|
النشاط والوعي
مالك ابوعليا
(Malik Abu Alia)
الحوار المتمدن-العدد: 6745 - 2020 / 11 / 27 - 23:14
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
كاتب المقالة: اليكسي نيكولايفيتش ليونتيف*
ترجمة مالك أبوعليا
عند دراسة هذه المُشكلة، فان النقطة الأولى التي يتعين علينا مُراعاتها هي مسألة أهمية مقولة النشاط في أي تفسير لكيفية تحديد الوعي البشري. هناك مُقاربتان لهذا السؤال. تفترض احدهمها الاعتمادية المُباشرة لظواهر الوعي على التأثيرات المُتنوعة التي تُمارَس على أنظمة الانسان الاستقبالية. تم التعبير عن هذه المُقاربة بوضوح كلاسيكي في الفيزياء النفسية في القرن التاسع عشر وفسيولوجيا الوظائف الحسية. كانت المُهمة الرئيسية للبحث في تلك الأيام هي تحديد الاعتمادية الكمية للأحاسيس، التي تُعتبر عناصر للوعي، على العوامل الفيزيائية المُتغيرة التي تؤثر على أعضاء الحس. وهكذا استندت هذه الأبحاث على نمط "التأثير-الاستجابة". تكمن حدود هذه المُقاربة في حقيقة أنها تفترض من ناحية المواضيع والأشياء، ومن ناحية أُخرى، ذات سلبية تتأثر بها. بمعنىً آخر، تتجاهل هذه المُقاربة العُنصر المُهم في العلاقات الفعلية للذات مع العالم الموضوعي، تتجاهل نشاطه. مثل هذا التجريد مقبول بالطبع، ولكن فقط ضمن حدود تجربة تهدف الى الكشف عن خصائص مُعينة للبُنى والوظائف الأولية التي تُساهم في تحقيق عمليات ذهنية مُعينة. ولكن، في اللحظة التي يتجاوز فيها المرء هذه الحدود الضيقة، سيُدرك عدم كفاية هذه المُقاربة، وهذا هو الذي أجبر عُلماء النفس الأوائل على شرح الحقائق النفسية على أساس قوىً خاصة، مثل الحسية النشطة أو النية الداخلية أو الارادة، وما الى ذلك، أي اللجوء الى الطبيعة النشطة للذات، ولكن في شكلٍ غامضٍ ومُفسر بشكلٍ مثالي. كانت هُناك العديد من المُحاولات للتغلب على الصعوبات النظرية التي أنشأها افتراض الطابع المُباشر وراء المُقاربة التي ذكرناها للتو. على سبيل المثال، يتم التأكيد على أن نواتج التأثيرات الخارجية لا تتحدد بشكلٍ فوريٍ من خلال الأشياء نفسها، ولكن تعتمد على انعكاسها-أي انعكاس تلك النواتج- بواسطة الذات. بمعنىً آخر، يتركز الاهتمام على حقيقة أن الأسباب الخارجية تعمل من خلال وسط الشروط الداخلية. لكن يُمكن تفسير هذه الفكرة بطرقٍ مُختلفة، اعتماداً على ما الذي تعنيه الشروط الداخلية. اذا تم فهم هذه الأخيرة على أنها تعني التغيرات في الحالات الداخلية للذات، فان الفكرة لا تُقدّم لنا شيئاً جديداً بشكلٍ أساسي. يُمكن لأي كائن أن تتغير حالاته الداخلية وبالتالي أن يُعبّر عن نفسه بطرقٍ مُختلفة في تفاعله مع الأشياء الأُخرى. تظهر خطوات الأقدام على أرضٍ ناعمة ولكن ليس على أرضٍ صلبة. يتفاعل الحيوان الجائع مع الطعام بشكلٍ مُختلفٍ عن ذلك الذي يتغذى جيداً، ويختلف رد فعل الشخص المُتعلم على الحرف عن رد فعل الأُمي تجاهه. انها مسألة أُخرى اذا كُنا نعني بعبارة "الشروط الداخلية" السمات الخاصة للعمليات النشطة في الذات. لكن السؤال الرئيسي هو ما هي هذه العمليات التي تتوسط تأثيرات العالم الموضوعي المُنعكسة في دماغ الانسان. تكمن الاجابة الأساسية على هذا السؤال في الاعتراف بأن هذه العمليات هي تلك التي تُحقق الحياة الفعلية للفرد في العالم الموضوعي الذي يُحيط به، وجوده الاجتماعي بكل ثراءه وتنوع أشكاله. بكلماتٍ أُخرى، هذه العمليات هي نشاطه. يتطلب هذا الطرح تعريفاً اضافياً، بأننا لا نعني بالنشاط ديناميكيات العمليات العصبية والفسيولوجية التي تُحقق هذا النشاط. يجب التمييز بين ديناميات وبُنية العمليات الذهنية واللغة التي تصفها، وديناميات وبُنية نشاط الذات واللغة التي تصفها، من جهةٍ أُخرى. وبالتالي، عند التعامل مع مسألة كيف يتحدد الوعي، فاننا نواجه البدائل التالي: اما قُبول وجهة النظر المُتضمنة في "بديهية الفورية والمُباشرة"، أي الانطلاق من نمط "التأثير-الاستجابة" أو "الذات-الموضوع" وهما نفس الشيء، أو الانطلاق من نمط يتضمن رابطاً ثالثاً مُتصلاً، أي نشاط الذات (وبالمقابل، وسائل وطريقة تمظهره)، أي رابط يتوسط هذه العلاقة، وهذا يعني، الانطلاق من نمط "الذات-النشاط-الموضوع". في الشكل الأكثر عموميةً، يُمكن طرح هذا البديل على النحو التالي. اما أن نتخذ الموقف القائل بأن الوعي يتحدد بشكلٍ مُباشرٍ من خلال الأشياء والظواهر المُحيطة، أو نفترض أن الوعي يتحدد بالوجود، والذي، على حد تعبير ماركس، ليس سوى السيرورة الفعلية لحياة الناس. لكن، ما هي الحياة الفعلية أو الحقيقية للناس؟ تتكون حياة كُل فرد من المجموع الكُلّي، أو اذا توخينا الدقة، نظام، تسلسل هرمي للأنشطة المُتعاقبة. في النشاط، يحدث انتقال أو "ترجمة" للموضوع المٌنعكس الى صورة ذاتية، مثالية Ideal، وفي الوقت نفسه، يتحقق أيضاً في النشاط انتقال من المثالي Ideal الى النتائج الموضوعي للنشاط، أي الى نتاجه، الى شيء مادي. بالنظر الى هذه الزاوية، فان النشاط عبارة عن عملية تحرّك داخلي بين قُطبين مُتقابلين، الذات والموضع. النشاط هو وحدة غير مُضافة، للحياة المادية الملموسة للذات. بالمعنى الضيق، أي على المستوى النفسي، انها وحدة للحياة يتوسطها انعكاس ذهني، صورة، والتي وظيفتها الحقيقية هي توجيه الذات في العالم الموضوعي. ومع ذلك، بغض النظر عن الظروف والأشكال التي ينطلق منها نشاط الانسان، بغض النظر عن البُنية التي يكتسبها هذا النشاط، لا يُمكن اعتباره شيئاً منزوعاً من العلاقات الاجتماعية، من حياة المجتمع. على الرغم من كل تنوعه، فان كل السمات الخاصة لنشاط الفرد البشري هو نظام يخضع لمنظومة العلاقات الاجتماعية. لا يوجد أي نشاط بشري خارج هذه العلاقات. تتحدد كيفية وجوده من خلال أشكال وسائل الاتصال المادي والروحي التي يولدها تطور الانتاج والتي لا تتحقق الا في نشاط أفراد مُحددين. من المنطقي أنة نشاط كُل فرد يعتمد على موقعه في المُجتمع وعلى ظروف حياته. يجب أن نذكر هذا، بسبب الجهود المُستمرة للوضعيين في مُعارضتهم الفرد بالمجتمع. وجهة نظرهم هي أن المُجتمع يوفر فقط بيئة خارجية يجب على الانسان أن يتكيّف معها من أجل البقاء، تماماً كما يجب على الحيوان أن يتكيّف مع بيئته الطبيعية. يتشكل نشاط الانسان من خلال نجاح أو فشل هذا التكيف على الرغم من أن هذا قد يكون غير مُباشر (على سبيل المثال، من خلال الموقف الذي تتخذه مجموعة الفرد المرجعية تجاه نشاطه). لكن يتم تجاهل الشيء الرئيسي، وهو أن الانسان في المجتمع لا يجد فقط ظروفه الخارجية التي يجب عليه تكييف نشاطه معها، ولكن أيضاً أن هذه الظروف الاجتماعية ذاتها تحمل في حد ذاتها دوافع وأهداف نشاطه، وطُرق ووسائل تحقيقها. باختصار، ان المُجتمع يُنتج النشاط الانساني. هذا لا يعني، بالطبع، أن نشاط الفرد مُجرد نسخ وتجسيد لعقلات المُجتمع وثقافته. هناك بعض الروابط المُتقاطعة المُعقدة للغاية التي تستبعد أي اختزال صارم لنشاط الفرد الى الثقافة، أو الثقافة الى نشاط الفرد. السمة الأساسية المُكونة للنشاط هو أن لديه موضوعاً. في الحقيقة، فان مفهوم النشاط ذاته (الفعل، Doing، Tätigkeit) يتضمن مفهوم موضوع النشاط. ليس لتعبير "نشاط بلا موضوع" أي معنىً على الاطلاق. قد يبدو النشاط بلا موضوع، لكن البحث العلمي للنشاط يتطلب بالضرورة اكتشاف موضوعه الحقيقي. علاوةً على ذلك، يظهر موضوع النشاط في شكلين: الأول، في وجوده المُستقل، الأمر الذي يتطلب نشاط الذات، وثانياً، الصورة الذهنية للموضوع كنتاج لاكتشاف الذات لخصائصه، والتي (أي هذه الصورة) تَنتُج من خلال نشاط الذات، ولا يُمكن أن تَنتُج بدون ذلك. تم الاعتراف عموماً بالطبيعة الدائرية للعمليات التي تَنتُج من تفاعل العضوية مع البيئة. لكن الشيء الرئيسي ليس الشكل الدائري على هذا النحو، ولكن حقيقة أن الانعكاس العقلي للعالم الموضوعي لا يتم انشاؤه مُباشرةً من خلال التأثيرات الخارجية نفسها، ولكن من خلال عمليات الالتقاء العملي للذات مع العالم الموضوعي، وبالتالي، يكون ذلك الانعكاس خاضعاً بالضرورة لخصائص وروابط ذلك التلاقي. هذا يعني أن العامل الحاسم الذي يتحكم في عمليات النشاط هو في المقام الأول الموضوع نفسه، وثانياً فقط صورته كنتاج ذاتي للنشاط، والذي يُسجل ويحمل في حد ذاته المحتوى الموضوعي للنشاط. ان الشكل الأولي والأساسي نشوئياً للنشاط الانساني هو النشاط الخارجي، النشاط العملي. هذا الافتراض له آثار مُهمة، لا سيما وأن السيكولوجيا، تقليدياً، كانت دائماً تدرس نشاط الفكر والخيال وأفعال الذاكرة وما الى ذلك، نظراً لان مثل هذا النشاط الداخلي فقط كان يُعتَبَر نفسيا. لذلك تجاهلت السيكولوجيا النشاط الحسّي العملي. وحتى اذا ظهر النشاط الخارجي الى حدٍ ما في السيكولوجيا التقليدية، فان ذلك لم يحدث الا باعتباره تعبيراً عن نشاطٍ داخلي، نشاط الوعي. ما الذي نقصده بالضبط عندما نتحدث عن النشاط؟ دعونا نُفكر في أبسط عملية، عملية الادراك الحسي لمرونة شيء. هذه عملية حركية خارجية، والتي تهدف الى أداء مهمة عملية، على سبيل المثال، تغيير شكل الشيء. الصورة التي تنشأ في سياق هذه العملية هي بالطبع صورة ذهنية وبالتالي يجب، بالطبع، أن تخضع لدراسة سيكولوجية. لكن من أجل فهم طبيعة الصورة، يجب أن أدرس العملية التي تُولّدها، وهذه في الحالة المُعطاة، عملية خارجية وعملية. سواءاً أعجبك ذلك أم لا، فأنا مُضطر الى تضمين هذه العملية واعتبارها جُزء من موضوع بحثي السيكولوجي. بطبيعة الحال، فان مُجرد اثبات الحاجة الى بحث سيكولوجي يمتد الى مجال النشاط الموضوعي الخارجي لا يحل المُشكلة لانه قد يُفتَرَض أنه على الرغم من أن النشاط الموضوعي الخارجي يأتي في نطاق البحث السيكولوجي، فان هذا النشاط يلعب دوراً ثانوياً. لانه يتبع العملية النفسية الداخلية التي تكمن وراءه، ولهذا السبب فان البحث السيكولوجي في الواقع لا يعني اثبات أهمية هذا النشاط. هذه نُقطة يجب أخذها في الاعتبار، ولكن فقط اذا افترض المرء أن النشاط الخارجي يعتمد من جانبٍ واحدٍ على الصورة التي تتحكم به، والتي يُمكن أو لا يُمكن أن تتعزز نتيجةً لهذا النشاط. ولكن ليس الأمر كذلك. انه النشاط الخارجي هو الذي يفتح دائرية العمليات العقلية الداخلية، والذي يُتيح لها المجال الاطلاع على العالم الموضوعي. سيكون من السهل ادراك أن الواقع الذي يهتم به السيكولوجي هو أساساً أكثر ثراءاً وتعقيداً من الخطوط العريضة التي تظهر بها الصورة كنتاج للاتصال بالموضوع الذي تحدثنا عنه للتو. ولكن بغض النظر عن مدى ابتعاد الواقع النفسي عن هذا النمط المُبتذل، وبغض النظر عن مدى عُمق تحولات النشاط، سيظل النشاط تحت جميع الظروف هو العنصر الذي يُجسد الحياة لأي فردٍ مُعطى. كانت السيكولوجيا القديمة مُهتمةً فقط بالعمليات الداخلية، بنشاط الوعي. بالاضافة الى ذلك، تجاهلت لفترةٍ طويلة مسألة أصل هذه الأنشطة، أي طبيتها الفعلية. اليوم، أصبح الطرح القائل بأن عمليات التفكير الداخلية ناتجة عن الخارجية مُعترفاً به بشكلٍ عام تقريباً. في البداية، على سبيل المثال، تأخذ العمليات الذهينة الداخلية شكل عمليات خارجية تتضمن أشياءاً خارجية، وعندما تُصبح عملياتٍ داخلية، فان هذه العمليات الخارجية لا تُغير شكلها فحسب، بل تخضع لتحولٍ مُعين، وتصبح أكثر عموميةً وما الى ذلك. كل هذا صحيح تماماً بالطبع، لكن يجب التأكيد على أن النشاط الداخلي هو نشاط أصيل، والذي يحوز سمات البُنية العامة للنشاط الانساني بغض النظر عن الشكل الذي يتخذه. بمُجرد أن نعترف بالبنية المُشتركة للنشاط الخارجي والعملي، والنشاط الذهني الداخلي، يُمكننا فهم تبادل العناصر الذي يحدث باستمرار فيما بينها ويُمكننا أن نفهم أن بعض الأفعال الذهنية قد تُصبح جُزءاً من بُنية النشاط العملي والمادي المُباشر، وعلى العكس من ذلك، قد تخدم العمليات الحركية الخارجية أداء الفعل الذهني في بُنية النشاط الادراكي البحت. في العصر الحالي، تكون هذه القضية أكثر بديهية عندما نرى تكامل هذه الأشكال من النشاط البشري أما أعيننا، وعندما يتم محو التناقض التاريخي بينها بشكلٍ مُطرد ومُتزايد. حتى الآن، كنا نتحدث عن النشاط بالمعنى العام والجماعي لهذا المفهوم. ولكن، في الواقع، يتعيّن علينا التعامل مع أنشطة ملموسة ومُحددة، كُلٌ منها يُلبي حاجةً مُعينة للذات، ومتوجهة نحو موضوع هذه الحاجة، وتختفي نتيجةً لاشباع هذه الحاجة، ويُمكن اعادة انتاجها في ظروفٍ مُختلفة وفيما يتعلق بموضوعٍ مُتغير. الشيء الرئيسي الذي يُميز نشاطاً عن آخر يكمن في الاختلاف بين مواضيعها. ان موضوع النشاط هو الذي يمنحه توجهاً مُعيناً. في اطار المُصطلحات التي كُنت استخدمها، فان موضوع النشاط هو الدافع Motive. بطبيعة الحال، قد يكون هذا الموضوع مادياً أو مثالياً Ideal، وقد يكون قد أُعطيَ حسياً، أو قد يكون موجوداً في الخيال أو في العقل. لذلك، تتميز الأنشطة المُختلفة بدوافعها. يرتبط مفهوم النشاط بالضرورة بمفهوم الدافع. لا يوجد نشاط بدون دافع. النشاط "غير المُحفّز Unmotivated هو ليس نشاطاً بدون دافع، ولكنه نشاط بدافع ذاتي وموضوعي خفي. ان "المكونات" الأساسية للأنشطة البشرية المُنفصلة هي الأفعال Actions التي تُحققها. نحن نعتبر الفعل بمثابة العملية التي تتوافق مع فكرة النتيجة التي يجب تحقيقها، أي العملية التي تخضع لهدفٍ واعٍ. مثلما يرتبط مفهوم الدافع بمفهوم النشاط، فان مفهوم الهدف مُرتبط بمفهوم الفعل. تاريخياً، كان ظهور عمليات الفعل الموجه نحو الهدف Goal-Oriented Action في النشاط، نتيجةً لظهورمُجتمع قائم على العمل Labour. ان نشاط الناس الذين يعملون معاً يتحفز من خلال نتاج ذلك العمل، والذي يتوافق في البداية، بشكلٍ مُباشر مع احتياجات كُل المشاركين فيه. لكن أبسط تقسيم تكنيكي للعمل ينشأ في هذه العملية يؤدي بالضرورة الى ظهور نتائج وسيطة وجُزئية، والتي تتحقق من خلال المُشاركة الفردية في نشاط العمل الجماعي، وهي لا يُمكنها في حد ذاتها أن تُلبي حاجات كُل مُشارك. لا يتم تلبية هذه الحاجة من خلال النتائج "الوسيطة"، ولكن من خلال حصة المُنتَج من اجمالي النشاط الذي يحصل عليه كل فرد بفضل العلاقات بين المُشاركين، اي العلاقات الناشئة في عملية العمل، ونعني بذلك العلاقات الاجتماعية. سيكون من السهل فهم أن هذه النتيجة "الوسيطة" التي تُشكّل نمط عمليات عمل الانسان يُحددها بشكلٍ ذاتيٍ أيضاً، في شكل فكرة. هذا هو، في الواقع، نصب الهدف Setting of the Goal، الذي يُحدد شكل وطابع نشاط الفرد. يؤدي تحديد هذه الأهداف وتشكيل الأنشطة المُصممة لتحقيقها الى نوعٍ من تقسيم الوظائف التي كانت مُتحدة في دوافعها في السابق. لنفترض أن نشاط الانسان يُحفزه الطعام، وهذا هو دافعه. ومع ذلك، من أجل تلبية الحاجة الى الطعام، يجب عليه القيام بأعمال لا تهدف بشكلٍ مُباشرةٍ الى الحصول على الطعام. على سبيل المثال، قد يكون أحد أهدافه هو صنع عصا، أو أداة للصيد. سواءاً أكان هو نفسه سيستخدم لاحقاً الأداة التي يصنعها أو ينقلها الى مُشاركين آخرين في الصيد ويتلقى جزءاً من الصيد، في كلتا الحالتين لا يتطابق دافعه وهدفه بشكلٍ مُباشرة، باستثناء حالات مُعينة. ان انفصال الأفعال الموجهة نحو الهدف كمكونات للنشاط البشري، يطرح بطبيعة الحال، مسألة علاقاتها الداخلية. كما قُلنا، النشاط ليس عمليةً مُضافة. ومن ثم، فان الأفعال ليس أشياء مُنفصلة مُدرجة في النشاط. يوجد النشاط البشري كفعل أو سلسلة من الأفعال. اذا كنا سنقوم ذهنياً، بازالة الأفعال من النشاط، فلن يتبقى من هذا الأخير أي شيء. يُمكن التعبير عن هذا بطريقةٍ أُخرى، عندما نُفكر في كشف عملية مُحددة-خارجية أو داخلية- من زاوية دافعها، فانها تظهر على أنها نشاط بشري، ولكن عند أخذها من زاوية كونها عملية موجهة نحو الهدف، فانها تظهر لنا كفعل أو نظام أو سلسلة من الأفعال. في الوقت نفسه، يُعتَبَر النشاط والفعل واقعين أصيلين وهما، علاوةً على ذلك، واقعين غير مُتطابقين، لان نفس الفعل قد يُحقق أنشطةً مُختلفة، وقد ينتقل من نشاطٍ الى آخر، وبالتالي يكشف عن استقلاليته النسبية. هذا يرجع الى حقيقة أن الفعل المُحدد قد يكون له دوافع مُختلفة تماماً، أي أنه قد يُحقق أنشطةً مُختلفةً تماماً. وقد يُولّد نفس الدافع أهدافاً مُختلفة، وبالتالي أفعالاً مُتنوعة. لذلك، في التدفق العام للنشاط الذي يُشكّل الحياة البشرية في أرقى تمظهراتها (تلك التي يتوسطها الانعكاس العقلي)، يُحدد التحليل أولاً أنشطة مُنفصلة، وفقاُ لمعيار الاختلاف في دوافعها. ثم يتم تحديد عملية الفعل الذي يتبع الهدف