|
فرانسوا فولتير ( 1694م. – 1778م. )
غازي الصوراني
مفكر وباحث فلسطيني
الحوار المتمدن-العدد: 6751 - 2020 / 12 / 3 - 10:59
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
ولد بباريس في 21 نوفمبر 1694 في أسرة ميسورة الحال، اسمه الحقيقي فوانسوا مارى أريت، وقد اختار اسم فولتير بعد إطلاق سراحه من الباستيل في 1718، وهو من ابرز فلاسفة الأنوار في أوروبا وفرنسا اللذين أكدوا على محورية العقل وحرية الانسان، وهو أيضاً أحد أكبر العظماء الذين أنجبتهم فرنسا في تاريخها، وأحد الأباء الشرعيين للثورة الفرنسية.
ولادته ومسيرة حياته: كان والده كاتب عدل ناجحاً، وامه ذات نزعة ارستقراطية، لكنها ماتت اثناء ولادته، وكان طفلاً مريضاً هزيلاً مما حمل الممرضة ان تقول انه لن يعيش اكثر من يوم واحد. ولكنها كانت مخطئة قليلاً، فقد عاش اربعة وثمانين عاماً.
منذ صغره برع فولتير في النقاش، "وفي الوقت الذي كان كل الاولاد يلعبون في الملاعب، كان يبقى للبحث في اللاهوت مع العلماء، ولما يناهز الثانية عشرة من عمره –كما يقول ديورانت-، وفي عام 1715 أصبح فخوراً ببلوغه الحادية والعشرين من عمره، وذهب إلى باريس في الوقت الذي مات فيه لويس الرابع عشر، وعجز لويس الصغير الذي ورث عرش البلاد عن السيطرة والحكم لصغر سنة، وافلت زمام السلطة من يده إلى وصى عليه، وفي خلال تلك الفترة وقعت مظاهرات في باريس، واشترك فولتير فيها، واكتسب شهرة وصيتاً، ولمع اسمه كثيراً. واخيراً انصبت المتاعب التي كانت تدور في باريس على رأسه، ووصل إلى علم الوصي لسوء الحظ قصيدتان من الشعر نظمهما فولتير واتهم فيهما الوصي بمحاولة اغتصاب العرش. وهاج الوصي وماج وقابل فولتير، في الحديقة ذات يوم وقال له "ايها السيد، اراهنك على ان أُريك شيئاً لم تره في حياتك ابداً"، سأرسلك إلى سجن الباستيل([1])، ورأى فولتير الباستيل في اليوم التالي أي في السادس عشر من ابريل عام 1717"([2]) ، وفي سجن الباستيل تبني اسم فولتير لأسباب لا نعرفها، إذ ان اسمه الحقيقي هو فرنسوا أريت، وأقبل على الشعر واصبح شاعراً، بعد أن أمضى في السجن حوالي العام، وبعد خروجه من السجن، تفرغ للمسرح، وانتج روايته المحزنة "مأساة أوديب" في عام 1718، وأحسن الناس استقباله ووفادته في كل مكان، واحاطت به الطبقة الارستقراطية، واحالته إلى اعظم رجل مثقف لامع في العالم، وسيد الحديث الذي لا يشق له غبار، ووارث اعظم ثقافة وحضارة في أوروبا"([3]).
سافر إلى انجلترا حيث بقي هناك ثلاث سنوات، وهناك قرأ أفضل الأدب الانجليزي في ذلك العصر. لقد اثار دهشته الحرية التي كان يعمل في ظلها الكُتَّاب الانجليز، وقد وصف الشعب الانجليزي بقوله:
"هنا شعب له اراؤه الخاصة به، شعب اصلح دينه وشنق مليكه، واستورد ملكاً اخر، وانشأ مجلساً نيابياً اقوى من أي حاكم في أوروبا، ولا وجود لسجن الباستيل هنا. هنا ثلاثون مذهباً دينياً بغير قسيس واحد، هنا اشجع المذاهب الدينية جميعاً، مذهب الاصحاب (الكويكر) الذين اثاروا دهشة العالم المسيحي باخلاقهم المسيحية"([4]).
"كتب في 12 أغسطس 1726 يقول: "لو خُيِّرتُ لآثرت المكث هنا لغرض واحد هو أن أتعلم أن أفكر"، فالانجليز "أمة مغرمة بالحرية، مثقفة، ذكية، تحتقر الحياة والموت، امة من الفلاسفة، ولم يكف قط عن عرفانه بصنيع إنجلترا. لقد دان لها قبل كل شيء بحفز هائل لذهنه وإنضاج لفكره. فلما عاد من منفاه جلب معه كتب نيوتن ولوك في حقائب. وأنفق جزءاً من سنيه العشرين التالية في تعريف فرنسا بهما.
لكن فولتير لم يكن وسيط التبادل الأوحد في هذا الجيل؛ فإن مونتسكيو، وليلاند، وهلفتيوس، ورسو – هؤلاء أيضا أتوا إلى إنجلترا، وقد أجمل فولتير في تاريخ لاحق هذا الدين في رسالة بعث بها إلى هلفتيوس، قال:
"لقد استعرنا من الإنجليز المرتبات السنوية، وأموال استهلاك الديون، وبناء السفن وتسييرها، وقوانين الجاذبية، والألوان الأساسية السبعة، والتطعيم، وسنكتسب منهم، دون إدراك منا، حرية تفكيرهم الرفيعة، واحتقارهم العميق لتفاهة المعلومات التي تعطيها المدارس"([5]).
"لقد سجل انطباعاته عن انجلترا في "رسائل عن الانجليز"، وزعها على اصدقائه، ولم يجرؤ على طباعتها لعلمه بأن الرقابة الملكية لن تستطيب مذاقها، لانها قارنت بين الحرية السياسية الانجليزية والاستقلال الفكري في انجلترا، والطغيان والاستعباد الفرنسي. وهاجمت رسائله الطبقة الارستقراطية الكسولة في فرنسا، ورجال الدين الذين يستنزفون الشعب بجمع الاعشار والصدقات والتبرعات واللجوء إلى سجن الباستيل كجواب لكل سؤال وكل شك"([6]).
