|
#عليُ_الوردي مثقّفٌ نقدي
عبدالجبار الرفاعي
الحوار المتمدن-العدد: 6752 - 2020 / 12 / 5 - 11:23
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
عليُ الوردي مثقّفٌ نقدي
عبدالجبار الرفاعي على الرغم من أن النقدَ الاجتماعي احتلَّ مساحةً واسعة في كتابات #علي_الوردي، لكن كثافة حضور الظواهر الدينية والطقوس والشعائر في المجتمع العراقي دعته لأن يهتم بها في كتاباته. لم يتجاهل الوردي نقدَ تعبيرات الدين المتنوعة، وتحليلَ آثارِه الاجتماعية والنفسية والثقافية والاقتصادية والسياسية، ومختلفِ تعبيراته في العلاقات داخل العائلة والمحلّة والعشيرة والمجتمع. في ضوء التمييز بين المثقّف النقدي والمثقّف العضوي يمكن وضعُ كتابات الوردي في سياق العقلانية النقدية المشغولة باكتشافِ العالَم أولًا، اكتشافِه خارج أسوار الأيديولوجيا المغلقة على نفسها. أكثرُ مواقف المثقّف النقدي معرفيةٌ، وأكثرُ مواقف المثقّف العضوي معياريةٌ. الموقفُ المعرفي غيرُ الموقف المعياري. الموقفُ المعرفي مهمتُه الأساسية تفسير وإيضاح وفهم ظاهرة معينة، ومحاولة اكتشافها كما هي، بحدود ما يصل إليه العقلُ وما تكتشفه العلومُ والمعارفُ البشرية. مهمةُ الموقفِ المعياري هي تحديدُ موقفٍ بالقبول أو الرفض حيالَ ظاهرة، تفرضه عقيدة أو أيديولوجيا في سياق نمط رؤيتها للعالَم ووعيها للواقع. الموقفُ المعرفي يعبّر عن الحقيقة من حيث هي بوصفها حقيقة، أما الموقف المعياري فيعبّر عن الموقف المطلوب أن يُتخَذ من الواقع. المثقّفُ العضوي مثقّفٌ مهموم بتغيير العالَم، واتخاذ موقف من الواقع، غالبًا يتخذ الموقف قبل اكتشاف الواقع، وتحليل نسيج المصالح المتضادة والعناصر المعقدة المكونة له. يثق هذا المثقّفُ بالمعتقدات التي يعتنقها، من دون مراجعة نقدية وتبصر وتأمل، ويعمل على أن يكون الكلُّ كما هو، إن اقتنع بفكرة أو شعار يريد الكلَّ يردده معه. يتزمت تجاه أية معتقدات مغايرة، ولا يقبل من الغير إلا أن يكون نسخةَ مكررة له. مفهومُ المثقّفُ العضوي يتناغم والأيديولوجيات النضالية خاصّة اليسارية، التي اختزلت مفهومَ المثقّف، فأصبح مبشرًا وواعظًا، في إطار منظور أيديولوجي للعالم، يعكس موقفًا طبقيًا نضاليًا، يعبّر عن هموم طبقة معينة. وظيفة المثقّف وفقًا لهذا المفهوم هي وظيفةُ المبشِّر في الأديان، ليس مهمًا لديه اتخاذُ العقل مرجعية، والتفكير العلمي منطلقًا لمواقفه وأحكامه. رسالتُه في الحياة تتلخص في أن يكون صوتًا يصرخ بشعارات أبدية في إطار الموقف الذي تفرضه الأيديولوجيا التي يعتنقها. هذا المثقّف مسكونٌ بالتبشير بالأيديولوجيا، لا يرى سواها، بوصفها وصفةَ خلاص لكلِّ عذاب الإنسان وشقائه في الأرض. وفقًا لمعتقده يمكن أن تصيّر هذه الأيديولوجيا كلَّ ظلامٍ نورًا، وكلَّ ظلمٍ عدلًا، وكلَّ بؤسٍ سعادةً. لا ينظر لما تتضمنه هذه الأيديولوجيا من رفضٍ لكلِّ رؤيةٍ مختلفة للعالَم، وفهمٍ مغاير للواقع المعقد وكيفية تغييره، وانتهاكٍ للحريات والحقوق الشخصية، وعنفٍ دموي لحظةَ الاستحواذ على السلطة. لفرط شغفه بالتغيير يمارس أحيانًا هذا المثقفُ مهمةَ مفتّش العقائد والقاضي. ظهر في القرن العشرين هذا النوعُ بين أكثر مثقفي الثورة البلشفية في روسيا، والثورة