|
ذكريات من والدي ج5 والأخير
حيدر محمد الوائلي
الحوار المتمدن-العدد: 6730 - 2020 / 11 / 12 - 10:09
المحور:
سيرة ذاتية
تتعلم من الابتسامة وسط مبررات الهم والغم الكثيرة أن السعادة في الرضا وفي صفاء النفس. هذه اشياء تتعلمها بالممارسة والنظر لا بالكلام وصياغة الجمل.
اعتادت الناس نشر حكم ومقولات لمشاهير حيث ارتبط الإيمان بها لارتباطها بالمشاهير وحسب. قمت بتجربة شخصية عندما كنت في نهاية العشرينات من عمري (على اساس هسة شيبت) وقد اسررت لِـ(علاء) بما اروم فعله وهو أن صغت من بنات أفكاري جملة إدعيت أن فيها حكمة ونسبتها لأبي العلاء المعري. ولأن (علاء) جالس جنبي فأول من جاء ببالي لنسب المقولة له هو (أبو العلاء) وكذلك لكونه (أعمى) فيعطي للحكمة (بهارات) اضافية تجملها.
أخبرت بعض الحاضرين في جلسة بالحكمة إياها، فأُعجبوا بها وبأبي العلاء وصاروا يتحدثون بمواضيع كانت قد اثارتها وصاحبي يبتسم وكاد يكركر لولا أن موضوع اخر ضيّع على هذا الموضوع. طبعاً كانت الجملة عادية ولكن صادف أن يكون في الجلسة مدرسان للغة العربية فما إن سمعوا اسم (ابي العلاء المعري) الا وبدأ النقاش يأخذ منحى فلسفي مغاير.
عرفت من والدي حكمة الرضا والقناعة والصبر لنيل الظفر وطيبة النفس وحسن المعاشرة. حكمة لم يصغها بل عاشها وكسبها بالممارسة.
بكيت عندما ساء وضع أبي الصحي مختنقاً بوباء (الكورونا) وشبح الموت محيطٌ براقدي المستشفى، فبكل ساعة تسمع نائحة وصائحة تقيّد التفاؤل بسلاسل غليظة فاسحة الباب على حزن وقلق لا مهرب منه.
نحن معاشر العاديين حزننا أليم لأنه حزن عادي لا مُبالَغ ولا مُتهاوَن فيه. حزننا أصيل لا تصنع ولا رياء فيه لأنه نابع من القلب بلا تكلفات وبلا مجاملات.
مات حصان الوالي فذهبت الحشود والشخصيات البارزة والمشاهير لتعزيته، ولما مات الوالي نفسه لم يشيعه سوى بعض العاديين من الناس طلباً للثواب ودفعاً للعيب أن يُترك ميتاً دون تشييعٍ ودفنٍ لائق.
نحزن كثيراً لأن رأس مالنا وثروتنا هو انسان وعائلة وأصدقاء وسمعة طيبة وذكريات جميلة فالمال الغزير والثروة الكبيرة والمناصب الكبيرة والشهرة المغرية همٌ كفانا الله إياه ولو نلناه لربما طغينا. ليست عيبا ولا خدشا ان تكون ثري ومسؤول كبير أو مشهور ولكن أراني باركني الله وبارك والدي بأن جنبنا إياه.
هذا الكلام لكي لا يحزن ابنٌ لم يرث من اباه املاكاً كثيرة ومناصب كبيرة، فلربما تُوَرّث المناصب (لم لا)؟! في زمانٍ غريبٌ وعجيبٌ في دواهيه. الإرث الأجمل هو سمعة طيبة ونفس نقية وعِشرة جميلة وذكريات تُطيّب الخاطر وتُنعِش السرائر.
فقدان الأحبة صعب. فقدان ماهو مُحببٌ في الأشياء صعب. لنصارح انفسنا بحقيقة ان كل فقدان صعب يشتد ويسهل حسب قربه وبعده من هوى القلب. كل نهاية حتمية هي صعبة التقبل. الموت سيّد النهايات والمهيمن عليها. يصعب التصديق بكل غير ملموس فلذلك تخشاه وتحاول أن تتجنبه أو ببساطة تتجاهله الا اذا كان القرب منه وشيك ولا مهرب منه او كانت الحياة الشخصية قاسية ومؤلمة فعندها تحاول اقناع نفسك أن الموت افضل وأن ما بعد الموت أرحم.
