أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ياسين النصير - كتاب شعرية الماء















المزيد.....



كتاب شعرية الماء


ياسين النصير

الحوار المتمدن-العدد: 1609 - 2006 / 7 / 12 - 09:13
المحور: الادب والفن
    


الفهرست
القسم الأول : الدراسات
1- شعرية الماء في شعر السياب
2- حسين مردان ومثاله الشعري
3- ضلع المربع الدائري دراسة في شعر بلند الحيدري
4- قصيدة النثر قصيدة مستقبلية صلاح فائق نموذجا
5- الحد استقصاءات في البنية المكانية
6- شعراء عقد الثمانينات في العراق
7- لون العشب اخضر لكن الظلال ملونة
8- كيف نقرأ القصيدة
9- القول الشعري – إثارة السؤال
10- اللغة الشعرية العليا


القسم الثاني
قراءات في تجارب شعرية
1- الرسالة الضائعة قراءة في قصيدة الشاعر سعدي يوسف
2- انحناءة الخيزران قراءة في ديوان الشاعر حسب الشيخ جعفر
3- سرا باد المدينة الحلم قراءة في ديوان الشاعر عبد الكريم كاصد
4- بحثا عن المعاني التي لم تر النور قراءة في تجربة الشاعر سركون بولص
5- طيش الياقوت قراءة في ديوان الشاعر سليم بركات
6- مكاشفات ما بعد الرحيل قراءة في تجربة الشاعر مصطفى عبد الله
7- خطوات في الغربة قراءة في ديوان الشاعر عدنان الصائغ
8- القصيدة المغتربة قراءة في ديوان الشاعر هاتف الجنابي
9- عبدئييل قراءة في ديوان الشاعر موفق محمد
10- جن الليل وطلع الصبح قراءة في ديوان الشاعر عدنان محسن
11- ممالك ضاعة قراءة في ديوان الشاعر علي العلاق
12- برادة الحديد قراءة في ديوان الشاعر كريم ناصر
13- صوت كلمات المارة قراءة في ديوان الشاعرصادق الصائغ
14- المرئي والمألوف قراءة في قصيدة الشاعر جواد الحطاب
15- قصيدة الجسر قراءة في قصيدة الشاعرهادي ياسين علي


شعرية الماء
دراسة في شعر السياب

1
ليس الماء شكلا مكانيا يمكنك تحديده من خلال بقعته الجغرافية. فالجغرافية الحاضنة له لا تمنحه اسماء، ولا تتسع لمعانيه. وإنما هو تكوين حي متحول، يمنح الأشكال الحاوية له بعدا خياليا وشعريا. وهو كيان معرفي لا حد لقدرته على التوليد والتكوين والتشكيل والتأويل. فالماء وفق البعد الديني، وهو أول بعد تصور عنه: كلي القدرة ( وجعلنا من الماء كل شيء حي). لعل حي بن يقظان كائن الأرض المائي نموذجا حيا له. وهو وفق البعد المادي كلي الأشكال: صلب، وسائل، وغاز. وهو وفق البعد الجغرافي كلي الأماكن: محيط، وبحر، ونهر، وهور، ومستنقع، وشط، وجدول، وبحيرة، ونبع، وجوف. وهو وفق البعد الصوري كلي المواقع: في السماء، وفي الأعماق، فوق سطح الأرض، وتحت قشرتها، في الهواء وفي الأجسام، في الشجر وفي الحجر. وهو وفق الصورة الفاعلة: فيضان، وعاصفة، ومطر، وسقى ، ورواء وشراب، وهو وفق البعد البنائي كلي الفعل: ينبتُ، ويحيي، ويميتُ. ولأنه لا شكل له، فهو كلي الأشكال: يأخذ شكل الإناء الذي يحتويه. ولأنه لا لون له، فهو كلي الألوان، يحلل الطيف ويحتويه. ولا طعم له فهو كلي الأحاسيس، ولا رائحة له فهو كلي الرائحة. ويتحول الجار والمجرور فيه، " من الماء" إلى " في الماء". حيث المكانية البنائية "فيه" متسعة، و" إلى الماء" حيث العودة تشكل بعد ميتافيزيقيا. " تلقي بعض الشعوب بقايا أجسادهم المحترقة في الماء ، و" بالماء" حيث الانتقال والتحول، بالماء تحيي الأرض وبه تميتها. ولك أن تستطيل في التأويل، وتفكيك صورة الماء الكلية، لتأتي بما لم يخطر لك من حالات.. وأجمل ما نحصل عليه من الماء، هو خياله المادي، الذي ولد لدى الشعراء أحلام يقظة كبرى: سفر وطوفان وتجديد للأرض وللجنس البشري، هكذا أراد الله في رحلة أتونا بشم البابلية: كي يعيد خلقا جديدا للعالم، أمر نوح أن يحمل من كل حي زوجين، في سفينة لم يكن لها أن ترسو إلا بعد أن أدى الطوفان فعلة الأرضي- السماوي.
لكن هذه الكلية المطلقة تتكسر أحيانا، لتصبح جزئيات. فإذا ما أدخلت الطبيعة على الماء فعلا حولته إلى مالح وعذب وكدر. باستطاعتك أن تمنحه أبعادا لا حد لها من خيالات الخلق البيئي للكائنات. تصبح أحيانا عذوبته لونا شعريا، وفلسفة وألفة. وتصبح ملوحته طاقة جنسية، وكدره موتا للأحياء فيه، وإذا ما استطال بك الخيال، فتعد النهر كسرة من بحر ينتمي إلى أعماق الأرض، وينبوعا يهيمن بعذوبته على ملوحة كلية،و يصبح العزل بينهما طاقة لتوليد أشكال جغرافية أخرى: شط، وشلال، وجدول، ونهير وساقية، ومجرى، وهور.. مما يسبغ على مخيلة المكان لغة شعرية يتماثل اللسان فيها بالمكان. وعن طريق حلم يقظتنا نستطيع أن نولد تماثلات لغوية فاعلة من ذاته أولا، بوصفه اقتدارا لا حد لقدرته، ومن الأشياء المتفاعلة معه ثانيا، بوصفه القاسم المشترك لفعل لا متناه من التحويلات الحضارية والبيئية. ومن اللغة ثالثا بوصفه دلالة كلية لكل أشكال الصلابة والسيولة والغازية. فهو دم، ودمع، وحبر، ودواء، وضباب. وإذا ما أضفنا إليه السياسة والجغرافيا والاقتصاد والحضارة والفكر، يصبح الماء أحد أهم قلاع المعرفة المعاصرة. إلا أن هذه الطاقة الهائلة للماء لم تجد صداها الفعلي في الأدب العربي، لأن جزر هذا الأدب صحراء وبادية. وعندما أنتقل إلى الحواضر تبدلت صياغاته فدخل الماء أسلوبا فيه، فالعمق الميثولوجي والحضاري له بقى ضمن شواهده المكانية، والزمانية، تنبئنا رحلة كلكامش عن خلود البحار قبل خلود الإنسان. فكل الحضارات الإنسانية الكبرى نشأت، أما في بقع مائية: السومرية- الأكدية -البابلية، أو بحوافي الأنهار والبحار: الفرعونية- الآشورية- الفينيقية... كما لم يجد حضوره الفاعل في البنى الفكرية للاقتصاد والسياسة والمجتمع، فلم تظهر أية دراسة عربية -حسب علمي- عدا دراسة الدكتور جمال حمدان عن عبقرية مصر. أما الدراسات الأخرى، وبخاصة تلك التي تربط بين الماء والسياسة فقد بقيت حبيسة الدبلوماسيات.
أما على المستوى الإبداعي، فقد ولدت لدى عدد من الأدباء العرب حساسية المجاورة مع بيئاتهم ، محاولة لم ترق إلى الأعمال الأدبية الكبرى ، مثل موبي ديك. فالبلاد العربية تحاذي البحار ولا تجتازها، وتتمتع بخيراتها عندما تأتي من غير أيديهم، فلم ينهض فعل السفر والغوص بأعمال كبيرة عدا تلك التي رحلتها لنا" ألف ليلة وليلة" منذ ألف عام ونيف. فمحاورة البيئة المائية تولد نوعا من الإحساس بالأفعال الكلية، وهذا ما لم نجده إلا في " حي بن يقظان" و" السندباد" وعندما مالت حساسيتنا الأدبية إلى التجزيء، استخدمنا البحر من خلال سفينة مبحرة وشراع وملاحين، وحولنا النهر إلى عوامة ومكان أليف نصوغ به حياة المدينة السياسية، وفي كل الأعمال التي دخل الماء فيها عنصرا فاعلا بنت بيوتها في البقع التي تحتوي على هويتي المدينة والريف.
الماء وفق مخطط هذه الدراسة له بعدان:
1- بعد مكاني بوصفه ظاهرة عيا نية فاعلة مولدة ومعاشه.
2- وبعد زماني بوصفه أحد أهم مكونات الثقافة قديما وحديثا.
والبعدان معا يصوغان فكرة الخيال المادي للماء. ولذلك عمدت هذه الدراسة إلى تناول جانب من شعرية السياب التي أصبح فيها الماء مولدا لصوره ومسيرته الشعرية. فجاء تعامله مع الماء كمكان أجرى فيه تحولاته العاطفية والوجدانية، وبعدا ميثولوجيا عمق فيه إحساسنا من خلال سيرورته أسطورة في "أنشودة المطر". وقد أعود أليه في نتاجات أدباء آخرين. لأدلل من خلال ذلك كله على البنى اللا واعية التي تحكمت في نتاج أدبنا المعاصر عندما حاولت أن تجعل من الماء فاعلا مكانيا مولدا للحداثة الشعرية، وإذا ما أتسع بنا المدار النقدي نعد التعامل الأدبي مع الماء أهم عناصر التحديث في البنية الثقافية ككل. فهو ما يزال عصيا ومبهما وملغزا، وحامل هوية.

2


نشأت في الجنوب من العراق ثلاث حضارات كبرى: السومرية، ومداها أهوار الناصرية وميسان وقد طلت على الخليج من خلال سفنها القصبية الكبيرة، الأكدية حيث ابتعدت قليلا إلى الشمال، الديوانية وجنوب الكوت، فزاوجت بين الماء واليابسة مزاوجة أبقت على شواهد مكانية؛ ثم البابلية حيث موقعها إلى الشمال أيضا من الحضارتين فكانت بابل مكانا أحتوى الماء والأرض تركة إلى الآن بعض معالمها القديمة. وخلال هذه المرحلة التصاعدية من الجنوب إلى وسط العراق نما إحساس بأن الماء كان وما يزال مهد الحضارات. فالبقعة كلها أصابعها مياه، وأقدامها مياه، وما بين المائيين حياة امتلأت خصبا بالعمل والشقاء والأغاني وأناشيد الحصاد والأعياد والطقوس، وإنشاء العمران الزراعي. حياة تنبئ بالأصالة وسماحة النفس، وقوة الثقافة. فأقامت شعوبها فوق مساحات المياه وأشكاله حقيقتها الوجودية التي ما تزال حية إلى الآن من خلال مخلفاتها الموزعة بين متاحف العالم . فتحول الماء ضمن هذا العمق كله إلى بعد اجتماعي معرفي – ثقافي، ولد لاحقا انتفاضات وثورات وصورا نضالية حية. لعل القرامطة والزنج في المقدمة منها، ثم أنتجت ثقافة تعطي تصورا لاحقا لأهمية هذه البقعة الجغرافية تاريخيا ومكانيا فأصبحت البصرة عمقها الوجودي حاملة كل إرثها القديم، ومولدة فيه شواهد ما تزال إلى اليوم حية في الوجدان العربي كله. كانت البصرة رحما عراقيا تجاور الأقوام من كل جنس ولون فيه، وكانت مدخلا تأتيه السفن المحملة ببضائع الهند والخليج، وسفن تحمل المدافع والجند الإنكليز، لتصبح المدينة المحاورة، والمدينة المجاورة ، والمدينة التي ينفتح العقل فيها موصلا تراث المعتزلة بوجودها الحاضر، فتأسس فيها النحو، والعمران، والشعر، شأنها شأن أية مدينة تحويلية في التاريخ، حيث يبتدئ منها الفعل المغير. فهي ميناء وملتقى، وميناء ومفترق، وميناء أحتوى الأزمنة فيه والأمكنة. كتب القاص محمد خضير قصة عن هوية المدينة، أسماها" ساعات كالخيول" بطلها مصلح ساعات وفي غرفته ترى الساعات وقد اختلفت أوقاتها، دالا من خلال هذا الاختلاف على مواقيت مدن العالم كله في البصرة، فالوقت الآن في بومباي، ولندن وباريس مختلف، وما البصرة ومن خلال دكان مصلح الساعات الراكضة بالزمن إلا المكان الوحيد الذي تجتمع فيه كل المدن وكل الأوقات.
في البصرة لا تنبض إلا حياة المدن، هكذا خلصت رواية" بصرياتا". فهي المدينة التي ما أن تتشكل حتى تنحل، وعبثا نبعد الطين عن الشعر، والماء عن السياسة، والنخيل عن الشواهد، والموانئ عن تعدد الأجناس. وخلال قرون مضت، عبثا حاول المستعمرون طمس معالم البصرة. فكانت كل جولة لها معهم تستنهض عمقها الميثولوجي شامخة، متسعة الصدر.
قال صديقي القاص محمود عبد الوهاب وهو يصف القصف الإيراني على البصرة، إن سائقا أقلهم من مقهى الأدباء إلى بيوتهم، قال بعد أن أخرج يده من نافذة السيارة ليس من مطر، وكان يقصد بالمطر القنابل المتساقطة فالدرب إلى بيوتكم آمنة، ووسط دهشة الأدباء من فطرة السائق تنهض البصرة لتحمي أبنائها بعباءتها السميكة، ليس من القصف المعادي فقط، وإنما من كل الشرور المحيطة بها والمتولدة من رحمها. فهي كأي كائن تولد تناقضاتها من أجا استمرارها.
3
وفي العمق من ميثولوجيا الماء في الجنوب، لم تعرف المدن الجنوبية في العراق نوعا واحدا من المياه. بل عرفت كل أشكاله وأنواعه، عرفت: مياه الأنهار العذبة والصافية فكانت مياه الشرب والتطهير والزرع، وعرفت المياه المختلفة، مياه الأهوار، حيث تنبت الآن غابات القصب والبردي منذ سومر حتى قبل تجفيفها، وعرفت المياه المالحة: مياه البحار القادمة من أعماق الخليج لتطعم ولتختلط، دافعة خلال فعل المد والجزر المياه بشعب وفروع. وعرفت المياه الوسخة الأسنة، مياه المستنقعات، وعرفت المياه الكدرة المالحة، مياه مزارع الملح والسباخ، وعرفت مياه الغدران ومياه بقايا الأمطار، وعرفت المياه الموسمية، والمياه الدائمية، ومياه الندى، ومياه الريح، ومياه الأتربة، وعرفت أنواعا أخرى لا تراها ولكنك تستشعرها: رياح منداة تخترق مألوف المواسم، ومياه الأسفار تلك التي تودعها النسوة مشاعلهن عسى أن يأتي الحبيب الملاح المسافر في أصقاع الهند والخليج، والمياه التي تتزين بالشموع والحناء تقليدا دائما في الأعياد، وأملا لكل فتاة برفيق عمر كامن في الأعماق، أو بعثا لحبيب مجهول يأتي مع الفجر أو في إحدى صباحات الأعياد. وعرفت المياه التعويذة – تصر النسوة الحاملات للأدعية والتعويذة أن يدفنها في تيار ماء جارِ. وعرفت المياه الجارية علها تصيب نصيبا في صيد أو زرع، والمياه الحاملة لسرة طفل ولود. وعرفت المياه المعمودية، حيث الصابئة يعقدون احتفالاتهم في الزواج فيها. وعرفت المياه المأسوية، حيث الطوفان والفيضانات المهلكة للزرع والمساكن، وعرفت المياه المجهولة، الحاملة لجنية الأهوار، وميثولوجيا السحر والظلمة المفزعة، وعرفت المياه القابضة على الأسرار، المياه التي يسكنها المعدان، وسكنت الأهوار، جنبا إلى جنب الحيوات السرية للأشباح، وعرفت المياه المشاعل تلك التي نطوف فوق سطح الماء متنقلة بين مفاوزه بسرعة مذهلة وخاصة في الليل قاطعة الطريق على المسافرين والصيادين، ومن لم ير الأهوار وهي تشتعل ليلا بالمشاعل العشرات لم يعرف معنى أن يكون ثمت ساكنون من غير البشر فيها. وعرفت المياه المساكن : الجبايش، مدينة أقيمت فوق سطح الماء فأنشأت عاداتها وتقاليدها وأعيادها
ومزاراتها، وطقوسها. وعرفت المياه الموسمية الحاملة لسفن العمالة ليشتغلوا في مكابس التمور في جنوب البصرة، تلك المكابس التي كانت جزءا من هوية المستعمر الإنكليزي وتاريخه. وعرفت المياه الحدود تلك التي عبرتها زوارق المهربين والسياسيين مانحين أنفسهم حرية ما كانت لتوجد لولا تداخل المياه بين الدول.
وإذ يتسع الخيال بك لتصف أفعال المياه في الجنوب، أو تتسع بالخيال المادي الذي يمنحه الماء لا تجد مدنا كمدن الجنوب العراقي قد أقامت ومنذ المقدم كيانها على المياه. ولعل البصرة في العين من هذا الجنوب التي يخترق جسدها الجغرافي عشرات الأنهر الصغيرة والكبيرة. ولن نغوص في تاريخ المدينة المائي، فقد كتب عناه محمد خضير نصا روائيا- مكانيا" بصرياتا" كما كانت في زمن الدولة الأموية أحد أهو أمصار الخراج الجديدة، فالبصرة كيان نشأ بين مد وجزر. يشترك في جغرافيتها النهر مع البحر، العذوبة مع الملوحة، وكلتاهما توزع على الماء طبائعه الأخرى، فكانت الشطوط والنهيرات والأهوار والسباخ، والمجاهل، حتى عد الفعل السماوي- الأرضي فعل ديمومة وخصب، وبنية من بنى الدينونة اليومية المعاشة، فأصبح الماء فيها طقسا: عقد قرآن ومقبرة وإنبات وزرع، وخصوبة.

