|
ديفيد هيوم (1711 – 1776)
غازي الصوراني
مفكر وباحث فلسطيني
الحوار المتمدن-العدد: 6752 - 2020 / 12 / 5 - 16:01
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
فيلسوف تجريبي وعالم اقتصادي انجليزي، وهومن أبرز فلاسفة حركة "التنوير الأسكتلندى"، وأحد أهم الفلاسفة في التاريخ الأوروبي. في هذا الجانب يقول يوسف حسين: "إن الفلسفة الغربية الحديثة هي نتاج ثالوث فكري عملاق ابتدأ مع "ديكارت" ثم "ديفيد هيوم" ثم "كانط" الذي اعترف قائلاً ان "فلسفة هيوم أيقظت أوروبا، وان أعظم فيلسوف في اوروبا هو نتاج لفلسفة "هيوم"، ولابد لكل فيلسوف من تلاوة الأسئلة التي طرحها ديفيد هيوم والاجابة عليها"([1]). "يعتبر ديفيد هيوم هو فيلسوف الطبيعة ورائد فلسفة الشك، والنظريات الشكيه التي سجلها في كتابه "رسالة في الطبيعة البشرية" الذي هدم فيه مبادئ اساسية مثل العقل / الدين / الإيمان / الهوية .. إلخ من خلال أسئلته الكبرى التي وجهها هيوم من منطلق شكه في كل ما حوله، وبسبب كتاباته اتهمه رجال الدين بالزندقة وطالبوا بادانته، لكن مفكري التنوير وفلاسفته في بريطانيا وفرنسا هاجموا الكنيسة ورجال الدين الذين تراجعوا عن المطالبة بإدانة هيوم، وفي عام 1767 تقلد هيوم منصب وزاري هام في لندن، لكنه تخلى عنه فيما بعد"([2]). ألف هيوم عام 1736 أول جزئين من رائعته الشكوكية "رسالة في الطبيعة البشرية"، "كشف الإعلان الذي تصدر الكتاب عن ثقة هيوم في قدراته، فقد قال فيه: أنه يستهدف دراسة الطبيعة البشرية من حيث الفهم والانفعالات، ومن حيث الأخلاق والسياسة، وشرع في تحليل "الانطباع" (الإحساس)، والإدراك الحسي، والذاكرة، والخيال، والفكر، والعقل، والاعتقاد، لان صحة العلم والفلسفة والدين والتاريخ تتوقف على طبيعة المعرفة، وأصلها، وإمكان وثوقنا بها، وبدأ هيوم –كما يقول ول ديورانت- "بقبوله تجريبية لوك نقطة انطلاق لبحثه، فكل الأفكار مستقاة في النهاية من التجربة بطريق الانطباعات، يقول: "إن ما نسميه "الذهن" ليس إلا كومة أو مجموعة من مختلف الإدراكات الحسية توحدت معا بشتى الارتباطات، أما أنا فإنني حين أتغلغل فيما أسميه "نفسي" أعثر دائماً على إدراك حسي معين أو آخر، للحرارة أو البرودة، للضوء أو الظل، للحب أو الكرة، للألم أو اللذة، ولا أستطيع إطلاقاً أن ألحظ شيئاً غير الإدراك الحسي، فإذا زالت عنى إدراكاتي الحسية أي فترة، كما يحدث بالنوم العميق، فإننى طوال هذه الفترة أكون عادم الحس "بنفسي"، ويمكن القول حقا أننى غير موجود، وإذا زالت إدراكاتي الحسية كلها بالموت، فعجزت عن التفكير والشعور والإبصار والحب والكره بعد تحلل جسمي، فإنني أمحق محقاً، ولست أتصور ما يلزم بعد ذلك لجعلي عدما في عدم"([3]). رفض هيوم محاولات الفلاسفة بناء مبدأ أخلاقي على تحكم العقل في العاطفة، وهو يعني بكلمة العاطفة الرغبة الوجدانية يقول: "لكي أثبت مغالطة هذه الفلسفة بأكملها، سأحاول أن أثبت