غانم عمران المعموري
الحوار المتمدن-العدد: 6745 - 2020 / 11 / 27 - 21:50
المحور:
الادب والفن
ا.
يقول الفيلسوف الألماني فريدريش نيتشه( من منا لم يقدم ذاته على مذبح الصيت الحسن).
سيّل المشاعر والأحاسيس والتأثيرات النفسية الّتي اشعلت وجدان الشاعرة بلهيب الإلهام الناتج عن مزيّج من المؤثرات الداخلية الخاصة بذات النّاص والخارجية المحيطة بها من ترسبات بيئية واجتماعية التي تعيش ضمن اطارها تكون كمرآة عاكسة لأشعة الشمس الساقطة عليها..
هُنا تتوالد الأفكار النابعة من هواجس نفسية والوضع الذي تكون فيه الشاعرة فتأتي الفكرة عن طريق المتخيّل الداخلي الباطني والتي هي نتاج إنعكاس المؤثرات الخارجية وداخلية تُهيأ للنّاص مجموعة من الأفكار تحتاج إلى صقل وترتيب ذهني مرتبط مع المعارف الثقافية المُكتسبة من خلال دراسة أو اطلاع أو متابعة جادة أو فطروية كما في حالة الرسام الموهوب وبالتالي فهي تُمثل النزف الروحي على الورقة لتحديد المفاهيم والمقاصد والأهداف الّتي ترجو إيصالها عِبْرَ جمالية الجمل والكلمات والحروف تندمج وتختلط لتتناغم وتتجانس فيما بينها لتعطي هالة روحية وجدانية شعرية مؤثرة في المتلقي..
وأن النقاد يمثلون لحظة في المشروع النقدي حاضرة دائماً على نحو كامن, حاضرة منذ أن وضع أفلاطون عالم الأفكار أعلى من عالم الأشياء, ومنذ أن وضع أرسطو الحياة المتأملة أعلى من الحياة الفعلية كونها وسيلة لغاية ما ...1.
اختيار العنوان " قربان على مذبح الصيت" ولوحة الغلاف التجريدية للرسام التشكيلي المعروف كامل حسين طبعت على الذات المُتخيّلة سيّل من التساؤلات والّتي كانت تُمثل إحدى المنصات الأساسية للولوج إلى عالم نصوصها الشعرية ومن العتبة تنطلق أولى بشاراتِ التأثير على مُخيلة القارىء الّذي يقع نظره أولاً وقبل كل شيء على عنونة الكتاب والغلاف الخارجي, وعنوان الكتاب في مفهوم "آيزر" (نوع من التفاعل الوجودي بين الذّات القارئة والبنية النصّية لتوليد معنى ما وقيمة أدبية ما, لا تعودان بالتحديد إلى ملكية خاصة بالنص, ولا إلى ملكية خاصة بالقارىء, ولكنها تعود فقط إلى تلك النقطة التواصلية التي توجد بينهما, فالتواصل بهذا المعنى هو فعل منتج للدلالة وليس مستهلكاً لها)2..
استوقفني العنوان " قربان على مذبح الصيت" لما له من مفاهيم دلالية نابعة من ذات النّاص ومؤثرة على مخيلة المتلقي ويحتاج إلى تأويل وبحث في معجم اللغة لتتبع معانيها إذ " يوجد التأويل كلما وجد غموض, أو تقمّص الحياة النفسية للآخرين والقدرة على فهم كاتب ما, أكثر ممّا يفهم هو نفسه 3".
لكن القارىء المتجدد اليوم ينظر إلى جمالية الألفاظ لا معانيها ومدى تأثيرها عليه روحياً ونفسياً والفكرة الّتي يتبناها النّاص أي فلسفة النص وسيكولوجية النص وهذا ما ذهبت إليه نظرية ( التحليل والإرتقاء ) للناقد ساعد الساعدي ..