4
أن من يقرأ عددا من نتاجات أدباء الجنوب العراقي يجدهم قد جعلوا من الماء مادة مكونة ثقافية، وموقعا جغرافيا اختلطت فيه مختلف الثقافات والأديان. فمياه البحار المالحة والغريبة كانت مادة للسفر والاغتراب والمواعيد المؤجلة. وكان لها السندباد والقرصان- قصائد سعدي يوسف: القرصان وسالم المرزوك. وقصيدة السياب: غريب على الخليج. وكانت مياه الأنهار، المانعة والمانحة، والفاصلة بين ضفتين- وموقعين: موقع يحتله الإنكليز، وموقع تسكنه العامة. رواية الشاهدة والزنجي- لمهدي عيسى الصقر، وهناك مياه الأهوار الواسعة، وإقطاعيات المياه المستلبة لرجالات الإقطاع والشيوخ – رواية النهر والرماد- لمحمد شاكر السبع. وهناك المياه المدافن، المياه الأسرار، التي حملت صفات كل مهاجر وتاجر ومسافر- ساعات كالخيول- لمحمد خضير؛ وهناك المياه التعويذة، المياه الحاوية للقرين – قصة" الأسماك" لمحمد خضير. وهناك المياه العازلة والموصلة، المياه التي تشبعت بها سباخ البصرة وعلاماتها المكانية – قصص عرائس البحر- لجنان جاسم حلاوي؛ وهناك مياه الأمطار، وما تولده إيقاعاتها- أنشودة المطر- السياب، وديوان " أمطار" لمحمد سعيد الصكار؛ وهناك مياه الحدائق التي تسقي الزرع والجسد واللغة- قصة" الحدائق" لمحمود عبد الوهاب؛ وهناك المياه التي حملت بواخر المستعمر ومعداته العسكرية- رواية ما يتركه الأبناء للأحفاد- لغازي العبادي؛ وهناك مياه الأهوار والبقع المائية الممتدة في ميثولوجيا القرى النائية رواية-البراق- لجاسم الهاشمي. وهناك المياه السحرية، المياه المسكونة بالجن والملائكة-قصص" مدن مضاع" لفهد الأسدي؛ وهناك المياه المتفاوتة الأعماق في الأهوار-قصص " المعدان" لوارد بدر سالم؛ وهناك المياه الحاملة والمهربة لنخبة من المناضلين – قصيدة" الأحد عشر" لعبد الكريم كاصد؛ وهناك مياه البرك والقلاع المنزوية حيث أقام الزنج دولتهم في التاريخ وفي الجغرافيا. كما أقام القرامطة أول قلاعهم " الاشتراكية"؛ وهناك مياه السياب التي أنشأ منها وفيها عمارته الشعرية فصّير جزئياتها كليات بويب وجيكور وحوّل مطرها إلى أسطورة: أنشودة المطر؛ وهناك المياه الأم، المياه الزرع والفلاحة والنضال، المياه الغامضة والمانحة، المياه القاتلة والمولدة- رواية" الرباعية" لشمران الياسري.
وعندما نستقرئ هذا النثار المتباعد من المنتج الثقافي نجده قد جسد العلاقة بين الإنسان وبيئته تجسيدا شعريا. وتكاد هذه الأعمال تكون عاجزة عن نقل الصورة الحقيقة التي يحياها فلاح المنطقة ومياهه، حيث الإحساس بفاعلية المياه ينقلنا إلى عمقه الميثولوجي الغائر في الذات، معيدا علينا شروط الحياة والمدن بصيغ عقل بدائي كامن في الممارسات اليومية. وقد يسعفنا نورثروب فراي في ديمومة الشعائر بالعودة المستمرة إلى العلاقة بين الأسطورة والفصول، وبينهما معا والإبداع الثقافي والفكري. ومع أن الكاتب لم يع تماما مثل هذه العلاقة مسبقا إلا أنه عن طريق الممارسة الحياتية- اليومية كان ينهض تلك الشعائر كما لو كانت بنى قبلية كامنة. من هنا تبدو الشعرية التي نعنيها في هذا المجال، هي تفحص الأدوات الإجرائية التي تشترك في صياغتها جمع غير متناه من الأفعال القبلية، التي تبدو وكأنها التاريخ السري لنشوء الأفعال، وما النصوص التي سنعالجها في هذه الدراسة إلا المدخل لذلك التاريخ، إلا أن هذه المداخل تعتمد الخطاب الشعري والنثري معا، وهو خطاب المنتج الثقافي بعامة الذي يخرج عن إطار الأدب أحيانا ليشمل فروع الثقافة الأخرى، العمل، الأغاني، الأزياء، العادات، الأكل، وكل ما يتصل بأفعال الحياة اليومية.
في النصوص التي ننوي ضمها إلى هذا المسار، كان القاسم المشترك بينها واختيارنا لها تم بطريقة اعتباطية، بمعنى أنني كتبت عدد من الدراسات حول نصوص روائية وشعرية قبل التفكير بشعرية الماء، وعندما أستقر بي هذا المنتج الكمي إلى حقيقة أنني أوليت الماء أهمية استثنائية، عدت أليها لا لأغير في سياقاتها، وإنما لأضعها في تنظيم يجعل من الماء الوحدة الخطابية التي تعيد تشكيل الصورة الكلية. ولعل هذه الفصل، الخاص بشعرية الماء عند السياب، قد كتب مؤخرا، وبالضبط بعد ندوة باريس في كانون الثاني (يناير) 1995 التي أقامها" معهد العالم العربي" وقد شهدت الندوة بحثين جادين لشاعر وناقد هو الأستاذ صلاح نيازي " مائيات السياب" ولروائي ناقد هو الأستاذ إلباس خوري " شاعر الماء" فوجدت أن البحثين قد اقتصرا على جوانب محددة من موضوع الماء وأن الفرصة سانحة بعد تعقيبي على البحثين في الندوة المذكورة للعودة إلى موضوع مسبق وإن اشتغلت عليه بصورة متفرقة. وعندما يشط بنا التأويل النقدي، نقول أن على الكتابة النقدية اليوم أن تغير من أدواتها، وأن تبحث عن الفاعل المشترك لعدد من الخطابات الأدبية والثقافية لتكشف عن الآليات التي يبثها هذا الفاعل في ماهية هذا الخطاب، لا أن تقف عند حدود المصطلح النقدي لتجد في النصوص تطبيقات عليه. وما محاولتي في المكان، وفي الاستهلال إلا من قبيل البحث عن هذا الفاعل، وستكون محاولتي "شعرية الماء" في الاتجاه نفسه أملا في أن نضع تصورا يغير من منهجية الكتابة النقدية، خاصة وأن تصورا منهجيا واضحا توفره لنا نصوص إبداعية عدة، ومن مختلف المناطق والثقافات والأزمنة، مفاده أن الفاعل الواحد فيها بوفر رؤية منهجية لأن تكشف عن مستويات الخطاب الإبداعي، ولذلك على الخطاب النقدي أن يتجه إلى فاعلية العناصر في الخطابات الأدبية قبل أن يتجه إلى المصطلحات النقدية.

5
ولكن لماذا السياب؟
يعد تعامل السياب مع الماء واحدا من طرق اكتشاف الفاعل في الشعر الحديث، فكان الماء رفيق السياب، لا لأنه عاش في بيئة مائية، وإنما لأنه قد اكتشف فيه قدرة على استيعاب تحولات الخطاب الشعري، والخطاب اليومي والمألوف. فصيره أحد أهم مكونات الحداثة عنده، وقارئ شعره يجد الاهتمام بالماء أبتدأ في مراحل شعره الأولى بمسميات خاصة- نهر- شط- جرف- شاطئ- مطر-، وانتهت إلى تمثله للماء أسطورة تعيد تكوين شعائر اليومي بخطاب شعري- بويب- الموج- أنشودة المطر- جيكور- . ومن خلال تغلغل الماء في صياغة الحيوات الصغيرة للقرية انهض السياب مكوناته الشعرية الكامنة في هذا التفاعل وكشف عن مخزونها الميثولوجي والحياتي، وهذه البيئة تمظهرت لنا من صيغ رومانسية في مراحله الأولى ارتبطت بالعواطف والرؤية والعيانية المباشرة، وبالمواقف العامة كجزء من فاعلين محكومين بالاقتران: الربيع بانسياب الماء بالعشق، بهدوء الشاطئ، بالنأي.. الخ، لكنها قد تحولت في مراحله اللاحقة لتصبح بنية فاعلة متحكمة في الخطاب الشعري تدير على محاورها اللغة وتصوغ رؤية فاعلة في بنية الصورة، ثم تولد نوعا من الارتباط بين ما هو حسي وما هو عياني، مانحة الخطاب الشعري طاقة بصرية- تأملية لا حد لها.
قدم السياب الماء بمكوناته وتراكيبه الكلية، فالبحر هو السفن، والأمواج، والصدى، والسفر، والغربة، والعنف، والعواصف، والليل المفاوز، والليل الألغاز، فكان بحرا كلي الحضور. وقدم الشطوط والأنهار بمراكبها الصغيرة، وجروفها، ونسماتها، وليلها المقمر ومحارها المرئي، وقيعانها القرار، وأضوائها المنعكسة فيها، ومياهه الصافية، وأمواجها الرخية المنسابة، وأسماكها، وحوافها، وسكنتها المنتظرين، وملاحيها المسافرين.. بينما قدمت النهار الكبيرة في شعره، بمدها الجارف وجزرها المنسحب، وعنفها، والغزوات فيها، وانجرا فاتها، وزوارقها الكبيرة، وملاحيها حاملي اللؤلؤ والمحار والصدف. وقدمت بأغانيها الخاصة ودر ابكها الموشاة بتقانة أقوام البحار، وأنغامها الحزينة المطلقة الصدى.. وقدم المطر، بعنفوانه وشيبوبته، بغضبه وانهياراته، ونشيجه، بدماره ورخائه، بمنحه الأرض بذرة، وبوصفه قوة عمياء مهدمة، وبكونه رسولا بين متحابين، ونفحة السماء إلى الأرض، برياحه الحاملة، وبسكونه المخيف وهو يسقط فوق سعف النخيل، بإيقاعاته النشيج، وبوصفه نغمة غناء تطرب. وقدم أيضا كقوة قامعة: ضباب وثلج يسد النوافذ والطرقات ويمنع الوصول ويقلل النقود. وقدم أسطورة للخلق، ومادة فاعلة في الأرض وفي البشر. ثم كان لغة تحديثية في الخطاب الأدبي ككل.
وقدمت المستنقعات بوصفها أماكن للرذيلة، وسقط متاع المجتمع، ومكانا لتوليد الأزهار النجسة، ولغة دالة على مجتمع في حالة انهيار.
هكذا أصبحت المياه في شعره فاعلا مولدا دلل من خلالها على سعة منظورة للخيال المادي للماء، في أشكاله: السيولة والصلابة والغازية. فالماء جامع مانع، يجمع بين نار الأجواف، ومائية الأعالي، وبين الثلج الصلابة والضباب، بين أناس يرقبون تطور العلاقات دينية وميثولوجيا مع القوى الكونية- السماوية- وأناس يزرعون ويعملون ويسافرون من أجل لغة في الحياة أو في الحب. هكذا صير السياب الماء إلى ترجمة وصياغة توالدت فيها المتناقضات، حاملا فيها كل منافي الذات وتطلعاتها: العربة، وفقدان الأم، وفقدان الحبيبة، وموت الجد، وغرق المعابد، وتجاور القبور في قيعان مياه الأعماق، لتصبح القرية مكانا جامعا شاملا للحياة في الموت، وللموت في الحياة، والشاعر في هذا التناقض الكبير كان يتأمل لغته الشعرية وهي تتوالد من سيولة مائية لتصبح غبارا ضبابيا، وثلجا مانعا، وقوة لا مرئية تصوغ حياة الناس أو دبيبا يسير من جوف القرية إلى أنهار الأبدية.
ولأن السياب أحد أهم شعراء الحداثة، فدراسة أية مفردة من مفرداته الشعرية توضح معنى التحديث الذي نهجه. ونعتقد جازمين أن تعامله مع الماء كان أحد أهم أشكال التحديث، لأننا نؤمن أن الحداثة ليست في تبادلات الإيقاع والوزن،وإنما في بنية الصورة الشعرية، وفي اكتشاف القيم الدلالية للأشياء المعاشة، والغور فيها إلى أبعاد ما كانت القصيدة القديمة تصلها. ولأن الماء، معنى هنا قبل أي شيء آخر، فقد سارت دراستنا وفق تصور نقدي يتضح من خلاله.
أن ليس كل ما هو سائل بماء، فقد لا يكون المع، الدم، الخمرة، القطرات، العطر، الشراب،.. الخ ماءَ، برغم أنها تمتلك صفات مائية، وبرغم أنها جزء من الصورة السيولية التي دخلت في بعض القصائد في سياق دلالي يوضح للماء دورا. أن المستويات المتعددة للماء السائلة لا تكتسب قيمتها الشعرية إلا إذا دخلت في تكوين الصورة المائية، وما نعنيه بالصورة المائية، هو أن الماء ليس أي سائل آخر هو الفاعل فيها. فقد تكون صور مثل "نهر حبي" و" جدول جف ماؤه" و" حورية النهر" و" يا نهر" و" غريب على الخليج" جزءا من مكونات الصورة المائية، وقد لا تكون إذا ما وظفت بطريقة أخرى. نضيف إلى ذلك أن الصورة المائية إذا ما كانت ذاتية البناء، مفردة ومعزولة، ومشهدية اللحظة قد لا تغني ما نريده نقديا برغم امتلاكها لخصائص الصورة. لذلك سنعالج الماء وفق دلالة الصورة الفاعلة في مناخ القصيدة وليس ضمن إطارها المحدد لفظيا.
ويطلق السياب على بعض قصائده عناوين مائية، كالقصائد التي خص بها الشاعر وورد ذرورث مثلا، أو القصائد التي خص بها حبيبته أو جيكور أو الخليج، فمثل هذه العناوين تصبح المفردة المائية فيها نسغا فاعلا يسري في جسد البنية الشعرية بغض النظر إذا ما احتوت هذه القصائد على مفردات مائية. ولذلك سنعالج الماء وفق هذا التصور.
وفي قصائد المرحلة الأولى من شعره، ونعني بها الأربعينيات، تراوح الماء بين الصورة الظاهراتية- العيانية المنعزلة عن السياقات العامة- لأن معظم قصائد هذه المرحلة عمودية وتقوم على مفهوم وحدة البيت- وبين استخدامه للماء كجزء من بنية رومانسية-طبيعية وبيئوية، تشبع العين بمرآها، وتحسسه بوجودها بوصفة صوراً حسية معاشة. ولذلك تكون المفردة المائية متراوحة بين الظاهرة المكونة للبيئة، والمفردة القاموسية لشاعرية تتلمس طريقها إلى الكشف عما تختزنه أشياء الواقع من شعرية.
• أما في مرحلة الخمسينات فقد تحول الماء من الظاهرة العيانية، إلى البؤرة المولدة، مانحة القصيدة رؤية مركزية تشربت بها كل مفرداتها وصورها، وفرزت على أساس أنها قيمة مطلقة وكونية،فمنحتها طاقة إنسانية وحرية في استكشاف اللغة، وتعد هذه المرحلة أنضج مراحله الشعرية عندما صير الماء: أنشودة المطر، وغريبا على الخليج، ونهرا للموت، وجيكور للخصب وللأفول.ز وسنعالج هذه القصائد بطريقة البحث عن الخلق الأسطوري المعاصر.
أما الماء في مرحلته الشعرية الثالثة، مرحلة الغربة والمرض والموت والتنقل، فكان صورة للقمع وللمنع، وقوة ظلماء، وثلجا ومانعا، وضبابا يعدم الرؤية، ومكانا يخلو من الأمل.. وماءَ مدمرا للنبت وللأفق.ويأتي تصوره للماء رد فعل مباشر على ما كان قد منحه من قوة خصب ونماء فبعدما كان: " المطر أنغام السماء" و" قلبي الماء" و" البصرة الرقراق"و" الأضواء الراقصة كالأقمار في نهر" و" الماء في الجرار" و" غابة من الدموع" و" بويب" أصبح الماء في هذه المرحلة " أيها الثلج رحماك"، العش الذي خربته الرياح والمطر، و" عينان تشعان بلا انتهاء"و" الدجى ثلج وأمطار" و" شراع عوليس الخفاق" الذي " يزرع فائر الأمواج " بمثل فاعلية الماء القامع، كانت قصائده، قصيرة، موجزة، عتبية الذات، إلا أن هذه التعريفات للماء لا تكون صارمة إلى الحد الذي يضعنا في فواصل صارمة لشاعريته، وإنما جاء استقراؤنا لها من خلال السياق الكلي لمفردة الماء وهي تتداخل في تكوين جمالي شامل للموت وللحياة، وللتضحية وللفداء، وللحب وللحرمان للموقف السياحي العام، وللموقف السياسي الذاتي، وللعاطفة والوجدان، وللخيبة والمرفق. وبمثل ما كان الماء ذاتيا، كان اجتماعيا، وبمثل ما كان خاصا ببيئته المحلية، كان خاصا بمدن الثلج والأسرة والمرض والغربة، هذه المفردة الفاعلة الخلاقة لم تكن وحدها صانعة شاعريته، كما لم تكن محط اهتمامنا ونقاد آخرين إلا أنها كانت البؤرة الفاعلة في مجرى البناء، فتحولت عنده إلى معطى دلالي مؤثر وفرضت على النقد خصوصيتها، بحيث يمكننا أن نشخص من خلالها جانبا من جوانب تطور شاعريته.