الواعي، وأخيراً، الاجراءات Operations التي تعتمد بشكلٍ مُباشر على شروط التوصل الى هدفٍ مُعين. تُشكل "وحدات" Units النشاط البشري هذه بُنيته الماكروية Macrostructure. ان التحليل الذي يتم من خلاله التعرف عليها- أي على الوحدات- هي ليست عملية تفكيك للنشاط الحي الى عناصر مُنفصلة، ولكن كشف عن العلاقات التي تُميز هذا النشاط. يستبعد تحليل الأنظمة هذا، في وقتٍ واحد، أي امكانية لتشظية الواقع الذي تتم دراسته، لانه لا يتم التعامل مع عمليات مُختلفة ولكن مع مستويات مُختلفة من التجريد. ومن ثم قد يكون من المُستحيل للوهلة الأولى، على سبيل المثال، الحكم، على ما اذا كنا نتعامل، في حالةٍ مُعينة، مع فعلٍ أو اجراء. الى جانب ذلك، يُعتَبَر النشاط نظاماً ديناميكياً للغاية يتميز بالتحولات التي تحدث باستمرار. قد يفقد النشاط الدافع الذي أثاره، وفي هذه الحالة يتحول الى فعل يُحقق ربما علاقةً مُختلفةً مع العالم، اي نشاط مُختلف. على العكس من ذلك، قد يكتسب الفعل قوة تحفيزٍ مُستقلة ويُصبح نوعاً خاصاً من النشاط. وأخيراً، قد يتحول الفعل الى وسيلة للوصول الى هدفٍ قادرٍ على تحقيق أفعالٍ مُختلفة. تبقى الحقيقة التي لا جدال فيها أن نشاط الانسان تُنظمه الصور الذهنية عن الواقع. أي شيء في العالم الموضوعي يطرح نفسه للانسان على أنه دافع أو هدف وشروط لنشاطه يجب بطريقة أو باُخرى ادراكه وفهمه والاحتفاظ به واعادة انتاجه من خلال ذاكرته، وهذا ينطبق على عمليات نشاطه ونفسه وحالاته وخصائصه الفردية. ومن ثُم، يترتب على هذا، أن وعي الانسان في شكله المُباشر هو صورة العالم الذي يتكشف أمامه، وهي صورة يُدرج فيها نفسه وأفعاله وحالاته. بالنسبة للشخص المُبتدئ، فان وجود هذه الصورة الذاتية لن يؤدي بالطبع الى أي مشاكل نظرية. انه يواجه العالم وليس العالم وصورته. تحتوي هذه الواقعية العفوية على عُنصر حقيقي، وان كان ساذجاً. انها مسألة مُختلفة عندما نُساوي الانعكاس الذهني بالوعي. هذا ليس أكثر من وهم لاستبطاننا. ينشأ هذا الوهم من المدى غير المحدود للوعي. عندما نسأل أنفسنا ما اذا كنا على دراية بهذه الظاهرة أو تلك، فاننا نضع على أنفسنا مُهمة ادراكها، وبالطبع، نُنجز هذه المهمة على الفور في المُمارسة العملية. كان من الضروري ابتكار تقنية خاصة لاستخدام منظار التاكيستوكوب tachistoscope من أجل فصل مجال الادراك الحسّي عن مجال الوعي. من ناحيةٍ أُخرى، تُخبرنا بعض الحقائق المعروفة التي يُمكن اعادة انتاجها بسهولة في ظروفٍ معملية أن الانسان قادر على القيام بعمليات تكيفية مُعقدة فيما يتعلق بأشياء البيئة دون أن يكون على دراية بصورتها على الاطلاق. انه يتغلب على العقبات، بل ويُغير الأشياء دون "رؤيتها" على الاطلاق. انها مسألة مُختلفة اذا كان على المرء أن يصنع شيئاً أو يغيره وفقاً لنمط، أو أن يصور شيئاً من العالم الموضوعي. اذا أردت أن أُشكّل، خُماسياً من الأسلاك أو أن ارسمه، يجب بالضرورة أن أُقارن الفكرة التي لدي عنه في الظروف الموضوعية، مع مراحل تحقيقها كنتاج. يجب أن أقيس داخلياً أضلاعه وأقارنها معاً. يتطلب مثل هذا القياس أن تبدو فكرتي بالنسبة لي، على نفس مُستوى العالم الموضوعي، وفي نفس الوقت أن لا أندمج في هذا العالم الموضوعي وأنسخه. هذا واضح بشكلٍ خاص في الحالات التي نتعامل فيها مع مسائل يجب حلها عن طريق اجراء مبدأي في "رؤوسنا" للازاحة المكانية المُتبادلة لصور الأشياء التي يجب أن نربطها. هذا، على سبيل المثال، هو نوع المسائل التي يتطلب منا قلب الصور أو تغيير مكان الرؤية عند النظر في شكل هندسي مرسوم داخل شكل هندسي آخر. من الناحية التاريخية، تنشأ الحاجة الى مثل هذا "العرض" للصورة الذهنية للموضوع فقط أثناء الانتقال من النشاط التكيّفي الحيواني الى النشاط الانتاجي والعمل الخاص بالانسان. المُنتَج الذي يتم توجيه النشاط اليه الآن غير موجود بعد. لذلك، لا يُمكن للمُنتَج أن يُنظم النشاط الا اذا تم عرضه للذات بذلك الشكل الذي يُمكّنه من مقارنته بالمادة الأصلية (موضوع العمل) ومع تحولاته الوسيطة. علاوةً على ذلك، يجب على الصورة الذهنية للمُنتَج أن توجد كهدف للذات بطريقة تُمكنه من التعامل مع هذه الصورة، اي تعديلها وفقاً للظروف الموجودة. مثل هذه الصور هي صور واعية، أو أفكار واعية، أو بعبارةٍ أُخرى، ظاهرة الوعي. لا تُخبرنا الحاجة الى ظهور الوعي في رأس الانسان في حد ذاتها أي شيء عن العملية التي ينشأ الوعي من خلالها. ومع ذلك، يُعطينا هذا هدفاً واضحاً لدراستنا لهذه العملية. النقطة المُهمة هي أنه من حيث نمط "الذات-الموضوع" التقليدي، فان وجود الوعي في الذات مقبول دون أي تفسيرات، ما لم نحسب التفسيرات التي تفترض وجود نوع من المُراقبين في رؤسنا يصنعون الصور المنسوجة عن طريق العمليات الدماغية. ان منهجية التحليل العلمي لنشوء وعمل الوعي الاجتماعي والفردي، اكتشفها ماركس. وكانت النتيجة أن دراسة الوعي حوّلت هدفها من ذاتية الفرد الى أنظمة النشاط الاجتماعي. من البديهي أن تفسير طبيعة الوعي يكمن في السمات المُميزة للنشاط الانساني الذي يخلق الحاجة له-أي للوعي- في الطابع الانتاجي للنشاط. ينطبع نشاط العمل في نتاجه. يحدث، على حد تعبير ماركس، تحوّل النشاط الى شيء ثابت، خاصية مُحددة. هذا التحوّل هو عملية التجسيد المادي للمحتوى الموضوعي للنشاط، والذي يطرح نفسه الآن للذات، أي أنه ينشأ أمامه في شكل صورة للشيء المُدرَك. بمعنىً آخر، ان احدى أشكال تفسير توليد الوعي بشكل تقريبي هي على النحو التالي: عندما يتجسّد التصوّر الذي يتحكم بالنشاط، اي عندما يتجسّد في الموضوع، يكتسب وجوده "المُموضع" Objectivised الثاني والذي يُمكن ادراكه حسياً. نتيجةُ لذلك، ترى الذات تصوّرها الخاص في العالم الخارجي. عندما يتم تكرار هذا، ستفهم الذات نشاطها بطريقة واعية. هذا الطرح غير صالح، لانه يُعيدنا الى وجهة النظر التجريبية الذاتية، المثالية بشكلٍ أساسي والتي تؤكد قبل كُل شيء على أن هذا الانتقال المُعين يعتمد على الوعي، وعلى وجود تصورات أو نوايا أو خُطط ذهنية أو أنماط للفرد، أي ظاهرة ذهنية تتوضّع في النشاط ونتاجه. اما بالنسبة لنشاط الذات نفسه، فهو مُسَيطَرٌ عليه من قِبَل الوعي ولا يؤدي فيما يتعلق بمحتوياته سوى وظيفة "تعزيز أو اضعاف" الوعي. لكن ليس الشيء الرئيسي الاشارة الى الدور النشط والمُسيطر للوعي. تكمن المسألة الرئيسية في فهم الوعي باعتباره نتاجاً ذاتياً، باعتباره تمظهراً بأشكالٍ مُختلفة للعلاقات الاجتماعية الأساسية التي تتجسد من خلال نشاط الناس في العالم الموضوعي. النشاط ليس بأي حالٍ من الأحوال مُجرّد مُعَبّر ووسيلة للصورة الذهنية المموضعة في نتاجه. لا يُسجل النتاج الصورة، بل النشاط، اي المُحتوى الموضوعي الذي يحمله داخل نفسه. تُشكّل انتقالات "الذات-النشاط-الموضوع" نوعاً من الحركة الدائرية، لذلك قد يبدو من غير المهم تحديد ايُ من عناصره أو لحظاته هو العُنصر الأولي. لكن هذا ليس بأي حال حركة في دائرة مغلقة. تنفتح الدائرة على وجه التحديد في النشاط العملي الحسي نفسه. يتعدّل النشاط ويُصبح أغنى عند الدخول في اتصال مُباشر مع الواقع الموضوعي، ويتبلور نتاج النشاط في هذا الشكل الغني. ان النشاط المُتجسّد والمتحقق هو أكثر ثراءاً وأصح من الوعي الذي يسبقه. بالاضافة الى ذلك، بالنسبة الى وعي الذات، تظل المُساهمات التي قدّمها نشاطه خفية. لذلك قد يبدو أن الوعي هو أساس النشاط. دعونا نصغ هذا بطريقة مُختلفة. يظهر أن انعكاس مُنتجات النشاط الموضوعي الذي يُجسّد الروابط والعلاقات بين الأفراد الاجتماعيين هي ظواهر لوعيهم. ولكن في الواقع هناك في ما وراء هذه الظواهر، الروابط والعلاقات المذكورة أعلاه، ليس في شكل واضح، ولكن في شكل مُتجاوَز مخفي عن الذات. في نفس الوقت، تُشكل ظاهرة الوعي عُنصراً حقيقياً في حركة النشاط. هذا ما يجعله أساسياً، أي أن الصورة الواعية تؤدي وظيفة القياس المثالي Ideal، والتي تتجسد في النشاط. تُحدِث هذه المُقاربة للوعي اختلافاً جذرياً في الطريقة التي تُطرَح بها مسألة الارتباط بين الصورة الذاتية والموضوع الخارجي. انها تُخلص الأمر من الغموض الذي يكتنف هذه المُشكلة، هذا الغموض الذي يخلقه افتراض وجود علاقة مُباشرة. اذا انطلق المرء من