"لقد حثت هذه الرسائل الطبقة الفرنسية الوسطى، ان تنهض وتتبوأ مكانها في الدولة، أسوة بنظيرتها في انجلترا، لقد كانت هذه الرسائل، بلا قصد أو معرفة، من فولتير، نعيق الغراب الأول في الثورة الفرنسية، ومع ذلك وبغير علم بهذا الغراب ارسل الوصي على عرش فرنسا اذنا لفولتير بالعودة إلى فرنسا عام 1729، وتمتع فولتير خمس سنوات أخرى بحياة باريس التي كانت خمرها تجري في عرقه، وروحها تسري في قلمه، إلى ان وقعت هذه الرسائل في يد ناشر لئيم ارسلها إلى الطباعة، واصدر البرلمان قرارا بحرق الكتاب علنا، واعتباره مناقضاً للدين والاخلاق واحترام الدولة، وادرك فولتير انه في طريقه مرة ثانية إلى سجن الباستيل، وكفيلسوف طيب شمر عن ساقيه وحرك مهمازه وهرب خفية مع امرأة متزوجة، لقد كانت المركيزة دي شاتيله في الثامنة والعشرين من عمرها، وكانت امرأة بارزة، درست الرياضيات على يد كبار الرياضيين، وكتبت ترجمة علمية شرحت فيها مبادئ نيوتن، وعاش معها فولتير في قصرها الذي أصبح ملتقى المفكرين والفلاسفة والأدباء"([7]).
في تلك المرحلة، بدأ فولتير في كتابة رواياته السارة المبهجة، "كنديد"، "صادق"، "ميكروميجاس"، "لانجينو"، "لوموند كوم الفا" ... الخ. لقد اظهرت هذه الروايات روح فولتير بصفاء أكثر من أي شيء آخر في مؤلفاته التسعة والتسعين، لم تكن هذه روايات بل كانت من نوع جديد، ابطالها آراء، والاوغاد فيها خرافات، والحوادث أفكار"([8]).
"وبقي في باريس فترة يتنقل من صالة إلى أخرى، وينتج رواية بعد رواية، من "اوديب" في الثامنة عشرة إلى "ارين" في الثالثة والثمانين، كتب سلسلة طويلة من الروايات المحزنة، وحثه اصدقاؤه على ترك الروايات المحزنة، ولكنه في نفس السنة انتج رواية "زير" التي صادفت اعظم نجاح له. واتبعها برواية "محمد"([9]) في عام 1741، و"ميروب" في عام 1743، و"سمير اميس" في 1748"([10]).
لقد "كان فولتير يبحث عن طريقة موحدة ينسج حولها كل تاريخ المدنية في أوروبا في خيط واحد، واقتنع ان هذا الخيط هو تاريخ الحضارة، وعزم ان لا يتناول في بحثه التاريخي الملوك بل الحركات والقوى والجماهير، وان لا يتناول الدول، بل الجنس البشري، وان لا يتناول الحروب، بل سير وتقدم العقل البشري، "ان المعارك والثورات، أمر ثاني في مشروعه، كما ان الجيوش والفِرَقْ والنصر، والهزيمة، وسقوط المدن، واعادة الاستيلاء عليها امور تشترك فيها كل كتب التاريخ، وفي هذا الصدد يقول فولتير "لا اريد ان اكتب تاريخاً عن الحروب، ولكن عن المجتمعات، وأن أؤكد كيف عاش الناس في داخل أُسَرِهم وعائلاتهم، وما هي الفنون المشتركة التي هذبوها وارتقوا بها.. إن موضوعي هو تاريخ العقل البشري وليس مجرد عرض تفصيلي للحقائق الجميلة. وسوف لا القي اهمية على تاريخ اللوردات والأسياد.. ولكني أُريد ان أعرف حقيقة الخطوات التي خطا بها الناس من العصور البربرية إلى المدنية".
لقد كان امتناع فولتير عن ادخال الملوك في بحثه التاريخي جزءاً من الثورات الديمقراطية التي أبعدتهم عن الحكم اخيراً، "وبدأت رسالته في الاخلاق في تجريد اسرة البوربون من الحكم في فرنسا، وهكذا فقد انتج أول فلسفة عن التاريخ، أول محاولة منظمة لتتبع مجاري الأسباب الطبيعية في تطور العقل الاوروبي، وكان يغفل فيها التفسيرات التي تقوم على المعجزات والظواهر الطبيعية الخارقة، فهو القائل: لن يقف التاريخ على ساقيه حتى نبعد اللاهوت عنه"([11]).
"لقد خَلَّد تاريخ الثقافة اسم فولتير.. فهو الكاتب الكبير، والعالم السيكولوجي، وفيلسوف الحضارة والتاريخ؛ عاش كل حياته مناضلاً ضد الكنيسة والتعصب الديني وضد الأنظمة الملكية وطغيانها؛ وقد تعرض بسبب آراؤه للملاحقة والأضطهاد حتى أنه قضى معظم سنوات عمره بعيداً عن فرنسا في ألمانيا وسويسرا (جنيف) وكتب فيها أجمل مؤلفاته "كانديد"([12]) (ومعناها التفاؤل)، وقد سخر فيها فولتير من كل المفكرين والفلاسفة الرجعيين والميتافيزيقيين ، مؤكداً على العقل والعلم والديمقراطية رافضاً لأي مشيئة غيبيه، ولكل مظاهر الاستبداد والطائفية الدينية الكاثولكية التي سادت آنذاك وحرمت الفرنسيين البروتستانت من كافة الحقوق.
يقول ديورانت تعليقاً على كتاب "كانديد": "لا نجد كاتباً يناقش التشاؤم بسرور وحبور مثل فولتير في هذه القصة، ولا نجد انساناً يضحك من اعماق قلبه، على الرغم من معرفته بان هذا العالم عذاب وألم، من النادر ان نجد قصة بمثل هذا الفن البسيط الممتنع، لقد كتبها بسرعة، ولكن القلم يجري ويضحك بين أصابع فولتير، كما يقول اناتول فرانس، قد تكون اجمل قصة في الادب كله، ان الشعبية التي استقبل بها هذا الكتاب الجريء "كنديد" تعطينا فكرة عن روح العصر، عن الحضارة العظيمة في عهد لويس الرابع عشر، لقد عَلَّمَ الناس ان يبتسموا في وجه العقائد والتقاليد، خاصةً ان فشل الاصلاح الديني في اكتساح فرنسا لم يترك امام الفرنسيين طريقاً وسطاً بين الكفر والايمان وبين الخطأ والعصمة عن الخطأ"([13]).
حول موقفه من الدين،"رفض فولتير جميع تعاليم الديانات -الغيبية- في صفات الله لكونها تفتقر إلى البرهان، ورغم ذلك فقد رفض الإلحاد لكونه يشكل خطراً على النظام الاجتماعي القائم على الملكية الخاصة، نلاحظ هنا أن موقف فولتير الرافض للإلحاد، ليس سوى تعبيراً عن المصالح المباشرة للبرجوازية الصاعدة"([14]).
لكن على الرغم من ذلك، فقد " تَمَيَّزَ فولتير في نشاطُه الفكري بالعَدَاء الشديد للدِّين، والمناداة بالحياة المدَنِيَّة والعلمانية، وقيَم الحرية والعدل، ورفْض هَيْمَنة الكنيسة على حياة الناس وأفكارهم ومشاعرهم وسُلُوكهم؛ فوَظَّفَ قلَمَهُ في معركة التحرُّر من ربْقة الكَهَنُوت الجاثم على حياة الناس في فرنسا.
