|
هل الأصوليات الإسلامية أصوليات دينية؟
مقلد محمد علي
الحوار المتمدن-العدد: 32 - 2002 / 1 / 11 - 09:12
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
جريدة السفير
ليس تشكيكا بإيمان المنظمات الاسلامية وانتمائها الديني، فهذا ليس شأنا نتدخل فيه ولا المقالة بحث في فقه الدين، بل، على طريقة ((للراشدين فقط))، النص موجه الى المنظمات التي تنتهج سياسة التكفير وتتدخل تدخلا سافرا في سرائر الأفراد وعلاقاتهم الحميمة، والى تلك التي تنتظم في حركات مكافحة من أجل غايات سياسية محددة، والى المنتظمين حتى من الفقهاء والمعممين وآيات الله، فضلا عن سائر المحازبين، من الذين يمارسون السياسة في احزاب وحركات ومنظمات وأطر تتجاوز همومها شأن التبشير الديني والبحث الفقهي، ومن الذين يستخدمون المنابر ومكبرات الصوت وشاشات التلفزة والتظاهرات، ممن يوهمون الناس باهتمامات دينية في حين ينطوي نشاطهم في صورة أساسية على الهم السياسي. من هو خارج هذا الانتظام من المؤمنين ليس معنيا من قريب ولا من بعيد. نعرف ردهم الجاهز والقائل بأن الاسلام دين ودنيا، ونعرف كما يعرفون حكاية السجال الحديث حول هذه المسألة، من قضية علي عبد الرازق حيث بددت المصالح السياسية للخديوي نفحة التجديد الفقهي التي اقتحمها الشيخ الأزهري، إلى ارتباك العالم الاسلامي حيال الموقف من الغزو الاميركي لأفغانستان، وهو ارتباك لا يفسره أو يبرره إلا عدم الإجماع الديني على اعتبار قضية طالبان والقاعدة وابن لادن قضية دينية، والاجماع على أنها قضية سياسية بامتياز، ولهذا السبب بالذات ما كانت مناشداته مقنعة لغير أنصاره ولا مستجابة من الحركات الاصولية. الاصوليات كلها تتذرع بالنص وتستقوي به على سواها. كل الاصوليات تفعل ذلك، الاسلامي منها والماركسي والقومي، ولكل منها نصه الجاهز. وكما تبرأ ماركس، وهو حي، من الماركسية حين أصغى الى أحد أتباعه يبشر بها، فقد تبرأ مسلمون من مسلمين، ولم يحتمل الشيخ محمد عبده، مفتي الديار المصرية في أيامه، ما آل إليه وضع المتدينين فنبه من خطر المؤمنين على الاسلام: ولست أبالي ان يقال محمد/ أبلّ أم اكتظت عليه المآثم ولكن ديناً قد أردت صلاحه/ أحاذر أن تقضي عليه العمائم وسرعان ما يكتشف المرء ان النص نصوص، هكذا في الماركسية ولدى أهل اليسار، وكذلك في الاسلام والتيارات الاسلامية، ولا يعود كافيا ان يتبرأ أحد من أحد، حين يؤول الاختلاف على النص الى حروب وصراعات مدمرة، ذهبت بتروتسكي في أميركا اللاتينية على بعد آلاف الأميال عن موسكو، وأزهقت ذبحا مئات الجزائريين مع نصوصهم المقدسة، هذا على سبيل المثال لا الحصر. والاصوليات تبدأ معاركها بالاسلحة الثقيلة: بالتكفير. فلا يعود مفيدا سجال فكري او حوار بين مختلفين بعد ان يسبق السيف ال... قلم. والاصوليات تزهو بالادعاء الواثق بامتلاك ناصية الحقيقة، حتى بات يحيرنا من منها يمسك بمفاتيح الجنة، ومن منها يملك الوكالة الحصرية باسم الخالق. واليقين عند كل منها لا يرقى