6
في عموم تجربة السياب مع الماء لم تغب الجداول والنهيرات والسواقي والشطوط الصغيرة، وإنما رافقته منذ بداياته الرومانسية وحتى قصيدة بويب، ولهذه الجداول في البنية الثقافية العامة حضور مكاني واجتماعي، فهي نتاج الحاجة اليومية للعمل، ومن هنا تبدو الهيمنة عليها وعلى قواها جزءا من فاعلية اللغة، إذ لم تكن ذات حضور مغاير لما يريد سكنتها وشاغليها، فهي أوعية لمياه رخية، هادئة ورقراقة، تشف عن قاع ضحل، ومكوناتها مما تنافسه الأيدي والأعين، وأي ممارسة فيها أو حولها لابد لها وأن تحط لغتها في المألوف المعاش. وخيالاتها المادية لا تتعدى احتواء حكايات القرية اليومية، فهي محط لقاء، ومورد مألوف وملعب صغير، وساقية للغسل أو السقي، وطريق مأمون للدخول إلى البيت خلال العودة من العمل أو الخروج إلى مساحات الماء الواسعة. ليس في ذلك النبت المخيف، ولا تمتلك مجاهيل أو الغاز،بل هي أمكنة ألفتها اليومية أغنية ترددها جميع الألسنة. لغتها المائية بين الامتلاء والشحة. تمتلئ عندما يأتيها مد الأنهار الكبيرة، وتشح عندما ينسحب البحر بفعل الجزر مياه الأنهار. ووسط تكوين طيني- مائي، ينمو ذلك الإحساس بالأمكنة الأليفة التي يوطنها ساكنوها بعض أشواقهم، وبعض تداعياتهم، وقد يستعيرون ضمائرهم لتصبح ذواتهم، وعندما يناشدون قريبا لهم، أو جزءا من محتوياتهم:
خلا من طيفها النهر فأين الحب والعهد
وفي عموم تجربة البدايات الشعرية لم نجد إلا تصورات عامة، فما بين استخدامه له مفردة مجردة تطلبها سياق المشهد العياني، وما بين استخدامه لها، ضمن سياق استعاري، والأمر واضح، فالماء في بداية السياب ما يزال غير مكتشف بعد، فهو مفردة غير مقروءة ضمن بناء قروي كلي، وتعامله معها لم يرس على تصور خاص بعد، وخلال قراءتنا لصور الماء في بداياته نجدها لا ترتبط بأي مفهوم محدد ودلالي خاص يمكنه أن يولد كأية ظاهرة فاعلة، فجاء تعامله معه كمفردة مائية من غير ماء، على العكس من تعامله مع الخمرة والدمع والدم. فمثل هذه الألفاظ لها تاريخ طويل في الثقافة الشعرية العربية بينما لا يمتلك مثل هذا التاريخ، وهذا يعني أن التعايش المكاني مع بعض المفردات الخاصة يقودنا إلى اكتشاف دلالاتها وقيمها الجمالية والتعبيرية، وهذا ما سنلاحظه مع الماء لاحقا.
ولما كانت شاعرية السياب تعتمد في هذه المرحلة البنية العمودية للقصيدة، جاء تعامله مع الماء تعاملا فرضته وحدة البيت وإن يلتزم بها كليا. وأن مد تعامله معه إلى الثقافة، عمقه بالتشبيهات. فتارة يشبهه بالسراج. وطورا بالنور والزورق المندثر، والذكرى المائجة، والسحب العائمة، ومالئات السهل، والأغوار التي تستجيب للتحديق.
وقد جلست فوق الضفاف حزينةَ تشيع نهرا سال بين الأزاهر
أراقب منه الموج يسري بزورق بدت فيه من تعفو إليها مشاعري
والنهيرات مالئات ثرى السهل وجيبا يشق صدر الفضاء
وأنين المياه يدفع بالذكرى لقلبي ويستثير دمائي
توضح المقتبسات أنها تعزل بين ما هو نهر وما هو ماء. فجعل للحياة أنينا، والنهر مشبعا بالنظرة الحزينة. أما النهيرات فليس إلا أنهن مالئات الثرى.. فما زال الماء هنا طريا، غير فعال، لم يتغلغل مكانيا إلى النفس، وبقى الحب والماء معا كلمات وصورا ثانوية فما زال السياب يرى كليات الأشياء بعموميتها.
وتستطيع أن تستشهد بعشرات الأبيات التي يقف السياب فيها فاصلا بين الحب والماء
فهو في مرحلة تلمس البدايات التي تجتمع فيها جزئيات الواقع دون تداخل شعري، بينما أصبحت مثل هذه الأماكن موطن الفناء والتقاء الأحبة ومحطة لاندماج ما هو خاص بما هو عام، حيث الشدات الليلية والفعاليات المشتركة، وأصوات الدرابك، وإقامة الأعراس، فهي أماكن الأسرار، والأماكن الإفصاح أيضا. لذلك كانت المتناقضات سمة من سماتها الحياتية لما امتلكته من خبرة الممارسة، إلا أنها لدى السياب ما تزال صبية خجلة، فشاعريته لما تجد طريقها بعد إلى كشف المتناقضات الغائرة في بساطتها. فالشاعر ما يزال في العشرين من عمره.
الحب ولواعج القلب والشكوى المرة والصدود، كانت أهم موضوعاته الأولى، والتي أقام من خلالها علاقة ذهنية مباشرة مع : النهر، الشاطئ، الضفة، الزورق. وكانت المواقف الصغيرة من صدود واختلاق الموعد، هي مادة هذه الذهنية الشابة. خاصة إذا لاحظنا أن معظم هذه القصائد كتبت والسياب في العشرين من العمر. فقد شده الماء النهر، والماء البحر، والجدول كموضوعات مستقلة إلى الحب أكثر مما شده المكان، وحاول كأي رومانسي أن يوحد بين النهر مكانا، والماء فعلا، فكتب قصيدة" يا نهر" 6/1944 ، ويطور فيها موضوعا مهما وهو تحميل الماء مسؤولية فقدان اللقاء مع الحبيب:
يا نهر عاد إليك بعد شتاته صبُ يفيض الشوق من زفراته
حيران يرمق ضفتيك بلوعةٍ فيكادُ يصرعُ شوقهُ عبراته
كم رافقتك فآنستك خطاهُ في غدواتهِ للحبِ أو روحاته
أ فأنت تذكره وتحفظ عهده أم قد نسيت عهوده وسماته
قد أنكرته فتاته وتبعتها وهو الذي يفديكما بحياته
يا نهر أين مضى الزمان بأنسه والمترع المعسول من كاساته

مع النهر- الماء، يقف الشاعر على مبعدة، ومن خلال سياق النص، نجد موضوع الفقدان والبحر قد تشكل قبل "الآن" ليصبح حدثا في الماضي، وما مجيئه للنهر، إلا لاستدعاء جريان الحدث بجريان الماء، وهذا ما جعل خطاب القصيدة كله موجه من أول بيت فيها إلى آخر بيت للنهر قبل أن يوجه للحبيبة، فالنهر- الماء حامل ومسؤول لكل عذابات القروي الرومانسية.
يقترب السياب في هذه المرحلة من تضمين المكان- الماء، ثلاث حالات جديدة:
الأولى: اعتماد مبدأ الإضمار، فالنهر هو الماء، وهذه مفردة بيئية تحاول تجميع الكلي في الجزئي. كما هي حال تدل على إنهاض الموضوعات الصغيرة من خلال أمكنة صغيرة.
الثانية: تحويل الإحساس الشعري بالأشياء من العياني إلى الذاكرة، وذلك من خلال رفع " الأنا" من موقع متغير، فتارة نجد الأنا تتحول إلى "هو"، فيعيد أليه الضمير بـ" عاد إليك، زفراته، حيران، يكاد، عبراته..الخ" ، وتارة أخرى يضمنه المخاطب:" رافقتك، آنستك، تذكرة، أنكرته، وهو الذي…الخ" وهذا التضمين توسيع للأنا وللموضوع، ومحاولة إشراك ما يحيط به في لوعته.
الثالثة: إن القصيدة توحي بحداثة الموضوع، فبالرغم من بنائها العمودي، إلا أن موضوعا واحدا، منطلقا بشعريتها من محدودية الحال إلى تعميمه، وهاهي القصيدة كلها منتظمة بخيط واحد، وينظمها شعور واحد، وتعد هذه السمة الجوهرية تطورا ملموسا للانتقال بها إلى بناء شعري أكثر جدة.
وما يؤكد هذا التطور أن الشاعر صاغ موضوعا من ثلاث شخصيات تضمنت هي الأخرى شخصيات مستترة، الشخصيات هي: الشاعر(أنا) الذي نستشف منه لسان الـ" الراوي"، والفتاة، والنهر الذي يصبح ماءَ. وهذه الشخصيات تكافأت شعريا داخل النص وتوازنت مكانيا، وفي بواكير شعره الكثير من هذه النماذج مثل قصيدة" لامس شعرها شعري"

7

النقلة الأسلوبية الثالثة في علاقة الشاعر بالماء هي تعامله مع الماء العذب، ماء القرية، ماء الأنهار الصغيرة، وقد تضمنتها قصائده الأربع المهداه إلى روح وورد زورث. وهذه القصائد هي " جدول جف ماؤه"8/1944، "والعش المهجور"7/1944، و" أمير شط العرب" 8/1944، و" مجرى نضير الضفتين"10/1944. والقصائد هذه كتبت بعد قصيدة " يا نهر" 6/1944، بأشهر قليلة، مما يعني أن مناخا معينا كان يحكم شاعريته، وما عدا قصيدة" العش المهجور" من هذه الأربع، التي ابتعد فيها عن الماء إلا من صور قليلة، لأنها محلقة في الأعلى" العش" ومادتها الفضاء الخفيض، فالقصائد الباقيات الثلاث كلها ماء: النهر، والجدول، والمجرى، والشط، وتعكس قراءة القصائد أن الخطاب فيها موجه من البيئة المحلية إلى الخارج- الشعر والشاعر. ولعل السياب وهو يستمد من حياة وورد زورث شيئا من رومانسيته وعذوبة أناشيده إنما يحذو حذوه في تقصي حالات بيئية ظهرت في الشعر الحديث كصور بناءة، وقد درست هذه المقارنات كما اعتقد من قبل، إلا أن القصائد الأربع، لم توح ببناء جديد، ولا بتطور شعري متميز، أنها من القصائد العادية التي تتراوح صورها بين البيت الواحد، وأبيات عدة، كما أنها ليست من القصائد التي يعول عليها في أية دراسة مقارنة، ولذلك سنبتعد عن عقد أية مقارنة ونعايش مناخها وأمكنتها المحلية التي صيرها السياب مادة للإهداء وأمكنة يمكن أن تنهض بالعلاقة الجديدة بين الشعر والماء، وليس بين الشاعرين. وأقصر السبل لفهم مثل هذه القصائد، هو عزل الإهداء، وكل ما يتصل به من تأثير، ونعاينها من خلال الوحدة العضوية التي انتظمت فيه صورها.
في قصيدة" جدول جف ماؤه" يخاطب الشاعر حسناءه التي هجرته، فيستعير موت وورد زورث، كخلفية صارمة- صادقة- يجعل من هذه الهجرة، مادة يقرنها بالمد الذي هجر الجدول، والسعف المتهدل الظامئ إلى الماء، والجذوع التي تعرت عندما لم يأتلق تموج الماء الشعاعي عليها، والخيال الذي لم ينعكس على الأمواج، والنهر الذي قد يحوي ثانية الأنس والسراء بعدما يرد الزمان دورته القديمة.. فإذا تحققت كل هذه الأحلام والأمنيات للنهر فقد تعود حسناؤه ثانية إليه..