فولتير وعصر التنوير الفرنسي: اعترف نقاده واعداؤه بان الشيطان قابع في نفسه، لدرجة أن وَصَفَهُ البعض –كما يقول ديورانت- بالرجل الذي وَضَعَتْ جهنم في يديه كل نارها وقوتها. كان فولتير، معجباً بنفسه، لقد كان رجلاً يحمل أخطاء زمنه وعصره، ومع ذلك فقد كان ينقلب احياناً ويصبح لطيفاً رصيناً، سخياً مسرفاً في تبديد نشاطه وماله في مساعدة أصدقائه وتحطيم اعدائه، وكان قادراً على قتل عدوه بضربة قلم. هذا هو فولتير الرجل المتناقض.
لكن "هذه الصفات كلها خيرها وشرها صفات ثانوية لا تدل على حقيقة فولتير، لان الشيء المدهش المثير فيه هو خصوبة وتألق عقله الذي لا ينضب او يكل، لقد ملأ بحياته حياة عصره كله. كان عصره من اعظم العصور الأوروبية، وكان هو جوهر عصره وروحه.
لقد "قال فكتور هوجر، ان اسم فولتير يصف القرن الثامن عشر كله، لقد كان لإيطاليا نهضة، ولألمانيا اصلاح، ولكن فرنسا كان لها فولتير. فقد كان لبلاده بمثابة النهضة والاصلاح، وكان نصف ثورتها، وحارب الفساد والخرافات بضراوة وفعالية أكثر من لوثر أو اراسموس أو كلفن، وساعد في صنع البارود الذي مكن ميرابو ومارا ودانتون وروبسبير من نسف النظام الفرنسي القديم، وقال لا مارتين، إذا كنا سنحكم على الرجال بأفعالهم، عندئذ يكون فولتير أعظم كاتب في أوروبا الحديثة بلا منازع.. لقد وهبه الله ثلاثاً وثمانين سنة من العمر، ليتمكن من تحليل العصر الفاسد، وكان لديه الزمن ليحارب الزمن، وعندما سقط كان المنتصر"([15]).
يقول ديورانت: "لا نجد كاتباً له من النفوذ في حياته مثل فولتير، وعلى الرغم من النفي والسجن ومصادرة اتباع الكنيسة والدولة كل كتبه تقريباً، فقد شق طريقه بجرأة وقوة لإعلان الحقيقة، إلى ان طلب الملوك والاباطرة والبابوات رضاه، واهتزت العروش امامه، ووقف نصف العالم مصغياً لسماع كلمة منه، وكان له فضل كبير هو وجان جاك روسو في الانتقال السياسي والاقتصادي الكبير من حكم النظام الارستقراطي الاقطاعي إلى حكم الطبقة المتوسطة" ([16]).
لقد "كتب في حياته تسعة وتسعين كتاباً، تتألق كل صفحة من صفحاتها بنور الحكمة والفائدة، على الرغم من تنقلها من موضوع لآخر حول العالم. وامتاز بشجاعته وسعة اطلاعه وصراحته، كما أن انتصار فولتير الساحق على سلطة القساوسة والخرافات –كما يضيف ديورانت- "قضت على هذه القضايا التي كانت تدب فيها الحياة في عصره.
لقد كان ذكياً صريحاً جلياً، يحول الغضب إلى هزل، والنار إلى ضياء وكان مخلوقاً من الهواء واللهب واسرع الناس تهيجاً، وربما كان أعظم المفكرين حيوية ونشاطاً في كل التاريخ؟ لا جدال في ان انتاجه الفكري كان اعظم انتاج في عصره، ولا يضاهيه أي مفكر آخر في غزارة انتاجه، وكثرة كتبه"، هنا يقول فولتير: "ان الكتب تحكم العالم، أو على الأقل فانها تحكم الشعوب التي لها لغة مكتوبة، لا شيء يقضي على العبودية كالتعليم، وعندما يبدأ الشعب في التفكير مرة، فمن المستحيل ان يقف، وبظهور فولتير انتعش التفكير في فرنسا"([17]).
" لم يكن فولتير ولا روسو السبب في الثورة الفرنسية، وربما كانا والثورة نتيجة للقوى التي كانت تفور وتموج تحت سطح الحياة الفرنسية السياسية والاجتماعية، لقد كانا الضوء واللهب المنبعث من نار البركان المشتغل.
لقد قال لويس السادس عشر في سجنه بعد ان رأى نتيجة اعمال فولتير وروسو: لقد دمر هذان الرجلان فرنسا، ويعني بذلك تدميره وتدمير النظام الملكي في فرنسا، وقال نابليون لقد كان في وسع العائلة المالكة البقاء في الحكم لو سيطرت على الاقلام وراقبت الكتابة، لقد قضى ظهور المدفع على النظام الاقطاعي، وسيقضي القلم والحبر على النظام الاجتماعي الحديث"([18]).
فولتير وسنواته الاخيرة في سويسرا: في عام 1754 اشترى في ضواحي جنيف ضيعة قديمة سماها النعيم جعلته بعيداً وآمنا من مطاردة حكام باريس وبرلين المستبدين، وانصرف إلى زرع حديقته واسترداد صحته، وعندما بدأت حياته تسير في طريق الهرم والشيخوخة، دخل في انبل واعظم انتاجه الفكري.
"كانت الضيعة التي اشتراها في فيرناي منزلاً مؤقتاً إلى أن يجد له مسكنا يستقر فيه، وفي عام 1758 وجد هذا المسكن في "فرناي"، داخل الحدود السويسرية، وعلى مقربة من الحدود الفرنسية، حيث يشعر بالأمان بعيداً عن السلطة الفرنسية، ويكون قريباً من ملجأ فرنسي لو حاولت الحكومة السويسرية مضايقته. وقد وضع هذا المسكن الجديد حداً لطوافه المتقلب هنا وهناك. لقد دل طوافه من مكان إلى آخر على توتر اعصابه، كما دل على خوفه من المطاردة، انه الآن في الرابعة والستين، ولأول مرة يعيش في بيت يملكه نفسه([19]). كان سعيداً في حديقته، يزرع اشجار الفاكهة التي لم يتوقع ان يراها تزدهر وتحمل في حياته"([20]).
"وفي قصره في فرناي راح يعيش في بذخ ؛ وقَدِمَ زوار من مختلف أرجاء أوروبا لمقابلته. واستمر في مشاحناته التي لا يحصى لها عد مع خوارنة، وأساقفة، وقساوسة جنيف، وروسو، إلخ. وقاد الحملة الفلسفية من أجل إصلاح العدالة والدولة، ومن اجل الحرية، وعلى الأخص من أجل التسامح: فما كان ليرضى بهدف أقل شأناً من رد الدين المسيحي إلى تأليه طبيعي تابع تبعية وثيقة للسلطة السياسية"([21]).