أولاً أن العقل وحده لا يمكن أن يكون دافعاً لأي فعل من أفعال الإرادة؛ ثانياً أنه لا يستطيع إطلاقاً معارضة العاطفة في اتجاه (ضد قوة) الإرادة، ويضيف هيوم إمعانا منه في ترويع المتشبثين بالقديم بقوله: "إن العقل عبد، وينبغي أن يكون عبداً للعواطف (الأداة المنيرة والمنسقة للرغبات) ولا يمكن أن يزعم لنفسه أي وظيفة أخرى سوى خدمتها وطاعتها" ، ثم يمضي إلى تحليل دقيق للعواطف – وأهمها الحب، والكره، والعطف، والغضب، والطمع، والحسد، والكبرياء، فكل العواطف تقوم على اللذة والألم، وتمييزاتنا الأخلاقية تنبع في النهاية من هذا المنبع الخفي ذاته، "إننا نميل إلى إطلاق اسم الفضيلة على أي صفة في الآخرين تعطينا اللذة لأنها تعين على نفعنا، وإلى إطلاق اسم الرذيلة على أي صفة بشرية تعطينا الألم"، وحتى مفاهيم الجمال والقبح مشتقة من اللذة والألم"، وعلى هذا الأساس برر اللذات الصحية للحياة باعتبارها نافعة للفرد، والمعيار المزدوج للفضيلة باعتباره نافعاً للمجتمع"([4]). نظرية المعرفة عند هيوم: ما هي المعرفة؟ كيف نصل إلى المعرفة؟ كيف يمكن اثبات صدق المعرفة أو كذبها؟ وباعتبار هيوم فيلسوف تجريبي، فقد طبق فلسفته الشكيه "أثناء محاولاته الاجابة على هذه الأسئلة، حيث أكد هيوم ان كل معرفتنا محصوره في إدراكين هما: الانطباعات أو الادراكات الحسية الموضوعية من الخارج أو مما حولنا، والانفعالات أو الأحاسيس التي تظهر لنا لأول مرة في أذهاننا، أما الافكار فهي نسخة باهتة أو خافتة من تلك الانطباعات أو الادراكات وليست بقوة وضوح الانطباع الذي نتلقاه بصورة مباشرة ، مثلاً اصابتنا بجرح في اليد يشعرنا بالألم الشديد في لحظته، وبعد ذلك بمدة من الزمن نتذكر ذلك الحدث في افكارنا"([5]). المهم في الأمر "ان الفكرة المركزية لدى هيوم هي التي تنطلق من رفضه المطلق لوجود أية أفكار فطرية في الذهن (على العكس من ديكارت) ، وان كل الأفكار الموجودة في الذهن الانساني هي حصيلة إدراك حسي أو انطباع معين أو أحداث أدت إلى انتاج الأفكار في عقولنا، وبالتالي فان كل فكرة في عقولنا لها بالضرورة أصل موجود في الواقع الحسي، فالذاكره هي صور أصليه من الأشياء والاحداث تتراكم من خلال الادراك الحسي أو غير ذلك من الأسباب المادية، فالحكيم عند هيوم هو من ينبني ايمانه أو آرائه على البرهان، وهناك افكار خياليه هي عبارة عن تركيب صور من الواقع (الحديث عن جبل من الذهب خليط من معرفتنا بالذهب من جهة ومعرفتنا بالجبل من ناحية ثانية .. إلخ) ولابد من التمييز بين الفكرة الحقيقية والفكرة المتخيلة، وذلك باعادة الفكرة الحقيقية إلى الأصل (الادراك الحسي)، اما الفكرة المركبة من الخيال فلا يجعلها واقعاً، وهي لا تعدو كونها وهماً: (جبل الذهب، أو الحصان الطائر مثلاً) "([6]). نستخلص مما تقدم ان الانسان لا يستطيع ادراك أي فكرة اعتماداً على العقل فقط بل أيضاً من خلال الحواس والتجربة، فالعلاقة السببية عند