المدُ هاجرُ ذاك الجدول النائي والصمت معتادهُ من بعد ضوضاء
تهدل السعف الفينان وافترشت أفياؤه الضفة الظمائ إلى الماء
يا هل رأيت جذوع النخل عاريةَ من إئتلاف سرابيّ ولألاءِ
يا ربما ردّ- يا نهر- الزمان لنا ما ليس نرجوه من أنس وسراءِ
لا أرتد ينصب فيك الماء لو رجعت إلى حفيفك بعد النأي حسنائي

خصوصية هذه القصيدة أنها ترتفع بالمكان إلى مرتبة متقدمة من المزج ما بين العياني، والشعوري لصياغة شعرية أساسها الجمال. فمن أشياء بسيطة معاشة، ومن ملاحظة يومية لما يحدث في المكان، صاغ السياب رؤية متداخلة بين انعكاسات الماء والمد وجذوع النخل والأفياء والقاع، وجعلها ظمآنة إلى الماء، كما هو ظمآن إلى حبيبته، وجعل من النهر صنواً لأنا الشاعر، وموازنة متعامدة، فأن عادت له حبيبته، عاد للنهر الماء، وكأن الجفاف في الاثنين مصدره واحد.
في القصيدة الثانية، " أمير شط العرب" يبني السياب مشهدا للشط وقد أنحسر الماء عنه، فيصف ضفافه وكيف تجرد من صفحته الزرقاء، بعد أن غادر الماء جانبيه وبعد أن يصف المواقع القريبة، نراه يبتعد إلى أعماق المشهد فيصف لنا الشراع الخافق البعيد، والصارية التي تلوح، والمجداف، والسماء الغلالة. ثم يتحول إلى الضفة البعيدة من النهر، فيصفها ويصف منازلها وحيواناتها، ثم يلتفت إلى جانب آخر فيرى جدولا ضعيفا ضئيلا يعانق الشط وقد جف الماء عنه، ثم يخلص السياب إلى وصف نفسه، إذ هو أيضا قد جدب: أنحسر عنه الماء- الحب. ونلاحظ بساطة أبيات وصور هذه القصيدة، وكأنها تمرين شعري مباشر يصف الشاعر به حال نهر جفته الجزر. المهم أن الشاعر هنا بدأ يلملم أجزاء مشهد واسع مرسوم بالكلمات.

أما القصيدة الثالثة" مجرى نضير الضفتين" فهي في رأيي أفضل القصائد المهداة إلى وورد زورث، وأكثرها قيمة من حيث بناء الصورة والوصف. وبرغم أنها لا تخرج عن موضوع القصيدتين السابقتين، من وصف اللوعة والفقدان والجدب، إلا أن ما يميزها هو توسيع هذه القاعدة من خلال استعماله القرائن:

مُقل الضباء وأعين الشعراء صور إلى المجرى الضئيل النائي
بكرت تتابع موجه وظلاله ومساحِبَ الأنسام فوق الماء
ومنابت العشب الذي تناثرت في القعر أو في الضفة الخضراء
وتراعش العشب النضير ماؤه مثل ارتعاش كواكب الظلماءِ
فكأنها جنُّ الغلاة تمثلت في خاطر، وعرائس الدأماءِ
من كل فاتنة يُنشر ثوبها لَعِبُ النسائم واهتزاز الماء

فالقارئ يجد: أعين الشعراء، مقل الضباء، الموج ومساحب الأنسام، القعر والضفة، العشب والكواكب، جن الغلاة، عرائس الدأماة، النسائم، الماء ..الخ. ومثل هذه القرائن توسع من فاعلية التأثير عندما تحاكي مفردات بيئية عدة. وكأن الشاعر يشملها كلها بـ" المجرى المائي" الذي تحول شعريا إلى مجرى زمني ومكاني، ونفسي ، خاصة عندما يستعيره الشاعر ممثلا نفسه بـ " المجرى الضئيل" كناية ودلالة ، فتراه يقول لحبيبته:
لهتفت: حُبكِ شفني فأحببتني وأعدتِ لي قولي ورجع ندائي
وهمستِ حُبكَ شفني وأريتني صفو الحياة ومنتهى أهوائي

والمبدأ الذي يشكل نواة هذه المعالجة، أن بدرا كان يتعامل مع ماء الأنهار والجداول، ماء العذوبة الرقراق، والمعاش بالعين وبالبقعة البيئية المألوفة، وأنه من ذلك المجرى الذي تتناهشه الأيدي وتحتويه التأملات، وتسنده الذكريات، وفي الموقع الذي تؤمه الفتيات والفتيان، مياهه ضحلة، وأعماقها مرئية، وحصى القاع محسوسة، ورقرقاته رخية، تحركه النسائم العذبة، ويقول المد، ويفقده الجزر بهاءه. بمثل هذه المياه لا تصنع إلا رومانسية بيئية صغيرة، ذات شاعرية هادئة وصبوية ولم يحدث أن أقيم فوقها جدل كبير، أو حوار عات، أو أنها أصبحت ملجأ من خوف، أو نأيا عن قطيعة. فمياه العش هذه واحدة من مكونات القرى ومواقع الانتقال، والبقع التي نغمتها طفولتنا وأهواء شبابنا.. هل يمكن القول أن شاعرية هذه الجداول تتلاءم والشعر العمودي: ماء مهدهد، شفاف، وموئل للمناجاة والخطاب الغزلي، المتضمن اللواعج الخفية والعتاب. هذه العمودية الحياتية تولد بالضرورة عمودية إيقاعية؛ لحياة قرية وشاعر ألف كل منهما الآخر وحياة راكدة، وعيشا متكرر المفردات، وأسرارا معلنة، واغتسالا يوميا بمياه المد.

8
لم يدخل البحر كثيرا في شعر شعراء البصرة، لأنهم كانوا ، أبناء نهر وشط وسواقٍ، واكتفوا باستحضاره كقوة مجهولة، عمياء، أو مولدة. استعاره سعدي يوسف من خلال " قرصانه" الملاح، ولم يدخل في البحر كثيرا، وأغنت الليالي الذاكرة الشعبية والثقافية بمجهوليته، ولذلك كان الاقتراب منه في بداية الحداثة الشعرية يمثل قاعا مجهولا، والشعراء لم يرغبوا في التعامل مع مجهول.
البحر لا مكان، والسياب ابن المكان، وبقراءة ثانية لدواوينه الأولى وبواكير شعره نجده يفرز ألفاظا محورية يصوغ حولها شعريته مثل: النأي، الغربة، الفراق، البعد، الظمأ، شكلت عمود قصيدته الشعري، بحيث يتولد انطباع عام بما يمكن تسميته بالرومانسية المحبطة، فالفقدان التي احتوته أشعاره كان قاسما مشتركا لكل قصائده المتميزة مثل" الشراع النائي"، " الموعد"،" الظمأ"،" البحر".. الخ.
ويأتي ارتباط هذا المناخ بمياه البحر، أو المياه العميقة ارتباطا ذهنيا لاعتماده المجهولية والابهامية كإطار عام للتحديث. وتعد هذه القصائد خروجا أوليا عن مناخ القرية ومائها العذب وشطيطاتها وسواقيها، إنها نقلة بالحب العابر، إلى الحب المؤسس على المجهول. ولابتعاد قدر الإمكان من الزوايا الصغيرة إلى المساحات الواسعة والغريبة، لذلك نجد شوقا خفيا يشد شاعريته في هذه المرحلة إلى الأماكن الغريبة، وإلى الأبعاد المجهولة وإلى المواقع المليئة بالمخاوف والأسرار، وأنه هنا يعيد الأجواء الشعبية للحكايات وأساطير القرية، أملا في أن ينشئ يوما ما قصيدة تعيد هذه الأجواء القروية إلى كيان أسطوري- لعل " أنشودة المطر" واحدة من هذه القصائد التي حققت له هذا البعد.
نلمس بداية التعامل مع البعد الميثولوجي للماء، ولأنه ماء مالح، والذي يرتبط بمرفوض داخلي- نفسي. حاول السياب أن يجعل من الماء العذب مكانا محيطا ببيئته وحبه وعواطفه المجسدة، بينما حاول أن يجعل من الماء المالح محيطا يلف كل أشياء القرية بما فيها حبه ولواعجه وشعريته. فالماء المالح لا يأتي القرية إلا مع المد، إنه يدخل القيعان والبساتين سرا، وعلى غير موعد، ماء مليء بالمخاوف، وطالما جرف الماء المالح معه جثثا وبقايا سفن محطمة، وأشياء الملاحين الموتى، وطالما تحول البحر إلى أماكن للمخاوف والأسرار، والنأي. لذلك لا يدخل القرية إلا ممزوجا بماء النهر، سرا ومع حركة دوران الأرض، ولا بأس أن يشبه السياب نفسه في هذا التزاوج بالشراع، ومرة بالمد، وأخرى بالنجم، وتارة بالشاطئ المهجور:

فأغيب في أفق بعيد مثلما ذاب الشراع

أو : " في أرجوان الشاطئ النائي وأوغل في مداه"
أو:" حالم الأغوار في النجم البعيد"
وشراع يتوارى" واتبعيني"
أو:" همسة في الزرقة الوسنى... وظل"
أو:" واعبر بي الأحقاب يطويهن ظل شراعك
خذني إلى كهف تحوم حوله ريح الشمال"
أو:" كالشاطئ المهجور قلبي، لا وميض ولا شراع
في ليلة ظلماء بل فضاءها المطر الثقيل"
كل هذه المفردات، آتية من البحر، وليس من النهر، وهنا بدأ السياب ينقل مفردات وصور البيئة القروية إلى البحر، وهي نقله ترافق تطوره الشعري الذي حاول الانتقال بلواعجه إلى بقع مجهولة. فالليلة الظلماء تفتقد إلى ضوء كاشف وإلى حلم، ومطر ثقيل يكشف فيها ظلمتها الأبدية.
" أنني سأغفو بعد حين سوف احلم بالبحار
هاتيك أضواء المرافئ وهي تلمع من بعيد
تلك المرافئ في انتظار… "
حتى في قصائده المهمة،" غريب على الخليج" مثلا، لم يكن البحر إلا ستارا مانعا وليس مكان اكتشاف وبحث، وغرابة. فالبحر حاجز، ولغة مبهمة، ربما لأن الحياة نفسها لا تستوجب مغامرة فكرية كبيرة، فمياه القرية غالبا ما تكفي بمفرداتها اليومية البسيطة لأن تسد الحاجات الضرورية. وهذا ما نجده لاحقا عند السياب عندما انتقل إلى بغداد للدراسة،وكيف أن المدينة تحولت إلى غول ومبغى وحواجز نفسية واجتماعية. فالسياب لا يحب المغامرة. ولا الخوض فيما لا يعرفه، البحر بالنسبة له كان مجهولا، وغائبا، وإذا ما جرى استحضاره فمن داخل الإشارة والثقافة العامة، وليس من داخل الممارسة أو الفعل.
في ديوانه" المعبد الغريق" نلمح مثل هذه المزاوجة، بين ماء البحر القريب، وماء النهر المعاش، وهو ما نطلق عليه ماء الطوفان القروي.

9
في المزج ما بين مناخ ديوانيه" أساطير وأزهار ذابلة" ومناخ القصائد البواكير، يستخلص السياب رؤية للماء تجمع بين الاثنين، وهي: عنف المياه وهيمنتها وقوتها المضمرة فيها، وهاهو في ديوانه" المعبد الغريق" لا يعالج فاعلية الماء المختلط حيث موقعه بين البحر- النهر، وإنما يستمد شاعريته من مياه غريبة، ليست بحرا، وليست نهرا، إنها المياه التي تغرق وتخيف، وتمحي، وتلغي، مياه العنف والدمار. وإذا كان العنوان دالا على شيء من هذا العنف، فأن قصائد الديوان بعناوينها ومحتوياتها دالة هي الأخرى. فلقد اعتمد مفهوم الطوفان الماحي والمهيمن لا بوصفه سمكة كونية، وإنما قدر كامن في الماء نفسه، من هذه العنوانات نستطيع رسم صورة واضحة للموت، السراب، الاحتراق، الضياع، النبوءة، الوصايا، الشهادة.. وما يجعلنا نحتكم إلى أهمية عنف الماء في هذا الديوان، هو ما حمله من نوى أسلوبية ستتطور في دواوينه اللاحقة، منها قصائد " صياح البط البري"، التي تنبأت بموته، ومنها "جيكور" التي أصبحت أركاديا الشعر الحديث، ومنها " أم البروم" القصيدة التي تحسسنا بدمار المدينة على يد الغول، ثم الاهتمام المبكر بأساطير المياه، وكأن المعبد الغريق، استحضار مبطن لكل حضارات العراق الجنوبية التي غرقت في المياه- حضارات سومر وأكد وبابل- وقد احتواها جميعها بـ" دار جدي، والشاعر الرجيم، ومدينة السراب، وشباك وفيقة وحدائقها وفرار"و" جيكور شابت" و" النهر والموت".. الخ.
هذه البنية اللاشعورية كانت تفرز مناخاتها الشعرية على الواقع فتولد منه صور للحداثة، تلك الصور التي رست أولياتها على الغرابة وتفجير المألوف، وتحويل العياني إلى حسي، وإلغاء مقصود لهيمنة العقل على الشعرية، واعتماد المخيلة التي توحد بين الأمكنة المختلفة، واستبصار الأشياء التي تؤكد العالمية من المحلية.
وإذا كانت جولته السابقة مع الماء قد تمت من خلال سطوحه وأفعاله العيانية، فأنها في هذا الديوان تمت من خلال المعايشة للغة الأعماق، أعماق البحر، وأعماق الأرض، وأعماق التاريخ، وأعماق الأسطورة، وأعماق الفكرة، وبالتالي الكشف عن أي جزءاً مهما من تاريخ الإنسان مدفون في الأعماق برغم وجود هذا الإنسان حيا. ولذلك بدا لنا الواقع المرئي سرابا، وساحة لملعب الصبية، أو حقلا تنمو فيه أشجار الكونكريت، ليشهد من خلال عنف المياه، ميلاد الموت فوق الموت، وما الآثار التي جسدت هذا العنف، إلا شواهد لغوية- أسطورية يمكن استعادتها وتجديد مفرداتها كلما اكتشفنا فيها رؤية جديدة ترشدنا إلى هذا الإرث. لقد أمست شبابيك للريح، ومقابر للأجداد، ومياها تحتضن المعبد الغريق.
في عموم التجربة، يتعامل السياب مع البواقي، المشدودة إلى الماضي- الشباك- المطر- النهر، ليدلل من خلالها على موت وفيقة، وكأنها كانت صنواً لهذه البواقي.