لقد "أصبحت "فرناي" الآن عاصمة العالم المثقف، وزاره فيها كل عالم أو حاكم مثقف بشخصه أو بادله الرسائل، وزاره رهبان دخل الشك إلى ايمانهم، وأرستقراطيون أحرار، وسيدات مثقفات، وسعى اليه جيبون، وبوزويل، من انجلترا، وثوار عصر التنوير وغيرهم كثيرون، لقد أرهق هذا السيل من الزوار فولتير وكبده الكثير من النفقات، وكان يشكو من ذلك بقوله، انه أصبح مدير فندق لاوروبا كلها"([22]).
أضف إلى هذه الضيافة المستمرة، سيلا من الرسائل التي لم يشاهدها العالم من قبل، لقد وردت عليه الرسائل من كل صوب وحدب، ومن رجال على اختلاف انواعهم ومراكزهم، لقد كتب له عمدة بلد في المانيا – "يسأله بثقة عن وجود الله أو عدم وجوده.
"لقد اعتقد ملك السويد جوستاف الثالث بزهو، أن فولتير قد لمح عن بلاده وكتب له يقول، أن هذا اعظم تشجيع لهم ليبذلوا جهدهم هناك، واعتذر كريستيان السابع ملك الدنيمرك لعدم قيامه فورا بجميع الاصلاحات، وأرسلت له كاترين الثانية ملكة روسيا هدايا جميلة، كاتبته باستمرار، ورجت أن لا يعتبرها لجوجة ملحاحة. وحتى فردريك (ملك بروسيا) بعد سنة من السكوت عاد إلى مراسلته بقوله:
" لقد ارتكبت معي اخطاء كبيرة، وقد عفوت عنها جميعها، واريد ان انساها. ولولا جنوني بحب عبقريتك النبيلة لما استطعت ان تهرب بريشك وتنجو بنفسك.. هل تحب سماع اشياء حلوة، حسناً جداً، ساخبرك بعض الحقائق، أني أرى فيك أعظم عبقري ولدته الأجيال، وأُكَبِّر شعرك، وأُحب نثرك، ما جاء كاتب قبلك أبدا بمثل حصافتك وذكائك وذوقك وبلاغتك، إنك ساحر الحديث، وتعرف كيف تدخل المتعة إلى قلوب الناس وكيف تعلمهم في وقت واحد، انك اعظم مغر عرفته اطلاقاً، وقادر على اثارة حب الناس لك اذا اردت، ولديك من نعمة العقل ما يمكنك من الاساءة لمن يعرفونك مع ضمان تسامحهم معك. وبالاختصار فانت كامل لو لم تكن انساناً"([23]).
"وفي الوقت الذي كان فيه الفكر في المانيا وانجلترا يتحرك براحة في خطوط التطور الديني، كان العقل الفرنسي يقفز من الايمان الحار، الذي ادى إلى ذبح البروتستانت، إلى العداء البارد، الذي انقلب فيه هلفتيوس وهولباخ وديدرو على ديانة آبائهم، وقد تأثر فولتير بأفكارهم، وأُعجب بها، وعاش آخر سنوات عمره متأثراً بأفكار هلفتيوس هولباخ وديدرو"([24]).
لقد كان ذلك العصر عصر العقل كما قال "بين"، ان هؤلاء الرجال لم يرتابوا ابداً بأن العقل هو الامتحان البشري النهائي لكل أنواع الحقيقة والخير. لقد قالوا دع العقل ينطلق ويتحرر وسيقوم ببناء حياة مثالية فاضلة في أجيال قليلة.
ومن الطبيعي ان يحيط هؤلاء الملحدين الذين تعاونوا على وضع الموسوعة التي ذكرناها، بفولتير الذي كان مهتماً بكل شيء وله يد في كل معركة، وكانوا سعداء في اعتباره زعيماً لهم، وطلبوا منه ان يكتب مقالات لمشروعهم العظيم، واستجاب لرغبتهم بسهولة وخصوبة أثلجت صدورهم وأطربت نفوسهم.
عندما فرغ فولتير من مقالاتهم، قام باصدار موسوعة خاصة به أطلق عليها اسم "القاموس الفلسفي"، تناول فيها بجرأة لا مثيل لها الموضوع تلو الموضوع حسب الترتيب الأبجدي، وصب في كل موضوع جزءاً من معرفته وحكمته التي لا تنضب ولا تكل .
في هذا الجانب، يقول ول ديورانت: تصور رجلاً واحداً يكتب عن كل شيء، وينتج موسوعة علمية تعتبر من أعظم انتاجه روعة، وأكثرها قراءة بجانب رواياته، كل مقال فيها نموذج في الاختصار والوضوح والذكاء، قد يطيل البعض في كتابة كتاب واحد، ولكن فولتير مُحْكَم ومختصر في المئة كتاب التي وضعها، وهنا على الأقل يثبت لنا فولتير بأنه فيلسوف، فهو يبدأ مثل بيكون، وديكارت، ولوك وجميع الفلاسفة المحدثين بالشك، ويقول "لقد اتخذت لي مرشداً ومثلاً أعلى القديس "توما ديديموس" الذي اصر دائماً على الفحص والتجربة بيديه"([25]).
كان فولتير "يرفض جميع النظم " ويظن أن رئيس كل مذهب من مذاهب الفلسفة كان دجالاً نوعاً ما" ويقول كلما سرت أكثر، كلما زاد اقتناعي بفكرة ان الميتافيزيقا بالنسبة إلى الفلاسفة كالقصص بالنسبة إلى النساء، ان الدجالين، المشعوذين هم الذين على يقين وحدهم.
ويضيف ديورانت قائلاً على لسان فولتير: "نحن لا نعرف شيئاً عن العلة الأولى، والحقيقة انه من المغالاة والتطرف تعريف الله والملائكة والعقول، وأن نعرف بدقة لماذا خلق الله العالم، في الوقت الذي لا نعرف فيه لماذا نحرك اذرعنا بارادتنا، ان الشك ليس حالة مناسبة أو موافقة، ولكن اليقين حالة سخيفة ومضحكة، أنا لا أعرف كيف وُجِدْت، وكيف خُلِقتْ، وكيف وُلِدت، أنا لا أعرف شيئاً إطلاقاً طيلة خمس وعشرين سنة أسباب ما رأيت وسمعت وشعرت.. لقد رأيت ما يسمى بالمادة، سواء أكانت في نجم أو كوكب أو في اصغر ذَرَّة يمكن ادراكها بالمجهر، ولا أعرف حقيقة هذه المادة، فقد أوضح لنا بيكون الطريق الذي ينبغي أن يسير فيه العلم.. ولكن جاء ديكارت وفعل عكس ما كان ينبغي أن يفعل، اذ انه بدلاً من ان يدرس الطبيعة أخذ يقدسها.. ينبغي علينا ان نحسب، ونزن ونقيس ونلاحظ، هذه هي الفلسفة الطبيعية، وكل ما تبقى فهو وهم وخيال"([26]).
