أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - سعد محمد رحيم - النخب العراقية في حاضنة المقاهي















المزيد.....


النخب العراقية في حاضنة المقاهي


سعد محمد رحيم

الحوار المتمدن-العدد: 1610 - 2006 / 7 / 13 - 10:47
المحور: المجتمع المدني
    


المقهى إطار مكاني للاتصال الثقافي شفاهياً. والمجتمع الذي يكون جزء هام من ثقافته شفاهية لا بد أن يحتفي بالمقهى ويجعلها جزءاً من منظومته الحياتية. وحتى مع دخول عصر التدوين الواسع وبروز الفنون الأدبية والفكرية المكتوبة، إلى جانب ازدهار الصحافة، بأشكالها كافة، يبقى للمقهى دورها في إنتاج وتنمية وتداول هذه الفنون، ولا سيما مع انعدام أو قلة وجود مؤسسات بديلة، كما كان حال العراق في مراحل عديدة من تاريخه الحديث.
إن جانباً مهماً من تاريخنا السياسي والثقافي الحديث والمعاصر يتصل بالمقاهي. ولا شك أن معظم أولئك الذين أثروا في هذين الحقلين الإشكاليين، عراقياً ( السياسة والثقافة ) قد مروا بالمقاهي وخاضوا فيها سجالاتهم وحواراتهم، وعرضوا نتاجاتهم ومشاريعهم، وروجوا لأفكارهم وإيديولوجياتهم.
تمتص المقهى ساعات الفراغ، وتتعاطى مع ضجر المرء، مع سأمه الوجودي، وتتيح له الفرصة ليشبع فضوله إلى معرفة بعض مما يجري في محيطه، والترويح عن نفسه عبر تفريغ ما يثقل صدره بالثرثرة. وهي ـ أي المقهى ـ تنفتح على الشارع والزقاق والنهر، وعلى الحياة عموماً، وتنطوي على نفسها، في الوقت ذاته، لتشكل قوقعة اجتماعية لها مناخها الخاص وتقاليدها. فالمقهى مؤسسة اجتماعية حرة ومفتوحة، من جهة، ومقيدة ومغلقة، من جهة ثانية، ولعلها تشكل الإرهاص الأول لمؤسسات المجتمع المدني، أو هي مؤسسة من هذا القبيل لم تكتمل بعد شروط نضجها. وفي الغالب تكون للمقهى أعرافها غير المكتوبة، ولكن المتفق عليها من قبل روادها، حيث تقبل في مقاه كهذه أفراد بعينهم، يحترمون تلك الأعراف، وينبذ من يخرج عليها أو يخرقها، ولذا كانت المقاهي حاضنة ملائمة لتكوين النخب وبروزها منذ بزوغ فجر النهضة الفكرية والسياسية، في العراق، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وفي العقود الأولى من القرن العشرين.
ولأن حياة الإنسان العراقي، في أدق تفاصيلها ارتبطت بالسياسة فإن من الصعب حين يلتقي شخصان أو أكثر تجنب الخوض في شؤون السياسة وشجونها. وبقولنا الشارع السياسي العراقي فإننا إنما نقصد المقهى إلى حد بعيد، ولا سيما إذا كنا معنيين بالفترة الممتدة حتى نهاية الستينيات، وربما لعقد آخر بعدها، ويمكن إحلال كلمة "المقهى" محل كلمة "الشارع" في هذا السياق من غير أن نخل بالمعنى كثيراً، ولا شك أن شرائح المجتمع العراقي وهي تنغمس في السجال السياسي على خلفية الأحداث والمتغيرات السياسية المتعاقبة، منذ أكثر من قرن من الزمان، كانت تجد لها في المقاهي غالباً، وفي الحانات أحياناً البيئة المناسبة، فتطرح آراءها وتتناقش وتتبادل المعلومات والأسرار والشائعات والأقاويل، وقد تكون المقاهي المصنع لتلكم الشائعات والأقاويل.

إن جماعات وأحزاباً واتجاهات أدبية وفكرية اتخذت من المقاهي نقطة شروع منها انطلقت إلى الميدان السياسي والثقافي. كما أن كثراً من المشاريع السياسية والثقافية بدأت أفكاراً في عقول مرتادي المقاهي من السياسيين والمثقفين قبل أن تتخذ صيغها النهائية المعروفة. وأي حديث عن النخب السياسة والنخب الثقافية في العراق سيكون قاصراً من غير الإشارة إلى تأثيرات المقاهي وما شهدتها من حوارات وسجالات وخصومات وتداول للأخبار والمعلومات والآراء والأفكار.
