دينية" دون قصد الإساءة إلى الدين، أو التشكيك بصحتها.
تتميز الأسطورة عن الحكاية الشعبية بتضمنها جانب فلسفي عميق، إضافة لقيمتها الأدبية والجمالية. كما تختلف عن الخرافة، فعند العرب الخرافة هي الكلام المستملح المكذوب، أي الحديث غير الواقعي لكنه ظريف، و"خرافة" كان رجلا من قبيلة عذرة، ادعى أن الجن أسرته، فمكث عندهم دهرا، ثم ردوه إلى عالم الإنس، فصار يحدث الناس بما رأى فيهم من الأعاجيب، فقال الناس: حديث خرافة. أما الحكاية البطولية، ففيها بعض سمات الخرافة كالإغراق في الخيال، وبعدها عن الواقع، إلا أن لها أصلاً في الحقيقة الموضوعية، ولكنه ضخّم وبولغ فيه كثيرا.
في بدايات عصر الأنسنة كان دور الأسطورة تفسير القوى العظمى التي خلقت الكون والطبيعة، أو التي تسيرها، لذا ارتبطت الأسطورة قديما بالآلهة.. وبعد أن أجابت الأديان على سؤال خلق الكون لم تعد الأسطورة مقترنة بالآلهة، أو بأنصاف الآلهة والكائنات الخرافية، بل صارت مقترنة بالأنبياء والمصلحين والفلاسفة والحكماء والأبطال الشعبيين.. لكن الأساطير ظلت ولفترات طويلة مقترنة بالحيوانات (الحية، الغراب، الثور، الهدهد، وبعض الحيوانات الوهمية كالتنين، والحصان المجنح، والأفعى ذات السبعة رؤوس..).. وكانت الحاجة ملحّة لبناء مثل تلك الأساطير، ونسج القصص حولها، وجعلها مقترنة بفهم ظواهر الطبيعة، وللإجابة على الأسئلة الوجودية والفلسفية والدينية، لأن العقل البشري آنذاك كان محدود القدرات، مقارنة بالحاضر، وقاصرا عن فهم المجرد والمنطقي.. فالخالق العظيم غير مرئي، وغير متجسد، لذا فإن تجسيده عبر الرسل والمصلحين والأولياء يسهل على الناس فهم تعاليم الدين، أو فهم ما عجزوا عنه بالتجريد. أو لجعل الدين مقترنا بحياتهم وجزءا منها، بدلا من كونه مفارق ومنعزل عنهم، وموجود فقط في النظريات والكتب المقدسة.
وهذا يفسر إصرار الخيال الشعبي والثقافة الشعبية على الاهتمام بالأولياء والصالحين وأضرحتهم.. هذا الاهتمام ينتقل وبشكل تصاعدي من الاهتمام بالخالق ورسالته، إلى أنبيائه وسيرهم، ومن ثم إلى تابعيهم، لأنهم الأقرب (فيزيائيا وزمانيا) إلى الناس في كل مرحلة تاريخية.. حيث يتم نسب المعجزات والكرامات والخوارق إلى هؤلاء، لأن المعجزة المادية الملموسة أكثر إقناعا من الكلام المجرد.. خاصة عند عامة الناس، الذين يستريحون أكثر للغيبي والخارق والخارج عن المألوف مقارنة بالفهم العقلاني المجرد الذي يتطلب اقتناع وتفكير وإعمال للعقل..
وقد لعبت الميثولوجيا دورا مهما في بناء الحضارة الإنسانية، فمثلا شكلت حافزا لبناء المعابد والصروح والأهرامات والقلاع والتماثيل والنصب والأبراج، وغيرها من المعالم الأثرية الجميلة.. وكان لها دورا في عمليات التأريخ والأرشفة، رغم أنها ضللت الكثير من الباحثين والمؤرخين، نظرا لحجم الزيف والمبالغات فيها، لكنها تظل مادة ممتازة للسؤال والبحث والتنقيب، بما يمكّن من بناء تصور تاريخي حقيقي اعتمادا عليها، أو على نقدها وتفنيدها.. كما نقلت الميثولوجيا الأدب إلى مكانة رفيعة، فقد شكلت أساسا لمراكمة التطور الأدبي، وصولا للرواية والقصة القصيرة والشعر والمسرح والدراما بالشكل الذي نعرفه اليوم.