فولتير مع التسامح، وضد التخلف والتعصب الأعمى والجهل: ما هي الأحداث التي حَوَّلته من مجرد السخرية المهذبة من مذهب اللادارية، إلى عدو مرير، ضد رجال الدين، لا يقبل المهادنة، فراح يشن حرباً لا هوادة فيها على رجال الدين؟
كانت طولوز لا تبعد كثيراً عن فيرني التي يعيش فيها فولتير، وكان رجال الدين الكاثوليك يتمتعون بسلطة مطلقة في هذه المدينة في أيام فولتير، لا يسمح لاي بروتستانتي في طولوز بان يكون محامياً أو طبيباً، صيدلياً أو بقالاً، أو بائع كتب، أو طباعاً.
وحدث ان "كان يعيش في طولوز رجل بروتستانتي يدعى "جان كالاس"، وكانت له ابنة تحولت إلى المذهب الكاثوليكي، وولد شنق نفسه، بسبب فشله في الحصول على عمل. وكان القانون في طولوز يقضي بأن يوضع جثمان المنتحر عارياً على حاجز من العيدان المشبكة ووجهه إلى الاسفل، ويسحب بهذه الطريقة عبر الشوارع وبعدئذ يعلق على المشنقة، ولكي يتجنب الأب وقوع هذا، طلب من اقاربه واصدقائه ان يشهدوا على ان ولده توفى وفاة طبيعية ولم ينتحر. وعلى اثر ذلك انتشرت اشاعة بأن الوالد قتل ابنه ليمنعه من التحول إلى المذهب الكاثوليكي.
والقي القبض على الاب وبدأوا في تعذيبه ومات بسرعة على أثار التعذيب (1761) وتداعت عائلته، وأمام المطاردة هربت إلى فيرني وطلبت مساعدة فولتير، واستقبلهم فولتير في بيته وواسى جراحهم وأثارت دهشته واشمئزازه قصة مطاردتهم وتعقبهم، وفي الوقت ذاته تقريباً جاءت اخبار مصرع "اليزابيت سيرفينس"، وانتشرت الاشاعة مرة ثانية انها دُفِعَتْ إلى بئر وهي في طريقها لتعلن تحولها من البروتستانتية إلى الكاثوليكية، واعتقل شاب صغير في السادسة عشرة من عمره على اثر هذه الاشاعة في عام 1765، يدعى لابار، بتهمة تشويه الصليب وانزل به العذاب، واعترف بذنبه، فقطع رأسه، وقذف بجسمه إلى النار، وسط هتاف الجماهير وتصفيقها، واحترقت معه نسخ من كتاب القاموس الفلسفي لفولتير وجدت في حوزته"([27]).
وهنا يتحول فولتير لأول مرة في حياته من الهزل إلى الجد، وعندما ابدى "دلامبرت" اشمئزازه من الدولة والكنيسة والشعب وكتب بانه سيسخر من كل شيء، اجابه فولتير، بقوله، ليس هذا وقت التهكم والسخرية، ان الفطنة والسخرية لا تتفقان مع المجازر والقتل .
وتساءل فولتير: هل هذه البلاد موطن الفلسفة والسعادة؟ يجيب قائلاً: كلا، انها بلاد المجازر والقتل؟ "لقد اثاره هذا الظلم والطغيان، واحاله من كاتب رسائل وكُتُبْ إلى رجل أعمال أيضاً. ووضع الفلسفة جانباً واستعد للحرب، أو بالاحرى وَجَّهَ فلسفته إلى قوة دافعة عنيفة لا ترحم، وغادرت الابتسامة وجهه كما يقول "كل ابتسامة افلتت مني رغم ارادتي في ذلك الوقت كانت تثير في نفسي التبكيت وكأنها جريمة ارتكبتها". وهنا تبنى شعاره المشهور "اسحقوا العار". وَحَّركَ روح فرنسا ضد مظالم الكنيسة.
لقد بدأ يصب ناراً فكرية أدت إلى تحطيم الرهبانية في فرنسا، وساعدت في قلب العرش، فقد ارسل دعوة إلى اصدقائه وأتباعه يدعوهم إلى المعركة: "وَحِّدوا أنفسكم واقهروا التعصب والأوغاد، واقضوا على الخطب المضللة والسفسطة المخزية والتاريخ الكاذب، لا تتركوا الجهل يُخْضِع العلم، سيدين لنا الجيل الجديد بعقله وحريته، " لقد حاولت الكنيسة في هذه الأزمة شراء ذمته، وعرضت عليه قبعة كردينال في محاولة الوصول إلى تسوية وصلح معه، وكأن منصب الكردينال في ذلك الوقت سيثير اهتمام رجل كانت له السيادة الفكرية في العالم بلا منازع، ورفض فولتير العرض، وأوقف رسائله التي كان يرسلها تحت شعار "اسحقوا العار"، "وبدأ في توزيع رسالته عن التسامح الديني، وقال انه ما كان ليهتم بالعقيدة لو اقتصر رجال الدين على اقامة شعائرهم، وتسامحوا مع الذين يختلفون عنهم في المذهب، ولكن موقفهم وتعصبهم الذي لا نجد له اثراً في الانجيل هو مصدر النزاع الدامي في التاريخ المسيحي، "ان الإنسان الذي يقول لي آمن كما أؤمن وإلا فإن الله سيعاقبك، سيقول لي الآن آمن كما أؤمن والا سأغتالك"([28]).
على أي حال، "ان التعصب المقرون بالخرافات والجهل، كان أساس البلاء في جميع القرون، ولن يتحقق السلام الدائم، ما لم يتسامح الناس مع بعضهم ويتعلم كل واحد منهم كيف يتسامح مع من يخالفه في الامور الفلسفية والسياسية والدينية. وبالتالي فقد اقتنع فولتير أن القضاء على السلطة الكهنوتية التي تعيش في ارضها جذور التعصب هو الخطوة الأولى في بناء مجتمع سليم، فقد أتْبَعَ فولتير رسالته عن التسامح الديني سيلا من المنشورات التاريخية، والمحاورات والرسائل والتعاليم الدينية التي بسطها عن طريق السؤال والجواب، والخطب التشهيرية والهجو والتقريع والمواعظ والشعر والحكايات والقصص والتعليقات والمقالات التي كانت تحمل اسم فولتير ومئات الاسماء الاخرى المستعارة.
لقد "حَلّقَ فولتير بأسلوبه لدرجة تجعل الإنسان لا يشعر بانه كان يكتب فلسفة، لقد قال عن نفسه باعتدال كبير، إنني أُعَبُّر عن آرائي بوضوح كاف، وأنا كالجدول الصغير الشفاف ترى ما في قاعه لقلة عمقه"([29]).