الموت نهاية حتمية ولا تُعرَف حقيقته إلا عند من مات بعدما مات ولا يستطيع العودة ليخبرنا (ربما) أن كل الاحاديث والنظريات عن الخوف من الموت والرعب في وصفه هي غير دقيقة و(ربما) مُبالغٌ بها كثيراً وأن الموت أسهل من ذلك بكثير وأنه تجربة جديدة (ربما) تشبه الحلم والنوم والصحوة منه. (ربما) تكون كمغامرة يعتبرها هواة المغامرات تجربة ممتعة. يبقى الأمر نسبياً، (فربما) مشاهدة تسلق الجبال ممتعة لهواة الرحلات وعند ممارسيها روعة من الروائع ولكن عند من يخاف من المرتفعات مثلي فالنظر لها عياناً فضلاً عن ممارستها امر مرعب جداً. الغوص لمن تدرب عليه وعرفه وفهمه جيداً هو رياضة استكشافيه ولكن اطلب ممن لا يعرف السباحة أصلاً ومن يختنق من الماء في غرفة الحمام عند الأستحمام فتخيل جوابه لطلبك أعلاه. السمك المشوي لمن يعشقه مثلي أمرٌ كبير واليوم الذي فيه سمك مشوي بعناية مع (الحبشكلات) المرافقة معه فهو (يوم عسل). ولكن لمن لا يحب السمك يقول ما هذه المبالغة في وصف اكلة (زفرة) مثل السمك، وهي صفة السمك المظلوم فيها بأنه (مأكولٌ مذموم).
هنا تكمن الصعوبة بتصديق أو نكران ما يُقال عن الموت وكيفيته وما بعده. وهنا تكمن روعة الأيمان وصدق السريرة وإحكام العقل بأن تعزز أو تضعضع موقفك من كل ذلك.
لو سألت صديقاً قد جاء للتو من زيارة للمتحف البريطاني بلندن الحاوي على ثمانية ملايين قطعة فنية واثرية في التاريخ الأنساني والفن والثقافة، أو اكل (الفول) (المدمس بعناية) وتبعه بشرب الشاي و(ناركيلة) في مقهى جميل (وسط البلد) في القاهرة، أو طاف ببيت الله بمكة وجلس في ليلة مقمرة على التلال يتأمل صعيد مكة وأثر الرسول (ص)، أو جرّب اكلات الشارع الشهية في احياء اسطنبول الشعبية، أو تحسس قبر الامام الحسين (ع) وتأمل محل مصرعه بكربلاء وقت العصر وصادف أن سكتت مكبرات الصوت عن ضجيجها العالي فاسحةً المجال لتأملٍ روحاني ينقي الضمير من داخل الصحن الشريف، أو صعد بأسرع قطار في العالم عديم العجلات بتقنية المجال المغناطيسي الفريدة وبسرعته القصوى 431 ك/س بشنغهاي الصين، أو كان يقود سيارته وهو يعاين انبثاق الصباح مستمعاً مستمتعاً للمرحوم (مصطفى اسماعيل) يتلو القران حيث منظر الشروق جميل في كل مكان، أو ذهب في سفرة لأهوار (الجبايش) راكباً (مشحوف) ومعه خبز (تنور) حار و(طرشي وفجل وبصل) وسمك (بِنِي) كبير يشويه بجزيرة صغيرة وسط الهور مستخدما فروع الشجر اليابس من ثم (قوري) شاي كبير تتركه على الجمهر (يتهدر) ويتحضر على مهل وفوق كل ذاك أن يكون مرافقك في الرحلة (عماد).
لو فعل كل ذلك وجاء لك انت الذي لم تر وتسافر وتستمتع وتجرب ما جربه وتعرف ما عرفه عن دراية، فبالتأكيد سيكون هنالك وصف شعوري مشبع بالتجربة ونظر العين ويقين بالنسبة له وأنت لك الخيال ترسم صوراً وهمية (خيالية) تحاول تصديقها ولكن سرعان ما تتلاشى ويتداخل بعضها ببعض ومنها ما ينغرس بالنفس ايماناً وثقة وتفكر وفطنة بقول المقابل ومنها ما يضعف ويتضعضع بمرور الايام.
هذا هو الايمان من عدمه بكل بساطة يا سادة. إن العقل كبير ورائع ومن المفترض استخدامه في اليسر والعسر وفي العمق والسطح. فرق كبير بين اوصاف وأحاديث نثرية تصدقها أو تنكرها ايماناً أو عدمه تبع هوى النفس وبين تجربة وتفكر ومعايشة وتصديق منطقي تبذل الجهد أن يكون مفهوماً لك.
الجنة والنار، الموت والروح، البعث والحساب، الله والملائكة، التاريخ والروايات. كلها اوصاف وأحاديث يصعب تخيلها، لذلك المجال للخيال مفتوح على مصراعيه وترى رواة وفلسفات وتاريخ منها العظيم والغزير الفكر، ومنها المُضحك للغباء الذي فيه، ومنها التافه الذي لا حل ولا ربط فيه، ومنها المُزوَر لأرضاء الحُكام، ومنها المُتلاعَب به بزرع احقاد شخصية أو حب مبالغ به بأضافات من عند الرواة. كلٌ على طريقة تعاملهم مع تلك المكنونات الفلسفية الكبيرة ووفق معطيات وظروف وإدراك كل زمان ومكان ودين وطائفة وتراث. نحن العاديين فرحنا بسيط وحزننا بسيط وهمنا بسيط. لا نطلب الكثير ولا نبالغ بالهم الكبير ونحمد الله على (كل شيء) وعلى (اللا شيء) فلربما جَلَبَ (اللاشيء) راحة نفسية نحمد الله عليها أيضاً قناعة تطمئن بها القلوب وترتاح في سكينتها العقول. ميزة العاديين يعيشون ويموتون ببساطة بلا اذى لاخرين ولا سخط على مسلوب حقٍ ضاع حقه في اكوام الأتباع. السؤال عن الأحوال سؤال حرصٍ لا مجاملة وسؤال مهتمٍ لا مسائلة.