" وبويب نشيد
والريح تعيد
أنغام الماء على السعف(..)
سيمر فيهمسه النهر
ظلاً يتماوج كالجرس
في ضحوه
ويهف كحبات النفس
والريح تعيد
أنغام الماء( هو المطر)"

وكعادة البواقي في الميثولوجيا تتحول إلى تجسيدات عيانية وشواخص، وأطلال يعود إليها الشاعر كلما تذكر حبيبته، لكنها هنا تتحول إلى ذات، وذات كجزء من أنا الشاعر. محاولة لأن يردم الهوة بين الحلم والواقع، ولأسطورة تتحول إلى أمنية عندما تشبع بالذاتية. ويعد هذا التحول في شعرية السياب مدخلا آمنا للحداثة، حيث تصبح الغنائية درامية، والصورة المألوفة غرائبية، والقرية أركاديا، أما وفيقة فهي كل المنح السماوية والأرضية. ونلاحظ تدرج بناء الصورة الكلية فمن الأعالي يقع" البيت- الشباك" ليطل على عالم الأرض والأعماق" اللحد" ومن " السماء- المطر" ليطل على "الحب". وخلال هذا التداخل المكاني يمتزج عنده ضوء المطر بوفيقة، الشباك- النافذة على الفضاء، وباللحد النافذة على الأعماق.
أن مخلية السياب الغنائية ولدت في هذه المرحلة مزاوجة شعرية بين الأمكنة المفترقة، ففي كل قصائد هذه المرحلة نجده: إما أن يحفر له حفرة ثم يجلس فيها ويغطي سقفها، أو أنه يرافق حصاة النهر وهي تعتقد القاع بانتظار الضوء الكاشف، أو يجلس خلف سور يتأمل المجهول، أو يقعد في داخل قوقعة الظلمة والمنزوية، ليتأمل غرابة الحياة اليومية وعيشها المألوف. السياب في هذه البنية المغلقة يطل على دواخله وعلى ذاته المشبوبة، ليستطلع- كما كان سابقا- حقيقة هواجسه وقلقه. فالموت لا يحيط بالحياة فقط، وإنما يولدها كي يقتلها ليبقي وحدة الحياة، والقصيدة عنده لا تصبح شعرية إلا متى اجتمع فيها الموت مع الحياة، وكانت الغلبة دائما للموت. فهو يهيم في حدائق الوجود، طامحا لأن يرى" المحار في القرار" و" اللؤلؤ الفريد في المحار" صورة متولدة من الألم.
ضمن هذا التعامل مع الماء، تحول البحر إلى قوة ضاغطة وقامعة، ومبهمة سواء بتحوله إلى سيوله جارفة، قد تتحول إلى قتل وموت- الدم ماء أيضا- أو إلى صلابة- الثلج- أو بتحوله إلى ضباب ستارا وماءً يغشيان العينين. وفي كل الأحوال، فالماء البحري قوة معادية:

من خلل الثلج الذي تنثه السماء
من خلل الضباب والمطر
ألمح عينيك تشعان لا انتهاء
شعاع كوكب يغيب ساعة السحر
وتقطران الدمع في سكون
وقبلة(..) تحار
كأنها الطائر إذ خرّب عشه الرياح والمطر
هل هي محنة أيوب المقترنة بالموت والسفر والفقدان والصبر، أم محنة شاعر تقمص أيوب في مدن الغربة والهجر.
أيها الثلج، رحماك أني غريب
في بلاد من البرد والجوع سكرى
. . . . . . . .
علام مددت بحرا بيننا، دنيا جليدية
أعانق في دجاها جسمك العاري
يطل علي محمولا على موج من النار
والقصيدة مليئة بنار المياه البحرية، ومليئة بالمرض والبعد والرحيل والخوف، من القوى القامعة المتحولة من الماء المنح، خاصة بعد أن تصبح الذات – الجسد- عاجزة عن احتواء ضوء الأمل البعيد. في مثل هذا المناخ تغيرت حساسية الشاعر تجاه المياه، فتحول البحر إلى نار، والثلج إلى كائن خرافي يخرب العمار والديار، وأمست الأيام صريفا، والمدن غولا، والعراق دورة أسطوانة، أما البنية العامة لحال السياب الشعرية، فقد أصبحت رسوا عند بوابة قبر، وإذا ما مد لها يد النجاة طافت كالروح في سماء حفيظة، وأبقت عينين ترصدان الطريق إلى اللحد. ولم يقف إحساس الشاعر- الجسدي- عند تجسيد فاعلية القوى العمياء المنبثقة من مياه البحر، وإنما شمل حتى الأشياء التي يحبها:

ذكرتك بالميعة والدجى ثلج وأمطار
وأحلم بالعراق وراء باب سدت الظلماء
بابا منه والبحر المزمجر قام كالسور- ذكرتك
بأصداء المقابر والدجى ثلج وأمطار
لعل القصيدة" المعبد الغريق" وحدها، تمهد الطريق لأن يتحول الماء من حال الطوفان الذي يغير معالم الأشياء ويدّخرها في الزمن القديم، إلى حال الماء الأسطورية الذي تمثله المرحلة المقبلة. مرحلة أنشودة المطر. ففي ماء المعبد الغريق، نجد تكوينا للبيئة المحلية لأن تصبح معادلا موضوعيا لماء الأسطورة الصينية القديمة. ومن خلال استنهاض قيم ومكونات وقدرات الأشياء البيئية، استطاع الشاعر أن ينقل لنا فاعلين: ماء الأنهار الجارية والشطوط والجداول ليجعل منها تكوينات قادرة على الإمحاء والتغيير، لأن أسطورة المعبد الغريق وحدها لم تخلق قصيدة، فهي مليئة بالشعرية، إلا أنه من خلالها فجّر ممكنات الماء وأشياءه المحلية ليصيرها إلى قصيدة جديدة:
كأن تجهّدَ الكهان تبعُ في ضمير الماء يدفق منه للغرفِ
إذن ما عاد من سفر إلى أهليه عوليس
إذن فشراعه الخفاق يزرع فائر الأمواج
وبتتبع مسارات هذه القصيدة وغيرها نجدها قد استوعبت بعض الميثولوجيا من اليونان: عوليس- الكهان- التتار- غانيميد. ومعها أجواء ألف ليلة وليلة، ليجعل من هذا الكل المكاني- الزماني وحدة في تيار زمن القرية، جيكور النبع والبحر، والعرائس والدماء والسندباد.

جيكور لمي عظامي، وانفضي كفني
من طينه، واغسلي بالجدول الجاري
قلبي الذي كان شباكا على النار
ما يميز مائيات هذه المرحلة هو:
1- الخروج من مادية الماء المعروفة إلى بنيته الخيالية، فالماء أصبح تيارا، ودما ، ونبعا، ونارا، وغيما.
2- تتبع السياب تحولات الماء المادية، فعندما يتحول الماء إلى ثلج أو إلى ضباب يصبح قوة قامعة ومانعة، وعنده تتساوى حالتا المادة: الصلبة والغازية. في التأثير، بينما لا تكون الحال السائلة له إلا احتواء لأفعال أرضية.
3- انحسرت فاعلية الماء الرومانسية. فلم يعد هناك حب ولا مناجاة، ولا رغبة جنسية ولا رسو يوصل بين حبيبين، ولا مد أو جزر، ولا ضفاف ولا جدول جار، ولا هدهدة النسائم، ولا أنغام، ولا رؤية شفافة للقاع.. الخ. بل أصبح الماء طوفانا، يغرق الماضي وأشياءه، والحاضر وأفعاله، تمهيدا لأن ينتقل به من الاستعارة إلى الوجود.
4- وتحول الماء من المُخاطَب إلا المخاطِب. من الشيء الذي يهيمن عليه إلى الشيء الذي المهيمن عليه. ومن المعقول إلى الفاعل. ويتلاءم هذا التحول مع وضعية السياب النفسية والجسدية، فعندما كان شابا، قويا ومتطلعا، كان يرى الحياة كلها تحت ناظريه، وسلطانه الشعري، لكنه بعدما نضجت التجربة الشعرية عنده، وضعف الجسد، نهضت قوى الماء الأخرى وانبثقت من ذلك المخزون الشعري لتكشف من مستوياتها وشاعريتها وخيالها بعدما أصبحت قوى قادرة على الفعل والتأثير، على الإمحاء والوجود معا، فما كان منها إلا أن ألغت سبل التفكير التقليدية في الرؤية وفي اللغة معا.
5- اكتسبت شاعرية السياب في هذه المرحلة، صفة التركيب لا التحليل. ونعني بهذه الصفة أن الخصائص قد ألغيت، وأصبح لكل الأشياء معنى مركبا واحدا، فاستطاع أن يدّاخل بينهما دونما الدخول في التفاصيل الصغيرة، هل نقول انه بدأ مرحلة التجريد الشعري؟ ففي قصائده تتجاور الأشياء المفترقة والأزمنة والأمكنة، بحيرة شيني إلى جوار شط العرب، وبحار الحروب اليونانية إلى جوار الأنهر الصغيرة، ورموز الأساطير القديمة إلى جوار دار الجد وبويب وجيكور.. الشعرية التجريدية، واحدة من خصائص القصيدة السيابية التي تطورت بفعل الماء.
6- استطاع الشاعر في هذه المرحلة أن يمد قصائده إلى موضوعات عدة، أ, أن يركب في القصيدة الواحدة موضوعات عدة، ويعود سبب ذلك في جزء منه إلى اكتشافه قيم الماء الجمالية والمادية، ونستطيع القول أن الماء عنده قد تحول من المنح إلى القمع والمنع، وهذا التحول مهد له لأن يرى الماضي من خلال رموز وأساطير والمستقبل من خلال الموت والأفول وما كان له ليحقق أي إنجاز شعري في قصيدته هذه لولا اكتشافه لهذه المساحة المتخيلة من فعل المياه.

* * *
المرحلة الأخيرة في شعرية المياه عند السياب، هي قصيدة" أنشودة المطر" الذي تحول الماء- المطر فيها إلى بنية أسطورية قارة، لقد حاول أن يستنهض فيها أربعة عوامل تكوينية
الأول، هو المزاوجة بين الطفولة/ الأم، المنح/ الدم، الحياة/ الموت. وهي صور مستحضرة من حياته الطويلة، ومن تجاربه مع الشعر والقرية والموروث. وقد أعطته هذه الجدلية الثنائية إمكانية أن يتلاعب بالزمان وبالمكان، فالمطر عنده فعل كوني، عندما يسقط على الأرض تنهض كل القوى الخفية الكامنة، وكأنه بسقوطه يوقظ الموتى، ويعيد تشكيل المفردات الصغيرة القديمة.

تثائب الماء والغيوم ما تزلا
تسحُ ما تسح من دموعها الثقال
كأن طفلا بات يهذي قبل أن ينام:
بأن أمه التي أفاق منذ عام
فلم يجدها، ثم حين لج في السؤال
قالوا له:" بعد غد تعود.."
لابد أن تعود
وأن تهامس الرفاق، أنها هناك
في جانب التل تنام نومة اللحود

ما الذي استدعى الأم والطفل، وما الذي أوقظ الموتى، والدعوة التأكيدية لانبعاثها من جديد" لابد أن تعود.." وما الذي جعل السماء تدمع كما لو كانت ترثي قرية شابت "جيكور شابت" فتعيد بدموعها الثقال الحياة التي هربت.
فالسياب في هذه القصيدة يعيد تشكيل العالم القروي البسيط ليصيره كيانا مرئيا، ومعاشا، وأركاديا جديدة تبعث بعد موتها، وكأنها تظهر من خلل المطر، ثم تختفي وراء مجهول سماوي، ووسط دهشة الصورة المغربّة هذه ينهض العراق كله، وكأنه كامن في تلك البقعة الصغيرة من الوطن.
الثاني، أن هذه القصيدة، ليست مكانا مبنيا لوحده، وإنما هي خلاصة تجارب وقصائد أخرى، لعل قصيدة غريب على الخليج، أرضية لها. ولعل العراق المغترب، ينهض من جديد كما لو كان غيمه آتية من الأقاصي لتسقط أسماءها فوق نخيل وقيعان العراق:

صوت تفجر في قرارة نفسي الثكلى- عراق
كالمد يصعد، كالسحابة، كالدموع إلى العين
والموج يعول بي: عراق، عراق ليس سوى العراق
البحر أوسع ما يكون، وأنت أبعد ما تكون
والبحر دونك يا عراق..
قد يبدو هذا المقطع، المعزول عن سياق قصيدة" غريب على الخليج" أكثر صلة بـ" أنشودة المطر" فالثيمة واحدة، لكنه هنا- في أنشودة المطر-، يتأمل المطر الساقط ليوقظ العراق الجائع، العراق الذي تحول هناك إلى دورة أسطوانية، إلى نقمة" ما مر عام والعراق ليس فيه جوع". هذا ما يقوله، أما العراق ككيان كلي، فكان حضوره في أنشودة المطر، حضورا جانبيا لكنه في العمق منها. فالسياب/ العراق ثنائية متناقضة: غياب العراق، حضور شعري للسياب. وغياب الشعرية، حضور فاعل للعراق. وهذه النتيجة الكلية، كانت مدى قلق فني في قصائده اللندنية، التي عوض العراق، بزوجته وأولاده. الولادة/ الموت، الحضور/ الغياب، العراق/ السياب.. هذه الثيمات المحورية التي تمحورت عليها تجاربه كلها. من هنا كان البحث عن فعل كوني- قدري لا واعي، يعيد تجمع هذه الصورة المتناثرة للغياب/ الحضور. فكانت قصيدة" أنشودة المطر"، حيث اختباره للمطر المنشد، وقد تم وفق صياغة كونية/ واقعية لأسطورة تتألف أجزائها من صورة متناثرة في تجربته الشعرية كلها. فالمطر المنشد يولد الزرع والطفل معا، ويوقظ الموتى والعراق كذلك. وخلال بنية هذه الصورة الكلية تتضح الأفعال الغامضة التي أستهل بها قصيدته، خاصة في المخاطب، المثنى الذي يوحي بأنه أنثى، أو أرض مركبة من أجزاء لا ربط بينها:

عيناك غابتا نخيل ساعة السحر
أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر
ما من هي المقصودة هنا؟ الحبيبة، أم القرية، أم السماء؟! وإذا ما أحلنا المثنى إلى الحقيقة، وجدانها: القرية، ومن داخلها العراق- فهي التي تملك العينين التي نأى عنهما القمر، وهي التي تملك البقع المائية المحيطة بها والمستحضرة صورتهما من خلال غياب القمر والمجذاف.. وهي التي تنبض في غورهما النجوم.. هذه البنية الغامضة، الأنثوية، هي الفعل الكوني الذي سيمارس المطر عليه حضوره المخصب.
الثالث، أن قصيدة " أنشودة المطر"، تؤكد مبدأ إشاعة الحب، فالمطر شتائي. والشتاء موطن الحكايات والأساطير المؤجلة، والمطر ينساب، وكل ما هو منساب أنثوي، والمطر طفولة، وكل الشخصيات في القصيدة تعود إلى الطفولة، والمطر نفي للدم الجوع والمرض، والفقدان، ليصير حبا، وزهرة، وغيمه حاكية، ولونا يغشى فيه البصر، ونغمة سماوية عذبة، وترنيمة شتائية مسلية، واستحضارا لما مر من نقص وحوادث المطر الشتائي، يعيد تركيب الذات المتشظية خاصة إذا ما جلس أمام النار، ولوحده. فالفعل الكوني، الهادر يعيد تشكيل الغرائز الدفينة ليستجمعها في بوتقة البحث عن اتحاد ما بين الذات والعالم الخارجي.

ومنذ أن كنا صغارا، كانت السماء

تغيم في الشتاء
ويهطل المطر
وكل عام- حين يعشب الثرى- نجوع
ما مر عام والعراق ليس فيه جوع
إذن كيف يتم القضاء على الجوع؟ ألم يكن المطر هو المنقذ، وهو المخلص، هذه الصورة المسيحية- الإسلامية، هي بنية أسطورية، فالخلاص يأتي دائما من السماء، ليس مثل هذه الحلول في الدراما اليونانية، وإنما بفعل كوني- إنساني، هو المطر.

في كل قطرة من المطر
(..) ابتسام في انتظار مبسم جديد
(..)
في عالم الغد الفتي، واهب الحياة
مطر
مطر..
مطر…
سيعشب العراق بالمطر.
الرابع، أن فكرة الخصب فكرة أسطورية، وفي تراثنا الشعري والميثولوجي، ما يؤكد ذلك، ليس من خلال العلاقة الجدلية بين عشتار/ تموز، التي تتحول إلى ربيع/ شتاء، وإنما من خلال حضور المياه في وادي الرافدين. وكما أسلفنا أن كل حضاراتنا القديمة مائية، ويوم أبتعد عن الماء- حتى الحضارة الآشورية أقامت صرحها على ضفاف دجلة- لم تعد في العراق حضارة. لذلك عندما يستحضر السياب في هذه القصيدة العراق- ويطلق عليه" ما مر عام"، لا يحدده بسنوات سياسية معينة، ولا بفترة كتابية للقصيدة، إنما يعيد تكوينه منذ غياب الحضارات واندثارها. والجوع المعني هنا، وأن كان مما يعنيه الطعام، إلا أنه جوع أبدي، جوع للوجود، للكيان، للحضارة.. وهذا الفعل المضمر، الخفي في أبعاد القصيدة لا يتضح من خلال شواهد شعرية، وإنما تؤكده أجواء أنشودة المطر كلها. هنا يعيد السياب تركيب فعالية المياه من جديد، ولعلنا نجد بعض أجزاء هذه الثيمة في معنى جيكور الرمزي، ومعنى بويب، ومعنى النهر والموت، فلو قرأنا هذه القصائد بروح نقدي أبعد من مفرداتها المباشرة، لوجدنا أن السياب مشغول بلملمة الصورة المتناثرة للعراق بعد غياب الحضارات المائية من وجوده المعاصر.








