من غير الواضح إلى أي حد يلعب المشترك العربي دوراً في تضييق الشقة بين شيعة العراق وسنته في المواجهة الراهنة للحرب العدوانية الأمريكية التي تتعرض لها بلادهم، لكن من الواضح أن شقة الانقسام العربي الكردي تتسع وتزداد عمقاً وثباتاً على خلفية هذه المواجهة عينها. وبينما لم يجد تقسيم العراقيين إلى شيعة وسنة وأكراد وآخرين، وفقا لثوابت النظرة الاستشراقية الوفية لعقيدة الفسيفساء، مسقطه السياسي في حقل الحرب الراهن، فإن أبرز حقائق هذا الحقل اشتمال خط الحرب الأنكلو أمريكية – العراقية على خط الفصل بين عرب العراق وأكراده واستتباع الأخيرين ضمن المعسكر المعتدي. يمكن لنا إزاء استقطاب المجموعتين القوميتين الأساسيتين في العراق على طرفي "التناقض الرئيسي" في المعركة الجارية أن نحمل الأكراد مسؤولية التحاقهم بالأمريكيين وأن نتهمهم بخيانة بلدهم؛ لكن هذا منطق قصير النظر ولا يقود إلا إلى تكرار صراعات الماضي وجعل المواجهة العربية الكردية قدرا مستقبليا للطرفين، كما يثبِّت العجز عن الاستفادة من دروس التاريخ المتكررة التي تتلخص في استحالة دوام هذا الزواج بالإكراه.
إن الاصطفاف الحالي للعرب والأكراد في خندقين متجابهين يعيد إلى الواجهة قضية أساسية هي تجريد الأكراد من دولة مستقلة خاصة بهم. لذلك فإن هذه المواجهة، وهي ليست أولى حلقات المواجهة وإن تكن أعلى مراحلها، يجب أن تدفعنا إلى الاستخلاص الوجيه الوحيد في رأينا: قبول فكرة الانفصال وتسهيل تشكيل الأكراد دولة مستقلة. إذ ليس من مصلحة عرب العراق أن يكرهوا شعبا آخر يزداد شعوره القومي يوما بعد يوم على البقاء في الكيان العراقي. ثم أن القبول بالطلاق بين العرب والكرد يوقف عملية تعميق الشرخ وتسميم العلاقات بين الشعبين، وينزع من القوى الخارجية ذريعة لتدخل لن يحقق إلا مصالح المتدخلين ويخدم أجنداتهم هم. وهو إلى ذلك خطوة أخلاقية ليس نحو تحرر الأكراد وحدهم بل، وربما بدرجة أكبر، نحو التحرر المعنوي والأخلاقي وحتى السياسي للعرب. فتكوّن كيان كردي مستقل وارتفاع هاجس السيطرة من شأنه أن يخلق مناخا مناسبا لرؤية أكثر موضوعية وإنصافا لعناصر المشترك العربي الكردي من ثقافة ودين وجوار واختلاط وتاريخ مشترك؛ هذا بينما تساهم الظروف الحالية في التقليل من شأن هذه العناصر وإبدالها برؤية مجسمة ومكبرة للفوارق الموجودة بين الطرفين.
إن تاريخ الأكراد الحديث في العراق هو تاريخ صراع مع الدولة المركزية وتاريخ تحالفات متنوعة لهم مع جهات خارجية. ويشير تنافر هذه الجهات (إيران، الاتحاد السوفييتي السابق، الولايات المتحدة، إسرائيل) إلى ثبات الطلب الكردي على الاستقلال بقدر ما يشير إلى شعور بالضعف يدفع إلى البحث عن حلفاء باي ثمن وكائنا من يكونون. وبقدر ما كان القرن العشرون تاريخ تأكيد متشدد للهوية القومية في البلدان الأربعة التي يعيش فيها الأكراد، فقد كان أيضا تاريخ حرمان متشدد لهم من بلورة هويتهم القومية المستقلة وتحقيق هذه الهوية سياسيا. ولعبت سياسات الكبت والتحريم القانوني والسياسي التي أخضعت لها أكبر جماعة قومية محرومة من الدولة في العالم دورا كبيرا في شحذ الشعور القومي الكردي وفي شحنه بالمرارة والعداء للدول وحتى الشعوب التي يعيشون في ظهرانيها. فكما تكون الشعور العربي الحديث في سياق المواجهة مع الغرب الاستعماري ثم الصراع العربي الإسرائيلي، فقد تكون الشعور القومي الكردي في سياق مواجهة الأكراد للدول التي تتقاسمهم. ونعلم أن النخب الكردية تتطلع في قرارة نفسها إلى الانفصال وتشكيل دولة كردية مستقلة بنفس الطريقة التي تطلع فيها العرب إبان الحرب العالمية الأولى إلى تأسيس دولة عربية مستقلة (قبل أن يكرمهم الواقع بدل الدولة الواحدة بالعديد منها). وحين يقول قادة أكراد إنهم متمسكون بوحدة العراق ولا يريدون الانفصال فهذا ليس تخليا عن أحلامهم ولكن لأنهم لا يريدون إثارة مشكلات ليسوا قادرين على معالجتها. فالازدواجية والضعف صنوان لا يفترقان كما يظهر المثال الفلسطيني الماساوي.
ولعل موقع الأكراد وموقفهم الحالي ضمن الاستراتيجية الأمريكية شبيه بموقع العرب وموقفهم من خطط الحلفاء في الحرب العالمية الأولى. وقد تكون الفجوة بين التصور الذاتي للنخب السياسية الكردية للعملية التاريخية الجارية وبين النتائج الموضوعية لها من وزن الفجوة التي تكشفت بعد "الثورة (إقرأ: الغفلة) العربية الكبرى" بين تصور الأسرة الشريفية والمتعاونين معها وخطط البريطانيين والفرنسيين، وهي الخطط التي كان الأكراد أيضا من ضحاياها البارزين. كما قد يكون مما ينذر بالشؤم من وجهة النظر الكردية أن الأكراد يدخلون هذه اللحظة الدقيقة جدا من تاريخهم دون قيادة وازنة تحظى بالتفاف شعبي واسع حولها، وان لديهم بدلا من ذلك قيادتان متنافستان لا يؤمن استمرار الوفاق الراهن بينهما حين يؤون أوان توزيع الغنائم.
أيا يكن، فليس غير الأكراد من سينهض بأعباء تجاوز انقساماتهم وتأسيس ذاتهم الجمعية واختبار فرص تمثيل أنفسهم وإنتاج قياداتهم والتمرس بمصاعبهم والتدرب على تخطي عثراتهم و"مراحلهم الحرجة". فالكردي "الجيد" المتعاون مع غيره لا يمكن أن يوجد قبل الكردي "السيئ" المستقل بنفسه.
لا نغفل بالطبع أن القرار بالطلاق لا يمكن أن يكون أحادي الجانب تتخذه أي من الدول الأربعة الأساسية. فالاستقلال الكردي لا يمكن أن يروق للإدارات الأمريكية صاحبة القول الفصل في الجغرافيا السياسية للمنطقة، والقضية الكردية هي بالفعل ذريعة لتثبيت السيطرة الأمريكية في "الشرق الأوسط". ولا يعود الرفض الأمريكي لقيام دولة كردية مستقلة إلى كون تركيا الأطلسية حليفة الولايات المتحدة الأقوى والأضمن (هي كذلك وستبقى كذلك في المدى المنظور خلافا لما قد توحي به التباسات عدم فتح "الجبهة الشمالية")، ولكن أيضا لأنه يحد من وسائلها في التدخل وينزع من يدها ورقة للضغط والسيطرة على التفاعلات الإقليمية بين دول الإقليم الشرق أوسطي. ولعلنا هنا ندرك المفعول المزدوج لتدويل القضية الكردية. فمن جهة أولى وضعها هذا التدويل على جدول الأعمال العالمي، لكنه من جهة أخرى أخرج حلها من يد الأكراد ودول المنطقة ورهنها بالقوى القادرة على تفعيل أو تعطيل أية قضية. لكن ليس لنا، مع ذلك، أن نتذرع بعدم إخلاص الأمريكيين أو بعدم مكافأة الملتحقين بالمعتدي للاستمرار في التركيبة القديمة غير المستقرة وغير القابلة للاستقرار.