ثم بدأ فولتير بتوجيه نقد عنيف حول صحة الإنجيل والوثوق به، فقد "استمد الكثير من كتاباته من سبينوزا، ومن مذهب الايمان بالله وحده وانكار الوحي والأنظمة الدينية، ويُظهِر لنا فولتير كيف ان كل الشعوب القديمة كانت تؤمن بخرافات واساطير، وينتهي إلى القول بأن هذه الخرافات والأساطير من صنع وابتكار القساوسة والكهنة، فيقول: "لقد كان أول كاهن هو أول محتال يقابل أول أحمق، لكن "فولتير لم ينسب الدين نفسه إلى الكهنة والقساوسة، ولكنه نسب لهم علم اللاهوت، ان الخلافات البسيطة في علم اللاهوت هي التي سببت هذا النزاع المرير والحروب الدينية، ليس الشعب البسيط العادي، الذي أثار هذه الخلافات السخيفة المميتة مصدر الخوف والرعب الشديد، إنهم الكهنة الذين يعيشون على كَدِّكُم وتَعَبِكُم في راحة وكسل؛ ويَثْرون على حساب كدحكم وبؤسكم. ويتنافسون على شراء الذمم واقتناء العبيد ويوحون لكم بالتعصب المذموم، ليتمكنوا من سيادتكم والسيطرة عليكم، وينشرون بينكم الخرافات والأساطير لا لتخافوا من الله بل لتخافوهم وترهبوهم.
لقد كان فولتير – كما يقول ديورانت- "يحب ان يؤمن بالخلود أو الحياة الأخرى، وخصوصاً في سن شيخوخته ولكنه وجدها مسألة صعبة. يقول: "لا احد يفكر في اعطاء نفس خالدة للبرغوث، فكيف يمكن إذن أن يكون هناك نفس خالدة للفيل أو القرد أو خادمي؟ والجنين الذي يموت في رحم أمه عندما تنبعث فيه روح، هل سيبعث مرة ثانية جنيناً، أم ولداً أم رجلاً؟ وحين تُبعَتْ مرة ثانية، وتكون نفس الشخص الذي كنت عليه، ينبغي ان تكون ذاكرتك سليمة وحاضرة تماماً، لأن الذاكرة هي التي تعطيك ذاتك فإن ضاعت ذاكرتك، كيف يمكنك ان تكون نفس الشخص؟"([30]).
لكن، "عندما سأله صديقه "بايل"، هل من الممكن لمجتمع من الملحدين أن يستمر، اجابه فولتير "نعم، اذا كان ابناء هذا المجتمع كلهم من الفلاسفة، ولكن من النادر أن يكون كل الناس فلاسفة. ولابد للبلد ليكون صالحاً ان يكون له دين، اريد من زوجتي وخياطي ومحاميي ان يؤمنوا بالله وبذلك يقل غشهم وسرقاتهم لي، واذا كان لا وجود لله يجب علينا ان نخترع إلها، لقد بدأت أعلق أهمية أكثر على السعادة والحياة من الحقيقة.
ثم يستطرد قائلاً: الخرافات والاساطير هي أقسى عدو لنا يصرفنا، عن عبادة الله عبادة خالصة تليق به، دعنا نمقت شبح الخرافات التي أدخلت على الديانات فشوهتها، وأولئك الذين يحاربون الخرافات هم أصحاب الفضل في الجنس البشري، ان هذه الخرافات ثعبان يهز الدين في حضنه، ويجب علينا سحق رأسه من غير ان نجرح الأم التي تطعمه"([31]).
سنوات عمره الأخيره.. وموته: في آخر أيام حياته، راح فولتير، الفيلسوف العجوز الضاحك، يفلح الأرض المحيطة بالفيلا –التي اشتراها في سويسرا- ويزرعها ويقول: "ان الفلاحة والزراعة أفضل عمل نقوم به على هذه الأرض".
" انه الان في الثالثة والثمانين من عمره، "وقد اخذه الشوق والحنين لرؤية باريس قبل موته. لقد نصحه الاطباء ان لا يخاطر في رحلة متعبة شاقة كهذه، وربما شعر بحقه في ان يموت في باريس التي ابعد عنها مدة طويلة، وسار يجتاز الأراضي الفرنسية ميلاً بعد ميل، وعندما وصلت عربته أخيراً إلى باريس ذهب رأساً إلى صديق شبابه "دارجنتال" قائلاً: "لقد استهترت بالموت وجئت لأراك".
وفي اليوم الثاني احتشدت الغرفة بالزوار الذين بلغ عددهم نحو ثلثمئة، فرحبوا بقدومه ترحيبهم بملك، الأمر الذي جعل الغيرة تأكل قلب الملك لويس السادس عشر، وكان بنيامين فرانكلين (الفيلسوف والسياسي الامريكي) بين الذين اتوا لزيارته مصطحباً معه حفيده للحصول على بركات فولتير الذي وضع يده النحيلة على رأس الطفل وطلب منه ان يكرس حياته إلى "الله والحرية".
اشتد به المرض الآن إلى درجة استدعاء القسيس ليسمع اعترافه، وسأله فولتير عمن أرسله، فاجابه ان الله قد أرسله، فسأله فولتير ان يقدم له أوراق اعتماده، وانصرف القسيس من غير ان يغنم بغنيمته. وأرسل فولتير بعد ذلك في طلب قسيس آخر، ولكن هذا القسيس رفض تقديم الغفران إلى فولتير ما لم يوقع على اعترافه وايمانه بالمذهب الكاثوليكي ايماناً راسخاً، ولكن فولتير ثارت ثورته لهذا الطلب وكتب بدلاً من ذلك بياناً قدمه إلى سكرتيره (واجنر) ذكر فيه: "أموت على عبادة الله، ومحبة اصدقائي، وكراهية أعدائي، ومُقتي للخرافات والأساطير الدخيلة على الدين"، ووقع هذا البيان، في الثامن والعشرين من فبراير عام 1778"([32]).
"وعلى الرغم من مرضه وتداعي صحته، فقد سار في عربته إلى الأكاديمية الفرنسية وسط الجماهير المحتشدة التي تسلقت على عربته ومزقت العباءة الثمينة التي اهدتها له كاترين ملكة روسيا إلى قطع صغيرة لتحتفظ بها تذكاراً له، لقد كان هذا الاستقبال العظيم الذي استقبلته به الجماهير من اعظم الأحداث التاريخية في ذلك القرن، ولم يجاره في هذا الاستقبال العظيم شخص آخر، حيث هتفت الجماهير "مرحباً فولتير.. مرحباً وتحية للفيلسوف الذي يعلم الناس كيف يفكروا".