أحمد الله الذي كفاني ووالدي (شر) الضغينة و(نَكَد) البُغض و(احقاد) الكراهية و(رياء) المظاهر الخادعة. هذه الكفاية وسيلة مثلى جالبة للفرح والطمأنينة ونعمة كبيرة جداً جداً جداً لا يجلبها المال ولا كثرة الأتباع ولا تسليط الأضواء ولا يجلبها التظاهر خداعاً بها فهي احساس ومشاعر وليست تمثيلاً ومظاهر.
الفرحة لأبي ضحكة عابرة في ليلة ساهرة وسط ثلة من (الشياب) في شارعٍ هادئ والنجوم جميلة وكثيرة في جوٍ يتلطف ببعث نسمات هواء عليلة وشرب شاي (بالهيل) وسط ظلام الليل والكهرباء مقطوعة.
كانت هذه خواطر عابرة. في ليلة ساهرة. هيمن عليها جبروت الصمت ووحشة الظلام وسهر الليل. مُفجراً في النفس بركاناً من ذكرياتٍ ومشاعرٍ وأرق. وما شئنا نفعل أو لا نفعل فما نحن إلا حبرٌ على ورق. يُكتب ليَبقى أو ليُنسى تُسجله على وَرَقات (عُمرك) سريعة الأشتعال ولأي عارضٍ تحترق. وتصير رماداً عدمياً يتلاشى في الأفق. في تلك الساعة والليل طويل. جالسٌ وحدي. افتش في الذكريات المبعثرة. أغوصُ في بحر الروح مختنقاً. أُفتش فيّ. ضاغطاً بنفسي عليَّ. علّ الذكريات تواسيني فيما أعانيه. عساها تطير بي بعيداً عما أنا فيه. كُتبت هذه الذكريات الخواطر في ليل الرابع من الشهر العاشر للسنة العشرين بعد الألفين، ووالدي في المستشفى يعاني الأمرّين.
أحمد الله على شفائك يا والدي (الان) وأدعوه أن يطيل بعمرك ويطيب خاطرك بسعادة ورضا. وأوصل دعواي لأباء القراء الأكارم بمثل ما دعيت وأن يرحم من مات منهم ويُسكنهم جنة من كريم لا يبخل بها، ومن رؤوفٍ لا يضاره مسامحته لأحد. يتلطف بها عليهم وهو اللطيف بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. ((إنتهى))
#حيدر_محمد_الوائلي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ذكريات من والدي ج4
-
ذكريات من والدي ج1
-
فضيحة فصيحة
-
مذكرات مصاب بالكورونا
-
كونتيجين
-
لماذا الناصرية
-
ميزان حسنات وسيئات السياسة في العراق
-
فيلم الجوكر وصناعة الشخصية البديلة
-
الام العراق الطويلة
-
قصة المدير في السوق الكبير
-
طعنة
-
الفرج
-
جمعٌ كبيرٌ
-
عالم آخر
-
الانتخابات فرصة للخير والشر
-
دعايات إنتخابية
-
لا يجعل الفوز بالانتخابات الباطل حق
-
تنتخب أو لا تنتخب
-
لا تفكر... فقط أعد النشر
-
مين فينا الحرامي
المزيد.....
-
فوضى في كوريا الجنوبية بعد فرض الأحكام العرفية.. ومراسل CNN
...
-
فرض الأحكام العرفية في كوريا الجنوبية.. من هو يون سوك يول صا
...
-
لقطات مثيرة لاطلاق صاروخ -أونيكس- من ساحل البحر الأبيض المتو
...
-
المينا الهندي: الطائر الرومنسي الشرير، يهدد الجزائر ولبنان و
...
-
الشرطة تشتبك مع المحتجين عقب الإعلان عن فرض الأحكام العرفية
...
-
أمريكا تدعم بحثا يكشف عن ترحيل روسيا للأطفال الأوكرانيين قسر
...
-
-هي الدنيا سايبة-؟.. مسلسل تلفزيوني يتناول قصة نيرة أشرف الت
...
-
رئيس كوريا الجنوبية يفرض الأحكام العرفية: -سأقضي على القوى ا
...
-
يوتيوبر عربي ينهي حياته -شنقا- في الأردن
-
نائب أمين عام الجامعة العربية يلتقي بمسؤولين رفيعي المستوى ف
...
المزيد.....
-
سيرة القيد والقلم
/ نبهان خريشة
-
سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن
/ خطاب عمران الضامن
-
على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم
/ سعيد العليمى
-
الجاسوسية بنكهة مغربية
/ جدو جبريل
-
رواية سيدي قنصل بابل
/ نبيل نوري لگزار موحان
-
الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة
/ أيمن زهري
-
يوميات الحرب والحب والخوف
/ حسين علي الحمداني
-
ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية
/ جورج كتن
-
بصراحة.. لا غير..
/ وديع العبيدي
-
تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون
/ سعيد العليمى
المزيد.....
|