إليه الشك، وبالتالي فإن طريق الشك معروفة ووجهته واضحة. يبدأ الشك بالأقربين وينتهي بمن نستطيع إليه سبيلاً. والاصوليات لا تكرر النصوص وحدها بل تكرر العصور والأزمان، ومن يستسهل التلاعب بالتاريخ وادعاء تكراره ينطبق عليه قول الشاعر: إذا اعتاد الفتى خوض المنايا/ فأهون ما يمر به الوحول يصبح من السهل عليه ان يبدأ التكرار بالأزياء. استحضر الماركسيون من ماركس لحيته الكثيفة وجعلوا منها احدى علامات يساريتهم، اما الحركات الاسلامية فقد استحضرت الصحراء كلها برملها وبداوتها وأزيائها. وإذا كان الماركسيون قد أذعنوا لتواضع فرضته عليهم آليات في بنية الفكر الماركسي، فالاسلاميون أعفوا أنفسهم من المتطلبات المرهقة في حقل المعرفة ومنحوا أنفسهم الألقاب، من أمير الجماعة حتى أمير المؤمنين، وبات ينطبق عليهم ما تخيله الشاعر حين قال: ... فأنا نبي، لا ينقصني إلا اللحية والعكاز والصحراء... ويغدو واحدهم جاهزا للفتاوى والاحكام في كل شأن عام وخاص، من التبول حتى علوم الفضاء، مرورا بالاحوال الشخصية والوضوء وأمور النكاح، ناهيك عن علم اليقين بشؤون الآخرة... من هذه العدة المعرفية يخرج الى الناس في صورة المبشر، الصورة التي تتماهى بالأنبياء والأولياء والمعصومين.. لحى معفاة وشوارب محفاة وعمائم وجلابيات وسيارات شبح وأجهزة اتصال ومكبرات صوت، وكل ذلك هو حق له. نعم حق له، لا يجوز لأحد في عصر الحريات ان يحرمه منه، لكن ما لا يجوز له هو ان يدعي اكثر من سواه معرفة في علم الغيب، كما لا يجوز له ان يوظف الدين في المناورات. خطر المناورة كامن في توظيف هذا العلم خارج حقل الدين، كمن يمارس التطبيب بعدة النجارين او الالكترونيات بعدة الحدادين. هذا هو بالضبط سر التجهيل الذي تُمنى به الجماهير على أيدي الاصوليات، حيث تساق الى حلقات الوعظ، فتشحن باسم الدين نحو الآخرة، من غير ان تدري ان هذه الشحنة ستفرغ في الحياة الدنيا بما يشبه الخداع، تفرغ في السياسة الجهلاء، في التكفير والهجرة، في رباط الخيل وعدة البداوة ومجافاة العلم والحجر على النساء، ولا غرو عندئذ ان تؤول مصائر الحركات الاصولية بخبطها العشواء الى بناء من العدم السياسي مشيد على الجهل وسوء التقدير وحسابات مغلوطة بموازين القوى، ولا يغير في واقع الامر ان يكون بعض قادتها من خريجي الجامعات وبعضهم من العلماء، ولا يجدي واحدهم نفعا ان هو تظاهر بالمعرفة الموسوعية المفتعلة. نفي المعرفة عن الأصولي لا يعني تجريده من كل معرفة وفضيلة، فالذي فعله ستالين يوم نصب نفسه فيلسوفا وعالما في الفيزياء والاقتصاد... ونشر كتاب ((التناقض)) الذي هو عبارة عن محاضرات لقنه إياها أحد أساتذته قبل ان يعدمه بتهمة الخيانة، ثم ألغى الاحصاء الاقتصادي بصفته علما برجوازيا... كل ذلك وغيره لا يعطل فضائله في الانتصار على النازية، والمناضلون الصاعدون من الثقافة الاسلامية حرروا الجزائر من الاستعمار ولبنان من الاحتلال لكن بعضا من سلالتهم قتلوا سواهم غيلة وذبحوا مسلمين كالخراف، وهم