جعفر المظفر
الحوار المتمدن-العدد: 6735 - 2020 / 11 / 17 - 19:10
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
كان المفكر المرحوم الأستاذ عزيز السيد جاسم أحد الأقلام البارزة في بداية عهد النظام البعثي (1968). ونظرا لتداخل المعلومات والتقييمات حول دوره في تلك الفترة, ولأنني كنت شاهدا عن قرب لتجربته مع حزب البعث حينها, أجد أن من الضروري العودة إلى أوراقها بكثير من الدقة.
وأجزم أن علاقاتي السابقة الودية معه والتي إستمرت حتى إلى فترة قليلة قبل سفري للدراسة خارج العراق نهاية عام 1973 تجعلني حريصا على أن أنبه القارئ إلى أن إهتمامي بموضوعته إنما يأتي هنا من باب المشاركة في محاولة توثيق أحداث تلك الفترة بعيدا عن عين الود أو عين الكراهية, متطلعا أن يساعد ما أكتبه هنا المهتمين سواء بالتوثيق أو الإطلاع إلى أن يتعرفوا على واحدة من الشهادات التي ربما تساعدهم على قراءة أكثر دقة وربما أكثر مصداقية. ويبقى أن هدفي الأساسي هنا ليس الوقوف أمام قضية السيد جاسم ذاتها كموضوعة خاصة ومستقلة وإنما تناولها بقدر علاقتها بأحداث وشخصيات تلك المرحلة وشواهدها.
ومن ناحيتي سأزعم أن تشخيصا صائبا لإحتدامات تلك المرحلة وعواملها المركزية الفاعلة سيساهم إلى حد كبير بفهم وإستيعاب مخاضات ومآلات رجالاتها. وبداية أجد أن من المهم الإنتباه إلى أن عودة البعثيين إلى الحكم عام 1968 قد تلتها هدنة مؤقتة بين الحزب وبين مختلف الأحزاب السياسية الأخرى, وبخاصة الشيوعيين (عدا جناح عزيز الحاج), الذين وقفوا بإنتظار ماذا ستفعله (الثورة البيضاء) بعد أن أكد البعثيون أنها ستتوجه لبناء الداخل الوطني من خلال تحولات تكفل إغلاق صفحة الماضي والإنفتاح على القوى السياسية الوطنية والتقدمية لضمان مشاركتها في نظام الحكم الجديد.
الواقع أن المرحوم عزيز السيد جاسم الكاتب الماركسي وعضو لجنة الشيوعيين المحلية السابق عن مدينة الناصرية كان غزيرا في نتاجاته, لكنه كان أيضا عنيفا في طموحاته. وفي تلك الفترة كان النظام البعثي الجديد يشكو من عوز فكري وإعلامي واضح مما إستدعى ضرورة التفتيش عن قدرات إعلامية وفكرية من خارج منظومة مثقفيه القلائل.
وبوجود قدرات شيوعية بارزة وكثيرة في الوسط الفكري والإعلامي فإن الحاجة إلى متعاونين منهم للمساهمة في بناء المنظومة الثقافية والإعلامية في الدولة الجديدة بدت ماسة, وربما أقنع السيد عزيز نفسه بإمكانية أن تكون له بصمة متميزة في التوجه الإعلامي العام على الأقل. وأجد أن تضمينا كهذا سيخفف بطبيعة الحال من غلواء الرأي الذي يدعي بأن الرجل كان باع قلمه إلى البعثيين وتبرأ من تاريخه الشيوعي القديم.
وإن من المهم لنا أن نتذكر أنه وعلى خلاف الشيوعيين الذين يمتلكون نظرية إقتصادية وإجتماعية واضحة وناجزة فإن الخطاب البعثي لم يكن قد جرى إنضاجه بعد بما يكفي للمساهمة في بناء دولة أو التحدث بإسمها. ويعزى لحداثة تأسيس الحزب في العراق مقارنة بالشيوعيين تأثيرا أساسيا على بناء ذلك العوز.
ولأن البعث في العراق كان قد نشأ وترعرع وشبَّ في مساحة المجابهة مع الشيوعيين بشكل خاص فهو لم يكن قد حظي بالمساحة الزمنية الكافية لأن يتطور خارج ميدان الإشتباك مع سلطة عبدالكريم قاسم من جهة ومع الشيوعيين من جهة أخرى, الأمر الذي لم يمكنه من تأسيس مكتبته الخاصة, ولا كان قد قد سمح له بالإهتمام بالجانب الثقافي كحاجة أساسية للحزب العقائدي .
وقد جعله ذلك بالمقابل أقرب إلى أن يكون حزبا للعضلات بدلا من أن يكون حزبا للثقافات.