وعندما عاد ملك البيان والفصاحة إلى منزله في ذلك المساء كان يقترب من الموت وشعر بالاعياء والتعب الشديد، وبانه استنفذ النشاط العجيب والحيوية المتدفقة التي وهبتها له الطبيعة أكثر من أي انسان اخر، وكافح عندما شعر بالحياة تبتعد عنه، ولكن الموت قاهر الرجال استطاع ان يقهره، وتوفي في الثلاثين من شهر مايو عام 1778، وقد رفضت السلطات دفنه في مدفن مسيحي في باريس، ولكن أصدقاءه وضعوه في عربة وخرجوا به من باريس، متظاهرين بأنه لا زال على قيد الحياة، ووجدوا قسيساً يفهم ان الاحكام الدينية لا تقف في وجه العباقرة، ودفنوه في أرض مقدسة"([33]).
وفي عام 1791 اجبرت الجمعية الوطنية التي تألفت بعد انتصار الثورة، لويس السادس عشر على نقل رفاة فولتير إلى مدفن عظماء الأمة، وقام بحراسة رفاته أثناء مروره بباريس طابور يتألف من مئة ألف من الرجال والنساء، بينما اصطف على جانبي الشارع الذي مر به نحو ستمئة ألف من الجماهير، وكُتِبَ على العربة التي حملت جثمانة هذه الكلمات:
"لقد أعطى فولتير العقل قوة دافعة عظيمة، وأعَدَّنا وهيأنا للحرية". وكُتِبَ على قبره هذه الكلمات الثلاث: هنا يرقد فولتير"([34]).
روسو وفولتير: "بينما كان تأثير روسو الأخلاقي ينحو إلى الحنان، والعاطفة وإعادة الحياة الأسرية والوفاء الزوجي، كان تأثير فولتير الأخلاقي ينحو إلى الإنسانية والعدالة، وإلى تطهير القانون والعادات الفرنسية من المفاسد القانونية وألوان القسوة البربرية، فلقد حفز فولتير أكثر من أي فرد آخر تلك الحركة الإنسانية التي أصبحت من مفاخر القرن التاسع عشر"([35]).
أفضلية روسو على فولتير لدى قادة الثورة الفرنسية: شارك فولتير في إنجاب الثورة الفرنسية بإضعاف احترام الطبقات المثقفة للكنيسة وإيمان الطبقة الارستقراطية بحقوقها الإقطاعية، ولكن "تأثير فولتير السياسي بعد عام 1789 طغى عليه تأثير روسو، فقد بدا فولتير شديد المحافظة، شديد الازدراء لجماهير الشعب، شديد الاتسام بطابع السادة الإقطاعيين؛ وقد رفضه روبسبّير، وظل "العقد الاجتماعي" سنتين إنجيلاً للثورة، وبعد عودة ملوك البوربون أصبحت مؤلفات فولتير أداة للفكر البورجوازي ضد النبلاء والأكليروس المنبعثين من جديد، وقد صدرت بين عامي 1817 و1829 أثنتا عشرة طبعة من مجموعة أعماله.
في تلك السنوات الإثنتا عشرة بيع من كتب فولتير نيف وثلاثة ملايين مجلد. ثم أسلمت الحرب الشيوعية (الكومونة) التي تزعمها ماركس وإنجلز القيادة مرة أخرى لروسو. ويمكن القول بوجه عام أن الحركات الثورية منذ 1848 تبعت روسو أكثر من فولتير في السياسة، وتبعت فولتير اكثر من روسو في الدين"([36]).
وكان "أعمق تأثير لفولتير وأبقاه عل الزمن، تأثيره على الإيمان الديني. فبفضله وبفضل شركائه تجنبت فرنسا حركة الإصلاح الديني البروتستنتي، وانتقلت رأساً من النهضة إلى التنوير، وربما كان هذا أحد أسباب العنف الشديد التي رافق التغيير، إذ لم يكن هناك فترة توقف عند البروتستنيتة وقد شعر بعض المتحمسين أن حركة التنوير في جملتها كانت إصلاحاً أعمق من ذلك الذي احدثه لوثر وكلفن، لأنها لم تكتف بتحدي مغالاة الكهانة والخرافة فقط، بل تَحدَّت صميم أُسس المسيحية، لا بل كل العقائد فوق الطبيعية، أما في أمريكا فإن الآباء المؤسسين كانوا كلهم تقريباً تلاميذ فولتير"([37]).
قالوا عنه([38]):
- "إذا ذكرنا اسم فولتير فكأننا حددنا مواصفات القرن الثامن عشر كله، وعيناً بكلمة واحدة السيماء التاريخية والأدبية المزدوجة لذلك العصر الذي كان، مهما قيل فيه، عصر انتقال،، للمجتمع كما للشعراء. (فكتور هيغو)
- "إن فلسفة التاريخ عند فولتير، أخطر خصوم التصور اللاهوتي، هي محاولة لتأويل علمي للتاريخ.. وقد كان يقول إنه يَدَعْ الإلهيات لمن هم قَيِّمونَ عليها، ولا يشغل هو نفسه إلا بالعلل التاريخية، أي الطبيعية.. (بليخانوف)
- "لقد حارب فولتير الدين، لكنه حارب أيضاً معاداة الدين عندما كانت تتخذ شكل تعصب الماديين". (جان فال)
([1]) قضى في الباستيل شهر بسبب تعليقه الساخر على بيع ولي العهد نصف الأحصنه لديه، حيث قال فولتير مخاطباً ولي العهد: " آمل من الأمير ان يبيع نصف الحمير الموجودين في قصَرَه ثم سجن مرة ثانية وأفرج عنه بشرط نفيه إلى انجلترا، وهناك كتب قائلاً " هنا في انجلترا بشعر المرء بحريته الكاملة في العقيدة والرأي بعيداً عن الباستيل" وتعلم اللغة الانجليزية ودرس الدستور البريطاني، وتعرف على نخبة المفكرين الانجليز، ودرس فلسفة فرنسيس بيكون وجون لوك، وآمن بالعلم الطبيعي ليأخذ دوره في الحياة الانسانية، فكان النفي إلى انجلترا بمثابة مكافأة لفولتير، حيث قيل ان فولتير وصل إلى انجلترا شاعراً وخرج منها فيلسوفاً ومفكراً مناضلاً من أجل حرية فرنسا وأوروبا والعالم ، ثم عاد إلى فرنسا ولكنه غادرها بعد ذلك إلى سويسرا وبقي فيها حتى آخر أيامه.
