|
جشع المستعطي
ماجد ع محمد
الحوار المتمدن-العدد: 6751 - 2020 / 12 / 3 - 22:17
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
أن يكون لدى بعضنا رغبة حقيقية في رفد الغير بما تيسّر من الغيث لإرواء ولو شتلة واحدة في زمن الفاقة التي يعاني منها الكثير من أبناء البلد، هو لا شك أمر جدير بالتقدير الضمني حتى ولو لم يُثني الواحد منا على خطوة الفاعل بشكل علني، وبخصوص هذه الخصلة بتصوري ينبغي ذكر فعل المبادِر في المجالس العامة ليس من باب الترويج له كشخص أو جهة، إنما من باب المساهمة في نشر ثقافة الإيثار والعطاء، ذلك حتى ولو لم يكن ناشر أنباء أهل الجودِ لديه القدرة على الاقتداء بالخيرين الذين ينقل أخبارهم. ومع أهمية وضرورة ثقافة الرفد في الحياة الاجتماعية، وخاصة في هذه الظروف العصيبة التي يمر بها الأهالي في أغلب المناطق السورية، إلاّ أننا حيال هذه المسألة وتبعاتها ما نزال نستحضر كل فترة قول الشاعر أبو نواس: "لا تُعطِيَنَّ الصّبيَّ واحدة ً، يَطلُبُ أُخْرَى بأعنَفِ الطَّلَبِ" وذلك بسبب المطبات التي يتعرض لها بعض أهل الرفد سواء مِن قِبل الرُّسل أو من قِبل الممنوحين أنفسهم، علماً أن هذا البيت يذكرنا مباشرةً بحالتين هما: حالة المصاب بالجشع في العلاقة مع الأنثى، الذي إن تكرمت عليه المرأة أو الفتاة يوماً بقبلة أو بضمةٍ ما، فسرعان ما يغدو المذكور أشبه بذبابةٍ حائمة ليل نهار حول قطعة الحلوى، فلا يفارقها ما بقيت الحلوى، وقد لا يكف عن ملاحقة الأنثى التي ربما بسببه أو بسبب أمثاله تكره نفسها، وربما تمقت من ورائه كل الذكور من خلال ذلك النموذج اللجوج اللزج كالصماغ أو الشبيه بالمواد المنفرة من فرط دبقها، والحالة الثانية هي حالة ذلك الولد المتسوّل الذي تعطيه شيء حباً بالطفولة أو رأفةً بواقع أهله المزري، إلاّ أنه قد يدمن بعدها على العطايا فلا يكف عن طلباته بعد ذلك، والأمر نفسه ينسحب بتمامه على الكثير من البالغين أيضاً، لذا نشدّد على أن الاحتفاء بالمُعطي لا يعني البتة بأن يتحول المرءُ من فرط الاتكال والجشعِ إلى كائن مستعطي. عموماً فالمراد من القول هو أن بعض الأخوة قد يحرمون أنفسهم من القليل أو الكثير من الملذات الحياتية ونتيجة لتلك الحرمانية يشعرون بأنه غدا بمقدورهم مؤازرة قريبٍ لهم أو صديقٍ ما بما زاد عنهم، أو مما وفروه أو استقطعوه من بعض حاجياتهم اليومية، إلا أن هذا الأخير وبدلاً من التقدير الجم للواهب قد يأخذه التفكير بعيداً جداً، فيتصور بأن الرجل لديه فائض من المال، وفي دخيلة نفسه قد يرى بأنه لا بأس في التعكز عليه إلى أجلٍ غير مسمى، وفي هذا السياق بودي إيراد حادثة حقيقية لتقريبها من الأذهان أكثر، وهي أن أحد معارفي في إحدى المرات ـ قبيل لجوئه إلى أوروبا بحوالي 13 سنة ـ أهدى أحد جيرانه في مدينة حلب قارورتين كبيرتين من زيت الزيتون على دفعتين، ولكن المصيبة أن الرجل الجار لم يعي بأن ما تم وهبه إياه هو بمثابة هدية، والمهدي غير مجبر أصلاً على إعادة ما قام به من تلقاء ذاته، وبالتالي توصل الممنوحِ للإدراك أو القناعة بأن المهدي ليس مطالب بأن يكرر ذلك الفعل معه كل مرة، ولكن بدلاً من الإدراك المطلوب دب فيه الطمع ولم يقدّر الظرف، ولا فكّر بأن يتعلم المبادرة منه ليفعلها هو الآخر مع غيره من بني البشر، إنما غدا كالمستجدي اللجوج الذي قد تندم في بعض الأحيان على النظر إليه بعين الرأفة، لأنه يستغل تلك الطيبة ويساهم في تجفيف منهل الإحسان بدلاً من تدفقه، حيث راح الجارُ يطالبه بالزيت كل ما أحس بأن الرجل سيزور المنطقة، لظنه