الثقافية في الصين، وكثير من مثقفي اليسار الثوري في العالَم العربي، الذين انحازوا لأنظمةٍ شمولية، أسكتت كلَّ صوتٍ لا يكون صدىً لشعاراتها، وأباحت لنفسها ارتكابَ مجازر شنيعة، بذريعة القضاء على مناهضي الثورة من الرجعيين. تواطأ بعضُ المثقفين مع أنظمة يسارية أممية وقومية، ضحّت بالكائن البشري من أجل أيديولوجيا لا ترى الفردَ إلا بوصفه جزءًا منصهرًا في ماكنة عملاقة هي الدولة. هذه الأنظمة أهدرت الكرامةَ البشرية، وصادرت أبسطَ حريات الإنسان، واستباحت حقوقَه. مؤسّسُ النظام الشيوعي في الصين ماو تسي تونغ قتل الملايين، زمنَ السلم لا الحرب في ثورته الثقافية. جوزيف ستالين قتل الملايين أيضًا. الجنرال بول بوت قتل ربعَ شعبه عندما استولت حركةُ الخمير الحُمر التي يقودها على السلطة في كمبوديا. لم تكن ممارساتُ الأنظمة الثورية اليسارية والقومية والأصولية في بلادنا أرحمَ، ولا أقلَّ استبدادًا وعنفًا من ذلك التوحش، بعد استحواذها على السلطة، واتخاذ المواطنين رهائن. المثقّف ليس قاضيًا أو مفتّش عقائد، المثقّف ليس مبشرًا ولا واعظًا. مهمةُ المثقّف الفهمُ والتحليلُ والنقدُ والتمحيصُ، باعتماد العقل المتحرِّر من كلِّ إطارٍ أيديولوجي. المثقّف ينشغل بتفسير العالَم واكتشاف الواقع المركب. لا تحجّر على عقله وتستلب وعيَه الأيديولوجياتُ مهما كانت شعاراتُها عاطفيةً عاصفة. يتحرّر المثقّفُ من رؤية العالَم بمنظور أُحادي، ويجرؤ على النقد والاحتجاج والإدانة، إنه مثقفٌ تشغله الأسئلةُ قبل الأجوبة، مثقفٌ يتغلّب على سجون المجتمع، فيعمل على مسائلةِ الوثوقيات، وزعزعةِ القناعات الراسخة، وتمحيصِ الموروث وغربلته، واختبارِ ما تعلنه المعتقداتُ من شعارات تدّعي إسعادَ الناس، واختبار مصداقية الشعارات في ضوء تحققها في الواقع، والقدرة على تجسيدها في أفعال وسلوك ومواقف عملية ترعى الناس وتهتمّ باحتياجاتهم. حاول علي الوردي أن يقدّم نفسَه نموذجًا لمثقف لم يعرفه المجتمعُ العراقي من قبل، هو "المثقّف النقدي"، مثقفٌ يفكر ويتحدث خارج أكثر القيم السائدة، والأيديولوجيات السياسية المغلقة، ورومانسيات المثقفين الشائعة. مثقّفٌ يتسائل ويفحص ويشكّك في التابوات المعروفة، يدرس تجلياتِ الدين المتنوعة وتعبيراتِه المختلفة في المجتمع العراقي، مثقفٌ تنعكس في كتاباته عقلانيةٌ نقدية، تعتمد علومَ الإنسان والمجتمع الحديثة في تفسير الظواهر الاجتماعية، وتحاول اكتشافَ شيءٍ من العوامل الخفية لها، في ضوء تخصّصه في علم الاجتماع . سبق الوردي وعاصره مثقفون عراقيون كانوا يتساءلون ويفحصون ويغوصون في طبقات التراث، وينقدون كثيرًا من الظواهر الدينية السائدة، وتابوات المجتمع المعروفة، أمثال: جميل صدقي الزهاوي، ومعروف الرصافي، وعلي الشرقي، وجعفر الخليلي، وغيرهم. علي الوردي تميّز عن الكلِّ بدراسته ونقده وتحليله العلمي للظواهر الدينية في المجتمع من منظور علوم الإنسان والمجتمع الحديثة، استطاع بذكاءٍ الإفادةَ من تخصّصه في علم الاجتماع. لم يدخل علي الوردي في معركة مع الله، ولم يتنكّر لحاجة الإنسان للدين، لكنه دخل في معركةٍ مع الصور التي يرسمها "وعّاظ السلاطين" لله، وتنكّرَ لمفاهيم دينية متحجّرة، ورفض فلكلورًا مبتذلًا