وحتى أن الثقافة في ذلك الحين قد بدت وكأنها تَرف مؤجل في أحسن الأحوال.
ولتشخيص مستوى الحالة الثقافية التي كانت سائدة آنذاك يكفي معرفة أن بعضا من كوادر متقدمة في الحزب لم تكن تعرف القراءة والكتابة الأمر الذي إستدعى حينها صدور قرار من القيادة القطرية يلزم العضو تعلمهما كشرط لإستمراره في الحزب.
وكان الحزب أيضا قد نزف العديد من قدراته الثقافية بعد الإنشقاق الذي حدث في سوريا والذي اطاح بنظام الفريق أمين الحافظ. حيث إنشطر في العراق أيضا إلى فريقين, أحدهم وهو المؤيد للنظام السوري الجديد, وقد أطلق على نفسه تسمية (اليسار) الذي إلتحقت به أغلبية المثقفين البعثيين من أولئك الذي تأثروا كثيرا بالفكر الماركسي, في حين ظل مع الجناح الذي أتهم باليمينية عدد قليل جدا من المثقفين من أمثال الأستاذين الشاعرين شفيق الكمالي وحميد سعيد. وقد جرى تصنيفي حينها كمثقف واعد الأمر الذي دعا القيادة (عبدالخالق السامرائي) بعد تأسيس النظام إلى إلحاقي بالمكتب الثقافي للحزب حيث بدأت أمارس مهمتي الجديدة تحت مسؤولية المرحوم الدكتور إلياس فرح, رغم إني كنت قد نلت توا شهادة تخرجي كطبيب أسنان وتعينت معيدا في الكلية التي كانت الوحيدة حينها في مجال تعليم المهنة.
إن رجالا إعلاميين من أمثال طارق عزيز وعبدالجبار محسن أو مفكرين على مستوى الدكتور سعدون حمادي كانوا خارج التنظيم البعثي حيث جرى إلتحاقهم بالحزب بعد شهور
عدة من عمر النظام. وأتذكر أنني كنت من ضمن ثلاثة أشخاص إلتقوا لمرة أو مرتين في غرفة الدكتور إلياس فرح وكان من ضمن مهامهم حينها الكتابة في معنى وقيمة الرابط الجدلي بين الوحدة والحرية والإشتراكية لغرض إبراز الهوية الفكرية للحزب الذي ظل
بحاجة إلى أن يقدم نفسه دون أن يجنح بإتجاه التأثر بالفكر الماركسي بالمستوى الذي يلغي هويته القومية, ولقد كان الدكتور سعدون حمادي وزير الزراعة حينها ثالث أعضاء تلك اللجنة.
وحينما تم القبض على تنظيم الأستاذ عزيز الحاج بعد عام من تأسيس النظام فقد كانت تلك فرصة ثمينة لإحتواء عدد من المثقفين الماركسين الذي كانوا في قيادة التنظيم من أمثال الحاج نفسه, وكان هناك آخرون أتذكر منهم الأستاذ بيتر يوسف, حميد الصافي, كاظم الصفار ومالك منصور الذين سدوا بعضا من الفراغ الذي كانت تشكو منه مؤسسة النظام الإعلامية والثقافية مثل وزارة الإعلام وجريدة الثورة الناطقة بإسم الحزب الذي ترأسها في البداية المرحوم كريم شنتاف وكان مقرها حتى عام 1970 في شارع الشيخ عمر وفي بيت شديد التواضع.
ولقد كنت اشرف وقتها على تحرير الصفحة الطلابية بوصفي مسؤولا عن الثقافة والإعلام في المكتب التنفيذي للإتحاد الوطني لطلبة العراق مثلما كانت لي أيضا مساهماتي الفكرية السياسية في الصحيفة ذاتها. ويوم إنتقلت للعمل في المكتب الثقافي للحزب في بداية تأسيسه بعد عام 1968 فقد أوكلت لي مهمة مراجعة المقالات السياسية لكتاب كان أغلبهم من الماركسيين وذلك قبل نشرها في الصفحة الثالثة لجريدة الثورة التي كانت قد خصصت للنشريات السياسية وحيث أوكلت مهمة الإشراف على تلك الصفحة فيما بعد إلى المرحوم عزيز السيد جاسم في عهد رئيس تحريرها المرحوم طارق عزيز.