عموماً، تؤدي المقهى مجموعة من الوظائف الأساسية؛ وظيفة نفسية جسدية إذ يبحث مرتاد المقهى عن الترويح والتسرية عن النفس بالتدخين وشرب الشاي واللعب والثرثرة والاستماع للراديو، ومشاهدة التلفاز.. ووظيفة اجتماعية، إذ تعقد الصداقات، ويتم التواصل بين أبناء المنطقة الواحدة، أو الحي الواحد، أو المحلة الواحدة، أو بين الذين يعملون في مهنة واحدة كالبنائين أو الحدادين أو الحوذيين أو الموظفين في مؤسسات الدولة أو التجار. وتكون المقهى مكاناً للقاءات الودية في المناسبات، أو الخوض والتشاحن في الأمور الفكرية والسياسية، وهنا يمكن إضافة الوظيفة الثقافية.
أدت المقاهي، على الدوام، وظيفة ثقافية. وكانت وسيلتها في كل مرة، مختلفة. فبدءاً، قبل دخول الراديو والتلفاز وجد "القصخون" الذي يروي حكايات طابعها خيالي وأسطوري "بطولي" بطريقة شائقة حيث يشبع فضول مستمعيه، ويبث لهم ما يرضي نزعاتهم الخفية، وقد تحوي حكاياته رموزاً وإيحاءات ذات بعد سياسي أو اجتماعي، من السهل فهمها وتأويلها. وباتت بعض المقاهي أماكن لإقامة الحفلات الغنائية وقراءة المقام (قهوة العزاوي في سبيل المثال ) أو عرض مشاهد مسرحية. وفيما بعد حل الراديو ( ومن ثم التلفاز ) محل "القصخون" وحفلات الغناء، ومشاهد المسرح. وكان لهذين الجهازين حظهما في دفع الزبائن للاهتمام والانهمام بالسياسة والثقافة. كما أن بعض أصحاب المقاهي كانوا يحرصون، قبل عقود، على توفير الصحف اليومية والأسبوعية التي يمكن للزبون قراءتها مقابل مبلغ صغير. وأصبحت جلسة المقهى تجمعاً لأشخاص يمكنهم التحاور والسجال في شؤون المجتمع والسياسة والثقافة.
ولا بد من الإشارة إلى أن المقهى، في العراق، بيئة ذكور، فالمجتمع ذكوري، وفيه التعاطي، في معظم الأحيان، شأن ذكوري، ولهذا كان نبض المجتمع/ الشارع أو الرأي العام يتلون وهو ينشأ، برغبات وأفكار ونظرة النصف الذكري من المجتمع.
طبعت تقاليد المقهى حياتنا السياسية والثقافية بشكل ظاهر، ولأن المقهى تتواشج وتتمفصل مع المحيط الاجتماعي فإن تقاليد المجتمع تطبع بعض تقاليد المقهى آخذة معها وفيها صيغاً مكيفة ومعدلة تتسق وطبيعة هذه المؤسسة الاجتماعية/ المكانية. أي أن هناك نوع من التعاطي الجدلي بين حياة المقهى وحياة المجتمع. وما حدث، فيما بعد، مع تأسيس مؤسسات مدنية أخرى مثل الأحزاب والنقابات والمنتديات هو استعارة بعض تقاليد المقهى وإدخالها في ضمن آليات تلك المؤسسات وتقاليدها التنظيمية الداخلية.