ان نجحوا فبفضل مهارتهم في قراءة علم السياسة، وإن فظعوا فبسبب جهلهم قوانين هذا العلم، أما علوم الدين فهي ذاتها في الحالتين من دون تغيير. جهلهم إذن الذي نعنيه هو الجهل السياسي، وهو نابع من وهمهم بأن أصول العمل السياسي متوافرة في طقوس الايمان. خطيئة الأصوليات إذن خطيئتان: واحدة بحق الدين وأخرى بحق السياسة، لأن الخلط بينهما يسيء الى الاثنين معاً على قول الشاعر: ووضع الندى في موضع السيف في العلى مضر كوضع السيف في موضع الندى من هنا بالضبط نشأت الحاجة في الحضارة الحديثة الى التمييز بين الدين والسياسة باعتبارهما حقلين مختلفين في الهموم وآليات العمل والتفكير، وقد جرت صياغة هذا التمييز بدقة في شعار الفصل بين سلطة رجال الدين وسلطة الدولة، وذلك لتسهيل قيام الدولة الحديثة، دولة السيادة والقانون، على ان يبقى للمثقف، المعمم او خريج الجامعة، دوره، تحت سقف الدولة ورعايتها. وكم هو بالغ الدلالة ان يجمع الاصوليون على مواجهة الدولة الحديثة والقانون، وأن يتمسكوا بأية صيغة استنسابية للحكم تحت دعوى استحضارها من التاريخ، ولم ينتبهوا الى قضية بسيطة جدا، وهي ان التاريخ ماضٍ الى الأمام وأن له قوانينه التي، على رأي ديكارت، اذا كان الله قد خلقها بحكمته لتسيير شؤون العالم، فإن عقل البشر، وهو من خلق الله ايضا، اكتشفها ليعمل بهديها. غير ان عقل الاصوليات مصر على ربط عجلة التاريخ الى الوراء، لا في مجافاة العلم ومسخ التراث وقتله وتدميره فحسب، بل في منع قيام الدولة الحديثة، والوقوف بالتالي في وجه كل حداثة، بما في ذلك تحديث الدين. خطيئتهم الفكرية بحق النص هي قتل الحداثة التي فيه. فهم يجهلون ما في النصوص القديمة من طاقة على التجدد، نصوص الدين ونصوص الشعر والفلسفة. يتعاملون معها بجمود فيقتلونها، ولا يقرؤون فيها الا حروفها الصماء. إذن من أين لهم ان يكتشفوا سر الجمال الخالد في هوميروس والشعر الجاهلي والقرآن والانجيل وسائر كتب التراث؟ انهم يمسخون نصوص الدين فيحولون روحه الى طقوس، والطقوس الى أصنام. فأي إيمان إيمانهم؟ وأي دين هم عابدون؟ كاتب وأستاذ جامعي.
#مقلد_محمد_علي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أيها اليسار.. إلى اليسار در
المزيد.....
-
بيان جماعة علماء العراق بشأن موقف أهل السنة ضد التكفيريين
-
حماة: مدينة النواعير التي دارت على دواليبها صراعات الجماعات
...
-
استطلاع رأي -مفاجىء- عن موقف الشبان اليهود بالخارج من حماس
-
ولايات ألمانية يحكمها التحالف المسيحي تطالب بتشديد سياسة الل
...
-
هل يوجد تنوير إسلامي؟
-
كاتس يلغي مذكرة -اعتقال إدارية- بحق يهودي
-
نائب المرشد الأعلى الإيراني خامنئي يصل موسكو
-
الجيش السوري يسقط 11 مسيرة تابعة للجماعات التكفيرية
-
بالخطوات بسهولة.. تردد قناة طيور الجنة الجديد علي القمر الصن
...
-
TOYOUER EL-JANAH TV .. تردد قناة طيور الجنة بيبي على القمر ا
...
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|