هيوم "مبدأ مهم جداً في تفسير أحداث الكون والحياة البشرية اليومية، وتعتبر أيضاً من أساسيات المعرفة العلمية، وعنصر أساسي في فهم الانسان لماهية كل ما يجري من حوله على قاعدة ان لكل فعل سبب، فالسببية هي مصطلح علمي وفلسفي وهي علاقة بين شيئين أحدهما يغير في الآخر، فنحن نشبع بعد أن نأكل، ونولد قبل ان نموت، وندفع الباب قبل أن يفتح، وهكذا، كما ان السببية مبدأ عقلي بامتياز، فلكل حادثه سبب يؤدي إلى حدوثها، وعلى هذا الأساس رفض ديفيد هيوم القول ان السببية مبدأ عقلي لعدة أسباب([7]): 1- عجز العقل بمفرده على البرهنة على السببية دون وجود التجربة أو الحواس، ذلك ان عقل الانسان يولد صفحة بيضاء ولا وجود للفطرة، وبالتالي الحواس والتجربة هما المعيار الأساسي لان العقل وحده عاجز، فالأفكار تأتي من التجربة من خلال الحواس والأفكار الناتجة عنها، وذلك بدمج التشابهات التي نحصل عليها من الأفكار الناشئة عن حواسنا ومشاعرنا وأحاسيسنا. 2- عجز التجربة أيضاً عن كشف أو ادراك ماهية العلاقة السببية وحدها (مثال: رؤيتنا للبرق ثم سماعنا للرعد فالأمر هنا مشاهده للبرق وسماع للرعد دون ادراك السبب الرئيسي أو القوة الدافعة لهذا المشهد، إذ لا يوجد لدينا دليل حسي أو تجريبي لهذه العملية (البرق والرد) فكل ما شاهدناه أو سمعناه هو ملاحظة تزامن أو تعاقب الاحداث دون اكتشاف حقيقة الظاهره بصورة علمية .. وكل هذه الاستنتاجات دفعت هيوم إلى تأكيد موقفه بأن العقل صفحة بيضاء ولا وجود أبداً للفطرة. وعلى هذا، فإن " فلسفة هيوم تُعَدُّ تطوراً في النزعة الإنسانية في الفلسفة، إذ ركز على جانب آخر في الطبيعة الإنسانية غير الفكر، وهو الجانب الانفعالي، وركز على دور الإحساس والإدراك الحسي في المعرفة، وأقام أول مذهب فلسفي على أساس نظرية سيكولوجية في الانفعالات، وذهب إلى أن علم النفس البشرية هو الفلسفة الحقة وهو أساس علوم الأخلاق والسياسة"([8]). في هذا الجانب، يقول المفكر الراحل صادق العظم "كان شك هيوم في معظمه هادفاً ودقيقاً في مراميه، على عكس ما هو شائع عنه، إذا راجعنا بسرعة بعض أهم الموضوعات التي صب عليها شكوكه، نجد أنها تتلخص بالتالي: 1. فكرة الجوهر الثابت والكامن وراء الأعراض والأحوال الخ. 2. خلود النفس. 3. الجوهر الروحي الأول، أي الله. 4. المعجزات. 5. السببية بمعناها التقليدي. 6. الميتافيزيقا بكل صورها وأشكالها. لنلاحظ الآن –كما يضيف د. العظم- "أن جميع هذه الموضوعات هي من مخلفات الفكر الفلسفي الوسيط، وان هيوم عمل على تصفية الفكر الفلسفي الحديث منها نهائياً مستخدماً أداة غير غريبة أبداً على الفلسفة الحديثة، أي الشك، ويضيف العظم قائلاً: "عندما ارجع إلى فلسفة هيوم في سياقها التاريخي أجد أن شكه لم يكن عشوائياً أو عاماً طاماً، كما توحي الصورة التقليدية عنه، بل موجهاً ، بصورة رئيسية، إلى إنجاز مهمة تطهير الفكر الفلسفي من كل هذا المتاع المتخلف ودفعه إلى