2
حسين مردان
وحواره مع مثاله الشعري






























1
تكاد المرأة، في أدب وحياة حسين مردان، أن تكون القاسم المشترك للكثير مما كتبه من: شعر، ونقد أدبي، ونثر مركز، وقصص قصيرة، ومقالات صحافة(1) هي المثال الذي رافق سيرته الأدبية كلها، وهي النموذج الذي يأنس لمحاورته كلما اشتدت به الخطوب.
وترتبط المرأة في أدبه بكل ما هو جديد وحديث. ففي الوقت الذي كان السياب يجد في الأساطير بعض ملامح تجديده الشعري، وفي الوقت الذي ارتبط البياتي بكل ما هو حياتي معاصر ويومي في شعره، كان حسين مردان يجد ضالته في المرأة وفي التمرد الثقافي وفي الفقر والرفض والسجون والوحدة والخوف من كل ما هو مدني مصنوع.
لقد منحته السنوات الممتدة ما بين عامي 1949- 1972، وهي سنوات الإبداع الحقيقي في الثقافة العراقية، الكثير من الحرية في القول وفي الممارسة. وحسين مردان محظوظ لأنه مات في نهايتها بعدما عاصر أهم إنجازاتها الشعرية والقصصية والمقالية، فالكثير مما كان يقوله في مقالاته وشعره لا يجرؤ أحد القول فيه ثانية، وقوله في المرأة واحد من العلامات البارزة في الأدب العراقي الحديث لما أتسم به من ربط جدلي بين المرأة ككيان نفسي وبين المجتمع ومشكلاته السياسية، والواضح أن ما تمنحه المراحل المهمة من فرصة للأديب لا تعاود منحه إياه ثانية.
والتجربة المفردة لا تستنسخ لذلك عاش حسين مردان فترته بكل تناقضاته، واندمج بها كما لو كانت خلاصه النهائي، فأعطى ما يمكن أن يعطيه شاعر متألق يحب الحياة كما لو أنه لم يكتشف الموت فيها، ويكره الموت كما لو كان قرينا بالصمت، وما تنوع أساليب القول عنده إلا جزءا من محاولته المستميتة للحاق بتناقضات المرحلة وتعقيداتها.
ولم تأخذ العلاقة بالمرأة طابعا واحدا، فمرة تكون رمزا للجمال، ومرة أخرى تكون مثالا للحب، وثالثة تكون امرأة مجردة، إلا أن العلاقة كلها مبنية على شيء من المعانقة السرية، فالشاعر لا يرض بغير العلاقة العذاب، العلاقة التي تفجر الكلمات والصور والأحاسيس، لذلك لم نجد له امرأة واحدة معينة، بل كان له مثال ما تتشكل أبعاده من خصائصها النفسية والاجتماعية، لذلك نحن لا نقرأ عن امرأة ما عراقية أو غير عراقية، بل نقرأ عن كل امرأة يجد فيها كلمة شعر واحدة.
وفي ضوء ذلك نجد بعض ملامح مثاله مستعارة من المرأة الأوربية التي صادفها أثناء رحلاته وسفراته العديدة، امرأة البارات والمقاهي والمدن الزجاجية، والمتعة العابرة، والشوارع والقطارات.. المرأة التي" جردها الفكر الأوربي من صفتي الجارية والربة القديمة"(2). وصيرها أنسانة تحيا بكامل حريتها لتعطي كامل إنسانيتها، أما بقية ملامح مثاله الأنثوي فمأخوذة من المجتمع العراقي والتي هي وريثة حقيقية لكل متناقضات هذا المجتمع، امرأة تجمع بين المتعة والشهوة، والزينة والخداع، الثقافة والعزلة، امرأة القلب الملغي. ومع هذه المرأة تجد بعض نسوة الأزقة والحواف الملفعات بسواد العباءة وسواد الحزن الموروث.
ليس هناك امرأة ما معينة أو وحيدة، بل مجموعة صفات وخصائص كان حسين مردان يستجمعها كلما أمسك القلم ليكتب عنها. المرأة العراقية الوحيدة التي حافظ على مسافة ما محترمة بينه وبينها هي أمه. ومثل هذه المرأة لا تستطيع أن تمنحه أية علاقة شعرية لأنها مليئة بالإيجابية" فهي المرأة الوحيدة التي تحبني"(3)، وحسين مردان لا يجيد التعامل إلا مع المرأة غير المنسجمة/ المحسوسة، التي تحمل صفات من شهرزاد وفتاة البار، والمثقفة التي تقرأ كافكا ولا تعرف معنى العبثية. المرأة التي لن تكتمل بقصيدة واحدة، لأن المرأة المتكاملة" لا وجود لها إطلاقا لأن الطبيعة نفسها لم تزل في دور التكوين"(4).
2
وتكتشف المحاورة بين حسين مردان ومثاله الشعري، عن تنوع خصب لـ" أدبيته". وكان التنوع التعبيري من قصة وقصيدة ومقالة ونقد وأحاديث بمثابة الأرضية المتعددة الأغراض لسيرورة مثاله. ويستطيع الناقد أن يشخص مستويين كبيرين لأبعاد هذا الحوار.
المستوى الأول: اعتباره المرأة كجزء من مفهومه للحداثة في الأدب.
المستوى الثاني: اعتبار المرأة منفذا للمحاورة الاجتماعية. وثمت مستوى ثالث هو حصيلة المستويين السابقين، إلا وهو العلاقة بين المثال- المرأة، والأم. يدفعنا إلى اعتبار هذا المستوى متداخلا بما سبقه لأنه ينمو بنا نحو تفسيرات سايكولوجية بحتة لسنا بصدد معالجتها، رغم أنها ستكون ضمنا إحدى حلقات البحث المهمة.
وميزة المستويات الثلاثة أنها تتداخل فيما بينها، ليس في مرحلة الكتاب الواحد، وإنما في مسيرته الحياتية والأدبية كلها. لعل المستوى الأول، أكثر المستويات تغلغلا في النتاج الإبداعي، فالحداثة تعني لديه محاورة اجتماعية وكشفا أسلوبيا جديدا، كما تعني جعل المرأة رمزا إحدى أهم اشكالات المعاصرة. ويفصح المستوى الثاني عن نقاط افتراق عديدة، فالمرأة في مقالاته الصحفية وبخاصة في كتابه" الأزهار تورق داخل الصاعقة" تصبح طرفا إيجابيا في المحاورة، وقضية فكرية، وموقفا اجتماعيا، وموضوعا متكاملا. في حين تصبح في شعره كائنا أنثويا محددا بأعضاء جسدية ، هي في الأغلب الشفاه- النهدان- الوركان- رغم اختلاف بعض القصائد عن هذا البعد. فالمحاورة الاجتماعية بينه وبين المرأة لم تستقر- كما سنرى- خلال رحلته الأدبية على لون محدد من التعامل، ولعل تنوع هذا المستوى وتأرجحه بين الرغبة الجنسية البحت، والموضوع الاجتماعي الواسع هو الذي جعلها متنوعة ومختلفة.

3
المرأة والحداثة
ما كانت( شموليت) امرأة عادية عندما اختارها حسين مردان لتصبح الوجه الآخر لسليمان الحكيم. فشموليت" هي رمز الجمال المترفع والفضيلة التي كان يفتقدهما سليمان عند جواريه، شموليت هي المرأة التي كانت تعيش في رأس سليمان دائما"(5). واختار حسين مردان إيقاعية ثنائية يتبادل فيها سليمان وشموليت المناجاة، وتأخذ شموليت أحيانا صفة الراوي الذي يرسم للقارئ صورة الملك سليمان وصفاته وخصائصه.
حبيبي جسمه كلفائف الورد
ومن لحمه يسيل الشذى(6)
ويتوسع إطار الحوار فيفصح حسين مردان عن معرفة جيدة بتعدد الأصوات، وها هي الجوقة تدخل ككورس يوناني لتعلن اختيار شموليت من بين الجواري خليلة لسليمان:
"شمليت"..
أيتها الجميلة بين النساء
أن لم تعرفي أيتها الجميلة العذراء
فاخرجي إلى البر، وانظري إلى آثار الغنم
فهناك عند مساكن الرعاة
تنتصب ابتسامة جميلة" كقوس السحاب"
تلك هي ابتسامة حبيبك المقدس(7).
ويتسع جسد القصيدة التي تبدو أنها موضوعة من داخل نص قديم هو" نشيد الإنشاد" الذي أرفقه كاملا في آخر الديوان، ليشمل أطراف الحوار الأربعة: سليمان وشموليت والجوقة والرجل الآخر الذي أراد أن يكونه سليمان، أي الوجه الخفي منه، وبتوزع جسد القصيدة على هذه الأصوات يفصح حسين مردان عن دراية واضحة بتركيب القصيدة الحديثة، حتى أننا لنجد أنفسنا أمام تجربة متقدمة جدا بأهمية التداخل بين الأصوات دون أن تمتزج بها كليا الشخصيات. أن وضوحا فكريا كان يلوح بين مقطع وآخر جعل القصيدة تنمو بطريقة تتابعية لا ملل بين مقاطعها. ويختار حسين مردان في هذه القصيدة الموضوعة، الطبيعة الريفية والمدنية في آن واحد معا، ليجعل منها خلفية ديكورية هي جزء من واقعية الصور التاريخية، تلك الواقعية التي تربط الملك بممالكه، والملك بما يملك، فكانت الطبيعة والزرع والرعي والصيد والعادات الرانقة لها، هي أهم معالم الديكور الاقتصادي المكون للخلفية الفكرية التي تتحكم بطبائع الناس وسلوكهم وحيواتهم.
نزلت إلى جنان الجوز
لأنظر إلى خضرة الوادي
لأرى هل ظهرت براعم الكروم
وهل فور الرمان
وبلا شعور رأيت نفسي بين مركبات" سليمان"(8)..
ومع أجزاء المشهد الكلي: الشمس والأرض الزراعية، هناك تكملة حسية هي من مكونات البيت: الحياكة، الخياطة، العمل اليدوي، وهناك ملحقات الطبيعة الأخرى، حركة الريح، أشعة الشمس، ألوان الثمر، تدفقات الماء، حيوانات الحقول وطيورها، ومع هذا وذاك، هناك الفعل الطبيعي القائم على الصراع، النسور والقوارض بمواجهة الطيور والأحياء الضعيفة، البحر بمواجهة الأرض، الملك بمواجهة الرعية شموليت بمواجهة الجواري، ويرسم حسين مردان داخل هذا الصراع الكلي صورة واضحة لدور الحب وأهميته والفاعلية التي يخلقها في القلب وفي الطبيعة، حتى أن حب شموليت لسليمان الحكيم ليس إلا جزءا من حب أكبر، وليس إلا صورة بشرية لصور أحياء الطبيعة كلها.
ويتخذ الشكل البنائي للقصيدة طابعا أسطوريا، حديثا هو الآخر. فقد كانت مقاطعها من سبعة مقاطع، تنامى الحدث فيها وتصاعد إلى قمته، والرقم سبعة يمتلك حسا واقعا ميثولوجيا يرتبط ليس بالملك سليمان وشموليت وحدهما وإنما بكل مكونات الطبيعة والإنسان وما رافق نحو هذا، هو التصاعد الفني لإيقاع القصيدة الداخلي إلى الموقع السابع الذي يمثل نهاية منطيقة لكل تراكيب القصيدة الداخلية. فعندما يرفض الشعب اضطهاد وسليمان لهم يلجأون إلى شموليت، رمز حبهم للأرض وللحياة معلنين بلسان جماعي.
أما نحن فنشرب التراب
التراب الذي جئنا منه وإليه نعود
ليعذب" سليمان" أجسامنا بالكدح
أما قلوبنا فهي ملك للحب.(9)
ومع أن القصيدة تسقط في الحقيقة التاريخية، وتحاول أن تجسد عبر أبياتها ذلك التسلسل الذي جاءت عليه القصة، إلا أنها محاولة مبكرة للاستفادة من العهد القديم، وهي الاستفادة التي فتحت الأبواب مشرعة أمام الشعراء اللاحقين عندما بدءوا ينهلون من الكتاب المقدس والكتب الدينية الأخرى، ودارس أبعاد الحداثة في شعرنا العربي الجديد يجد لهذه الكتب تأثيرا واضحا في بنية القصيدة وفي مناخاتها المعاصرة.
إلا أن الخطوة المهمة لحسين مردان تمت بعد هذه القصيدة عندما أبتعد عن الرمز التاريخي الميثولوجي لما فيه من مخاطر السقوط تحت خيمة الموضوع المعلن والمعروف. ورغم أن القصيدة توحي بإدانة واضحة للطريقة التي كان يحكم بها الملوك السابقون إلا أنها حققت لحسين مردان أرضية جديدة لفعل الحداثة. استطاع بعدها ولربما لعجز ما في الموضوع التاريخي نفسه، لأن ينتقل إلى المجتمع المعاصر وإلى نماذجه الحية والمعيشة، وترافق هذه النقلة ما أصطلح عليه بالواقعية في الشعر العراقي، تلك المدرسة التي طبعت شعرنا كله بسماتها واستطاعت عبر الثلاثين سنة الأخيرة أن تؤسس فيهما على شيء من الأرتباط بين الشعب وقيمه، بين الحداثة والموضوع الاجتماعي.
ويكاد يكون ديوانه"قصائد عارية" نقلة كبيرة في وعيه، ذلك لأنه امتلك الجرأة على محاربة الرذيلة كما يقول محاميه:" أراد أن يفهم الناس، ماهية الرذيلة، فالرذيلة ستار براق يخلب من كانت تجاربه في الحياة قليلة واطلاعه محدود. فمتى أطلع شخص قليل الدراية على مثل هذه القصائد التي صورت الرذيلة كما هي بصراحة متناهية كاشفة الستار الجذاب عنها اشمأزت نفسه منها وتمسك بالفضيلة. أي أن حسين على رأيه لم يقصد( نشر أمور مخلة بالآداب، بل أراد محاربة الرذيلة عن طريق الرذيلة)(10).
ورافقت مرحلة قصائد عارية موجة تمذهب الأدباء وانتماءاتهم السياسية. فاختط حسين مردان لنفسه منحى مغايرا للفلسفات المعلنة، وقال عن نفسه أنه عبقري ووجودي وعبثي فالوجودية" ليست فلسفة إباحية مدمرة كما يصفها أنصاف المثقفين، وإنما هي مرحلة هدفها تحرير العقل من القيود والتقاليد التي فقدت قابليتها للبقاء. وخلق قيم جديدة تناسب تطور الفكر البشري ورفع الإنسان إلى قمة البطولة لتحمل مسؤولياته وأخطائه وحده"(11).
في مرحلة لاحقة لم يعد يذكر الوجودية، بل السريالية والدادائية واعتبرهما أهم مدرستين، وبخاصة السريالية، وبدت كتابته عن المدارس الأدبية والتيارات والشعر وموسيقاه الداخلية والخارجية والصورة فيه ضربا من التنظير الذي لم يرافقه نهوض شعري واضح، وتوضح هذه الصورة أن الحداثة عند حسين مردان لم تسلك طريقا فنيا واحدا وإنما كانت تطرح عبر الأنواع الفنية التي يكتبها.
وعموما فمرحلة"قصائد عارية" هي مرحلة البدايات لتشكيل وعيه النظري بأهمية الصورة الواقعية القاسية والساخرة، وقد نقل إلى الديوان صورا عن الحياة كانت من القسوة السياسية والاجتماعية ما يوازي خلق تيار أدبي متقدم على ما هو معروف عن أخلاق السوق الأدبي والاجتماعي، ولذلك قوبل بمواجهة سلطوية أدت به إلى المحاكم.
ومع" قصائد عارية" كانت الموجة السياسية على أشدها فكتب" اللحن الأسود" وغيرها من القصائد التي تلهب على حسب قوله ظهور الطغاة بالسياط.
" الشعر تعبير شبه إرادي عن حالة نفسية أو كشف لحادث خارجي، وبالنسبة لي فقد مررت بمراحل متعددة.. لقد حاولت في قصائدي الأولى والتي ظهرت في ديوان "قصائد عارية" أن أكشط الجلد وأرفع جميع طبقات اللحم مخترقا صلابة العظام للوصول إلى حركة الدم لمعرفة العلاقات التي تربط بين المرأة والرجل.. فقد ظل الحب خيمة مغلقة ينظر إليها الشعراء كشيء له علاقة ما بالسماء".
فالحداثة عند حسين مردان لم تكن كلها مرتبطة بالمرأة، وأن كانت المرأة العين منها. فمتتبع نتاجاته النثرية الأخرى يجدها مليئة بما هو حديث طريقته في فهم الصورة الشعرية، وأسلوبه الحيوي المتدفق، نظرته المتفائلة إلى الحياة، واهتماماته المتزايدة بالشباب. الدعوة المستمرة إلى فهم العالم، والكشف المستمر لما هو في داخل الشاعر. والابتعاد عما هو محبط للآمال. مقنن للموهبة. والاقتراب من الكلمة العامية ذات الدلالة.