في جو المقهى، حيث الألفة والصداقات تنشأ النزعة المناطقية. وحين يكون ثمة رجل ذكي ومفوه يطرح إيديولوجية حزب ما، يبدأ باستقطاب الآخرين فتنشأ الخلايا الحزبية، هكذا، في هذا الجو، جو المقهى، لتبقى الألفة وعلاقات الصداقة وما تعكسه عليها الخلفيات الاجتماعية من مشاعر نخوة وحمية وتعصب أساساً لشكل العلاقات داخل الحزب. فالمقهى لا تحيا إلاّ في وسط محيط اجتماعي. وهذا المحيط يكون إلى حد بعيد، ذو طابع طبقي متجانس، وذو مشكلات وهموم مشتركة فتسهل بالتالي مهمة الرجل الذكي المفوه في إنشاء خليته، أو على الأقل، في كسب مريدين غير منتمين، له ولحزبه. وكثر من أولئك الذين انخرطوا في أحزاب، خلال حقب الأربعينيات والخمسينيات والستينيات لهم حكاياتهم المتشابهة.. كيف خطوا خطوتهم الأولى في عالم السياسة متأثرين بكلام وكلمات شخص ما في المقهى وهم في حمى نقاشاتهم السياسية. فيتطور الأمر إلى مناوشات مع السلطة أو ضد الأحزاب والتيارات الأخرى، ودخول فردي أو جماعي في السجن. ويتخذ السرد ها هنا سياقاً مثيراً مع أحداث السجن، من تحقيقات صعبة وتعذيب وزنزانات انفرادية، وتكون هناك اجتماعات وصداقات جديدة وحوارات وتأثيرات على أناس جدد، الخ وقد تنتهي الحكاية بصمود بطولي، أو رضوخ ووشاية ضد رفاق الدرب، وتوقيع على تعهد بالكف عن مزاولة العمل السياسي، وضياع، وفي الغالب، يكون هؤلاء الأخيرين من المثقفين وأشباههم الذين يجيدون قراءة الكتب والثرثرة في السياسة، وينكسرون عند أول مواجهة. كما هو شأن كريم الناصري بطل رواية " الوشم" لعبد الرحمن مجيد الربيعي.
ودائماً يكون هناك بعض ممن لم يحصل على تعليم جيد، ولا يفقه في السياسة، ولا يستوعب ما يقال غير أنه يلقي بثقله في المغامرة الجديدة حد التعصب، ولا سيما حين تعطيه شيئاً من الأهمية الاجتماعية التي يفتقر إليها، ويمكن أن يشارك في المظاهرات والاحتجاجات ليكون في المقدمة، وقد يستعمل عضلاته ( قوته البدنية ) في أثناء نشوب الخلافات العقائدية مع المنخرطين في الأحزاب الأخرى، وليس مستغرباً إن استخدم السلاح الناري أيضاً، وربما يقتل أو يستشهد دفاعاً عن إيديولوجية، لا يعرف عن تشعباتها شيئاً، ولا يعلم إن كانت متساوقة مع مصلحته أو مصلحة الفئة أو الطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها. وإذا ما قيض له النجاة، واستولى حزبه على السلطة سيحصل على وظيفة حساسة، أو مركز مسؤولية عال، ليحكم ويؤثر في مصائر العباد والبلاد. وهذا الصنف شكل شريحة واسعة من النخب التي تحكمت بمفاتيح السلطة، عراقياً، وما تزال.
إذا كانت المقاهي الواقعة في المناطق الشعبية أمكنة يرتادها الساكنين في تلك المناطق بمختلف مستوياتهم التعليمية والاقتصادية فإن المقاهي الواقعة في الأماكن العامة كالشوارع والساحات الرئيسة تصبح نقطة جذب لفئات اجتماعية أو سياسية أو ثقافية بعينها. فهذه مقهى خاصة بالموظفين أو المتقاعدين، وتلك خاصة بأصحاب الحرف اليدوية، أو الحوذيين، أو المراهنين على سباقات الخيل، أو صراعات الديكة الهراتية، أو مربي الطيور.وهذه مقهى للماركسيين وتلك للقوميين وأخرى يلتقي فيها خليط من هؤلاء وأولئك وغيرهم، وتحتدم المناوشات الكلامية والمماحكات الفكرية. واحسب أن المقاهي، في العراق، على مر العقود كانت مرتعاً للمعارضة والمعارضين، وفسحة حرة لتبادل الآراء والأفكار ونقد الوضع الراهن والنظام القائم والترويج للمشاريع والأفكار والإيديولوجيات، لهذا كانت مثار اهتمام السلطات الأمنية التي تبعث بعيونها وآذانها إلى المقاهي لجس نبض الشارع السياسي والثقافي، واستشعار مصادر الخطر.
