|
فلسفة التربية عند كانط
محسن وحي
الحوار المتمدن-العدد: 6726 - 2020 / 11 / 7 - 15:58
المحور:
التربية والتعليم والبحث العلمي
يؤكد كانط في كتابه" تأملات في التربية"" أن الإنسان لا يصبح إنسانا إلا بالتربية. هذه الرؤية للطبيعة الإنسانية تنطوي على مجموعة من الدلالات، من أهما أن ما ينقل الإنسان من الحالة الحيوانية، التي لا يملك فيها أي قدرات عقلية ولا حس أخلاقي، إلى الحالة الثقافية أو المدنية هي التربية، بما هي فعل وممارسة تتداخل فيها مجموعة من المؤسسات كالأسرة والمدرسة. يذهب كانط إلى القول أن التربية هي أعقد المشكلات والمعضلات التي لابد للإنسان من التعامل معها(طيبة ماهر وزادة،2001 ص 211). انطلاقا مما تقدم ذكره ما هي الغايات الكبرى للتربية من المنظور الكانطي؟ التربية والانضباط: يرى كانط أن الهدف الأول للتربية هو الانضباط، ويجب أن يعلم الوالدين أو المربي قواعد الانضباط للطفل منذ سن مبكرة، فمن خلاله يتعلم الطفل قواعد السلوك، ويصبح كائنا أخلاقيا، وبدون الانضباط سيكون هذا الطفل كائنا متوحشا. يعرف كانط الانضباط بأنه الفعل الذي يجرد به الإنسان من حيوانيته ( ايمانويل كانط، 2005 ص 12). ومن خلاله يتم أيضا تعليم الطفل الخضوع للقوانين، على اعتبار أنها صادرة من العقل الإنساني، وكل تجاوز لها وعدم احترامها هو عودة إلى الحالة الحيوانية للإنسان. بالإضافة إلى حاجة الطفل لتعلم الانضباط لكي يصبح كائنا أخلاقيا، يضيف كانط ضرورة تعلم الثقافة، رغم أن الأولوية تكون لتعلم الانضباط أكثر من الثقافة. في هذا المضمار يقول كانط: "من لم يثقف يظل فظا، ومن لم يتعلم الانضباط يظل متوحشا. وغياب الانضباط إنما هو شر أعظم بكثير من غياب الثقافة" ( ايمانويل كانط، 2005 ص14). التربية والمستقبل: غاية كانط من معالجته موضوع التربية هو وضع نموذج كوني للتربية يكون صالحا لجميع المجتمعات الإنسانية، وهذا أمر ليس غريب عن تفكير الرجل، ما دام أن جميع المؤلفات التي كتبها تهتم بقضايا شمولية، كقضية العقل وحدود المعرفة والأخلاق. وموضوع التربية بدوره لا يخرج عن هذا الإطار الكوني والاستشرافي للمستقبل. في هذا السياق يقول كانط: "إن مشروع نظرية في التربية لهو مثل أعلى سام لا يملك أن يكون ضارا ولو أننا غير قادرين على تحقيقه. ولا ينبغي أن تعتبر الفكرة المطلقة ضربا من الخيال فتستبعد وكأنها حلم جميل، وحتى وإن كانت بعض العوائق تعترض تحقيقها"( ايمانويل كانط، 2005 ص15). يعيب كانط على النموذج التربوي الذي كان سائدا في عصره أنه نموذج لا ينمي الاستعدادات الطبيعية عند الإنسان، بقدر ما يقتصر فقط على تربية الأطفال للحاضر، ولا يهتم بالمستقبل، في حين أن التربية يجب أن تتجه نحو المستقبل وتشمل الجنس البشري بأكمله. لعل هذه الرؤية الكانطية التي تربط التربية بالمستقبل هي نفس الرؤية التي نجدها في المنهاج الحديث، الذي يرتكز على ربط التربية والتعلم بأفق المستقبل، بما هو إعداد وتكوين للتلميذ لكي يندمج في الحياة الاجتماعية، ويتكيف مع جميع المتغيرات انطلاقا من قدراته الخاصة. مراحل التربية حسب كانط: يقسم كانط التربية إلى ثلاث مراحل مهمة وهي: التربية البدنية: يؤكد كانط أن التربية البدينة هي أهم