مستوى علوم العصر: لاحظ، مثلاً، أن قائمة الرذائل والقبائح في فلسفته الأخلاقية مستمدة كلها تقريباً من فضائل النساك ورجال الدين عموماً وعلى رأسها: التبتل، الصيام، التكفير، إنكار الذات، قهر الجسد، التواضع، الصمت ، العزلة، التوحد إلخ"([9]). ويستطرد العظم بقوله: "في الواقع، يبدو لي ان هيوم أنجز مهمة في الفكر الفلسفي شبيهة بتلك التي أنجزها صديقه آدم سميث في الفكر الاقتصادي الحديث، حيث أن سميث هو الذي قضى على مخلفات الفكر الاقطاعي والوسيط في الاقتصاد السياسي الناشيء، كما أن أبلغ مقياس على النجاح الذي أصابه هيوم هو شهادة كنط المشهورة في التأثير الذي مارسته كتابات هيوم عليه وعلى تطوره الفلسفي اللاحق، وفي المقابل فإن شك ديكارت هدم الكثير مما لم يعد قابلاً للحياة والاستمرار في عصره والذي شرع شك ديكارت بهدمه لا يختلف كثيراً عما أراد هيوم تصفيته بواسطة الشك أيضاً، بمعنى مُعيَّن أتم هيوم ما كان قد بدأه ديكارت ودفعه إلى نتائجه المنطقية، هذا هو المنحى التاريخي العام لشك هيوم، أما التفاصيل والمبالغات والشطط هنا وهناك فليست بذات اهمية كبيرة ولا تؤثر على مكانته كفيلسوف حقيقي"([10]). وفي 1751 ألف "هيوم" "حوارات في الدين الطبيعي"، وهو –كما يقول ديورانت- "أشد ما أخرج مزاجه المعرفي ضد المقدسات، فهو يؤكد في كتابه هذا أن العقل لا يمكن أبدا أن يفسر العالم أو يثبت وجود الله، فأى امتياز خاص تمتاز به حركة الدماغ الصغيرة هذه التي نسميها الفكر، حتى يتحتم علينا أن نجعلها نموذجاً للكون كله؟ يقول: "يخيل للمرء أن هذا الإنتاج الفخم (الطبيعة والإنسان) لم يتلق آخر اللمسات من خالقه، فكل جزء فيه ناقص الصقل جدا، والخطوط التي نفذ بها غاية في الخشونة، فالرياح مثلاً تساعد الناس على الملاحة، ولكن ما أكثر ما تصبح مؤذية حين تنقلب زوابع وأعاصير؛ والأمطار ضرورية لتغذية جميع نباتات الأرض وحيواناتها، ولكن ما أكثر ما تكون شحيحة وما أكثر ما تكون مسرفة!.. ليس في الكون شيء كثير النفع إلا انقلب المرة بعد المرة مؤذيا لإفراطه أو قصوره، ثم إن الطبيعة لم تتخذ حيطتها بالدقة المطلوبة من جميع ألوان الخلل أو الفوضى"، وأسوأ من هذا أن الأمر لا يقتصر على وجود الخلل وسط النظام (إذا نظرنا إلى العالم على أنه مخطط)، بل إن في وسط الحياة الزاخرة صراعاً عقيماً على الدوام مع الموت"([11]). هيوم والنزعة الرجعية في رؤيته السياسية: اتجه هيوم في أخريات عمره أكثر فأكثر إلى السياسة والتاريخ، بعد أن أعياه الجدل، حول مسائل يقررها الوجدان – في رأيه- أكثر مما يقررها العقل، ففي 1752 نشر "أحاديث سياسية"، وقد أدهشه إقبال القراء عليها، وأبهج إنجلترا أن تنسى نزعة لاهوته المدمرة في النزعة المحافظة لسياسته، كان يتعاطف بعض الشيء مع التطلعات إلى مساواة شيوعية، لكنه رفض الشيوعية والديمقراطية: يقول "لابد في الحق من الاعتراف بأن الطبيعة سَخَتْ على الإنسان سخاءً يتيح لكل