* * *
في ديوانه المهم" الأرجوحة هادئة الحبال" نجد الحب يشارك الحرب، فبين مقدمتين الأولى عن رفض الوزن في القصيدة الحديثة والثانية عن استعمال بعض مفردات العامية في الشعر، نجد قصائد الديوان مراوحة بين الحب والموت، وبطله الحب هي المرأة، أما بطل الموت فهو الشاعر، وخلال توحد هذه الثنائية التي لم تفارقه في شعره ومقالاته نجد الشاعر يرسم لنا الظلال الاجتماعية التي تتسم بها قضية الحرية ككل، فلم يختف الطاغية المدان ولا العهد الأسود ولا السجون ولا القيود ولا المغتصبون من مناخات الديوان، ويلاحظ القارئ أن كل قصيدة من قصائده قد قدمت بفكرة نثرية ثم تجيء القصيدة تعبيرا عنها، مكنته من أن يحمل المرأة القسم الأكبر من مناخات الديوان. فمن بين ست وعشرين قصيدة أربع عشرة منها تحمل مقدمات عن الحب، وبطلاتها نساء، ومادتها حولهن كذلك.
في الأرجوحة تدخل المرأة في القصيدة كعنصر إضاءة وفعل، فمن خلالها يحرك الشاعر بقية الصور، فالمرأة- البؤرة تتحول هنا إلى تركيب داخلي بعدما كانت قضية لوحدها. المرأة في مثل هذه المواقع تختفي وراء حال شعري:
وبكل منعطف خليع
تصطاف أزهار الربيع
هل أنت من ماء وطين..؟
أم سلة من ياسمين..!(12)
ومع أن هذه القصيدة" القصيدة السوداء" بطلاها امرأتان إحداهما شابة والثانية سيدة ملوك. إلا أن أجواءها تتعدى عملية الشذوذ إلى الفعل الديناميكي المولد لذلك الجنس الأسود، يكشف خلفه عن قطاع من الرجال الملغيين في عرف النساء.
ويزداد ضغط القافية في هذه الديوان فتحد من انطلاقة الصور وتبدو وكأنها مفتعلة معمولة، إلا أن الشاعر يرفض ذلك ويعزو وجود القافية إلى حبة الخاص لنوع من الحروف. وهو هنا لا يرفض الانطلاقة وإنما يحاول أن يبقى حرا داخل سياج القافية.
إلا أن قصائد الحب تتمرد أحيانا على القافية، بل وتحاول أن تصنع لها عدة قواف:
لن نلتقي
فعلام يا قلبي الشقي
تهفو لمشرق موعد
لم يولد
ظل وذاب
وطوته أودية الضباب
فإذا الندى فوق الأقاح
عبرات روح مجهد..(13)
وتتقاسم الديوان كجزء من روح التجديد، اهتمامات الرجل العاشق الموله، وتبدو المرأة مسحوقة تحته، مستلبة إلا من جسد متميز، وبعض الكلمات، لذا فالمرأة هنا كائن مختف وراء رغبات الشاعر، وأن حاول وأظهرها كما في" نازاد" أعطاها السم فقط، وجردها حتى من أن تبوح برغبة ما.
ويبدو أن موقفه هذا سيتأكد لاحقا عندما يلغي المرأة الفاعلة المرأة الحبيبة ليجعل منها مجرد أعضاء حسية تولد الرغبة وتفرغها.. وقلما نجد امرأة تمتلك استمرارية ما بعد القصيدة.. فدكتاتور الشعر دكتاتور في إلغاء شخصية المرأة.. إلا أن هذا لا يمنع من أن يجعل منها نقطة إضاءة في القصيدة.
وتدور مقلته الحزينة
خرساء تبحث في المدينة
عن عطر امرأة نحيفة
مرت فخضبت الرصيف.(14)
حاول الشاعر في الأرجوحة أن يوازن بين ثلاثة مواقع: حبه الشديد لأن يصبح للمرأة نقطة إضاءة في الشعر الحديث، وحبه الشديد لمجتمعه بحيث أظهر قصائد نضالية وجماهيرية، وحبه الشديد لذاته بحيث بدا واقفا في كل قصيدة يقولها. وضمن هذه المواقع الصارمة والمتعددة الأغراض لم يجد حسين مردان حرية كافية لانطلاق صوره.
إلا أن الجانب المهم الآخر، أن هذا الديوان مثل بداية حقيقية لأهمية المألوف اليومي والمألوف في الشعر، وهي بداية نجد لها توسعا في شعر الستينات لاحقا .





3

ضلع المربع الدائري
قراءة في شعر بلند الحيدري




















1
ليست مصادفة أن يكون أكثر رواد الحداثة الشعرية الأولى عراقيين، بدر شاكر السياب، نازك الملائكة، عبد الوهاب البياتي، بلند الحيدري. ومع أن الفهم النقدي لهذه الحداثة ارتبط بظهور الشكل الفني للقصيدة، إلا أنني أرى أن الحداثة الأولى بالذات لا ترتبط كليا بهذا الشكل ولا بموضوعاته، وإن تمظهرت فيه- وإنما بحركة المجتمع الفكرية والاجتماعية والسياسية والثقافية، فشملت مرافق عدة منه بما فيها البنى الخفية من تطوره، ولذلك لا نجد العراق لوحده كان مؤهلا لمثل هذه النقلة التحديثية، فأرضية الحداثة متسعة شملت سوريا ومصر ولبنان وفلسطين والعراق وتمظهرت بأشكال تعبيرية عدة: حركة الإحياء في الثقافة والفكر في مصر، والتي تمخض عنها تيار تجديدي في الشعر والنثر،( أبوللو، والديوان) البنية الدرامية في مسرحة التراث( شوقي). التطور الذي فجرته الأغنية الشعبية( سيد درويش) الوعي اللغوي في الحساسية النثرية( الزّيات) الوعي الديني المتطور كجزء من حركة النهضة العربية( عبد الرزاق) النهوض السياسي والثقافي والفكري بعد ثورة أكتوبر( شبلي الشميّل، نقولا الحداد، سلامة موسى، حسين الرحال) البدء في مواكبة حركة التصنيع العالمية بظهور النفط في البلاد العربية.. الخ. إلا أن ما أصاب العراق من هذه التحولات قليل جدا، وبخاصة في مراحل الحداثة المتقدمة، في حين أن الوعي السياسي الذي نهض به العراق بعد الحرب العالمية الثانية وسقوط الفاشية، كان أثره كبيرا في تحويل المفردات الحياتية اليومية إلى شعر، لعل البدايات الحقيقة لهذه النهضة الثقافية والفكرية نتلمسها في قصائد الجواهري، الرصافي، الزهاوي. حينما جعل الجواهري الحس الجماهيري بالأوضاع العامة وبخاصة بعد نكبة فلسطين حسّا سياسيا، وعندما حاول الزهاوي تضمين قصائده حسا فلسفيا مما حتم عليه تطور مفهوم الكتابة الشعرية فظهر لأول مرة ما أسماه الشعر المنثور.. وقد كتب فيه عدد كبير من الأدباء بينهم، الزهاوي، الرصافي، بطي، عبد الملك نوري، الحقا.. ثم استقام لاحقا على يد حسين مردان.
ومع أن موضوع الحداثة الشعرية الأولى قد عولج نقديا أكثر من مرة-" الشعر العراقي الحديث"، للدكتور علي عباس علوان، و" الشعر الحر" ليوسف الصائغ، و" الشعر الحديث" للدكتور إحسان عباس، و" بدر شاكر السياب" لإحسان عباس أيضا- إلا أنه ما يزال بحاجة إلى تقليب أرضيتها كلما ظهر ما يغير من مسارات البحث تلك. خاصة وأن الفهم النقدي الحديث لم يعد مقصورا على ظهور الشكل الشعري، ولا على قصائد بعينها، وإنما كما أسلفنا يشمل مجالات عدة. وبما أن الحداثة لابد لها وأن تتمظهر بشكل ما يميزها عن سابقتها، وأن هذا الشكل يحدد بزمن ظهور أو نشر القصيدة، وأن هذا الزمن يرتبط بحال اجتماعية أو نفسية للشاعر، وأن هذه الحال محددة بنموذج أو أكثر.. فإن ردها- أي الحداثة- إلى شاعر ما بعينه دون مجمل النشاط التحديثي يعني أنها أشبه بإلهام أتى شاعرا دون آخر، وتمظهرت بشكل محدد للقصيدة دون أي شكل آخر لأنواع ثقافية أو اجتماعية، وارتبط بتاريخ محدد، وبسنة من هذا التاريخ، وأحيانا بشهر من هذه السنة، ثم- وهذا هو الأخطر في الفهم النقدي للحداثة الأولى- أن الدراسات قد شخصت بداية ونهاية للحداثة الأولى، في حين ما، بما فيه الشعر- وهو اعقد المفاهيم الإبداعية: لا يأتي دفعة واحدة أولا، وًلا يقضي على كل ما تقدمه ثانياً.ولا يظهر متساوق الخطوات قريبها ثالثاً.ولا يحتل شكلا قارا دون بقية الأشكال.رابعاً. ولا يقمع كل ما عداه من تحول أو ثبات.خامساً. وإنما يأتي الجديد متباعد الخطوات والأشكال، ولا يحتل موقعا إلا من خلال تدميره الحلقات الأضعف في الأشكال القديمة، وهيمنته على الأشكال الجديدة السابقة له ، بما فيها تلك الأشكال المتقدمة فنيا على سواها. وهذا يعني أن جدلية الحداثة الأولى وأن تمظهرت علانية في أوائل وأواسط الأربعينات، إنما ظهرت نتيجة حتمية لتطور تاريخ أشكال التعبير كلها، بما فيها الأشكال غير الشعرية، كما أنها لم تشهد توقفا وهي في نموها المستمر السابق على الشكل الحديث، لأنها كانت ضمن تركيبة ثقافية- سياسية تملك معرفة قادرة على ممارسة دور لإزاحة الحلقات السابقة، وهذا يعني أن الحداثة ما تزال في مسيرتها، وأن اختلفت أدواتها، وتغيرت سبلها، ويفصح هذا الموقف أن جدلية الحداثة الأولى ليست نهائية، لأنها ليست لها بداية قارة، بل هي تطور لما كانت عليه أشكال التعبير السابقة، وأن كانت ضمن أشكالها الكلاسيكية كما هو شأن شعر الجواهري، وشوقي، والرصافي مثلا، فالشعار تلك كانت تحمل نوى التحديث ولم تظهر بشكلها، على يد نازك، والسياب ثم البياتي وبلند لاحقا، إلا بعد أن اكتملت نماذج ولادتها. فحضورها بأشكال تعبيرية جديدة يعني أنها ما تزال مستمرة إلى الوقت الحاضر، ما دامت تلك الأشكال موجودة، حتى ولو ظهرت ضمن هذه الأشكال ملامح الحداثة الثانية على يد شعراء الستينات، وملامح الحداثة الثالثة على يد شعراء لاحقين.. فأن ملامح هذه الحداثات جاءت نتيجة لتطور مفاهيم، أو بعض مفاهيم الحداثة الأولى، ومن ثم تشذيبها من عناصرها التقليدية، مما سهل للحداثة الأولى أن تتعامل مع الشكل الشعري العمودي لا لتلغيه كلية وإنما لتفجر من خلاله فاعلين الفعلية المفردة وسياقها ضمن بحور معينة. وينطبق هذه المبدأ على ما نشهده اليوم من تبني أشكال تعبيرية جديدة متسعة اللغة والبناء بما ينبئ بحداثة ثالثة عمادها: النص بطاقة قصيدة النثر، وأن هذه الحداثة لم تأتي دفعة واحدة، كما أنها لم تقض على كل مفردات الحداثتين السابقتين عليها وإنما طورت الحساسية اللغوية والبصرية والشيئية فأقفلت الدائرة على بعض مفردات الحداثتين السابقتين فحجمتهما مع أنها- أي المفردات السابق ما تزال حية ومستعمله في قصائد الكثير من الشعراء.. وفي ضوء هذه الحقيقة الجدلية، فأن مفاهيم قصيدة الحداثة الأولى ما تزال مستمرة إلى جوار مفاهيم الحداثة الثانية والثالثة، كما أنها لم تقض على مفاهيم القصيدة العمودية.ز ويمكن تقويمها- أي الأسس والمفاهيم- نقديا ضمن الأسس البنائية التي أنشأها الرواد.

2
الشاعر بلند الحيدري، وهو موضوع هذه الدراسة، زامل فترة الحداثة الأولى، وكتب فيها الحديث من الشعر، ولم يكن يومها مقلداً كما يكتبه زملاؤه من الروّاد، وإنما اختط لنفسه حقل تجربة خاصاً. بدا لأول وهلة انه ضمن مفاهيم الحداثة الأولى المعروفة، لكنه بعد تجارب عدة له، لم يكن ما كتبه كله ينظم للمسرب ذاته، حيث استطاع أن يفرد له أسلوبية خاصة في تلك الحداثة، هي جزء من مناخ الحداثة نفسها، وبقي إلى اليوم ضمن منطلقات ما اختطه برغم أن الكثير من تلك المفردات قد غادرت مواقعها، وجرى تطويرها. فبلند الحيدري يمتلك خصوصية أكثر ثباتا وانضباطا، واقل تطورا فيما يخص منهجه الشعري. فهو لم يشهد قفزات أسلوبية، ولا تطورات مفاجئه وكبيرة، وغنما حافظ، منذ أواسط الأربعينات وحتى الوقت الحاضر، على خط تطوري بطئ ودقيق خاص به، وهذا ما تشهد عليه مسيرته الشعرية كلها بحيث يبدو للقارئ ان بلند لم يتطور كما تطور أقرانه: السياب والبياتي، كما أنه لم يتخل عن منطلقات الحداثة الأولى كما فعل شعراء لاحقون مثل: صلاح عبد الصبور، وأودنيس، وسعدي يوسف، ونزار قباني، وإنما بقي ضمن مناخه يطور أدواته المعرفية بما يخدم الشكل الفني الذي يعتمده مخلصا لفنه، مطورا معرفته بالشكل ومكتشفا لموضوعات ما كان للحداثة الأولى أن تتعرف عليها. وعندي شاعراً يعتمد التشديد على إيقاع المفردة، وما تبع هذا التشديد من ضبط دقيق وصارم للإيقاع والوزن ومن ثم إبراز ثيمة الأصوات المتعددة داخل بنية القصيدة الغنائية، وفي وقت مبكر جدا، ثم مطور لهذه الثيمة شعريا ودراميا دون أن تنتقل إلى الدراما والمسرح، يعني أن بلند الحيدري أكثر الشعراء تمسكا بمنهجية الحداثة الأولى، ومن ثم يطور أدواته ضمن مساراتها التي ما تزال منفتحة وقابلة للتجديد، دون أن يكثر من اللعب الشعري والتحولات اللا منهجية مما يعني سقوطه كما سقط الكثير من الشعراء،أو مداورته للقول الشعري ضمن مفاهيم محددة وقوالب جاهزة كما يفعل زملاء له من شعراء العربية. فأنت تقرأ ديوانه الأول:" خفقة الطين" 1964 ، فتجد فيه حداثتان: واحدة مجايلة لزملائه الرواد وغن لم تسبه قصيدته قصائدهم، ووجه الشبه، هو اعتماد التفعيلة والموضوع الجديد،وأخرى خاصة به سعى لتطويرها لاحقا وهي الخاصة بتعددية الأصوات وهذا ما ميزه عن أقرانه من الشعراء مما جعل هذه الحداثة، إحدى خصوصيات مسيرته اللاحقة على تجربة ديوانه الأول . فبلند الحيدري كاي شاعر يشعر بالتجديد حاجة يمتلك حساسية البناء الحديث من خلال تجاربه الذاتية وليس من خلال قراءته لأشعار الآخرين، كما أن ثقافة المحافظة، وطريقة تعامله مع الأحداث الاجتماعية والسياسية، والعيش في بيته شبه أرستقراطية جعلت منه شاعرا أكثر محافظة على وعي الجديد من القفز بالتجديد- وهذا لا يعني أنه يكتب كما لو كان شاعرا عموديا، وإنما يعني أن الحداثة الأولى للشعر لا تعرف شكلا واحدا للتعبير، ولا منطقة خاصة للإبداع، ولا طريقة قول متشابهة، ولا موضوعات محددة، وإنما كانت ثورة على أصعدة مختلفة استوعبتها أشكال تعبير مختلفة أيضا حتى ضمن القصيدة الواحدة. من هنا يمكننا القول أن بلند الحيدري أحد رواد الحداثة الشعرية الأولى، وبقي ضمنها مطورا أشكال تعبيره الخاصة برغم ما أصاب هذه الحداثة من نقلات جوهرية على يد الشعراء الآخرين. أما ميدان خصوصيته الشعرية، فهذا ما سنحاول دراسته هنا.