المراحل الضرورية في تربية الطفل، وهي مهمة تقع على الوالدين أو المربي. ويوصي كانط بضرورة إرضاع الطفل أثناء الولادة بحليب الأم، لأنه الأكثر قابلية لتزويده بكل ما يحتاجه جسمه حتى ينمو بشكل جيد. بالإضافة إلى ذلك يوصي كانط بعدم تقديم الخمر والتوابل للطفل، وعدم إعطاءه المشروبات مفرطة الحرارة؛ لأنها تشكل ضررا على صحته. زد على ذلك ضرورة تجنب تدفئة الطفل بشكل كبير، وتجنب القماط والهدهدة لما لها من نتائج سلبية على جسمه. ينبهنا كانط إلى مسألة مهمة تكاد تكون نقطة الالتقاء بينه وبين المحللة النفسانية "ميلاني كلاين"، إذ نجد كلاهما يدعوان إلى عدم الاهتمام بالطفل كلما بكى. رغم أن كانط لم يتحدث عن الإحباط الغير مبالغ فيه لرغبة الطفل لكي ينشأ لديه مفهوم الواقع، كما بينت ميلاني كلاين، لكنهما يلتقيان في ضرورة تجنب الاهتمام المبالغ فيه. في هذا المضمار يقول كانط: ومن السيئ جدا أن يهرع إلى نجدة الطفل ما أن يصيح)...( وهنا ما يظهر الإفساد الأول للطفل، لأنه حين يدرك أن الكل يهرع عند صياحه، يعيد صيحاته مرارا كثيرة( ايمانويل كانط، 2005 ص33).بالإضافة إلى ما تقدم يوصي كانط بترك الطفل يلعب بشكل حر، ولكن مع مراعاة توجيهه للعب التي تنمي لديه القدرات الإدراكية والعقلية، كالسباحة ورمي الرمح والجري والمصارعة. التربية العقلية: يميز كانط في إطار هذه التربية بين نوعين اثنين وهما: التربية المادية أو الطبيعية للذهن والتربية الأخلاقية. التربية الأولى ذات صلة بطبيعة الإنسان، والثانية ترتكز على حرية الإرادة. هذا التمييز يرجع إلى رؤية كانط لطبيعة الإنسان، فقد يكون هناك شخص ممتلك لمجموعة من المعارف المختلفة، ولكنه سيئ الثقافة من الناحية الأخلاقية. هذا التصور الكانطي هو النقيض الموضوعي لتصور سقراط للفضيلة. إذا كان سقراط يرى أن ارتكاب الإنسان للأفعال الشريرة مرده إلى غياب المعرفة التي تؤدي إلى الفضيلة، فإن كانط يفصل بين المعرفة والفضيلة، أو بشكل أكثر دقة بين حدود المعرفة وحدود الأخلاق، إذ لا يكفي أن يكون الإنسان ذو ثقافة ومعرفة لكي يكون كائنا أخلاقيا، بل يلزمه التنشئة الأخلاقية التي تبتدئ منذ مرحلة الطفولة المبكرة. يؤكد كانط أن التربية العقلية لا يمكن أن تحقق أهدافها بدون التركيز على ثلاث مكونات وهي: الحواس: لقد خصص كانط جانبا لا بأس به للحديث عن دور التربية الحسية في النمو العقلي للطفل، بحيث أنه أكد على ضرورة تمرين الحواس وتقويتها من خلال الألعاب التي تؤثر على قدراتهم الحسية. الخيال: دعا كانط إلى ضرورة تنمية ملكة الخيال لدى الطفل، لكن ليس عبر القصص الخرافية التي تزرع الخوف في نفوس الأطفال، بل بواسطة موضوع حقيقي وغير معتمد على الوهم(طيبة ماهر وزادة،2001 ص 237). إن أفضل طريقة يمكن من خلالها تنمية ملكة التخيل عند الأطفال هي التعلم بواسطة الخرائط الجغرافية، وإضافة صورة الحيوانات والنباتات للدرس الجغرافي، لما لها من إمكانات على تنمية القدرات العقلية للأطفال. الذاكرة: يؤكد كانط على ضرورة تقوية ملكة الذاكرة في سن مبكرة عبر مجموعة من الوسائل، كحفظ الأسماء الموجودة في القصص، وعن طريق القراءة والكتابة، بالإضافة إلى تعلم اللغة عن طريق الحوار والمحادثة.