فرد أن يتمتع بجميع ضروريات الحياة، بل أكثر كمالياتها، لو أن عطاياها كلها قُسِّمَتْ بالقسط بين الأنواع، وَحُسَنتْ بالفن والصناعة، .. كذلك لابد من الاعتراف بأننا أينما خرجنا على هذه المساواة سلبنا من الفقراء رضى أكثر مما نضيف إلى الأغنياء، وبأن الإشباع الطفيف لغرور طائش في فرد واحد، كثيراً ما كَلَّفَ أكثر مما يكلفه الخبز لكثير من الأسر بل الأقاليم"، ولكنه أحس أن الطبيعة البشرية تجعل حلم المدينة الفاضلة التي تسودها المساواة ضرباً من المحال: يقول هيوم: "إن المؤرخين ينبئوننا، لا بل الفطرة السليمة تنبئنا، بأن هذه الأفكار عن المساواة "التامة" مهما بدت قَيِّمَة إلا أنها في صميمها "غير ممكنة عملياً" وإلا لألحقت أشد الأذى بالمجتمع الإنساني، فلو أنك سويت تسوية تامة بين الملكيات، لحطمت درجات الناس ومراتبهم المختلفة"([12]). لقد "نالت الديمقراطية من هيوم، كما نالت الشيوعية، رفضه المتعاطف، فالمبدأ في رأيه "مبدأ.. نبيل في ذاته.. ولكن تكذبه كل التجارب، أن الناس هم الأصل في كل ضروب الحكم العادل، ورفض النظرية (التي سيحييها روسو بعد قليل) القائلة بأن الحكومة نشأت أصلاً من "تعاقد اجتماعي" بين الناس، أو بين الشعب والحاكم، لأنها نظرية صبيانية: "فكل الحكومات الموجودة الآن تقريباً، أو التي خَلَّفَتْ لنا أي سجل في التاريخ، أُسست أصلاً إما على الاغتصاب، أو على الغزو، أو عليهما جميعاً، دون أن تزعم بأنها حظيت بموافقة الشعب، أو بخضوع الاختياري"([13]). وأغلب الظن –كما يضيف هيوم- "أن أول سيطرة الإنسان على الجماهير بدأت في حالة الحرب.. وكان من أثر استمرار تلك الحالة طويلاً.. وهو أمر مألوف لدى القبائل المتوحشة، أن الشعب تَعَودَّ الخضوع"، وهكذا أصبحت المَلَكِية أكثر أشكال الحكم انتشاراً، ودواماً، وإذن فأكثرها عملية على الأرجح. يقول "إن الأمير الوراثي، والنبلاء دون أتباعهم، والشعب الذي يصوت بواسطة ممثليه، يؤلفون خير ملكية وأرستقراطية، وديمقراطية". "فالطموح والجشع ومحبة الذات والغرور والصداقة والكرم وروح الجماعة – هذه العواطف، المختلطة بدرجات متفاوته، والموزعة بين أفراد المجتمع، كانت منذ أن وجدت الدنيا وما زالت مصدر جميع الأفعال والمشروعات التي لوحظت بين بنى البشر"([14]). تصور هيوم لأصل الدين: اعتبر هيوم الدين صناعة بشرية خالصه، أهم أسبابها -كما يقول يوسف حسين- " خوف الانسان البدائي من كل ما يحيط به، وتحت تأثير هذا الخوف عبد الانسان ظواهر الطبيعة.. إلخ فكان لكل ظاهره إله .. للشمس إله والمطر والرعد والنار والحيوانات والنجوم.. إلخ هكذا ظهرت الآلهة .. وظهر الدين – بعد مرحلة طويلة من الزمن حينما اعتقد الانسان- كما يقول هيوم- انه لابد من وجود رأس لهذه الآلهة كلها، وبالتالي تطور مفهوم الإله الواحد وصولاً إلى الديانات التوحيدية المعروفة. ومع وصول العلم والتطور البشري، ثَبَتَ لهيوم ان الدين هو مجرد صناعة بشرية، وينتهي