لم تتجل المعارضة السياسية في العراق بقدر ما تجلت في المقاهي، فمع انعدام المناخ الديمقراطي، وتسيد إجراءات القمع والكبت صارت المقهى ملاذاً لنوع من المعارضة، وسيلته الكلام، ليس إلا، إذ ماذا يفعل رواد المقاهي، باستثناء اللعب "دومينو، طاولة، شطرنج، الخ" غير الكلام المتواصل، وأكاد أقول الثرثرة، طوال ساعات؟. وكان هذا الكلام، وهو يتحرش بتخوم السياسة، يتخذ أشكالاً متنوعة، منها؛ طرح الرأي والتعليق السياسي صراحة، أو مواربة.. الشائعة التي تنتقل بسرعة الهواء، ولا سيما مع حجب المعلومات، وانعدام الشفافية إعلامياً في ظل الأنظمة الديكتاتورية والشمولية.. التهكم والنكتة السياسية حيث يكون اللجوء إلى السخرية من الوضع والنظام القائم وسيلة نفسية وثقافية يمكن من خلالها ملامسة نبض الشارع السياسي وموقف الرأي العام. حتى أودى تكثيف واتساع الممارسات الأمنية في عهود الديكتاتورية المتأخرة "حكم البعث منذ نهاية الستينيات" شيئاً فشيئاً إلى تقليص ومن ثم وأد دور المقهى السياسي، إلى حد بعيد، والثقافي إلى حد ما، وانحسار عدد رواده، حتى راحت مقاه كثيرة تغلق أبوابها وتتحول إلى متاجر ومطاعم.
وأحسب أن دراسة هذا الجانب، إذا ما تمت بشكل منهجي تعين في التعرف على طبيعة تفكير المجتمع في علاقته بالسلطة، أو السلطات القائمة عبر المراحل المختلفة لتاريخنا المعاصر.
* * *
بغداد القرن العشرين والمقاهي صنوان لا يفترقان، وحياة بغداد التي ظلت مركز الثقافة والسياسة في العراق تتجلى بأوضح ما يكون في المقاهي التي شهدت صراعات الساسة ومماحكات المثقفين، وإعداد المشاريع الأدبية والفكرية والسياسية والصحافية وغيرها. ومنذ تأسيس أول مقهى في بغداد ( خان جغان ) في العام 1590 في عهد الوالي العثماني( جغاله زاده سنان باشا ) صارت المقاهي عنصراً مكملاً للديكور الاجتماعي العام في بغداد، وبقية مدن العراق. غير أن المقاهي نشطت بعدِّها بؤرة ساخنة لتكوين الرأي العام، وتدشين مرحلة النهضة الفكرية والتحول الثقافي بعد قرون من الموات الحضاري في نهايات العهد العثماني، وهبوب رياح التغيير من قلب أوربا/ فرنسا تحديداً بعد ثورتها الكبرى في العام 1789 والآثار التي تركتها في أعطاف الحاضرة المتروبولية في حينها ( استانبول ) وفي مركز انبعاث النهضة العربية الحديثة ( القاهرة ). وانعكاس ذلك على الحياة الفكرية والسياسية في بقية ولايات ومدن الإمبراطورية المريضة ومنها ولايات العراق، ولاسيما بغداد بطبيعة الحال.
كان القرن العشرون زمن الهزات العظيمة التي ستتمخض عن تبدلات عميقة في الفكر والوعي السياسي والاجتماعي، وفي الخريطة السياسية والاجتماعية، وفي أشكال النظم السياسية والاجتماعية، ولا سيما مع انهيار الدولة العثمانية والاحتلال الإنكليزي للعراق في العام 1917 وثورة العشرين وتأسيس الدولة العراقية الحديثة في العام 1921.
وقد أثرت هذه التبدلات على الأدب في أساليبه ومضامينه وأجناسه الجديدة التي لم يعرفها الأدب العربي والعراقي قبلاً ومنها ( القصة القصيرة والرواية ) وسيطول التغيير الشعر أيضاً، ولا سيما في ظل نمو الصحافة، واتساع الدور الثقافي للمقاهي. سيكون ثمة تعامل مغاير مع اللغة والأغراض، وسيتعرض الشكل التقليدي للشعر إلى ثورة حداثية غير مسبوقة تتمثل بالشعر الحر ومن ثم قصيدة النثر.
في كتابه ( مقاهي بغداد الأدبية/ دراسات في التاريخ والنصوص ) يقول رزاق إبراهيم حسن وهو يشير إلى مساهمات أوائل الشعراء العراقيين المحدثين ( الزهاوي والرصافي )؛ " ولعل اغتناء شعر الرصافي والزهاوي بما هو يومي ومتداول من المفردات والموضوعات والصيغ التعبيرية يرجع في بعض أسبابه إلى المقهى، والحضور اليومي فيه بوصفه من وسائط العلاقة مع الحياة ومحاورها".