لذا، تكون الميثولوجيا مفيدة عندما نتعامل معها كقصص رمزية، لأخذ العبر منها، واستخلاص الدروس والحكم، أو للمتعة والمؤانسة.. لكنها تصبح مضرة وخطيرة، عندما تكتسب القداسة، وتصبح قصصا مقدسة، لا يجوز التشكيك بها، أو مناقشتها. وتصبح خطيرة أكثر عندما يُبنى عليها إيديولوجيا عنيفة ومتعصبة وعنصرية، أو تصبح مصدرا رئيسا للحكمة والمعرفة والتفسير العلمي.. أي عندما تغدو مسلّمات، وتابوهات، وبديلا عن العقل العلمي والنقدي.. وعندما تصبح قيودا تشد إلى الماضي، بدلا من الانطلاق للمستقبل، وعندما يقتصر الخيال البشري على نسج الأساطير ببراعة، بدلا من إطلاقه بحرية لحل المشكلات والتخطيط للمستقبل..
وفي النسخ الشعبية التقليدية لأي معتقد ديني قديم أو معاصر ستجد الكثير من الأساطير، سواء نصا أم تأويلا، والتي لا يكتمل إيمان المرء إلا بالتسليم بها، وليس المقصود هنا الغيبيات، بل التأويلات والتفسيرات المبنية على فكر أسطوري، والأحداث والسير شبه التاريخية والتي لا يمكن الاستدلال على صحتها بالأدلة العلمية والأركيولوجية والبراهين العقلية، وهي التي تكتسب بمرور الوقت بعدا قداسيا وتحريميا.
اليابان والصين وكوريا من أكثر بلدان العالم تطورا وتقدما، صناعيا وتكنولوجيا وعلميا، مع أن ثقافاتها تزخر بالكثير من الأساطير، لكنهم يتعاملون معها كتراث وفلكلور شعبي، يحيونها في مناسبات محددة.. ولا يسمحون لها بدخول مختبراتهم ومصانعهم وأبحاثهم..
اليوم، ونحن في القرن الحادي والعشرين، آن لنا أن نضع الميثولوجيا في سياقها التاريخي والفلكلوري فقط، فالتقدم وولوج المستقبل يحتاج إلى العلماء الحقيقيين، والعقلية النقدية، والمنهج العلمي الصارم، والتفكير العقلاني المنطقي، والتحرر من قيود التابوهات والأساطير.. وهي أمور غالبا ما تكون غائبة عن العقلية العربية، وغيابها أهم أسباب تأخرنا، وعجزنا عن اختراع شيء حقيقي ذو قيمة..
#عبد_الغني_سلامه (هاشتاغ)
Abdel_Ghani_Salameh#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أهم اختراع في التاريخ
-
صعود وأفول الحضارة العربية الإسلامية
-
أن تُولد قبيحا
-
الدولة الإسلامية والدولة الدينية
-
بين هيروشيما وبيروت
-
تكنيس التاريخ من بعض القمامة
-
مصر التي نحبها
-
هل المعتزلة تيار عقلاني؟
-
جرائم ضد الإنسانية
-
سأتخلص من كل من لا يشبهني
-
منشأ العنف والتطرف؟
-
البشير والإخوان المسلمين
-
الدولة المقدسة
-
مشروع نهر الكونغو
-
العقل السياسي العربي
-
ما بعد الصهيونية
-
فلسطين الكنعانية
-
في وداع محمد شحرور
-
مسلسل SEE
-
لغتنا الجميلة
المزيد.....
-
طلع الزين من الحمام… استقبل الآن تردد طيور الجنة اغاني أطفال
...
-
آموس هوكشتاين.. قبعة أميركية تُخفي قلنسوة يهودية
-
دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه
...
-
في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا
...
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|