هيوم إلى القول بأن هناك ما يُثبتْ رأيه، يتلخص في حجم الشرور الهائل الموجود قياساً بضعف الخير، حيث لا يجوز–كما يقول هيوم- الحديث عن العدالة الالهية في مثل هذه الأوضاع البشرية التي يغيب فيها الخير والعدل.. ما يعني أن اللاعدل الموجود يلغي وجود إله عادل أو إله على الاطلاق، لكن المجتمعات الجاهلة تفسر كل ما يجري فيها من أحداث في الطبيعة أو انتشار الافقار أو الاستبداد في المجتمع يعود إلى القضاء والقدر أو إلى الخالق وإرادته، يبدو أن الايمان بالله عند هيوم – كما يقول يوسف حسين- مرتبط بعلاقة طرديه مع الجهل والتخلف([15]). الخلاصة: ان نفي هيوم او شكوكه حول العلاقة الضرورية بين الاحداث، أدى إلى نفي العلة الأولى للكون، وأخرج الفلسفة من الميتافيزيقا نهائياً، وهكذا مثلت فلسفة هيوم نقطة تحول هامة في مسار العلمنة وتحرير العقل من سلطة الدين. إتهامه بالزندقه: في "1755 بدأت حركة يقودها بعض رجال الدين الأسكتلنديين لاتهام هيوم أمام مجمع الكنيسة العام بتهمة الزندقة، وكان "التنوير الأسكتلندي قد أنجب حركة متحررة بين شباب القساوسة، فاستطاعوا أن يحولوا دون أي إدانة علنية للفيلسوف – المؤرخ؛ ولكن هجمات الكنيسة اتصلت ضده، ولدغته لدغات جعلته يعود إلى التفكير في الفرار إلى فرنسا، وكان منذ أمد بعيد معجباً بالفكر الفرنسي، وقد تأثر بالرعيل الأول من كتاب "التنوير" الفرنسي، وراَسلَ مونتسكيو وفولتير"([16]). وفي أغسطس 1769، حين بلغ الثانية والخمسين، عاد نهائياً إلى أدنبره، وقد غدا الآن "غنياً جداً صحيح البدن (لأنني -كما قال- كنت أملك دخلاً قدره ألف جنيه في العام)، أتوقع – رغم أنى طعنت في السن بعض الشيء- أن أستمتع طويلاً بالراحة، وأن ارى شهرتي في اتساع"، وأصبح بيته صالوناً يجتمع فيه من حوله آدم سمث ووليم روبرتسن وغيرهما من مشاهير الأسكتلنديين كأنه مَلِكَهم المعترف به، ولم يحبوه لرجاحة ذهنه فحسب، فقد رأوا أنه رغم استدلالاته العقلية المُحَطِّمة للمقدسات، معتدل في الجدل، متسامح مع الآراء المعارضة، لا يسمح للخلاف في الأفكار بالانتقاص من حرارة صداقاته. يقول ديورانت: "لقد كان هو وحده "التنوير" للجزر البريطانية، ونحن إذا استثنينا مجال الرؤية السياسية، وجدنا أن أثر هيوم أساساً كان في بريطانيا معادلا لأثر نيف وعشرة فلاسفة في فرنسا "([17]). توفي في عام 1776، وفي ساعاته الأخيرة – وهو يعاني من مرضه الشديد- سألوه هل تؤمن بالحياة الأخرة فقال: "ان الخلود هو نوع من الوَهَمْ غير المعقول أبداً، وأن فكرة الآخرة أو الحياة الأخرى هي فكرة كئيبة".. أوصى أخته أن لا يحضر أو يشارك أحد من أصدقائه المتدينين أو رجال الدين في تشييع جنازته ودفنه، ومات ديفيد هيوم في هدوء، "بغير ألم كثير" (كما قال طبيبه) في 27 أغسطس 1776، ومشى في جنازته جمع غفير برغم هطول المطر الغزير، وسمع صوت يقول "كان كافراً"، وأجاب صوت آخر "لا يهم، فلقد كان رجلاً أميناً"([18]).