ربما بأن لديه معصرة زيتون أو أنه يمتلك آلاف الأشجار! وثمة مثال آخر يستدعي الأسف مثله وهو أن أحد الأنفار سمع بأن أحد معارفه كل بضعة أشهر يجود بشذراتٍ من كرمه لثلاثة معدمين من أبناء بلدته ومن بين المعدمين أخت الذي تناهى إلى مسامعه خبر التبرع، لذا وبدون أي حياء راح يطالب المُعطي بالمزيد من أفعال الخير، وأن لا ينسى أخته كلما نوى القيام بذلك الفعل! ناسياً بأن مساعدة اخته ينبغي أن تكون جزء رئيسي من مسؤوليته هو وليس من مسؤولية صاحب الرفد، باعتبار أن وضعه الاقتصادي أفضل عدة مرات من وضع فاعل الخير نفسه! وبتصورنا أن هكذا بشر يجعلون البعض يخاف حتى من التفكير بمساعدة غيره، أولاً لعدم تقدير ظرف الآخرين على ما يصنعون، وثانياً لأنهم قد يمارسون كل تطفلهم على المانِح. على كل حال بما أن حالتنا مع الأمراض الاحتماعية لا تختلف كثيراً عن حالة الآخرين الذين أصيبوا بنفس الأسقام السوسيولوجية قبلنا بعقودٍ أو قرون، لذا عندما نصادف في تراثهم ما نعايشه اليوم، يدفعنا ذلك إلى الشعور بضآلة الذات بسبب تأخرنا الزمني عنهم، خصوصاً وأن داؤنا الراهن يماثل تماماً ما وجدناه مرمياً في قاع كشكول أناسٍ غادروا هذا العالم قبل قرون، ومنه على سبيل الذكر الرأي السديد لسيدة ثرية كانت تعيش في زمن الملك لويس الرابع عشر، إذ أن تلك السيدة قد أحبت في وقتها أن تساعد الفقراء بمالها، كما يفعل اليوم بعض المغتربين مع بعض أقرانهم المحتاجين؛ إلاّ أن الطمع الزائد لأولئك الفقراء دفع بتلك المرأة لأن تقول هذه الحكمة المأثورة: "طبيعة الإنسان وجشعه تجعلانه يحلم بالرخاء، بينما تعوزه الضروريات". وفي ختام هذه الوقفة الاجتماعية نتمنى ممن يجد مَن يغدق عليه بفيض كرمه بأن يحصر حاجته إليه في مدار الأساسيات وليس الشكليات والكماليات، لأنه من المعيب لمن يتلقف مالاً من أحدهم لكي يقضي به أهم وأبدى حاجياته الأولية،بينما وبدلاً من تأمين تلك الأساسيات يشتري بالمبلغ الممنوح له شيء فائض عن حاجاته الملحة، كأن يذهب بالمنحة مثلاً لابتياع أحدث تلفون آيفون، أو يصرف تلك المُنح المالية في الملاهي العامة أو المطاعم أو أماكن اللهو الليلي.
#ماجد_ع_محمد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حلبة الحياة
-
العودة إلى السفينة
-
قراءة في ديوان الشاعر إدريس سالم -جحيم حي-
-
بين زيتون فلسطين وعفرين
-
مئتا مُصحَف
-
لن يمر
-
إيكولوجي يجهل البيئة
-
ضرعُ الكراهية
-
الأهل بين الوهمِ والخيبة
-
من جعبة المفارقات
-
إمام العواهر
-
فضيلة الأحزاب الكردية على علاتها
-
محاربة الشيء شوقاً لمحاكاته
-
الأنستغرام بين المزايا والمعايِب
-
إنسانية آلا طالباني والدستور
-
صفحتك ليست واشنطن بوست
-
اِختزال الحرية
-
أينجح متيني بما فشل فيه غيره
-
الحب الكامن في يومه المعلن
-
هل يقرأ المتصفح؟
المزيد.....
-
ماذا يعني إصدار مذكرات توقيف من الجنائية الدولية بحق نتانياه
...
-
هولندا: سنعتقل نتنياهو وغالانت
-
مصدر: مرتزقة فرنسيون أطلقوا النار على المدنيين في مدينة سيلي
...
-
مكتب نتنياهو يعلق على مذكرتي اعتقاله وغالانت
-
متى يكون الصداع علامة على مشكلة صحية خطيرة؟
-
الأسباب الأكثر شيوعا لعقم الرجال
-
-القسام- تعلن الإجهاز على 15 جنديا إسرائيليا في بيت لاهيا من
...
-
كأس -بيلي جين كينغ- للتنس: سيدات إيطاليا يحرزن اللقب
-
شاهد.. متهم يحطم جدار غرفة التحقيق ويحاول الهرب من الشرطة
-
-أصبح من التاريخ-.. مغردون يتفاعلون مع مقتل مؤرخ إسرائيلي بج
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|