ومنذ الخمسينيات غدت المقاهي ملتقى أدباء ظهرت على نتاجاتهم سمات مشتركة أرهصت لما عرف في تاريخنا الأدبي المعاصر بالتجييل، فالسياب والبياتي وبلند الحيدري وحسين مردان وغيرهم كانوا يحدثون انقلاباً في مسار الأدب العربي، وربما من غير أن يفطنوا، وما صنعوه يعد المساهمة الأهم عراقياً في النهضة الفكرية والأدبية العربية، وفي موازاتهم كان عبد الملك نوري وفؤاد التكرلي ومهدي عيسى الصقر وآخرين من قصاصي الحقبة الخمسينية يكتبون القصة القصيرة برؤى حداثية لا تقل في أهميتها عما فعله رواد الشعر الحر كما يؤكد التكرلي في مناسبات عديدة. كان هؤلاء الخمسينيين أدباء وشعراء المقاهي كما يصفهم حسين مردان. وكان هؤلاء جميعاً شباباً طموحين، يحملون روحاً متمردة وأحلاماً كبيرة وتوقاً لا ينفد إلى التجديد في كل شيء، يجلسون الساعات الطوال في المقهى التي يقرأون فيها ويكتبون ويتناولون طعامهم ويتجادلون. وكما يرى رزاق إبراهيم الحسن أنه "مع الانتقال إلى مقهى البرازيلية استقرت حركة جيل الخمسينيات على مرتكزات محددة، وتحددت العلامات الأساسية فيها، إذ كان عهد مقهى البرازيلية ـ كما يقول حسين مردان ـ هو العهد الذهبي في حياتنا الأدبية... وإذا كانت بعض الوجوه قد اختفت نهائياً لعدم قدرتها على المواصلة، فقد ظهرت وجوه أخرى جديدة كالشاعر رشدي العامل والقاص نزار عباس ومحمد روزنامجي والصحفي الكبير عبد المجيد الونداوي".
تركت الحرب العالمية الثانية وما أفرزته من تداعيات على صعد مختلفة آثارها على المزاج العام للمثقفين، وكان العراق يعيش غلياناً سياسياً وتناقضات وصراعات حادة بين القوى والأحزاب والنخب ستنتهي بثورة 14 تموز1958. في الوقت ذاته كان هناك الصراع بين الرأسمالية والاشتراكية ونذر الحرب الباردة وانطلاقة حركات التحرر في العالم الثالث، ولا شك أن انعكاسات هذا المناخ ستتصادى في أوساط الأدباء والمثقفين العراقيين.. يقول الدكتور محسن جاسم الموسوي: "إن آثار الحرب العالمية الثانية السياسية والاقتصادية عمقت الوعي الأدبي، وخلخلت النزعات المحافظة في الكتابة والأذواق السائدة، بحيث أخذت التجمعات الأدبية الجديدة في مقهى سويس swiss ومشرب كاردينيا وحلقات الجامعات تنمو على هامش المجالس الأدبية والصالونات المترفة والمتنفذة نسبياً... وتنامت هذه في مطلع الخمسينيات لتشهد الجدل المقرون بالتيارات الجديدة في الشعر والفن التشكيلي والأدب القصصي، في تجمعات شغوفة بتنمية الأذواق الفنية، في ظل الانفتاح على الثقافة العالمية وتياراتها".
أما الستينيون فلم يختلفوا عن أقرانهم الخمسينيين في علاقتهم الحميمة بالمقهى وتجمعاتهم التي ستتخذ منحي وحدوداً مغايرة تبعاً للحوادث والأزمات والصراعات السياسية والعقائدية، ومجمل التحولات التي جعلت من الجيل الستيني في أنحاء مختلفة من العالم ذات خصائص مميزة، أبرزها السير بالحداثة الأدبية والفكرية خطوة إضافية، ورفض الوضع القائم، والبحث عن أساليب وطرائق جديدة في الكتابة والسلوك الاجتماعي.. يصف الشاعر سامي مهدي في كتابه ( الموجة الصاخبة ) المقاهي بأنها "ميدان الحركة الستينية الحقيقي.. وعرين الجيل الذي لا يدنو إليه المحافظون، وفي هذا العرين كان الستينيون يجدون أنفسهم، ويجلس بعضهم إزاء بعض ويبادله الألفة والحوار".
ومن لقاءات المقاهي الساخنة صدرت أهم بيانات الثقافة العراقية في القرن العشرين فقد "أصدرت جماعة بغداد للفن الحديث بياناً في الخمسينات، ثم أصدر عدد من شعراء الستينات بياناً ارتبط بمجلة (( شعر 69 )) ثم صدر بيان جماعة (( الرؤيا الجديدة )) من قبل ستة فنانين في الستينات. ولم تكن هذه البيانات، وغيرها بعيدة عن صداقات ولقاءات وحوارات المقاهي التي كانت بمثابة اتحادات ومقرات أدبية وفنية" كما يقول رزاق إبراهيم حسن.