([1]) يوسف حسين – محاضرة في اليوتيوب – الانترنت. ([2]) المرجع نفسه . ([3])ول ديورانت – مرجع سبق ذكره – قصة الحضارة "عصر فولتير"– المجلد الثامن عشر (35/36) -ص 205 ([4]) المرجع نفسه –ص 208 ([5]) يوسف حسين – محاضرة في اليوتيوب – الانترنت. ([6]) المرجع نفسه . ([7]) المرجع نفسه. ([8]) اشرف حسن منصور – الفلسفة الحديثة: عوامل نشأتها وخصائصها العامة – الحوار المتمدن – العدد 3213 – 12/12/2010. ([9]) د. صادق جلال العظم – دفاعاً عن المادية والتاريخ – دار الفكر الجديد – بيروت – الطبعة الأولى 1990 –ص 63 ([10]) المرجع نفسه - –ص 63 ([11]) ول ديورانت – مرجع سبق ذكره – قصة الحضارة "عصر فولتير" – المجلد الثامن عشر -ص 215 ([12]) المرجع نفسه –ص 219 / 220 ([13]) المرجع نفسه –ص 220 ([14]) المرجع نفسه –ص 221 ([15])يوسف حسين – محاضرة في اليوتيوب – الانترنت. ([16])ول ديورانت – مرجع سبق ذكره – قصة الحضارة "عصر فولتير" – المجلد الثامن عشر -ص 227 ([17]) المرجع نفسه –ص 229 ([18]) المرجع نفسه –ص 231
#غازي_الصوراني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
فرانسوا فولتير ( 1694م. – 1778م. )
-
شارل مونتسكيو ( 1689م. – 1755م. )
-
جورج بركلي (1685 – 1753)
-
عصر الحداثة
-
عصر التنوير – العقل والتقدم
-
جوتفريد فيلهلم لايبنتز ( 1646م. – 1716م. )
-
اسحاق نيوتن (1642 – 1727)
-
جون لوك ( 1632م. – 1704م. ).. عصر التنوير والمساواة
-
كتاب : عواصف الحرب وعواصف السلام [1]
-
باروخ سبينوزا([1]) (1632م. – 1677م. )
-
بليز باسكال (1623 - 1662)([1])
-
رينيه ديكارت ( 1596 م. _ 1650 م. )
-
كتاب :الأسطورة والإمبراطورية والدولة اليهودية
-
توماس هوبز (1588 – 1679 )
-
المسألة اليهودية والصراع العربي الصهيوني
-
كلام في السياسة
-
جاليليو ( 1564 م. _ 1642 م. )
-
عن انتشار الاسلام السياسي و دور جماعة الاخوان المسلمين......
-
فرنسيس بيكون ( 1561 م _ 1626 م )
-
ليوناردو دافنشي ( 1452 م. - 1519 م.)
المزيد.....
-
-عيد الدني-.. فيروز تبلغ عامها الـ90
-
خبيرة في لغة الجسد تكشف حقيقة علاقة ترامب وماسك
-
الكوفية الفلسطينية: حكاية رمز، وتاريخ شعب
-
71 قتيلا -موالين لإيران- بقصف على تدمر السورية نُسب لإسرائيل
...
-
20 ألف كيلومتر بالدراجة يقطعها الألماني إفريتس من أجل المناخ
...
-
الدفاع الروسية تعلن تحرير بلدة جديدة في دونيتسك والقضاء على
...
-
الكرملين يعلق على تصريح البنتاغون حول تبادل الضربات النووية
...
-
روسيا.. اكتشاف جينات في فول الصويا يتم تنشيطها لتقليل خسائر
...
-
هيئة بريطانية: حادث على بعد 74 ميلا جنوب غربي عدن
-
عشرات القتلى والجرحى بينهم أطفال في قصف إسرائيلي على قطاع غز
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|