التربية الأخلاقية: يرى كانط أن التربية الأخلاقية هي العنصر الجوهري في تربية الإنسان؛ لأن غاية الإنسان كما تصورها هي الكمال الأخلاقي(عبد الرحمان بدوي، 1980 ص 144). يعارض كانط بشكل كبير تلك الطريقة في التربية التي تقوم على الثواب والعقاب، ومرد ذلك حسبه أننا إذا عاقبنا الطفل إذا ارتكب الشر، وأثبناه إذا فعل الخير، فإنه حينئذ لن يفعل الخير لذاته، بل من أجل المثوبة والمكافئة، ولن يتجنب الشر لأنه شر، بل خوفا من العقاب(عبد الرحمان بدوي، 1980 ص 145). يرى كانط أنه من الممكن تعليم الطفل بعض القواعد الأخلاقية والتي تتجلى في نوعين أساسين وهما: واجبات الإنسان نحو نفسه: أول واجب يمكن تعليمه للأطفال هو قول الحقيقة وعدم الكذب؛ لأن هذا الأخير حسب كانط ليس من الأخلاق في شيء. ثم تعليمة الاعتدال وعدم السعي وراء اللذات والشهوات، مثل شرب الخمر. بالإضافة إلى تعلميه الإحساس بمكانة الإنسانية في شخصه، مثل تجنب القذارة، فهي لا تليق بكرامة الإنسان(عبد الرحمان بدوي، 1980 ص152).
واجبات الإنسان نحو الآخرين: أول قاعدة يجب تعليمها للطفل هي قاعدة الاحترام. إذ لا يمكن أن يكون الطفل كائنا أخلاقيا بدون احترام الآخرين. وهو يجب أن يتخذ شلك سلوكيات تنعكس في حياته، كاحترام أقرانه وعدم ارتكاب أفعال عنيفة في حقهم. بالإضافة إلى احترام خصوصيتهم واختلافهم. بالإضافة إلى كل ما تقدم ذكره من أنواع التربية، نجد كانط وضع أسس جديدة لنوعين من التربية وهما: التربية الدينية والتربية الجنسية. التربية الجنسية: لاشك أن هذا النوع من التربية له أهمية كبرى في حياة الطفل، خاصة عندما يصل إلى مرحلة المراهقة، التي تحدث فيها تغيرات بيولوجية وسيكولوجية. تعتبر الغريزة الجنسية أحد أهم هذه التغيرات الجديدة التي تشغل المراهق، فهو يقوم بجميع الوسائل لإشباع رغبته الجنسية. ويرى كانط أنه لا يوجد شيئا يلحق الضعف بذهن الإنسان وبدنه مثل العادة السرية، فهي عمل مغاير للطبيعة تؤدي إلى أضرار وخيمة على العقل والجسم، لهذا يجب إشغال المراهقين بالعمل المستمر والأنشطة التي يمكنها أن تصرف هذه الطاقة الجنسية. ويوصي كانط بضرورة التحدث معهم بشكل لائق وجاد حتى تتكون لديهم ثقافة جنسية سليمة.