افتراض أن التأثيرات الخارجية تُثير فينا بشكلٍ مُباشر صورة ذاتية في دماغنا، سيواجه المرء على الفور السؤال حول كيف يُمكن لهذه الصورة أن تكون موجودةً خارجنا، خارج ذاتيتنا، في احداثيات العالم الخارجي. انطلاقاً من افتراض وجود علاقة مُباشرة، لا يُمكن الاجابة على هذا السؤال الا بافتراض وجود عملية ثانوية تتمثل في اسقاط الصورة الذهنية على العالم الخارجي. ان الضعف النظري لمثل هذا الافتراض واضح. الى جانب انه يتعارض بشكلٍ واضحٍ مع الحقائق، التي تشهد على أن الصورة الذهنية منذ البداية "مُرتبطة" بواقعٍ خارجٍ عن دماغ الشخص، وأنها لا تُسقَط الى العالم الخارجي، بل بالأحرى تُستخلَص منه، وتُغرَفُ منه. بالطبع، عندما أتحدث عن "الغرف" فهذا ليس أكثر من مجاز. ومع ذلك، فهو يُعبر عن عملية حقيقية يُمكن البحث فيها علمياً، أي عملية استيعاب الذات للعالم الموضوعي بشكلٍ مثالي Ideal، شكل انعكاسه الواعي. تنشأ هذه العملية في الأصل من نظام العلاقات الموضوعية الذي يتم فيه انتقال مُحتوى النشاط الموضوعي الى نتاجه. ولكن لا يكفي، لكي تتحقق هذه العملية، ان يُظهر نتاج النشاط- بعد أن استوعب هذا النشاط- نفسه للذات على أنه هو خصائصه المادية. يجب أن يحدث التحوّل الذي يسمح له بالظهور كشيء تعيه الذات، أي بشكل مثالي Ideal. يَنتُج هذا التحوّل بفعل اللغة، التي هي نتاج ووسيلة تواصل الأشخاص المُشاركين في الانتاج. تحمل اللغة في معانيها (المفاهيم) محتوىً موضوعياً مُعيناً، لكن مُحتوىً مُتحرر تماماً من مادته. وبالتالي، فان الوعي الفردي باعتباره شكلاً بشرياً مُحدداً للعكس الذاتي للواقع الموضوعي يجب أن يُفهم على أنه فقط نتاج تلك العلاقات والتوسطات التي تنشأ في سياق نشوء المُجتمع وتطوره. من المُستحيل وجود ذهنية ونفسية فردية في شكل وعي خارج نظام هذه العلاقات (وخارج الوعي الاجتماعي)، خاصةً وأن دراسة ظاهرة الوعي في سياق النشاط البشري تسمح لنا بفهمه بشرط أن يُنظَر الى نشاط الانسان نفسه على أنه عملية مُتضمنة في نظام العلاقات، وهي عملية تُحقق وجوده الاجتماعي، وهي وسيلة وجوده أيضاً ككائن طبيعي وملموس. وبالطبع، فان الظروف والعلاقات المذكورة أعلاه والتي تولد الوعي البشري لا تُميزه الا في المراحل الأولى. بعد ذلك، مع تطور الانتاج المادي والتواصل، يتحرر وعي الناس من الارتباط المُباشر بنشاطهم العملي عن طريق الفصل اللاحق للانتاج الفكري واستغلال اللغة. يتسع نطاق ما يتم انشاؤه باستمرار، بحيث يُصبح وعي الانسان هو الشكل العالمي للعكس الذهني، وان لم يكن الوحيد. يخضع الوعي، في سياق هذه العملية، لبعض التغيرات الجذرية. بادئ ذي بدء، يوجد الوعي في شكل صورة ذهنية تكشف العالم المُحيط بالذات. من ناحيةٍ أُخرى، لا يزال النشاط عملياً وخارجياً. في مرحلةٍ لاحقة، يُصبح النشاط أيضاً موضوعاً للوعي، يُصبح الانسان مُدركاً لأفعال الناس الآخرين، ويُدرك أفعاله من خلالها. هذه الأفعال تُصبح قابلةً للتواصل عن طريق الايماءات أو الكلام الشفوي. هذا هو الشرط المُسبق لتوليد الأفعال والاجراءات الداخلية التي تحدث في العقل، على "مُستوى الوعي". يُصبح وعي الصورة أيضاً وعياً بالنشاط. في هذا الوضع، يبدأ الوعي في الظهور مُتحرراً من النشاط الحسي الخارجي والعملي، والأهم من ذلك، يصير الوعي وكأنه يبدو أنه يُسيطر على ذلك النشاط. يحدث تغيّر أساسي آخر يمر به الوعي في سياق التطور التاريخي يتمثل في تحطيم التماسك والاندماج الأصلي لوعي الجماعة وذلك الخاص بأفرادها. يحدث هذا بسبب اتساع نطاق الوعي، هذا الاتساع الذي يأخذ في نطاقه الآن تلك الظواهر التي تنتمي الى مجال العلاقات الفردية التي تُشكّل شيئاً خاصاً في حياة كل واحدٍ منهم. اضف الى ذلك، يضع التقسيم الطبقي الناس في علاقات غير مُتكافئة مع وسائل الانتاج والمُنتجات الاجتماعية. ومن ثم فان وعيهم يمر ويختبر تأثير هذا التفاوت، هذا التناحر. في نفس الوقت، تتطور المفاهيم الايديولوجية وتدخل في العملية التي يصير فيها الأفراد مُدركون لعلاقاتهم الواقعية في الحياة. وهكذا تَبرُز صورة مُعقدة من الروابط الداخلية والمُتشابكة الناتجة عن تطور التناقضات الداخلية، والتي تتجلّى بشكلٍ مُجرد في تحليل أبسط العلاقات التي تُميز نظام النشاط البشري. للوهلة الأولى، قد يبدو أن الانغماس في البحث في هذا الصورة المُعقدة سيحرف الأمور عن مهمة الدراسة السيكولوجية المُحددة للوعي، وسيؤدي الى استبدال السيكولوجيا بالسوسيولوجيا. لكن ليس هذا هو الحال على الاطلاق. على العكس من ذلك، لا يُمكن فهم السمات السيكولوجية للوعي الفردي الا من خلال صلاتها بالعلاقات الاجتماعية التي ينخرط فيها الفرد. في ظاهرة الوعي نكتشف فبل كل شيء نسيجها الحسي. هذا النسيج هو الذي يُشكل التركيب الحسي لصورة الواقع المُدرَكة أو الناشئة في الذاكرة التي تُشير الى المُستقبل أو ربما تكون مُتخيّلة وحسب. يُمكن تمييز هذه الصورة بدرجتها الحسية ووضوحها وما الى ذلك. تتمثل الوظيفة الخاصة لصور الوعي الحسية في أنها تُضيف الواقع الى صورة العالم الواعية التي تنكشف للذات. بعبارةٍ أُخرى، تنظر الذات الى العالم على أنه ليس موجود في وعيها ولكن خارج وعيها، فقط بفضل المحتوى الحسي للوعي، هذا العالم باعتباره "مجالاً" موضوعياً وموضوعاً لنشاطها. قد يبدو هذا التأكيد مُتناقضاً لان دراسة الظواهر الحسية قد انطلقت منذ زمنٍ بعيد، من مواقف تؤدي، على العكس من ذلك، الى فكرة "ذاتيتها الخالصة" و"طبيعتها الهيروغليفية". وبناءاً على ذلك، لم يُنظر الى المُحتوى الحسي للصور على أنه شيء ناتج من "العلاقة المُباشرة للوعي بالعالم الخارجي"، بل كان يُنظَر اليه على أنه حاجزٌ بينهما. في عصر ما بعد هيلمهولتز، حققت الدراسة التجريبية لعمليات الادراك الحسي نجاحاتٍ مُذهلة. ان سيكولوجيا الادراك الحسي مليئة الآن بالحقائق والفرضيات الفردية. لكن الشيء المُدهش هو أنه على الرغم من هذه النجاحات، ظل موقف هيلهولتز النظري ثابتاً. من المُسلّم به، أن موقف هيلمهولتز في مُعظم الدراسات السيكولوجية موجود بشكل غير مرئي، وراء الكواليس ان صح التعبير. لا يُناقشه سوى عدد قليل من السيكولوجيين بجدية وانفتاح مثل ريتشارد غريغوري Richard L. Gregory على سبيل المثال، مؤلف ما هو على الأرجح أكثر الكُتب الحديثة استيعاباً للادراك البصري الحسي(1). تكمن قوة موقف هيلمهولتز في حقيقة أنه في دراسة فسيولوجيا البصر، أدرك استحالة استدلال صور الأشياء مُباشرةً من الأحاسيس وتحديدها من الأنماط المرسومة بأشعة الضوء على شبكية العين. من حيث البُنية المفاهيمية للعلوم الطبيعية في تلك الأيام، كان حل المُشكلة الذي اقترحه هيلمهولتز بأن عمل أعضاء الحس يُكمله عمل الدماغ والذي يبني "استدلالاته"عن العالم الموضوعي من الاشارات الحسية، هو الحل الوحيد المُمكن. النقطة المُهمة هي أنه كان يُنظَر الى الصورة الموضوعية للوعي على أنها ظواهر ذهنية تعتمد على ظواهر أُخرى كأسباب خارجية. بمعنىً آخر، استمر التحليل على مستوى التجريد المُزدوج، والذي تم التعبير عنه، من ناحيةـ في استثناء العمليات الحسية من نظام نشاط الذات، ومن ناحية أُخرى، في استثناء الصور الحسية من نظام الوعي البشري. لم يتم تطوير فكرة موضوع الادراك العلمي كنظام، بشكلٍ صحيح. على النقيض من هذه المُقاربة، التي تنظر الى الظواهر بمعزل عن بعضها البعض، يتطلب تحليل النُظُم الخاص بالوعي دراسة "العناصر التكوينية" للوعي في علاقاتها الداخلية الناتجة عن تطور أشكال الارتباط بين الذات والواقع، وبالتالي، في المقام الأول، من وجهة نظر الوظيفة التي تؤديها كُلٌ منها في عمليات تشكيل صورة عن العالم الموضوعي. لا تكشف المُعطيات الحسية المُتضمنة في نظام الوعي عن وظيفتها المُباشرة. يتم التعبير عن هذه الوظيفة بشكلٍ غير مُباشرٍ فقط، في "حس عن الواقع" غير مُتمايز. ومع ذلك، فان هذه الوظيفة تكشف عن نفسها على الفور بمُجرد وجود أي تدخل أو تشويش في استقبال التأثيرات الخارجية. تكمن الطبيعة العميقة للصورة الذهنية الحسية في موضوعيتها، في حقيقة أنها تتولد في عمليات النشاط الذي يُشكل العلاقة العملية بين الذات والعالم الموضوعي الخارجي. بغض النظر عن مدى تعقيد هذه العلاقات وأشكال النشاط التي تُحققها، فان الصور الحسية تحتفظ بمرجعها الموضوعي الأولي. بالطبع، عندما نُقارن الثروة الهائلة للنتاجات المعرفية للنشاط الانساني المُتطور بالمساهمات التي قدمها له الادراك الحسي، فان أول ما يُذهلنا هو مدى محدودية هذه المُساهمة ومدى قلتها. علاوةً على ذلك، نكتشف أن التصورات الحسية تتناقض باستمرارا مع رؤيتنا الذهنية. يؤدي هذا الى فكرة أن الادراك الحسي لا يوفر سوى الدفعة التي تُحرك قُدراتنا الادراكية، وأن صور الأشياء يتم انشاؤها بواسطة اجراءات التفكير الداخلية. بعبارةٍ أُخرى، لن نستطيع استقبال العالم حسياً ان لم نُدركه. ولكن كيف يُمكنا أن نُدرك العالم اذا لم يكشف لنا عن نفسه في المقام الأول بموضوعيته الحسية؟ الصور الحسية هي شكل عالمي من الانعكاس العقلي الناتج عن النشاط الذهني الموضوعي للذات. لكن عند الانسان تكتسب الصور الحسية صفةً جديدة، وهي معناها وقيمتها. وبالتالي، فان القِيَم هي أهم "العناصر التكوينية" للوعي البشري. كما نعلم، فان اصابة حتى الأعضاء الحسية الرئيسية-البصر والسمع- لا تُدمّر الوعي. حتى الأطفال الصُم والبكم والمكفوفين الذين أتقنوا الاجراءات الانسانية الخاصة بالنشاط الموضوعي واللغة (والذي لا يُمكن أن يتحقق الا من خلال تدريب خاص بالطبع) يكتسبون وعياً عادياً يختلف عن وعي الأشخاص الذين يُمكنهم أن يروا ويسمعوا في اطار النطاق الحسي فقط، وهذا عاجز للغاية. انها مسألة مُختلفة عندما لا تحدث "أنسنة" النشاط لهذا السبب أو ذاك. في هذه الحالة، على الرغم من أن المجال الحسي قد يكون سليماً تماماً، فان الوعي لا ينشأ. وهكذا، تملآ المعاني العالم في وعي الانسان. ان وسيلة المعنى هي اللغة، لكن اللغة ليست خالقةً للمعنى. تختفي وراء المعاني اللغوية (القِيَم) أنماط فعل متطورة اجتماعياً، يُغير الناس من خلالها الواقع الاجتماعي ويُدركونه. بمعنىً آخر، المعاني هي الشكل المثالي Ideal المُحوّل والمُتجسد لغوياً لوجود العالم الموضوعي وخصائصه وعلاقاته التي تكشفها المُمارسة الاجتماعية الكُلية. لذا، فان المعاني في حد ذاتها، أي في تجريدها من وظيفتها في وعي الفرد، هي فقط "نفسية" بقدر الواقع المُدرَك اجتماعياً الذي يقبع خلفها. تتم دراسة المعنى في اللغويات والمنطق. في الوقت نفسه، بما هو أحد "العناصر التكوينية" للوعي الفردي، لا بد له من الدخول في نطاق المسائل الفلسفية. تكمن الصعوبة الرئيسية لمشكلة المعنى الفلسفية في حقيقة أنها تُعيد انتاج كل التناقضات التي تنطوي عليها المُشكلة الأوسع حول العلاقة بين المنطقي والنفسي في التفكير، بين منطق وسيكولوجيا المفاهيم. ان الحل الذي تُقدمه السيكولوجيا التجريبية الذاتية لهذه المُشكلة هو أن المفاهيم (أو المعاني اللفظية) هي نتاج نفسي، نتاج ارتباط وتعميم الانطباعات في وعي الذات الفردية، أي نتاج يُصبح مُرتبطاً بالكلمات. وجدت وجهة النظر هذه، كما نعلم، تعبيرها، ليس فقط في السيكولوجيا، ولكن أيضاً في المفاهيم التي تختزل المنطق الى سيكولوجيا. بديل آخر، هو الاعتراف بأن المفاهيم يتم التحكم فيها من قِبَل قوانين منطقية موضوعية، وأن السيكولوجيا معنية فقط بالانحرافات عن هذه القوانين التي يجب مُراعاتها في التفكيرالبدائي، اي الانجرافات التي تحدث في حالاتٍ مرضية او الاجهاد العاطفي، وبأن مهمة السيكولوجيا هي دراسة التطور النشوئي للمفاهيم والفكر. وبالفعل فان دراسة هذه العملية تسود في سيكولوجيا الفكر. يكفي أن نتذكر أعمال جان بياجيه وليف فيغوتسكي والدراسات السوفييتية والأجنبية العديدة في سيكولوجيا التعليم. ساهمت الدراسات حول كيفية تشكيل الأطفال للمفاهيم والعمليات المنطقية (الذهنية) مُساهمةً كبيرةً في هذا المجال. لقد ثَبُتَ أن ان تكوين المفاهيم في دماغ الطفل لا يتبع نمط تكوين الصورة العامة الحسية. هذه المفاهيم هي نتيجة عملية استيعاب معانٍ "جاهزة" مُتطورة تاريخياً، وتحدث هذه العملية في نشاط الطفل أثناء اتصاله بالأشخاص من حوله. في أثناء تعلمه أداء بعض الأفعال، يُتقن الطفل الاجراءات المُقابلة، والتي هي، في الواقع، مُمثلةً في المعنى في شكل مضغوط ومثالي Ideal. من المنطقي أن عملية استيعاب المعاني تحدث في البداية في نشاط الطفل الخارجي مع الأشياء المادية والتواصل العملي الذي ينطوي عليه. في المراحل الأولى يستوعب الطفل معانٍ موضوعية مُحددة مُباشرة ومرجعية. بعد ذلك يُتقن بعض العمليات المنطقية، ولكن ايضاً في شكلها الخارجي-والا فلن تكون قابلةً لأن تصل اليه. بقدر ما يتم استدخالها، فانها تُشكل معانٍ أو مفاهيم مُجردة، وتُشكل حركتها نشاطاً عقلياً داخلياً، نشاطاً "على مستوى الوعي". ولكن، لا يُمكن اختزال الوعي كشكل للانعكاس الذهني الى عمل المعاني المُستوعبة خارجياً، والتي تتكشف بعد ذلك وتتحكم في النشاط الخارجي والداخلي للذات. ان المعاني والاجراءات المُتضمنة في هذا النشاط لا تُشكل في حد ذاتها، اي في عزلها عن العلاقات الداخلية لنظام النشاط والعي أي جُزء من موضوع السيكولوجيا. انها جزء من موضوعها فقط عندما يتم اعتبارها ضمن هذه العلاقات. هذا مُستمد من طبيعة الظواهر الذهنية. كما قلنا، يحدث الانعكاس الذهني بسبب تشعب عمليات الذات الحيوية الى عمليات تُحقق علاقاته البيولوجية المُباشرة، وعمليات "الاشارة" التي تتوسطها. يتم التعبير عن تطور العلاقات الداخلية الناتجة عن هذا الانقسام في تطور بُنية النشاط، وعلى هذا الأساس، في تطور أشكال الانعكاس الذهني. في وقتٍ لاحق، على المستوى البشري، تتغير هذه الأشكال وتكتسب وجوداً شبه مُستقل كظواهر ذهنية موضوعية عندما تترسخ في اللغة. بالاضافة الى ذلك، يتم اعادة انتاجها باستمرار من خلال العمليات التي تجري في رؤوس أفرادٍ مُعينين، وهذا هو الذي يُشكل "الآلية" الداخلية لانتقالها من جيل الى جيل وشرطاً لاثرائها من خلال المُساهمات الفردية. في هذه المرحلة، نصل الى المُشكلة التي دائماً ما تكون حجر عثرة في تحليل الوعي. هذه هي مُشكلة الطبيعة المُحددة لوظيفة المعرفة والمفاهيم والأنماط المفاهيمية، وما الى ذلك، في نظام العلاقات الاجتماعية وفي الوعي الاجتماعي من ناحية، ومن ناحية أُخرى، في نشاط الفرد الذي يُدرك علاقاته الاجتماعية، في الوعي الفردي. هذه المُشكلة تواجه حتماً أي تحليل يُدرك حدود الفكرة القائلوة بأن المعاني في الوعي الفردي ليست سوى أكثر أو أقل من اسقاطات كاملة للمعاني "فوق الفردية" الموجودة في مُجتمعٍ مُعطى. تظل المُشكلة قائمة بسبب حقيقة أن المعاني تنعكس في السمات الشخصية الخاصة للفرد وتجربته السابقة والطبيعة الفريدة لمبادئه الشخصية ومزاجه، وما الى ذلك. تنشأ هذه المُشكلة من ازدواجية وجود المعنى بالنسبة للذات. تكمن هذه الازدواجية في حقيقة أن المعاني تظهر للذات في وجودها المُستقل-كمواضيع لوعيه- وفي نفس الوقت كوسيلة و"آلية" للفهم، أي عندما تشتغل داخل العمليات التي تُظهر العالم الموضوعي للذات. في هذه الوظيفة، تدخل المعاني بالضرورة في علاقاتٍ داخلية تربطها "بالعناصر التكوينية" الأُخرى للوعي الفردي. تكتسب المعاني خصائص نفسية فقط ضمن هذه العلاقات المنظومية. دعونا نشرح هذا بطريقةٍ مُختلفة. عندما تُصبح نتاجات المُمارسة الاجتماعية-التاريخية المُؤمثلة Idealisefd في المعاني، جُزءاً من الانعكاس الذهني للعالم من قِبَل الذات الفردية، فانها تكتسب صفات منظومية جديدة. الصعوبة الرئيسية هُنا هي أن المعاني تعيش حياةً مُزدوجة. لقد أنتجها المُجتمع ولديها تاريخ في تطور اللغة وفي تاريخ تطور أشكال الوعي الاجتماعي، وهي تُعبّر عن حركة العلم ووسائل الادراك والأفكار الايديولوجية والسياسية والدينية والفلسفية. ان المعاني تخضع، في وجودها الموضوعي هذا، للقوانين الاجتماعية-التاريخية وفي نفس الوقت تخضع للمنطق الداخلي لتطورها. ولكن، على الرغم من كل تنوع ثروة المعاني التي لا تنضب (هذا ما تدور حوله كل العلوم)، تبقى هُناك حياة وحركة أُخرى مخفية في داخلها، اي وظيفتها في عمليات نشاط ووعي أفراد مُعينين، على الرغم من أنه لا يُمكن أن تُوجد الا من خلال هذه العمليات. في حياتها الثانية هذه، تكون المعاني مُفَرّدة Individualised و"مُذوتة" فقط بمعنى أن حركتها في نظام العلاقات الاجتماعية ليست مُتضمنة بشكلٍ مُباشرٍ فيها. انها تدخل في نظام علاقاتٍ آخر، حركة أُخرى. لكن الشيء اللافت للنظر هو أنها بهذا، لا تفقد طبيعتها الاجتماعية-التاريخية وموضوعيتها. يكمن أحد جوانب حركة المعاني في وعي أفراد مُحددين، في "عودتها" الى موضوعية العالم الحسية التي ذكرناها أعلاه. في حين أنه في تجرديتها و"ما فوق فرديتها" تكون المعاني غير مُبالية بأشكال الحسية التي يظهر من خلالها العالم للفرد المُحدد (يُمكن أن يُقال أن المعاني في حد ذاتها تخلو من الحسية)، تفترض وظيفتها في ادراك الذات للعلاقات الواقعية مُسبقاً وبالضرورة رجوعها (أي مرجعيتها) للتأثيرات الحسية. بالطبع، ليس بالضرورة أن تكون المرجعية الحسية الموضوعية للمعاني في وعي الذات، ذاتية. يُمكنها أن تتحقق من خلال جميع أنواع السلاسل المُعقدة للعمليات تالذهنية المُتضمنة فيها، لا سيما عندما تعكس هذه المعاني واقعاً لا يظهر الا في أشكاله البعيدة وغير المُباشرة. لكن في الحالات العادية، تكون هذه المرجعية موجودةً دائماً، وتختفي فقط في نتاجات حركتها، في تمظهرها الخارجي. يكمن الجانب الأخر من حركة المعاني في نظام الوعي الفردي في ذاتيتها الخاصة، والتي يتم التعبير عنها في تحيزها الذي تكتسبه. ومع ذلك، لا يتم الكشف عن هذا الجانب الا من خلال تحليل العلاقات الداخلية التي تربط المعاني بـ"عُنصر تكويني" آخر للوعي، أي المعنى الشخصي. دعونا نُفكر في هذه المسألة عن كَثَب. كان علم النفس التجريبي يصف الذاتية وتحيّز الوعي الانساني لقرون. لقد لُوحِظَ في الانتباهية الانتقائية وفي التلوين العاطفي للأفكار وفي اعتمادية العمليات الادراكية على الاحتياجات والميول. كان لايبنتز في عصره هو الذي عبّر عن هذه الاعتمادية في قولٍ معروف مفاده أنه "لو تعارضت الهندسة مع مصالحنا وعواطفنا كما هو الأمر في الأخلاق، لكنا قد عارضنا حُججها وانتهكنا مبادئها على الرغم من كل براهين اقليدس وأرخميدس"(2). تكمن الصعوبة في التفسير السيكولوجي لتحيّز الادراك. يبدو أن لظواهر الوعي تحديداً مُزدوجاً، خارجي وداخلي. تم تفسيرها وفقاً لذلك على أنها تنتمي الى مجالين ذهنيين مُختلفين، مجال العمليات الادراكية ومجال الاحتياجات والعواطف. تم تفسير مُشكلة ربط هذين المجالين، سواءاً تم حلها بروح المفاهيم العقلانية أو العمليات النفسية العميقة، دائماً من وجهة النظر الانثروبولوجية، وهي وجهة نظر افترضت تفاعل العوامل أو القوى غير المُتجانسة أساساً. ومع ذلك، فان الطبيعة الحقيقية للازدواجية الظاهرية لظاهرة الوعي الفردي لا تكمن في خضوعها لهذه العوامل المُستقلة، ولكن في السمات المُحددة للبنية الداخلية للنشاط البشري نفسه. كما قُلنا سابقاً، يَدين الوعي بأصله الى سياق عمل الأفعال التي تُستَخلَص نتائجها الادراكية من كل النشاط البشري وتتأمثل في شكل معانٍ لغوية. وعندما يتم التواصل من خلالها تُصبح جُزءاً من وعي الأفراد. هذا لا يحرم المعاني من صفاتها المُجردة لانها لا تزال تتضمن الشروط الموضوعية ونتائج الأفعال والوسائل بغض النظر عن الدافع الذاتي لنشاط الناس الذي تشكلت فيه. في مراحل مُبكرة، عندما كان لا يزال لدى الأشخاص المُشاركين في العمل الجماعي دوافع مُشتركة، كانت المعاني تتطابق مُباشرةً كظاهرة للوعي الاجتماعي وظاهرة للوعي الفردي. ولكن هذه العلاقة لم تَدُم مع التطور اللاحق. لقد انحلت بانحلال العلاقات الأصلية بين الأفراد والظروف المادية ووسائل الانتاج، الى جانب ظهور التقسيم الاجتماعي للعمل والمُلكية الخاصة(3). والنتيجة هي أن المعاني المُتطورة اجتماعياً تبدأ في أن تعيش حياةً مُزدوجةً في وعي الأفراد. وتظهر الى الوجود علاقة وحركة أُخرى للمعاني في نظام وعي الفرد . تتجلى هذه العلاقة الداخلية المُحددة في أبسط الحقائق النفسية. على سبيل المثال، يعرف جميع تلاميذ المدارس الأكبر سناً معنى علامة الامتحان والنتيجة المُترتبة عليها. ومع ذلك، قد تظهر العلامة في وعي كل تلميذ على حدة بطريقةٍ مُختلفة. قد تبدو، على سبيل المثال، خطوةً الى الأمام، أو (عقبة) على طريق المهنة التي اختارها، أو كوسيلة لتأكيد نفسه في عيون الناس من حوله، أو ربما بطُرُق أُخرى. هذا ما يُجبر السيكولوجيا على التمييز بين المعنى الموضوعي الواعي والمعنى الذاتي، أو ما أُفضّل أن أُطلقُ عليه "المعنى الشخصي". بمعنىً آخر، قد تكتسب علامة الامتحان معانٍ شخصية مُختلفة في وعي التلاميذ المُختلفين. على الرغم من أن هذا الاستعراض للعلاقة بين مفاهيم المعنى والمعنى الشخصي قد تم تفسيره في كثيرٍ من الأحيان، الا أنه كثيراً ما يُساء فهمه. لذلك يبدو من الضروري العودة الى تحليل مفهوم المعنى الشخصي مرةً أُخرى. بادئ ذي بدئ، سنتحدث قليلاً عن الظروف الموضوعية التي تؤدي الى تمايز المعاني والمعنى الشخصي في الوعي الفردي. في مقالته المشهورة التي تنتقد أدولف فاغنر، لاحظ ماركس أن أشياء العالم الخارجي التي يعرفها الانسان قد تم تحديدها في الأصل كوسائل لتلبية احتياجاته، أي أنه كانت بالنسبة له "سِلَع". كتب ماركس:... انهم يمنحون الشيء صفة النفع كما لو أن النفع متأصلٌ في الشيء نفسه". هذه الفكرة تُلقي بالضوء على سمة مُهمة للوعي في مرحل تطوره المُبكرة، أي حقيقة أن الأشياء تنعكس في اللغة والوعي كجزءٍ من كُلٍ واحد جنباً الى جنب مع الاحتياجات البشرية التي تُرسخها أو "تُشيئها". ولكن هذه الوحدة تحطمت لاحقاً. ان حتمية تحطمها مُتضمنة في التناقضات الموضوعية للانتاج السِلَعي، والذي يُولّد التناقض بين العمل الملموس والمُجرّد ويؤدي الى اغتراب النشاط البشري. لن ندخل في السمات المُحددة التي تُميز التشكيلات الاجتماعية-الاقتصادية في هذا الصدد. بالنسبة للنظرية العامة للوعي الفردي، فان الشيء الرئيسي هو أن نشاط أفراد مُعينين دائماً ما يكون "محصوراً" في الأشكال الحالية لتمظهر هذه الأضداد (على سبيل المثال، العمل الملموس والمُجرد)، والتي تجد تعبيرها غير المُباشر في وعي الفرد وفي حركته الداخلية المُحددة. تاريخياً، لا يُغير نشاط الانسان بُنيته العامة "الماكروية". يتحقق النشاط، في كل مرحلة من مراحل التطور التاريخي، من خلال أفعالٍ واعية تُصبح فيها الأهداف نتاجاتٍ موضوعية، ويخضع للدوافع التي حفزته. ما يتغير جذرياً هو طبيعة العلاقات التي تربط الأهداف بدوافع النشاط. النقطة المُهمة هي أنه بالنسبة للذات نفهسا، فان فهم وتحقيق الأهداف الملموسة وتملكها لأنماط واجراءات مُعينة للفعل هي طريقة لاشباع وتطوير احتياجاته المادية والروحية والتي تتجسد وتتحول الى دوافع لنشاطه. لا فرق بين كون الذات واعية أو غير واعية بدوافعها، سواءاً كانت هذه الدوافع تُعلن عن ذاتها في شكل مصلحة أو رغبة أو شغف. ان وظيفة الدوافع، من زاوية الوعي، هي "تقييم" المعنى الحيوي للظروف الموضوعية وأفعال الذات في هذه الظروف، وبعبارة أُخرى، منحها معنىً شخصياً، والذي لا يتطابق بشكلٍ مُباشرٍ مع معناها الموضوعي المفهوم. في ظل ظروفٍ مُعينة، قد يصل التناقض بين المعاني الشخصية والمعاني الموضوعية في الوعي الفردي الى اغتراب أو تعارض تناحري. لا بد أن ينشأ مثل هذا الاغتراب في مُجتمع يقوم على الانتاج البضاعي. علاوةً على ذلك، فانه ينشأ بين الناس على طرفي الطبقات الاجتماعية. ان العامل المأجور، بالطبع، على علمٍ بالمُنتَج الذي يُنتجه. بعبارةٍ أُخرى، فهو على دراية بمعناه الموضوعي على الأقل الى الحد المطلوب حتى يتمكن من أداء عمله بطريقة عقلانية. لكن هذا ليس هو نفس المعنى الشخصي لعلمه، والذي يكمن في الأجر الذي يعمل من أجله. "والعامل الذي يحيك 12 ساعة أو يغزل أو يثقب أو يخرط أو يبني أو يحفر أو يحطم الحجر أو ينقل الأثقال الخ، اتراه يعتبر هذه الساعات الـ12 ظاهرةً من ظاهرات حياته؟ بالعكس، ان الحياة تبدأ بالنسبة له حيث يكف هذا النشاط، عند المائدة، في الحانة، في النوم على السرير"(4). هذا الاغتراب يتجلى أيضاً في القطب الاجتماعي المُعاكس. يُلاحظ ماركس، انه بالنسبة لتاجر المعادن، ليس للمعادن معناً شخصياً له. ان الغاء المُلكية الخاصة لوسائل الانتاج يُزيح هذا التعارض بين المعنى والمعنى الشخصي في وعي الأفراد، لكن الفرق بينهما يبقى. ان ضرورة هذا الفرق مُتضمنة في عصور ما قبل تاريخ الوعي الانساني، في وجود نوعين من الحساسية عند الحيوانات والذين يتوسطان سلوكها في البيئة الموضوعية. كما نعلم، فان الادراك الحسي للحيوان يقتصر على التأثيرات التي لها ارتباط اشاري مُتعلق بتلبية احتياجاته. (أعطت هذه الحقيقة بعض الكُتّاب الألمان أسباباً للتمييز بين البيئة مثل تلك التي تعكسها الحيوانات، والعالم الذي لا يُدركه سوى الوعي البشري). لكن لا يُمكن للحاجات أن تؤدي وظيفة التنظيم الذهني الا عندما تعمل كأشياء مُحفزة (بما في ذلك وسائل الحصول على مثل هذه الأشياء أو الدفاع عن نفسه منها). بعبارةٍ أُخرى، في حسية الحيوانات، لا تنفصل الخصائص الخارجية للأشياء، وقُدرتها على تلبية احتياجات أساسية، عن بعضها البعض. كما نعلم من تجربة بافلوف الشهيرة، فان الكلب يستجيب لتأثير مُنبه الطعام المشروط من خلال مُحاولة الوصول اليه ولعقه. ولكن حقيقة أن الحيوان غير قادر على فصل الادراك الحسي للمظهر الخارجي للشيء عن الاحتياج الذي يُلبيه هذا الشيء، لا يعني تطابقهما الكامل. على العكس من ذلك، في سياق التطور، تصبح علاقتهما مُتحركة ومتغيرة بشكلٍ مُتزايدٍ ومُعقدٍ للغاية، فقط انفصالهما عن بعضهما البعض يبقى مُستحيلاً. يحدث هذا الفصل فقط على المستوى الانساني فقط، عندما تدق المعاني اللفظية "اسفيناً" بين الارتباطات الداخلية بين كلا النوعين من الحس. لقد استخدمت مُصطلح "دق الاسفين" (على الرغم من أنه ربما كان من الأفضل أن نقول "تدخّل") فقط من أجل ابراز المُشكلة. في الواقع الفعلي، في وجودها الموضوعي، أي كظواهر للوعي الاجتماعي، تنعكس المعاني للفرد بغض النظر عن علاقتها بحياته واحتياجاته ودوافعه. القشة التي يُمسكها الرجل الغارق تبقى في وعيه كقشة، بغض النظر عن حقيقة أن هذه القشة، ولو كانت مُجرد وهم، تكتسب في تلك اللحظة معنىً شخصياً بالنسبة له كوسيلة لانقاذه. في المراحل الأولى من تشكّل الوعي، تندمج المعاني الموضوعية مع المعنى الشخصي، ولكن يوجد بالفعل تناقض ضمني في هذه الوحدة التي تفترض حتماً شكلها الواضح. هذه المعاني الشخصية هي التي تخلق ما يُسميه ليف فيغوتسكي المُستوى "الخفي" من الوعي، والذي غالباً ما يتم تفسيره في السيكولوجيا ليس كعُنصر تكويني في نشاط الذات وفي تطور حركته، ولكن كشيء يُفتَرَض أنه تعبير مُباشر عن القوى الجوهرية المتأصلة في الطبيعة الانسانية نفسها. تُستَوعَب المعاني في الوعي الفردي من دون أن تكون معزولة، وهي توحد في الوقت نفسه نوعي الاحساس: الانطباعات الحسية عن العالم الخارجي الذي ينطلق منه نشاط الذات، وأشكال التجربة الحسية لدوافع ذلك النشاط، وارضاء أو عدم ارضاء المطالب الكامنة وراءها. على عكس المعاني الموضوعية، فان المعاني الشخصية، مثل النسيج الحسي للوعي، ليس لها وجود "فوق فردي" وغير سيكولوجي. في حين أن الحسية الخارجية تربط المعاني الموضوعية بواقع العالم الموضوعي في وعي الذات، تربطها المعاني الشخصية بواقع حياته الخاصة في هذا العالم، بدوافعها. ان المعنى الشخصي هو الذي يُعطي الوعي الانساني تحيّزه...ان تجسّد المعنى الشخصي في المعاني الموضوعية هو عملية عميقة وذات أهمية سيكولوجية وليست بأي حالٍ من الأحوال عملية عفوية ومُباشرة. تظهر هذه العملية بكل كمالها في الأعمال الأدبية وممارسة التربية الأخلاقية والسياسية. يتجلى ذلك بوضوح في ظروف المُجتمع الطبقي، في سياق الصراع الايديولوجي. في هذا السياق، قد تفشل المعاني الشخصية التي تعكس الدوافع التي تُولّدها العلاقات المعيشية الفعلية للشخص في العثور على معانٍ موضوعية تُعبّر عنها بشكلٍ كامل، ثم تبدأ في الظهور بصورةٍ مُلتبسة. تخيّل التناقض الأساسي الذي يُسببه هذا الموقف. على عكس المُجتمع، ليس للفرد لغة خاصة به بمعانٍ قام بتطويرها بنفسه. لا يُمكنه أن يفهم الواقع الا من خلال المعاني "جاهزة الصنع" التي يستوعبها من الخارج- المعرفة والمفاهيم والآراء التي يستوعبها في علاقاته في مُختلف أشكال الاتصال الفردي والجماعي. هذا ما يجعل من المُمكن أن يتم استدخال أفكار مُشوهة أو خيالية الى وعيه، بما في ذلك تلك التي ليس لها أساس في تجربته الحياتية الواقعية والعملية. ولانها لا تملك أساساً مُناسباً، فانها تكشف عن ضعفها في وعيه، ولكن، بعد أن أصبحت قوالب نمطية، تكتسب قُدرةً على المقاومة بحيث لا يُمكن أن يُحطمها الا المواجهات الكُبرى في الحياة,. ولكن حتى عندما تتحطم، يظل الوعي مُفككاً. ان تحطيم القوالب الفكرية النمطية بحد ذاته لا يؤدي الا الى كارثة نفسية. يجب أن يكون هناك تحوّل في المعاني الشخصية الذاتية في وعي الفرد الى معانٍ موضوعية تُعبّر عنها بشكلٍ مُلائم. يُظهر المزيد من التحليل لهذا التحول للمعاني الشخصية الى معانٍ موضوعية مُلائمة (أو أكثر مُلائمةً) أن هذا يحدث في سياق الصراع من أجل وعي الناس الذي يُشَن في المُجتمع. أعني بهذا أن الفرد لا "يقف" أمام مجموعة من المعاني التي عليه أن يختار معانيه الخاصة من بينها، وأن هذه المعاني-المفاهيم والأفكار- لا تنتظر اختياره بشكلٍ سلبي، بل تتفجر بقوة في علاقاته مع الأشخاص الذي يُشكلون جماعته الفعلية. اذا اضطر الفرد، في ظروفٍ مُعينة أن يختار، فانه ليس اختياراً من بين المعاني، بل من بين المواقف الاجتماعية المُتناقضة المُعبّر عنها والمُستوعبة من خلال هذه المعاني. في مجال المفاهيم الايديولوجية، تكون هذه العملية حتمية وشاملة فقط في المُجتمع الطبقي. ولكن بطريقة ما تستمر في كونها فاعلةً في أي نظامٍ اجتماعي لان السمات المُحددة لحياة الفرد وسمات علاقاته الشخصية تستمر كذلك، لان سماته الخاصة ككائن مادي ملموس وبعض الظروف الخارجية المُحددة لا يُمكن أن تكون مُتطابقة عن الجميع وتظل فريدةً الى هذا الحد أو ذاك عند كل فرد. لا يوجد اختفاء (ولا يُمكن أن يحدث) ذلك للفارق المُستمر بين المعاني الشخصية التي تحمل القصدية وتحيّز وعي الذات، والمعاني الموضوعية والتي هي الوسيلة الوحيدة التي بواسطتها يتم التعبير عن المعاني الشخصية (على الرغم من كون أن المعاني الموضوعية هي كذلك- أي موضوعية-بغض النظر عن المعاني الشخصية). هذا هو السبب في أن الحركة الداخلية للنظام المتطور لوعي الفرد مليئة باللحظات الدرامية. تنشأ هذه اللحظات من خلال المعاني الشخصية التي لا يُمكنها "أن تُعبّر عن نفسها" في معانٍ موضوعية مُلائمة، وهي معانٍ حُرِمَت من أساسها في الحياة، وبالتالي، فهي تتجاهل نفسها بشكلٍ مؤلمٍ في وعي الذات في بعض الأحيان. تنشأ مثل هذه اللحظات أيضاً من وجود دوافع وأهداف مُتضاربة. لا داعي لتكرار أن هذه الحركة الداخلية لوعي الفرد تتولد من حركة النشاط الموضوعي للشخص، وأن وراء اللحظات الدرامية للوعي تكمن اللحظات الدرامية في حياته الواقعية، ولهذا السبب فان السيكولوجيا العلمية مُستحيلة بدون البحث في نشاط الذات، وأشكال وجودهها المُباشرة. في الختام، أشعر أنني يجب أن أتطرق الى مُشكلة ما يُسمى أحياناً "سيكولوجيا الحياة" أو سيكولوجيا التجربة الحياتية، والتي يتم مُناقشتها في الأدبيات. يتضح مما قِيل في هذه المقالة أنه على الرغم من أن السيكولوجيا العلمية يجب أن لا تَغفَل أبداً عن العالم الداخلي للانسان، الا أن دراسة هذا العالم الداخلي لا يُمكن فصله عن دراسة نشاطه، ولا يُمكن كذلك أن يُشكل بحد ذاته اتجاهاً خاصاً مُستقلاً للبحث السيكولوجي العلمي. ما نسميه التجارب الحياتية، هي الظواهر التي تنشأ على سطح نظام الوعي وتُشكّل الشكل الذي يكون فيه الوعي واضحاً بشكلٍ مُباشرٍ للذات. لهذا السبب لا تكشف التجربة الحياتية في الاهتمامات أو الملل أو الانجذاب أو آلام الضمير، كُلٌ على حدا، في حد ذاتها، لا تكشف طبيعتها للذات.على الرغم من أنها تبدو كقوىً داخلية تُحفّز نشاطه، الا أن وظيفتها الحقيقية هي فقط توجيه الذات نحو مصدرها الفعلي، والاشارة الى المعنى الشخصي للأحداث التي تأخذ مجراها في حياته، وتضطره أن يوقف تدفق نشاطه لوهله، ويتفحص القِيَم الجوهرية التي تشكلت في ذهنه ليؤكدها أو ربما ليُراجعها. باختصار، وعي الانسان، مثل نشاطه، ليس شيئاً مُضافاً. انه ليس سطحاً مُستوياً، ولا حتى شيء يُمكن ملؤه بالصور والعمليات. كما أنه ليس روابط عناصره المُنفصلة. انه حركة داخلية لـ"عناصره التكوينية" الموجهة نحو الحركة العامة للنشاط الذي يَنتُج عن الحياة الحقيقية للفرد في المُجتمع. نشاط الانسان هو جوهر وعيه.