في هذا العقد انتعش اليسار، وحلم الشيوعيون والقوميون بمجتمع اشتراكي كل على طريقته. وصار الفكر الوجودي جزءاً من ثقافة الشعراء والأدباء المحدثين في العالم العربي، ومنها العراق. ويمكن تلمس المزاج الستيني برؤى مختلفة من خلال قراءة كتب عديدة أصدرها بعض من أدباء ذلك الجيل، ففضلاً عن كتاب سامي مهدي آنف الذكر، هناك كتاب ( الروح الحية ) للشاعر فاضل العزاوي، وكتاب ( العودة إلى كاردينيا ) للشاعر فوزي كريم.
اختلف الحال منذ السبعينيات، أو النصف الثاني منها، وإن لم يكف المثقفون عن ارتياد المقاهي.. حدث تطور نسبي في الجانب الاقتصادي/ المعاشي بعد ارتفاع أسعار النفط وعائداته، وعلى إثره تغيرت بعض مناحي الحياة الاجتماعية، ومنها انسحاب بعض أفراد النخب السياسية والثقافية من المقاهي، والتفكير بمؤسسات أخرى بديلة. غير أن العامل الأهم في هذا الزمن كان القوة التي اكتسبتها السلطة الشمولية، وصار من الصعب أن تبقى المقاهي مرتعاً علنياً لنمو المعارضة السياسية والثقافية بعد الانتشار الكفء لعيون السلطة الأمنية وآذانها. وعقب اندلاع الحرب العراقية الإيرانية في أيلول 1980 غدت المقاهي بؤرة جاذبة لأدباء ومثقفين سيتعاطون بمناورة ذكية مع الواقع السياسي والاجتماعي بمفاهيم ومصطلحات جديدة، هي مفاهيم ومصطلحات الحداثة.. سيكون هناك كلام أكثر عن التمرد على الأنساق التقليدية للغة الأدبية، وعن رؤية مغايرة إلى الذات والعالم، وعن طرق مبتكرة في الكتابة. سيكون أبناء الجيل الثمانيني ومن ثم التسعيني هم سياسيو المعارضة الذين عليهم إيجاد لغة وأساليب مراوغة وغامضة وملتوية.. ستحل في الحديث البنيوية والتفكيكية وقصيدة النثر والرواية الجديدة ومسرح الصورة والقطيعة والزحزحة وغيرها من المفاهيم والمصطلحات، وأسماء مثل رولان بارت وديريدا وفوكو وألان روب غرييه وأدوارد سعيد وغيرهم، محل مفاهيم ومصطلحات القومية واليسار والماركسية والتحرر القومي والصراع الطبقي والأدب الملتزم والواقعية الاشتراكية وغيرها. ومحل أسماء ماركس وغيفارا وفرانز فانون وسارتر وعبدالناصر وغيرهم.. ستتمثل الثقافة السياسة ليس من قبل كتّاب وفناني الأجيال الجديدة وحسب، وإنما من قبل كتّاب وفناني الأجيال السابقة أيضاً ممن ما زالوا يمارسون الكتابة، والإبداع الفني لاسيما في حقول المسرح والتشكيل. لكن الأمر سيكون مختلفاً مع الكتّاب والمثقفين والفنانين الذين توزعوا في المنافي والذين ستكون لهم في الغالب فسحة أكبر من الحرية في الكتابة والإبداع الفني والنشر والانتشار، وبعضهم سيبقى محافظاً على روح الكتابة الخمسينية والستينية لهذا السبب، مع عدم إنكار حقيقة أن كثراً منهم سيتمثلون روح الحداثة متأثرين بالأشكال والأساليب الجديدة عن قرب، في حقول إبداعهم.