([2]) ول ديورانت– قصة الفلسفة – ترجمة: د.فتح الله محمد المشعشع - مكتبة المعارف – بيروت – الطبعة الخامسة 1985م - ص254
([3]) المرجع نفسه - ص255
([4]) المرجع نفسه - ص257
([5])ول ديورانت – مرجع سبق ذكره – قصة الحضارة "عصر فولتير"– المجلد الثامن عشر -ص 357
([6]) ول ديورانت– قصة الفلسفة – ترجمة: د.فتح الله محمد المشعشع - مكتبة المعارف – بيروت – الطبعة الخامسة 1985م - ص258
([7]) المرجع نفسه – ص260
([8])المرجع نفسه - ص261-262
([9]) أولُ موقفٍ له منَ الإسلام كان مسرحية بعنوان: "محمد أو التعصُّب، هذه المسرحيةُ أُلِّفَتْ سنة 1742، تناول فولتير فيها سيرة النبي محمد باعتباره رجلاً شديد التعصب ضد الديانات الآخرى، لكن الأذكياء فهموا آنذاك - وفي مستقبل الأيام - أن ذلك كان مجرد تَمْوِيهٍ لمهاجَمة الكنيسة، من غير السقوط تحت طائلة الرقابة القانونية، وكان هذا رأي الأديب الألماني جوته، الذي ترْجَم المسرحية، وحين أبداه للقائد الفرنسي "بونابارت" وافقه عليه، وفي أعمال لاحقة يُغَيِّر فولتير رأيه، نجده يُثني على "محمد" في كتابٍ أَلَّفَهُ سنة 1766، ويصف دينه بأنَّه أفْضل منَ المسيحية، غير أن موقف فولتير من الإسلام يتَّسِم بالتذبذب، لكن النقولَ السابقة التي ختم بها حياته تؤكِّد حدوث تطوُّر إيجابي في أحكامه على هذا الدِّين، بعد أن تعمَّقَتْ دراستُه له" (عبد العزيز كحيل – فولتير وموقفه من الإسلام – موقع: الألوكة الثقافية- 28/10/2009.)
([10]) ول ديورانت– مرجع سبق ذكره - قصة الفلسفة - ص269
([11])المرجع نفسه - ص276
([12]) المرجع نفسه - ص248
([13]) المرجع نفسه- ص283
([14]) المرجع نفسه - ص248
([15])ول ديورانت– مرجع سبق ذكره - قصة الفلسفة – ص 250
([16]) المرجع نفسه - ص250
([17]) المرجع نفسه - ص251
([18]) المرجع نفسه - ص251
([19]) فيللا المباهج (ليدليس): خارج أبواب جنيف مباشرة ولكن في حدودها الإدارية، وجد فولتير في خاتمة المطاف مكاناً يستطيع ان يرقد فيه آمناً مطمئناً، هو فيللا فسيحة تسمى سان – جان، ذات حدائق مدرجة تهبط إلى نهر الرون... وبكل حماسة أهل المدن اشترى دجاجات وبقرة، وزرع حديقة خضر، وغرس الأشجار.. لقد أنفق من عمره ستين عاماً حتى تعلم أننا "يجب ان نزرع حديقتنا". وخطر له أن في وسعه الآن أن ينسى فردريك، ولويس الخامس عشر، وبرلمان باريس ، والأساقفة، واليسوعيين، ولم يبق إلا مغصه ونوبات صداع وبلغ ابتهاجه ببيته الجديد مبلغاً جعله يسميه "ليدليس" أي المباهج وكتب إلى تيريو يقول: "إن بى من السعادة ما يخجلني". (ول ديورانت – ترجمة: فؤاد أندراوس و محمد علي أو درة – قصة الحضارة "أوروبا الوسطى" – المجلد التاسع عشر – ص112).
([20])ول ديورانت– مرجع سبق ذكره - قصة الفلسفة - ص278
([21])جورج طرابيشي – مرجع سبق ذكره – معجم الفلاسفة – ص 471-472
([22])ول ديورانت– مرجع سبق ذكره - قصة الفلسفة - ص278
([23]) المرجع نفسه - ص279 - 280
([24])المرجع نفسه - ص287
([25]) المرجع نفسه - ص290
([26]) المرجع نفسه - ص293
([27]) المرجع نفسه - ص294
([28])المرجع نفسه – ص 296
([29])المرجع نفسه - ص297
([30])المرجع نفسه – ص300
([31])المرجع نفسه - ص302
([32])المرجع نفسه - ص312
([33])المرجع نفسه - ص313
([34]) المرجع نفسه - ص313
([35]) ول ديورانت - قصة الحضارة "روسو والثورة" – المجلد الثاني والعشرون (42) – الكتاب السادس – مكتبة الأسرة – القاهرة -2001 - ص 361
([36]) المرجع نفسه – ص 361
([37]) المرجع نفسه – ص 362 - 363
([38]) جورج طرابيشي – مرجع سبق ذكره – معجم الفلاسفة – ص 471-472
#غازي_الصوراني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
شارل مونتسكيو ( 1689م. – 1755م. )
-
جورج بركلي (1685 – 1753)
-
عصر الحداثة
-
عصر التنوير – العقل والتقدم
-
جوتفريد فيلهلم لايبنتز ( 1646م. – 1716م. )
-
اسحاق نيوتن (1642 – 1727)
-
جون لوك ( 1632م. – 1704م. ).. عصر التنوير والمساواة
-
كتاب : عواصف الحرب وعواصف السلام [1]
-
باروخ سبينوزا([1]) (1632م. – 1677م. )
-
بليز باسكال (1623 - 1662)([1])
-
رينيه ديكارت ( 1596 م. _ 1650 م. )
-
كتاب :الأسطورة والإمبراطورية والدولة اليهودية
-
توماس هوبز (1588 – 1679 )
-
المسألة اليهودية والصراع العربي الصهيوني
-
كلام في السياسة
-
جاليليو ( 1564 م. _ 1642 م. )
-
عن انتشار الاسلام السياسي و دور جماعة الاخوان المسلمين......
-
فرنسيس بيكون ( 1561 م _ 1626 م )
-
ليوناردو دافنشي ( 1452 م. - 1519 م.)
-
جوردانو برونو ( 1548 م. _ 1600 م. )
المزيد.....
-
ماذا يعني إصدار مذكرات توقيف من الجنائية الدولية بحق نتانياه
...
-
هولندا: سنعتقل نتنياهو وغالانت
-
مصدر: مرتزقة فرنسيون أطلقوا النار على المدنيين في مدينة سيلي
...
-
مكتب نتنياهو يعلق على مذكرتي اعتقاله وغالانت
-
متى يكون الصداع علامة على مشكلة صحية خطيرة؟
-
الأسباب الأكثر شيوعا لعقم الرجال
-
-القسام- تعلن الإجهاز على 15 جنديا إسرائيليا في بيت لاهيا من
...
-
كأس -بيلي جين كينغ- للتنس: سيدات إيطاليا يحرزن اللقب
-
شاهد.. متهم يحطم جدار غرفة التحقيق ويحاول الهرب من الشرطة
-
-أصبح من التاريخ-.. مغردون يتفاعلون مع مقتل مؤرخ إسرائيلي بج
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|