|
-الوطنيّة- و-الحقوق-
عبد الحسين شعبان
الحوار المتمدن-العدد: 6748 - 2020 / 11 / 30 - 17:46
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
بالترابط مع إخفاق مشروع الدولة وتعثّر وظائفها في العديد من البلدان العربيّة وتراجع المشروعية القانونيّة وضعف الشرعيّة السياسيّة، برز جيل جديد من الشباب أخذ على عاتقه مسؤوليّة قيادة حركة احتجاج ميدانيّة بهدف التغيير بعيدًا عن التنظيرات الأيديولوجيّة، مبتدعًا أساليب كفاحيّة جديدة وغير مألوفة، منطلقًا من فضاء مجتمعي واقعي، متسلّحًا بعناوين وطنيّة عامّة، عابرًا الطائفيّة والفئويّة، متجاوزًا آليّات التغيير التقليديّة للمعارضات السياسيّة كالانقلابات العسكريّة والثورات المسلّحة والمؤامرات والدسائس التي تُحاك في دوائر البلاط وقصور الطبقات الحاكمة، حاشدًا كتلًا بشريّة هائلة من مختلف الاتجاهات والأفكار والأديان والطوائف، رافعًا شعارات سلميّة ومدنيّة تطالب بالتغيير بعد انسداد الآفاق بالإصلاح والتطوّر التدرّجي الديمقراطي، الأمر الذي أحدث نوعًا من الذهول والحيرة والتردّد للنُّخب السياسيّة والفكريّة والثقافيّة في السُّلطة والمعارضة في آن. ومع هذا التطوّر أخذ يتبلور مفهوم جديد للوطنيّة بعيدًا عن السُّلطات الحاكمة ومعارضاتها، فالأُولى تعتبر الوطنيّة "شرط خنوع" للسُّلطة، في حين أنّ الثانية لا تتورّع أحيانًا من اللجوء إلى "الاستعانة بالقوى الخارجيّة" تحت مبرّرات مختلفة. أمّا الجيل الجديد من الشباب الذي نضج في رحم المعاناة، فهو يربط الوطنيّة بالحقوق على نحوٍ عضوي ومتفاعل ويرى فيهما تلازمًا لا انفصام فيه، إذ ستكون الوطنيّة ناقصة ومبتورة من دون الحقوق، مثلما ستكون مستلبة ومشوّهة بالاستتباع الخارجي والتوظيف الأجنبي، فلا تكتمل الوطنيّة مع حجب الحقوق أو انتهاكها، ولا تستقيم بالخضوع لدوائر النفوذ الأجنبي بزعم الإتيان بـ"أنظمة بديلة"، ولكن كلّ ما تسعى إليه القوى الخارجيّة هو تهيئة المناخ لنقل الاستثمارات والرساميل لتحقيق المزيد من الأرباح ونهب ثروات البلدان. وإذا كان الجيل الجديد يعتبر التغيير استحقاقًا يقوم على مساءلة رجُل الدولة والحاكم بافتراض أنّهما موظفّان لدى الشعب ولخدمته وليس العكس، فإنّه يعتبر ما يقوم به من صلب الوطنيّة والمواطنة الحيويّة والفاعلة التي تفترض خضوع الجميع لحكم القانون حكّامًا ومحكومين ودون استثناء، فالقانون حسب مونتسكيو مثل الموت لا يستثني أحداً، وبالطبع فلا بدّ من توفّر ظرف موضوعي وذاتي، محلّي ودولي يسهم بإنضاج عمليّة التغيير. لم يتشدّق الجيل الجديد بشعارات الماضي والسفسطات الأيديولوجيّة والتعويذات الدينية، ووجد نفسه في قِيم مغايرة أساسها الحرّية والحقّ في التعبير والمساءلة والشراكة والمشاركة والمساواة والعدالة، وهي قيَم إنسانية عامّة تخصّ البشر ككل بغضّ النظر عن انتماءاتهم وقوميّاتهم وأديانهم ولغاتهم وأوضاعهم الاجتماعيّة والطبقيّة وغير ذلك. وكشفت حركة الاحتجاج أيضًا وجهًا آخر للعمل الثوري بـ اختفاء صورة الثوري القديمة، فلم يعُد يأتي بسترتِهِ المتّسخة وقميصه الرثّ، متنكّرًا بأزياء أخرى شعبيّة أو فلّاحيّة، أو واضعًا لفائف الرأس دليلًا على الثوريّة أو التديّن أو العمل السرّي. جاء الثوريّ الجديد بكل أناقته، ومعه جوقة البروفسورات وأساتذة الجامعات والإعلاميين والمحامين والأُدباء والفنّانين والكتّاب والقُضاة والمهندسين والأطباء والنقابيين من أصحاب المهن المختلفة وجميع شغيلة اليد والفكر، نساءً ورجالًا، ومن مختلف الشرائح الاجتماعيّة. هكذا شاهدنا الثوري في هذه المرّة يتدفّق بعلانيّة وفي وضح النهار إلى شارع الحبيب بورقيبة في تونس وميدان التحرير في القاهرة وساحة رياض الصلح في بيروت وساحة التحرير في بغداد والساحة الخضراء في طرابلس وفي أُمّ درمان والخرطوم، وكانت مساهمة النساء أساسية، سافرات أو