يتلبس بأقنعةَ الدين، وفضح تمثلاتٍ مجتمعية للدين تهدر مضمونَه الروحاني والأخلاقي والجمالي، وكشف أنماطَ تدينٍ تنتهي إلى تدجين الكائن البشري على الخضوع والانقياد بلا تعقل، فتجل هذا الكائن يعيش صراعًا بين متطلبات طبيعته البشرية، وما تفرضه عليه عملية التدجين، فتصاب شخصيتُه بازدواجية، وفي بعض الحالات تصاب بشيزوفرينا مرضية. الحديثُ عن "المثقّف العضوي" و"المثقّف النقدي" غيرُ حاضر في أعمال الوردي، غير أنه أشار إلى مضمونهما بوضوح في كتاباته، في سياق تمييزِه بين وظيفة الباحث ووظيفة الداعية، وكشفِه عن الاختلاف والبون الشاسع بينهما، فهو يقول مثلًا: "ينبغي أن نميّزَ بينَ وظيفةِ الداعيةِ ووظيفةِ الباحثِ في الحياةِ ، فالداعيةُ هوَ الذي يتمسكُ بعقيدةٍ من العقائدِ - دينيةً أو سياسيةٍ – ويدعو الناسَ إليها، ولذا فهو مضطرٌ أن ينظرَ في أحداثِ التاريخِ نظرةً تقييميةً، حسبَ معيارِ العقيدةِ التي يدعو إليها. أما الباحث فالمفروض فيه أن يدرسَ أحداثَ التاريخِ، دون أن تكونَ لهُ أي فكرةٍ مسبقةٍ تحددُ موقفه منها، وإذا كانت لديهِ مثل هذهِ الفكرة تحول من كونهِ باحثًا إلى كونه داعيةً" .
#عبدالجبار_الرفاعي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
#علي_الوردي_ناقدًا_لأفكاره
-
سلطة الفصاحة والنحو: إضافات وتوضيحات على المقالة السابقة
-
سلطة الفصاحة والنحو
-
علي الوردي يرفض التفكير الوثوقي
-
نسبية #الأخلاق_عند_علي_الوردي
-
مطالعة علي الوردي وسيد قطب
-
#الحُبُّ بوصفه علاجًا
-
الترويض على الطاعة العمياء في #الاستبداد
-
تشكّلَ مفهوم #الفرد يجهضُه #الاستبدادُ
-
تشكّلُ مفهوم الفرد وحقُّ الاعترافِ بالخطأ
-
تشكّلُ مفهوم الفرد والحقُّ في الخطأ
-
تشكّلُ مفهوم الفرد والحقُ في الاختلاف
-
الاستملاك الرمزي للهلال
-
الثناءُ على الجيلِ الجديدِ
-
جودت القزويني الحلقةُ الخاتمة في فنٍّ يوشك على الغروب
-
الكتابة فن الحذف والاختزال
-
#محمد_عمارة في محطاته الاعتقادية
-
محمد إقبال والمفارقات في فكره بوصفها مثالًا للمفارقات في الف
...
-
مدرستا الإسلام الهندي: إسلام تعدّدي وإسلام أُحادي
-
الأشاعرة الجدد و#علم_الكلام_الجديد
المزيد.....
-
القوى الوطنية والاسلامية في طوباس تعلن غدا الخميس اضرابا شام
...
-
البابا فرنسيس يكتب عن العراق: من المستحيل تخيله بلا مسيحيين
...
-
حركة الجهاد الاسلامي: ندين المجزرة الوحشية التي ارتكبها العد
...
-
البوندستاغ يوافق على طلب المعارضة المسيحية حول تشديد سياسة ا
...
-
تردد قناة طيور الجنة على القمر الصناعي 2024 لضحك الأطفال
-
شولتس يحذر من ائتلاف حكومي بين التحالف المسيحي وحزب -البديل-
...
-
أبو عبيدة: الإفراج عن المحتجزة أربال يهود غدا
-
مكتب نتنياهو يعلن أسماء رهائن سيُطلق سراحهم من غزة الخميس..
...
-
ابو عبيدة: قررت القسام الافراج غدا عن الاسرى اربيل يهود وبير
...
-
المجلس المركزي لليهود في ألمانيا يوجه رسالة تحذير إلى 103 من
...
المزيد.....
-
السلطة والاستغلال السياسى للدين
/ سعيد العليمى
-
نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية
/ د. لبيب سلطان
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
المزيد.....
|