* اليكسي نيكولايفيتش ليونتيف 1903-1979 ارتبطت حياته بجامعة لومونوسوف بموسكو، بدأ دراسته بكلية تاريخ اللغات، ودرس علم النفس بقسم الفلسفة في نفس الجامعة، عمل مع ليف فيغوتسكي والكسندر لوريا من أجل تطوير علم نفس ماركسي، رداً على الاتجاه السلوكي في علم النفس الذي كان سائداً في الغرب. اصبح لاحقاً رئيس قسم علم النفس بكلية الفلسفة، ومن ثم كان من أوائل من ساهموا بانشاء كلية خاصة بعلم النفس في الجامعة. عمل فيها حتى وفاته. استهل ليونتيف نشاطه العلمي عندما كان طالباً في كلية العلوم الاجتماعية ببحث حول "نظرية الانفعالات". ثم أعدّ رسالة التخرج في نفس الموضوع. وعقب التحاقه بمعهد علم النفس مباشرة بهدف مواصلة الدراسة قام ببحثين تحت الإشراف المباشر لجيلبانوف، تناول في الأول الوقائع الحركية في ضوء نظرية جيمس. وخصص الثاني لعرض وتحليل تعاليم سبنسر التطورية. تولى ليونتيف توجيه النشاط العلمي في ضوء أفكار فيغوتسكي وتصوراته. وتمحور هذا النشاط طوال الثلاثينيات حول العلاقة بين النشاط العلمي والوعي. ففي السنوات الأولى من هذا العقد (1931 ـ 1933) تناولت المجموعة التي كان يعمل معها مشكلات الشكل والعملية. حيث درست "علاقة الكلام بالذكاء العملي" وفي العامين التاليين (1934 ـ 1935) وجّه ليونتيف اهتمامه نحو تتبع النشاط الخارجي للمفحوص أثناء أدائه لمهمة ما. وأهم ما توصل إليه ليونتيف هنا هو "أن امتلاك الأداة، وكذا المعنى، يعني امتلاك العمليات" أما المسائل التي درسها ليونتيف ومجموعته خلال عامي 1935ـ 1936 فتتمثل في الكشف عن مورفولوجية النشاط والوعي. وفي هذا الباب أظهرت التجارب أن العلاقة المتبادلة بين النشاط العملي و النشاط النظري تظهر عند الأطفال خلال ممارستهم لنشاط اللعب. كما لاحت لليونتيف فكرة بنية النشاط ككل وارتباط نجاعة الحل المستخدم في حل المسألة المطروحة بالهدف والدافعية وطبيعة هذا النشاط. إن تكوّن الوعي، في رأي ليونتيف، هو محصلة استيعاب الإنسان للتجربة التي أسهمت فيها وتناقلتها مئات الأجيال عبر التاريخ. وهذا لا يتمّ إلا من خلال أوجه النشاط التي ينبغي على الفرد أن يمارسها منذ طفولته مع الموروثات الإنسانية (الأدوات ـ الإشارات) تحت رعاية الكبار وإشرافهم وبمشاركتهم. يعتبر اليكسي ليونتيف، مبدع نظرية (النشاط) في علم النفس. تقول هذه النظرية الماركسية، بالعلاقة بين التطور النفسي والنشاط وارتباط كل منهما بالآخر. وفي رأيه فانه من غير الممكن الحديث عن التطور النفسي خارج النشاط الذي ينبغي أن يمارسه الفرد. كما أن تطور هذا النشاط مرهون بالتطور النفسي عند الفرد وانتقاله من مستوى نفسي أدنى إلى مستوى أعلى. وخلافاً للنظريات التي رأت في عملية التطور مجرد زيادة كمية ليس أكثر من هذه الوظيفة النفسية أو تلك، بيّن الكسي ليونتيف أن التطور بوصفه عملية تغير تحدث في وعي الفرد وتجعله ينتقل من مستوى إلى مستوى أرقى يختلف عن سابقه اختلافاً نوعياً. فالتطور اللغوي عند الطفل ليس مجرد زيادة في قاموسه اللغوي، وإنّما هو ارتقاؤه إلى مستوى آخر. وتطور ذاكرته لا يعني مجرد زيادة في عدد الحوادث والوقائع والموضوعات التي يستطيع أن يستعيدها في الوقت المناسب، بل إنه مستوى يختلف بأساليبه في تسجيل الانطباعات وخزنها واسترجاعها عمَّا يقابلها في المستوى السابق بصورة نوعية
1- R. L. Gregory, The Intelligent Eye, London 1970 2- G. W. Leibniz, Neue Abhandlungen über den menschlichen Verstand, Leipzig 1915] 3- مُساهمة في نقد الاقتصاد السياسي، كارل ماركس 4- العمل المأجور ورأس المال، كارل ماركس، دار التقدم موسكو، ص21.
ترجمة لمقالة: Philosophy in the USSR, Problems of Dialectical Materialism, Published and -print-ed in 1977, Progress Publishers, Moscow Article: Activity and Consciousness, Aleksei N. Leontiev
#مالك_ابوعليا (هاشتاغ)
Malik_Abu_Alia#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تاريخ الدين: الدين عند الكلتيين القُدامى
-
المصادر التاريخية لأفكار كارل بوبر حول منطق العلم
-
الثورة المُضادة في المَجَر عام 1956- خطاباتها وأسلحتها (1)
-
مُساهمة في مسألة مقولات المادية الدياليكتيكية
-
تاريخ الدين: الدين عند القبائل الجرمانية القديمة
-
جورج لوكاش والايديولوجيا البرجوازية المُعاصرة
-
تاريخ الدين: الدين عند السلافيين القٌدامى
-
تاريخ السوسيولوجيا الكلاسيكية: (الخاتمة) أو الاستنتاجات
-
الفلسفة والعداء للفلسفة
-
تاريخ الدين: الدين في منطقة الفولغا وغرب جبال الأورال
-
السوسيولوجيا في روسيا ما قبل ثورة اكتوبر
-
حول جوهر الحياة
-
تاريخ الدين: الدين في القوقاز
-
نظام فيلفريدو باريتو السوسيولوجي
-
ألبير كامو: عدمي ضد العدمية
-
تاريخ الدين: الدين في افريقيا
-
سوسيولوجيا ماكس فيبر
-
فلسفة كارل بوبر المتأخرة
-
تاريخ الدين: الأديان في الأمريكيتين
-
سوسيولوجيا اميل دوركهايم
المزيد.....
-
هولندا: اليمين المتطرف يدين مذكرتي المحكمة الجنائية لاعتقال
...
-
الاتحاد الأوروبي بين مطرقة نقص العمالة وسندان اليمين المتطرف
...
-
السيناتور بيرني ساندرز:اتهامات الجنائية الدولية لنتنياهو وغا
...
-
بيرني ساندرز: اذا لم يحترم العالم القانون الدولي فسننحدر نحو
...
-
حسن العبودي// دفاعا عن الجدال... دفاعا عن الجدل (ملحق الجزء
...
-
الحراك الشعبي بفجيج ينير طريق المقاومة من أجل حق السكان في ا
...
-
جورج عبد الله.. الماروني الذي لم يندم على 40 عاما في سجون فر
...
-
بيان للمكتب السياسي لحزب التقدم والاشتراكية
-
«الديمقراطية» ترحب بقرار الجنائية الدولية، وتدعو المجتمع الد
...
-
الوزير يفتتح «المونوريل» بدماء «عمال المطرية»
المزيد.....
-
الثورة الماوية فى الهند و الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي )
/ شادي الشماوي
-
هل كان الاتحاد السوفييتي "رأسمالية دولة" و"إمبريالية اشتراكي
...
/ ثاناسيس سبانيديس
-
حركة المثليين: التحرر والثورة
/ أليسيو ماركوني
-
إستراتيجيا - العوالم الثلاثة - : إعتذار للإستسلام الفصل الخا
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية(أفغانستان وباكستان: منطقة بأكملها زعزعت الإمبر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
رسالة مفتوحة من الحزب الشيوعي الثوري الشيلي إلى الحزب الشيوع
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية (الشيوعيين الثوريين والانتخابات) دائرة ليون تر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
كرّاس - الديمقراطيّة شكل آخر من الدكتاتوريّة - سلسلة مقالات
...
/ شادي الشماوي
-
المعركة الكبرى الأخيرة لماو تسى تونغ الفصل الثالث من كتاب -
...
/ شادي الشماوي
-
ماركس الثورة واليسار
/ محمد الهلالي
المزيد.....
|