فإنهاء قصة الزواج العربي الكردي في العراق التي كان البريطانيون عاقدو القران فيها يقطع الطريق على أشياء كثيرة ليست لمصلحة الأكراد ولا العرب. وليس غير الطلاق بعد زواج دام قرابة تسعين عاما يمكن أن يوقف عملية الاستنزاف المادي والمعنوي بين الشعبين في العراق.
لم تعد فكرة الانفصال الكردي اليوم هي الحل العادل للمسألة الكردية فحسب، إنها قبل ذلك الحل العقلاني و"الاقتصادي" لها. فاستمرار زواج الإكراه هذا سيكون باهظ الكلفة ماديا ومعنويا وسياسيا على الطرفين، وهو منذ الآن عبء عليهما معا. ولهذا فالطلاق حل لمشكلة مزدوجة وليس حلا لمشكلة كردية فقط. ومن وجهة نظر عربية نعتقد أن القبول بالانفصال الكردي يحررنا من عبء سياسي ونفسي أكثر مما يُصالحنا مع فكرة خسارة لا بد منها؛ وسيمكننا وقد تحررنا من وهم السيطرة أن نتفهم شعبا تجمعه بنا الكثير من أواصر القربى.
وأميل شخصيا إلى أن القبول الصريح وغير المشروط بشرعية الانفصال الكردي هو خطوة حقيقية باتجاه النقض التاريخي لاتفاقية سايكس بيكو وأسس النظام الشرق أوسطي التي أرسيت بين الحرب العالمية الأولى وأقامة دولة إسرائيل عام 1948. فـ"الحدود المصطنعة" بين الدول العربية وإقامة الكيان الإسرائيلي والسيطرة الغربية والأمريكية على البترول وحرمان الأكراد من دولة تشكل بمجموعها أسس النظام الشرق أوسطي، أو ما نسميه نظام سايكس- بيكو- بلفور- بترول. ولا نستطيع التعامل الانتقائي مع هذه الأسس أو الجمع بين رفض الكيان الإسرائيلي وإنكار حق الأكراد في الانفصال والدولة، ولا كذلك رفض "الحدود المصطنعة" التي نصبها "الاستعمار" بيننا والدفاع عن هذه الحدود حين ألحقت بدولنا الحديثة أراض ليست عربية بحال.
ترتبط هذه الرؤية للاستقلال الكردي بالظروف الحالية وتستند إلى الوجوب السياسي والأخلاقي لمنع قيام حرب عربية كردية، لكنها يجب كذلك أن تصبح جزءا أساسيا من برنامج الديمقراطيين العرب في العراق وغيره. فالظروف الحالية مناسبة، وليست سببا، لإعادة طرح المسألة الكردية وإعادة التفكير فيها، وربما للتجاسر على انتهاك قوالب التفكير"الواقعية" المعتادة. وفي هذا السياق قد يكون الإطار المعقول والعادل والأنسب لحل المشكلة الكردية مؤتمر دولي تشارك فيه الأطراف الإقليمية المعنية مع ممثلين للشعب الكردي وتحت مظلة دولية من الأمم المتحدة (إن بقيت على قيد الحياة بعد الغزوة الأمريكية الحالية).
هنا أيضا لا نتغافل عن حقيقة أن المهم في السياسة والعلاقات الدولية دائما ليس مضمون الأفكار والاقتراحات بل القوى التي وراءها. لكن كسب معركة الوعي او المساهمة الفكرية في تأهيل جدول أعمال المستقبل قد يتفوق في المرحلة اللايقينية الراهنة على الخطط التنفيذية لفاعلين راسخين ظاهريا لكن حظوظهم قد تنقلب بين ليلة وضحاها.
• كاتب وباحث عربي سوري – معتقل سياسي سابقاً .
دمشق31/3/ 2003
نقلاً عن جريدة الوحدة – يكيتي- الجريدة المركزية لحزب الوحدة الديمقراطي الكردي في سوريا(يكيتي) – العدد 117 –نيسان 2003
www.yekiti.nl