وخلال العقد التسعيني ستشهد المقاهي مناوشات خصبة أحياناً، وعقيمة أحياناً، بين أدباء ومثقفين من أجيال مختلفة.. ستكون هناك سخرية أكثر وجدية متصلبة أقل، كلام في السياسة أقل وفي الثقافة المتشربة بروح السياسة أكثر. وستنتشر ظاهرة الكتاب المستنسخ. سيكون ثمة إقبال قل نظيره على القراءة فكل كتاب ممنوع أو غير ممنوع يصل البلد يستنسخ ويجري تداولها وتبادلها، سراً وجهراً بين المثقفين في المقاهي، لا سيما في المقاهي.. وستكون مقهى حسن عجمي في الحيدر خانة ومن ثم مقهى الشابندر في شارع المتنبي، ومقهى الجمهورية في الباب المعظم ومقهى الزهاوي في شارع الرشيد أماكن لترسيخ هذا التقليد وهذه الظاهرة.. ستصل عن طريق التهريب كتب المنفيين من أعمال إبداعية وفكرية ومذكرات، وكتب أولئك الذين يتصدون بمناهج نقدية رصينة للمقدس الديني والسياسي والاجتماعي. وبتأثير هذه القراءات سيتلون الإبداع بطرق وأساليب ورؤى جديدة، وسيخرج إلى الوجود جيل آخر من القاصين والروائيين والشعراء والنقاد والتشكيليين والمسرحيين والسينمائيين والمفكرين.
بعد سقوط نظام صدام حسين واحتلال العراق في 9/4/2003 عادت الحياة إلى المقاهي مؤقتاً لتكون مساحة حرة، وأكاد أقول منفلتة لنقاشات في السياسة والثقافة وحديث عن مشاريع فردية ومشتركة إبداعية وصحافية، ولا سيما بعد رجوع عدد من مثقفي المنافي.. ابتدأ الأمر بحماس لا يضاهى لكنه تراجع كثيراً مع ازدياد أعمال العنف والإرهاب، وراح المثقفون يعترفون بتضاؤل دورهم في الشارع الثقافي والسياسي، ويتحدثون مجدداً عن إقصاء متعمد وتهميش لدورهم من قبل مؤسسات الدولة الجديدة، أو عن إخفاق في أداء دورهم، وفرض سلطتهم الثقافية والمعرفية.
مقاه كثيرة اختفت من الخريطة العمرانية لبغداد والمحافظات، وبعضها عافها المثقفون. وباتت حالة انعدام الاستقرار عقبة أمام لقاءاتهم. غير أنهم حين يفكرون باللقاء في كل مرة لا يجدون أمامهم باستثناءات قليلة، سوى المقاهي.
بطريقة ما، ولعقود، كانت المقهى تعبر عن اتصال المثقف والسياسي بالشارع، وبالمجتمع، ففي المقهى وعبرها مارسا تأثيرهما وسلطتهما، وكان هذا الأمر يعطيهما تلك الصفة التي كانا يتبختران بها، ويندفعان بفعلها للممارسة العملية، ألا وهي الطليعية ( طليعة الجماهير ).. وستتحول هذه الصفة، أو التبجح بها إلى أحد الأوجه التي سينتقد المثقف ذاته من خلالها، أو يتعرض إلى النقد من قبل آخرين ينكرون هذه التسمية ـ المثقف ـ ولا يرتضونها لأنفسهم ويحلون محلها تسمية ـ المفكر ـ مثل علي حرب في كتابه المثير للجدل ( أوهام النخبة: أو نقد المثقف ).
بدا تأثير المثقفين منذ بدايات عصر النهضة العربية منذ منتصف القرن التاسع عشر في المجتمع والسياسة ضئيلاً في الظاهر، غير أن الأمر لم يكن كذلك في الغالب، فالأجيال المتعاقبة من المثقفين أثروا عميقاً عبر ما طرحوه من أفكار ورؤى ومشاريع مؤسسين لأجيال من السياسيين المتأثرين بتلكم المفاهيم والرؤى والأفكار. ولا شك أن التأثير طال قطاعات واسعة من المجتمع ولا سيما المتعلمة منها. وأول حلقة ماركسية في سبيل المثال نشأت بلقاء عدد من المثقفين وانخراطهم في نقاشات منتظمة "جماعة حسين الرحال ومحمود أحمد السيد" وعموماً كان تأثير المثقفين أكبر مما كانوا يعتقدون، أو يعتقد الآخرون. وحين نوسع حلقة المثقفين من كونهم عصبة صغيرة من الفلاسفة الملوك على حد تعبير جوليان بندا إلى كونهم شريحة كبيرة من المتعلمين والأكاديميين ومن أصحاب الأفكار والمشاريع فإننا نكون إزاء مساحات هائلة من التأثيرات. وأرى أن الباحثين، في هذا المجال، يهملون في الغالب ما يترشح من مؤثرات وتغيير في القناعات من طريق الكلام الشفاهي في الأماكن العامة والخاصة ـ المقاهي والمنتديات والشوارع والأزقة والبيوت وغيرها ـ ولأننا نتحدث عن مجتمع فيه نسبة عالية من الأميين فإن تأثير المثقفين بالوسيلة الشفاهية كان ملموساً. وكان أحد الأسباب، ـ وإن لم تكن الحاسمة ـ في تضعضع سلطة صدام حسين قبل سقوطها المدوي في 9/4/ 2003 هو ثرثرة المثقفين التي لم تنقطع يوماً.