التربية الدينية: تعتبر التربية الدينية أحد الإشكالات التي اهتم بها كانط، ويمكن صياغة هذا الإشكال في سؤال رئيسي هو: هل يمكن تعليم الطفل المفاهيم الدينية في وقت مبكر؟ لاشك أن كانط هو أحد أهم فلاسفة الأنوار الذين اشتغلوا بموضوع الدين، لما له من تأثير كبير على حياة الإنسان بشكل عام، وعلى حياة الطفل بشكل خاص. يعارض كانط بشكل كبير ذلك النمط من التربية الدينية التي كانت سائدة في عصره، خاصة التربية الدينية المسيحية التي تقوم بتعليم الأطفال الشعائر والطقوس الدينية بغرض معرفة الله. على النقيض من ذلك، يرى كانط أن معرفة الله لا تتم من خلال الطقوس الدينية التي تزرع الخوف في الطفل، بل معرفة الله تتم من خلال التأمل في الطبيعة الإنسانية، ومن خلال هذا التأمل نعرف وجود الله فينا. ويرى كانط أن خير وسيلة لتوضيح مفهوم الله عند الطفل هو أن نقارنه بالأب الذي يحرسنا جميعا ويرعانا(عبد الرحمان بدوي، 1980 ص157) هنا، نعلم الطفل أن الدين الحقيقي هو الذي يقوم على النظر إلى جميع الناس، مهما كانت معتقداتهم، أنهم إخوة في الإنسانية. ومن الواجب علينا التسامح معهم واحترامهم. إن الدين في جوهره حسب كانط يقوم على الواجب، وهو ذلك القانون الأخلاقي المطبوع في ذواتنا.
#محسن_وحي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
العادة السرية والمسألة الجنسية عند - إيمانويل كانط-
-
حرية الصحافة بين الشخص الطبيعي والشخص الاعتباري في فكر المفك
...
-
المجتمع الاشتراكي في فكر لمنبوذ: - معمر القذافي (1942-2011)-
-
كورونا هل هو اصطدام للقوى أم صراع لتوازن المصالح؟
-
أخلاق الحداثة عند أندريه كومت سبونفيل
-
موريس بلانشو قارئا كافكا
-
نيتشه وسؤال التربية والثقافة
-
فلسفة التربية وبناء الإنسان
المزيد.....
-
-أرض العجائب الشتوية-.. قرية ساحرة مصنوعة من كعكة الزنجبيل س
...
-
فيديو يظهر ضباط شرطة يجثون فوق فتاة ويضربونها في الشارع بأمر
...
-
الخارجية اليمنية: نعتزم إعادة فتح سفارتنا في دمشق
-
تصفية سائق هارب اقتحم مركزا تجاريا في تكساس (فيديو)
-
مقتل 4 أشخاص بحادث تحطم مروحية تابعة لوزارة الصحة التركية جن
...
-
-فيلت أم زونتاغ-: الاتحاد الأوروبي يخطط لتبنّي حزمة العقوبات
...
-
مقتل عنصر أمن فلسطيني وإصابة اثنين آخرين بإطلاق للنار في جني
...
-
بعد وصفه ضرباتها بـ-الوحشية-... إسرائيل تتهم البابا فرنسيس ب
...
-
أكاديمي إسرائيلي: بلدنا متغطرس لا تضاهيه إلا أثينا القديمة
-
كيف احتمى نازحون بجبل مرة في دارفور؟
المزيد.....
-
اللغة والطبقة والانتماء الاجتماعي: رؤية نقديَّة في طروحات با
...
/ علي أسعد وطفة
-
خطوات البحث العلمى
/ د/ سامح سعيد عبد العزيز
-
إصلاح وتطوير وزارة التربية خطوة للارتقاء بمستوى التعليم في ا
...
/ سوسن شاكر مجيد
-
بصدد مسألة مراحل النمو الذهني للطفل
/ مالك ابوعليا
-
التوثيق فى البحث العلمى
/ د/ سامح سعيد عبد العزيز
-
الصعوبات النمطية التعليمية في استيعاب المواد التاريخية والمو
...
/ مالك ابوعليا
-
وسائل دراسة وتشكيل العلاقات الشخصية بين الطلاب
/ مالك ابوعليا
-
مفهوم النشاط التعليمي لأطفال المدارس
/ مالك ابوعليا
-
خصائص المنهجية التقليدية في تشكيل مفهوم الطفل حول العدد
/ مالك ابوعليا
-
مدخل إلى الديدكتيك
/ محمد الفهري
المزيد.....
|