من العنوان يتولد لدى القارىء انطباع لما تُريده الشاعرة أن توصله لنا من خلال ما جادة بها نفسها من مؤثرات نفسية واجتماعية تحيط بها من خلال المجتمع الذي تعيش فيه ..
أرادت أن تعطي صورة شعرية عن الأمنيات المُحلقة بأجنحة وردية شفافة في عالمها ومجتمعها الذي فرض عليها العيش فيه لكن تلك الأمنيات في ذلك الوسط الذكوري الذي يُقيد حرية المرأة المُعاصرة الطموحة شريكة الرجل والتي هي الأم والزوجة والأخت والبنت في الأنطلاق بفضاء الحب والجمال وممارسة حريتها المشروعة وتبين لنا الشاعرة بأن تلك الأجنحة رثّة وضعيفة لا تسطيع الطيران في أجواء ملوثة وليس لها القدرة في التحليق عالياً في سماء الواقع...
ورغم جمالية العنوان الذي يُعتبر المنصة الأساسية في المجموعةإلا أنه جاء كاشفاً وفاضحاً لهواجس ومشاعر النّاص قبل الولوج إلى نصوصه وكان الأفضل أن يأتي نكرة كأن يكون العنوان ( قربان) وعن رولان بارت يرى العناوين ( أنظمة دلالية سيمولوجية تحمل في طياتها قيماً أخلاقية واجتماعية وأيديولوجية )4. وكذلك يرى جميل حمداوي إن العنوان ( مفتاح تقني يجس به السيمولوجي نبض وتجاعيده وترسانته البنيوية وتضاريسه التركيبية على المستويين الدلالي والرمزي) 5. وعن محمود عبد الوهاب بخصوص العنوان يقول( بنية صغرى لا تعمل باستقلال تام عن البنية التي تحتها) 6.
لكن للعنوان تأويل و تحليل جمالي روحي نابع أولاً من ذات النّاص ووجتها المرسلة إليها هي النفس المتلقية عن طريق جمالية الكلمات المتدفقة والنابعة من وجدان صادق لا كما ذهب إليه أصحاب المدارس ما قبل الحداثة واعتمادهم الكلي في تفكيك وتجزأت الألفاظ للوصول إلى معانيها عن طريق معاجم واستخدام مصطلحات قد تكون صعبة تُشتت فكر القارىء الذي أحب في القصيدة جمالية ألفاظها و تأثره بها وابتعاده عن كل ما يسبب له الملل والضجر وهو يتابع لغة جامدة خالية من الروحية كما في القوانين المُشَرعة إن طُبقت دون مراعاة الجوانب الإنسانية فأنها تفقد روح القانون والغاية المرجوه من التشريع وهكذا عمل الشاعر والكاتب إن كانت كلماته خالية من روح وجمالية الكلمة فأنها تفقد الغاية المرجوه من الكتابة, وقد تفقد قُرّائها وتصبح لا تغني ولاتُسمن من جوع...
وهذا ما ذهب إليه الناقد العراقي الساعدي والّتي تُعتبر نظريته " التحليل والإرتقاء" نقله نوعيه في مد جسور التجديد والأخذ بيد الشباب وحتى الكُبار المتجدديين الذين طالما تعرضوا إلى النقد الهدام وليس البناء ...كما أن تلك النظرية جاءت بمثابقة " نقد الناقد" والتي نفتقدها في الساحة الأدبية والتي نوّه عنها الناقد الساعدي بقوله (وهناك المتملُّق الغاشم الذي يُردي الكاتب في مهاوي الردى طالما تكون هناك دوافع اقتصادية أو منافع اجتماعية لكلا الطرفين وهذا الأسلوب لا يُعتد به علمياً لأنه ينافي البحث العام قبل كل شيء وليس بنقد ...)7.