محجّبات، مُسلمات أو مسيحيّات أو من أديان وطوائف أخرى، لا فرْق بينهنَّ؛ فقد وحدّهنَّ حبّ الوطن، وكنّ جميعهنَّ يردّدنَ الشعارات ذاتها، فقد انتقلنَ من الصفوف الخلفيّة المسانِدة للعمل الثوري إلى واجهات الحدث، ليتصدّرنَ المنابر والقيادات. لم يفكّر الثوري الجديد قبل مجيئه بتلقّي التعليمات من الأوكار السرّية أو من خرّيجي السجون أو المقيمين في الجوامع والمساجد والكنائس أو من مقارّ الأحزاب التقليدية وبياناتها الروتينيّة النمطيّة، فهؤلاء جميعهم هُم من اتّبعوه هذه المرّة، لأنه كان يعرف قضيّته أكثر من غيره، ولديه القدرة للتضحية من أجلها، دون وصاية أو أبويّة أو ادّعاء احتكار المعرفة والحقيقة والأفضليّة. لقد أثبتت قوّة الشّباب أنّها العامل الأساسي في رسم الخريطة المستقبلية، حتى وإن تأخّرت أو تعثّرت أو تراجعت النتائج الحاليّة والملموسة، لكنّها ستصبح استحقاقًا لا غنى عنه باستمرارها وتراكمها، سواء استجابت لها السلطات، وهو أمر مقدّر حين تتفاعل وُجهات نظر الشارع مع الاستعداد للتغيير لدى الحاكم، أو لم تستجب فستكون هناك آليّات أخرى أكثر تعقيدًا وأغلى ثمنًا لبلداننا. وإذا كانت الكتب الدينيّة أو القوميّة أو الكتاب الأحمر أو مقولات لينين وكاسترو وجيفارا محفّزًا للثوّار سابقًا، فإنَّ عُود الجيل الجديد اشتدَّ في غرف الإنترنيت وعلى صفحات الفيسبوك ومقاهي المهمّشين وعلى الأرصفة، وأثبت جدارةً لا حدود لها، على عكس الانطباع السائد الذي كان يتّهمهُ بالميوعة واللّامبالاة وقلّة الشعور بالمسؤولية؛ فهو أبدى استعدادًا للتضحية ونكران الذات وتقديم حياته ثمناً للحريّة والتغيير بل والموت أكثر بكثير ممّا أبدته أجيال سابقة، يكفي أن نقول إنّه في العراق وخلال أشهر معدودة كان هناك أكثر من 600 ضحيّة ذهبت بدَمٍ باردٍ وما يقارب من 20 ألف جريح ومعوّق.
نُشر في مجلة "الشراع" اللبنانية بتاريخ 12/11/2020
#عبد_الحسين_شعبان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
فلسطين عنوان الحرّية
-
وداعاً .. السيّد الصادق المهدي
-
قمة الرياض 20 G والأمن الإنساني
-
في الحاجة إلى التسامح
-
في فلسفة المطالبة بإلغاء عقوبة الإعدام
-
-البايدنيّة- وكلمة السر
-
حفريات تاريخية من النجف الإمام الحسني البغدادي ... سسيولوجيا
...
-
بيروت والذاكرة الملعونة
-
الجماعات الإرهابية وجه آخر لتيار عنصري كاره للمسلمين
-
حول انتفاضتي لبنان والعراق
-
سلطة الحق سلطة الضوء
-
عُسر «الديمقراطية» عربياً
-
اللّاعنف.. المستحيل والممكن
-
العدل والعقل
-
منتدى الثلاثاء الثقافي : التنوّع والتواصل والفضاء المعرفي
-
حين يغيب المشروع العربي تتصدر المنطقة ثلاث مشاريع هي: الصهيو
...
-
غاندي وروح الحقيقة
-
مجلة المستقبل العربي - الريادة والأفق
-
عزيز محمد شيوعية بلا جناح: الاستعبار والاستبصار- الحلقة الثا
...
-
عزيز محمد شيوعية بلا جناح: الاستعبار والاستبصار- الحلقة الحا
...
المزيد.....
-
مقتل 10 أشخاص في هجوم مسلحين على قرية علوية بريف حماة وفتح ت
...
-
ماذا دار بأول اتصال بين ترامب والسيسي بعد إعلان مقترحه لنقل
...
-
اجتماع عربي يرفض -تهجير الفلسطينيين خارج أرضهم-، وإسرائيل تف
...
-
النرويج تفرج عن سفينة يقودها طاقم روسي بعد الاشتباه بدورها ف
...
-
السودان: مقتل العشرات في هجوم للدعم السريع على سوق بأم درمان
...
-
من أصحاب الأحكام العالية.. من هو المصري الذي أفرجت عنه إسرائ
...
-
بحرية الحرس الثوري الإيراني تكشف عن -مدينة صاروخية- جديدة
-
راجمات الصواريخ تدك القوات الأوكرانية
-
ترامب يقيل روهيت تشوبرا مدير مكتب الحماية المالية للمستهلك ا
...
-
السفير الإيراني يوضح مستقبل العلاقات بين موسكو وطهران في عهد
...
المزيد.....
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
-
في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|