واليوم، صارت المقهى، مجازاً، صفة دالة على عزلة المثقفين، وربما نمط من السياسيين التقليدين أيضاً، وانسحابهم من الشارع، وانكفائهم على أنفسهم في غيتوات صغيرة، باحثين عن قنوات للاتصال لم تكن مطروقة سابقاً، أو قانعين بوظيفتهم الجديدة، الوصول إلى الناس عبر الكتابة الإبداعية والصحافية والعمل الفكري والفني، وفي أسوأ الأحوال الاكتفاء بالثرثرة واجترار ذكريات الماضي السعيد، وغير السعيد.



#سعد_محمد_رحيم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حول المونديال
- نخب سياسية.. نخب ثقافية: مدخل
- حبور الكتابة: هيرمان هيسه وباشلار
- قصة قصيرة: في أقصى الفردوس
- حوار مع القاص سعد محمد رحيم
- تحقيق: بعقوبة ابتكارالبساتين
- قصتان قصيرتان
- في رواية اسم الوردة: المنطق والضحك يطيحان بالحقيقة الزائفة
- قصة قصيرة: الغجر إنْ يجيئوا ثانية
- من يخاف الحرية؟. النسق الثقافي والمحنة السياسية
- قصة قصيرة: زهر اللوز
- شهادة: هكذا تكتبني المحطات
- شقاء المثقفين
- فضاء مكتبة.. فضاء الكون*
- سحر ماركيز
- الرواية وسيرة الروائي
- المثقف: إشكالية المفهوم والوظيفة
- كالفينو: الوصايا والإبداع
- مكر كونديرا
- في رواية -الإرهابي- لديفيد معلوف: هل حدثت الجريمة حقاً؟.


المزيد.....




- هيومن رايتس ووتش تتهم ولي العهد السعودي باستخدام صندوق الاست ...
- صربيا: اعتقال 11 شخصاً بعد انهيار سقف محطة للقطار خلف 15 قتي ...
- الأونروا: النظام المدني في غزة دُمر.. ولا ملاذ آمن للسكان
- -الأونروا- تنشر خارطة مفصلة للكارثة الإنسانية في قطاع غزة
- ماذا قال منسق الأمم المتحدة للسلام في الشرق الأوسط قبل مغادر ...
- الأمم المتحدة: 7 مخابز فقط من أصل 19 بقطاع غزة يمكنها إنتاج ...
- مفوضية شؤون اللاجئين: 427 ألف نازح في الصومال بسبب الصراع وا ...
- اكثر من 130 شهيدا بغارات استهدفت النازحين بغزة خلال الساعات ...
- اعتقال رجل من فلوريدا بتهمة التخطيط لتفجير بورصة نيويورك
- ايران ترفض القرار المسيّس الذي تبنته كندا حول حقوق الانسان ف ...


المزيد.....

- أية رسالة للتنشيط السوسيوثقافي في تكوين شخصية المرء -الأطفال ... / موافق محمد
- بيداغوجيا البُرْهانِ فِي فَضاءِ الثَوْرَةِ الرَقْمِيَّةِ / علي أسعد وطفة
- مأزق الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية: مقاربة نقدية / علي أسعد وطفة
- العدوانية الإنسانية في سيكولوجيا فرويد / علي أسعد وطفة
- الاتصالات الخاصة بالراديو البحري باللغتين العربية والانكليزي ... / محمد عبد الكريم يوسف
- التونسيات واستفتاء 25 جويلية :2022 إلى المقاطعة لا مصلحة للن ... / حمه الهمامي
- تحليل الاستغلال بين العمل الشاق والتطفل الضار / زهير الخويلدي
- منظمات المجتمع المدني في سوريا بعد العام 2011 .. سياسة اللاس ... / رامي نصرالله
- من أجل السلام الدائم، عمونيال كانط / زهير الخويلدي
- فراعنة فى الدنمارك / محيى الدين غريب


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - سعد محمد رحيم - النخب العراقية في حاضنة المقاهي