وهذا لا يعني أن هدف الكتابة النقدية المعاصرة هو إلغاء مفهوم الوحدة (النصية) وإنما إعادة الحياة له وجعله مفهوماً ديناميكياً يسهم القارىء بإمكانياته في بنائها 8.
أن الشاعرة تنقلت في قصائدها بإبداع تجاوز المألوف والسائد بخلق فضاءات متجدده في قصيدة النثر كما أنها وجدت نفسها داخل إطار اللا مسبوق المتجدد ولكن ضمن حدود الممكن المألوف في قصائدها ( سقوط حر, رفات على أكتافِ الغيم, الواحدة بعد منتصف الهذيان, نقش التجاعيد, هروب من الميتم, سيناريو هارب, فك شيفرات الموت, نصف يتوسل الجدب, نوفمر ,زوال مزدحم في رأسي, ريش على دكة الحبر, قيود تتنفس بقاياي, في لجة القافية, نوايا وألحان عراقية, وأحررالبوح...) وقصائد أخرى تنوعة مواضيها وأن كانت فلسفة الموت حاضرة في العديد من قصائدها فقد تحدث بليز باسكال عن الموت، بأنّه هو الطريق والأمل للانتقال إلى حياة أخرى، وقد صور تلك الحياة بأنّها أكثر سعادة من الحياة التي يعيشها المرء، وأنّ الإنسان يصبح أكثر سعادةً كلما اقترب من الحياة الأخرى،
إلا أن البُعد المثيولوجي كان حاضر في قصيدة " من بين هياكل الظل, ضحكات إبليس, وقصائد أخرى استخدمتها بأسلوب فني بلاغي متجدد مما أعطى جمالية للنصوص وإن كانت أغلبها تُحاكي الحزن والألم وتضع الموت أمام أعينها في العديد من القصائد ولم تخرج من تلك الدائرة إلا في بعض القصائد, كما أن لجوئها إلى القصائد الطويلة يفقد النص وحدة الموضوع والأفضل أن تكتب القصائد القصيرة في بداية مشوارها الفني لتحافظ على وحدة الهدف..
ولكن هناك بُعد آخر لم ينتبه إليه الكثيرين وهو المسموع من قصيدة النثر لما له من أثر كبير على المتلقي وبشكل أسرع من المقروء فمن يسمع إلقاء القصيدة من قبل الشاعرة صاحبة النص حوراء الربيعي يجد التأثير الحقيقي على مخيلة المتلقي فهي بصوتها تستطيع أن تنقل توجه المتلقي من معاني الكلمات إلى جمالية وعذوبة الألفاظ وهذا جانب آخر رائع تمتاز به الربيعي يُضاف إلى منجزها.
أتمنى لها المزيد من الإصدارات والتقدم.
المصادر
1-سهيل نجم, تحرير وترجمة, في الحداثة وما بعد الحداثة دراسات وتعريفات.ط3, دار شهريار, العراق – بصرة, ص60 , الترقيم الدولي978-9922-617-40-4:
2-حميد لحمداني, القراءة وتوليد الدلالة م. ث. ع (بيروت) ط1 2003 ص70.
3- حسن بن حسن : النظرية التأويلية عند بول ريكور, منشورات الاختلاف (الجزائر) ط2 2003 ص 23.
4- السيمولوجيا والعنونة – د. جميل حمداوي – مجلة عالم الفكر, م25, ع3, 1997:96
5-السيمولوجيا والعنونة مصدر سابق, ص96
6-ثريا النص , دار الشؤون الثقافية, بغداد (الموسوعة الصغيرة) 1995:9.
7- سعد الساعدي, النّاص بين قراءة الناقد ومرتكزات التحليل وفق نظرية التحليل والارتقاء النقدية .. مقال منشور في الحوار المتمدن 11/11/2020
8س-محمد أندلسي, نيتشه وسياسة الفلسفة, دار توبقال (المغرب) ط1 2006 ص175.
#غانم_عمران_المعموري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