وفي تلك الفترة بدأ المرحوم طارق عزيز مسيرته لإعتلاء المنصة الإعلامية الأولى للنظام, وكنت ألتقيه في ثلاثة مواقع بارزة, أولها الصحيفة نفسها التي خصصت له صفحة إسبوعية حيث بدأ ينشر فيها مقالته الإعلامية الشهيرة بعنوان (حديث الإثنين), وثانيهما مقر قيادة شعبة الكرادة الحزبية التي أوكلت له مسؤولية لجنتها الثقافية, وكنت واحدا من أربعة تشكلت منهم تلك اللجنة وهم عبدالجبار محسن, العائد إلى صفوف الحزب من جديد, والصديق زهير البيرقدار السوري الجنسية الذي اصبح فيما بعد مديرا عاما للدائرة السياسية في وزارة الخارجية والصديق صاحب السماوي الذي تولى فيما بعد رئاسة تحرير الجمهورية وليصبح بعدها سفيرا للعراق في كوبا وحسان البازركان العضو في شعبة الحزب في الكرادة.
أما الموقع الثالث الذي جمعني مع الأستاذ طارق فهو مقر المكتب الثقافي القومي حيث كنت متفرغا لأعماله وحيث كنا, طارق عزيز وزهير البيرقدار وأنا, وأحد البعثيين السوريين الذين سقط إسمه من الذاكرة, أعضاء أساسيين في هيئة تحرير جريدة الثورة العربية الداخلية
الخاصة بأعضاء الحزب والتي ترأس تحريرها خالد الذكرعبدالخالق السامرائي..
في ذلك المناخ البعثي الإعلامي والثقافي المتواضع إلتحق المثقف الماركسي عزيز السيد جاسم في الوسط الإعلامي. وفي سنة قدومه الأولى إلى بغداد لم أكن قد تعرفت عليه بعد, لكني بدأت التعرف عليه بعد تعينه رئيسا لتحريرمجلة وعي العمال التي كان يرأس تحريرها شرفيا أنذاك المرحوم محمد عايش بصفته رئيسا للإتحاد العام لنقابات العمال في العراق.
لكن علاقتي الشخصية بالسيد جاسم كانت قد توثقت من خلال الصديق سكرتير المجلة, حيث بدأ الإثنان يترددان على بيتي في منطقة 52 الشهيرة بدورها الحديثة وشوارعها الواسعة الجميلة. ومذ ذاك راحت علاقتي مع المرحوم عزيز تصبح أكثر قوة نتيجة تردده المستمر على مقر سكناي حيث كنت أعزبا وقتها. وكنت قد عينت معيدا في كلية طب الأسنان في جامعة بغداد ومن ثم معاونا للعميد قبل ان التحق كطالب بعثة في أمريكا لإكمال دراستي العالية هناك.
ورغم قدرات السيد عزيز السيد جاسم الثقافية وقلمه الغزير إلا أنه ظل متأثرا ومنحازا للفكر الماركسي وغير قادر بالتالي على التناغم مع الثقافة البعثية القومية الجوهر القائمة على نظرية التفاعل "الجدلي" ما بين الوحدة والحرية والإشتراكية.
وعلى خلاف بقية المثقفين الماركسيين الذي قبلوا التعاون مع نظام البعث الجديد دون أن يكونوا جزءاً من منظومته الحزبية والرسمية فإن المرحوم المفكر عزيز السيد جاسم كان يتطلع إلى أن يحتل موقعا متقدما في المؤسسة الثقافية والإعلامية البعثية. لكن ثمة أمور كانت قد عرقلت كثيرا تطلعه ذاك وأولها أنه كان مسكونا بعقدة كنت قد أسميتها وقتها بـ (عقدة طارق عزيز), الذي سد آنذاك فراغ الحاجة إلى القلم الإعلامي المتميز, إضافة إلى إكتشاف السيد جاسم أن الثقافة وحدها لن تكفي لإحتلال المواقع القيادية الثقافية أو الإعلامية, خاصة وأن الحصانة البعثية الفكرية كانت تعني في جانب منها الإنتباه إلى حالة الإلتباس التي قد يخلقها المثقفون الماركسيون على خصوصية النظرية البعثية التي نحت بإتجاه (تبجيل خصوصيات التاريخ السياسي العروبي والإسلامي بغية المحافظة على الخصوصية الهوياتية للأمة).
ففي وسط عالم كانت تتنازع على تقسيم خارطته السياسية والفكرية قوتان رئيستان هما
الرأسمالية والماركسية فإن الإستقلالية السياسية للأمة في رأي الحزب كانت ستتحقق من خلال عثور هذه الأمة على ذاتها أولا. وأن المحافظة على هذه الذات بمقدار ما هي معنية بالتجدد من خلال التفاعل مع الفكر الإنساني دون عقد قومية إلا أنها معنية أيضا بالإحتراس من الذوبان في أي من الإتجاهين الرئيسيين. لأن التفتح لا يعني التفكك. ولأن ماهية التفاعل لا تُشرعٍن الذوبان.
#جعفر_المظفر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