3
ما نعينه بالخطوة الرابعة في الحداثة الشعرية الأولى امتيازا لبلند الحيدري هي ما ذهبنا أليه: التشديد على فاعلية الإيقاع الداخلي والخارجي للقصيدة، مشفعا بالضبط الوزني مع الاعتماد على منطق المحاورة الداخلية بين الأنا والآخر كجزء من بنية درامية للصوت الواحد. وهذه الميزات بدأت في أولى تجاربه الشعرية وما تزال وهاذ ما ميزه عن أقرانه في المربع الشعري العراقي حيث قامت الحداثة الأولى، حيث قامت على فاعلية هذا المربع وليس على أحدهما دون الآخر، حتى ولو تأخر إنتاج أحدهم عن المرحلة التي ابتدأت بها تلك الحداثة.. وقد يحدث أن يطور أحد الشعراء اللاحقين بعض الجوانب التي لم يدركها شعراء الحداثة الأولى، في تلك الحداثة لاحقا،ولعل هذا ما فطن أليه شعراء الحداثة الثانية فأقاموا صرح نتاجهم على المناطق التي لم يطورها شعراء الحداثة الأولى، فالحداثة الأولى ابتدأت ولم تنتهي بعد، وحقولها الشعرية كليات ومطلقات وإن سميت بأسماء وحالات محلية. فالسياب وهو أحد أضلاع المربع فجر التركيبة الداخلية للوزن- وغن قيل لاحقا نازك الملائكة هي الأكثر حداثة في هذا الموضوع- هذا ما كتبه الشاعر حسب الشيخ جعفر أولا ثم سامي مهدي ثانيا- فاعتمدها طريقة التحديث، بينما اعتمد البياتي، وهو ثالث ضلع في المربع الشعري التحديث الحياتي والاجتماعي طريقة للتأليف في بنية القصيدة الحديثة، وهذا ما جعل ناقدا كبيرا مثل إحسان عباس أن يجعل البياتي الرائد الحقيقي للحداثة. في حين زاوجت نازك الملائكة بين صرامة الحكاية في بنية القصيدة مشفوعة بوعي نقدي صارم في الخروج على إطار الشكل الشعري السائد مع البقاء ضمن أطره الخليلية. أما بلند الحيدري فقد كان- وهو الضلع الرابع في المربع الشعري- مجاورا لزملائه، مبتدئا بخصوصية أسلفنا على إيضاح مفرداتها.
وإذ تتسع دوائر التحديث لاحقا بهؤلاء الأربعة، حيث طور السياب موضوعه فيضمن قصائده بعدا شعبيا وسياسيا وأسطوريا، خارجا بقصيدته على الاهتمامات اليومية موضحا أن معانات الأمة ذات جذر تاريخي أسطوري، نجد دائرة نازك تضيق فتضغط عليها الإيقاعية القديمة، وتبدأ بتنظير للحداثة بدا أكثر صرامة من الحداثة نفسها، ففلتت قصيدتها من دائرة التنويع المستمر لتعود إلى صرامة الإيقاع والتمسك بالوحدة الداخلية للبيت كما لو أنها أنكرت على نفسها بدء ثورتها التجديدية. أما دائرة البياتي، فبدأت بالاتساع لتضمّن قصيدته موضوعات الغربة والمنفى والموت والصراع مع السلاطين، خاصة بعد أن بدأت متغيرات الحياة السياسية تمارس ثقلها في القمع.. وهي نفسها الممارسات التي استجاب لها السياب فانجرف في تياراتها فما كان منه إلا أن بدأ بكتابة نثريات لا ترقى إلى مستوى المواجهة أو الإنزلاق. ففي الحين الذي يستعير البياتي الرمز التاريخي المشبع بميثولوجيا شعرية تأويلية، نجد السياب يقع تحت تأثير المرض ومعاناة الجسد والغربة.. في هذه الأحيان بدأت دائرة بلند الحيدري تحدد هويتها، فخلال مسيرته الشعرية لم يرفع بلند عينيه عن مشكلات الوطن، مع الاحتفاظ بمحورية الأنا ضمن صراعاتها المستمرة، مما تطلب الموقف الجديد له إلى فتح محاور جدال مستمرة مع الآخر، الذي كان مجهولا وبلا أسم مرة، الإله مرة أخرى، والسلطان الحاكم مرة ثالثة، ثم مع المدينة ومظاهرها من سجن ونفي وموت وغربة مرة رابعة.
وإذ تتداخل الدوائر الأربع، فيستعير أحدها من الآخر، كما حدث بين البياتي والسياب، أو يطور أحدها ما لم يكتشفه الآخر في المنحى ذاته، كما حدث بين السياب ونازك. فذلك يعمد إلى أن الحداثة نفسها كانت تجوس ميادين مختلفة ومنهجيات افتراضية متباينة، وبدا من الصعب قياس أبعادها بنموذج يكتبه شاعر دون الآخر، أو بديوان دون جملة دواوين. فقد اكن فعلها فعلا حضاريا بمعنى أنها أي-الحداثة الأولى- أسست في الميثولوجيا رؤية ولم تسر فيها طويلا، وعاينت الواقع معاينة يومية ولم تؤدلج فيه، واقتبست من الحياة اليومية رؤية ولم تتقصها. كما وضعت للتراث رؤية وغن كانت محددة بنماذج ثورية وبأحداث معينه، وبدت أن ثورتها في الإيقاع لم تهدأ فاتسعت دائرة البحور المستعملة، ودخل الطويل إلى جوار البحور الستة الصافية الإيقاع. ولذلك بدا من الصعب بمكان أن نحصر الحداثة بإنجازات مرحلة، وخاصة الإنجازات الناجحة منها، وننسى الفاشلة، أو أن نحددها بقوالب فنية دون اعتماد الحرية في الإيقاع منهجا تحديثياً. وقارئ شعر الجواهري مثلا، وبخاصة شعره في الخمسينيات والستينات يجده حديثا في استعارته ومجازاته وبلاغته وموضوعات وأن بقي ضمن العمود. فالجواهري استعار من التحديث ثورتهن ولأنه شاعر متمكن ضمن كل موضوعات التحديث البنية العمودية لقصيدته . فنجده وقد أهتم بالرومانسية، الثورة والحب، وحرر القصيدة من وحدة البيت، وجعلها خاضعة لوحدة الموضوع، وصير حالاته النفسية والاجتماعية- وهي كبيرة- موضوعات حديثة، ولذلك بدت حداثة الجواهري حداثة اجتماعية قبل أن تكون حداثة في بنية الشكل الظاهرية.. أقول أن مفهومنا للحداثة الأولى ما يزال يشوبه الاضطراب والتشويش، وهذا ما يجعل أي إنجاز نقدي لمفاهيم الحداثة الثانية أو الثالثة مضطرب، وإذ نذكر الجواهري- عرضا هنا- نذكر شوقي في مفهومه لبنية الدراما والرصافي وعمر أبو ريشة وشعراء العمود الآخرين الذين أحدثوا ثورة التحديث مع بقاء الشكل القديم..
لعل الحصري أحد أهم الشعراء الشباب الذين أقرنوا ثورة التحديث بالقالب الفني للقصيدة القديمة.

4
تقوم دراستنا لتجربة بلند الحيدري الشعرية على اعتبار أن دواوينه الأولى بنية الأساس لبقية أبعاد التجربة. ولذلك ستكون لنا وقفة متأملة عند ديوان" خفقة الطين" 1946، فإذا كان هذا الديوان قد لقي تقييما نقديا، وبخاصة تقييم السياب له فأن ذلك يعد شاهدا على رفقة ريادية مما يعني أيضا أن قصائده تعلن عن مسار شعري يفصح عن تعمل محتدم داخل مناخه ومرحلته، نتلمس خطوطها العامة في التزاوج بين رومانسية ما تزال محكومة بقاموس لفظي وشعري ضمن مناخ قديم لها، وبين واقعية تفصح عن محورية للأنا متمركزة في صلب الحدث وهي تكشف بحساسيتها عن بعد مأساوي تشربت به مناخات قصائده. مما يعني كذلك أن لا رومانسية مكتملة ولا واقعية متشددة محكمة، وإنما يوشي التداخل بينهما عن تردد الأنا. وهي تجوب بين مواقع ذاتية وأخرى اجتماعية. ولعل هذا التجوال يعد أهم خصيصة منهجية من خصائص الريادة الشعرية الأولى. وحداثة بلند من هذا النوع المتباطئ، فهي ذات شكل حديث إلا أن موضوعاتها مألوفة منذ زمن، وهذا ما جعل القصيدة في هذا الديوان تلتزم، وبشكل صارم، الوزن وإيقاعات اللغة الداخلية وفي الوقت نفسه تتمرد في ذلك على الإيقاعية بفاعلية التكرار والجملة الشعرية.


سكر الليل
باللظى المخمور
واقشعرت معالم الديجورِ
وسرت نسمة
فهشّ ستار
واستخفته ضحكة التغريرِ.
من الواضح أن سياقا وزنيا منضبطا، وثمة قافية قارة، ولكن الشاعر يلجأ لاحقا إلى إحداث تغيير في مسرى السياق العام بالمحاورة، والمخاطبة، فالسياق السابق سيؤدي إلى الرتابة وإقفال الموضوع. عندئذ لابد من خروج على الإيقاعية الداخلية.

سميراميس، ذياك الذي أدريه عن قلبكِ
سميراميس، من هذا الذي يغفو إلى جنبكِ؟
يتضح من المقطعين السابقين فعالية الجملة الشعرية [ سكر الليل باللضى المخمور]، واعتماد واو العطف للتكرار، في حين يكثر السؤال الحواري في المقطع الثاني، وإذ يعود الشاعر في القصيدة نفسها إلى الطريقتين بالتناوب، نجده يلتزم سرد أسطورة مفادها أن أبنها هو الذي يغفو جنبها، وجريمة الأم في عرف الشاعر أكبر من جريمة الابن ما دام الشاعر يضع نفسه سائلا، والأم مسؤولة، أما الابن فقد كان حشوة في نظام السؤال. فما كان من الشاعر إلا أن اسكن الابن مرتعبا في حين أصبح هو صمتا وليلا ووعاءً يفرغ شهواته.. بمثل هذه الوحدة البنائية المركبة كان يفكر الشاعر يوم ذاك.. أي في عام 1946
ليست لدينا قدرة كافية للربط المنهجي بين القاموس الشعري لرومانسية بلند الحيدري يوم ذاك- أوائل الأربعينات- وبين البنى الاجتماعية والسياسية السائدة في المجتمع العراقي، لكننا نشير إلى أن مؤشرات الحداثة الأولى اللغوية والفكرية كان أكثرها ارتباطا بالمجتمع ومشكلاته السياسية والذاتية. فالسياب مثلا، والذي أدت بشاعريته حاجة التحديث إلى البحث عن افق ماركسي مبكر، نجد نازك تنزل بشاعريتها إلى المواقع الأسرية، وآليات الحياة العادية، في حين يغور البياتي المنحدر من بيئة وسطية في المفردات الأكثر صخبا: التمرد والثورة، والبحث عن اليقين المفقود في الأشياء.. ونجد بلند المنتمي إلى أسرة بغدادية عريقة شبه برجوازية يتصدر تظاهرات الشارع معلنا تمرده على النظام، برومانسية مشبعة بموقع الأنا، وهي الرومانسية التي أفرزت في ديوانه " خفقة الطين" قاموسا اصطلاحيا نشخص فيه مفردات مثل : الشاعر، القلب، الكوخ، الظلال، الموت، المرأة، الليل، الطين، الحب، الذكرى، الأحلام، الحزن، الفقدان، العدم،.. الخ، ولو أمكننا أن نحلل دلالات هذه المفردات بعلاقاتها الاجتماعية والثقافية لأمكننا تشكيل رؤية لنوعية الوعي الذي يعتمده الشاعر يوم ذاك، ولوجدنا أن الحداثة الأولى للشعر كانت تعني لدى الفئات الاجتماعية تحولا في الحساسية قبل تحولها في الموضوع وفي الشكل ، وهذا ما يجعل ميادين دراسة هذه الحداثة متسعة خاصة ‘ذا فهمنا أن لكل رائد من روادها موقعه الاجتماعي والنفسي والسياسي، وأن هذه الحداثة كانت من السعة بحيث شملت هذه المواقع، وفرزت عنها أيضا, من هنا نجد ثمت تبرير منهجي واضح لظاهرة الأكثار من الكلمات المشددة- والمضعفة- في قاموس بلند الشعري وهذا ما يفرض حضورا مرئيا لضمائر المتكلم وبطريقة توكيدية تدور على محور العلاقة بين الشاعر والموضوع وظاهرة التشديد/ الأنا، بقيت ملازمة له طوال رحلته الشعرية وكأنها ضبط إيقاعي آخر يضاف إلى صرامة التزامه بالوزن. ومنها ، كما سنرى لاحقا، فحوى توزيع الصوت الواحد إلى أصوات عدة،متخذاً طريقة المحاورة تارة، والمجاذية بالكلام تارة أخرى.ولعل هذه الظاهرة تتجسد أكثر في شعر نزار قباني مثلاً، ويعمد بلند إلى اعتماد قافيه تكاد تكون قاسماً مشتركاً لعدد من دواوينه متشابهة، تنتهي غالباًً بـ "ي، ق، يه، م، مي". وهذه اللازمة النفسية للشاعر مبعثها هيمنة الصوت الداخلي وقوته، وحضوره الكامل في كل زوايا الرؤية، مما يعني أن الخطاب الشعري لبلند يصلنا عبر رؤية الأنا في مواقعها المختارة مسبقا، ولعل هذا التصميم المسبق للقصيدة يقلل من فاعلية البنى الاعتباطية والعفوية التي تركن أليها الكثير من هواجس الإبداع الذاتي.
ولبلند الحيدري حس مبكر بالفواجع والأفول، وكأنه وهو يبدأ خطراته في هذا المجال يعيد لنا حسا مأساويا غائرا في الذات الفردية والجماعية، فهو لا يتعامل إلا مع الأحداث التي حسمت، فكأنها بقايا معلمة، ورسوم فوق خارطة زمنية، ففي" خفقة الطين" وبقية دواوينه ينمو الحس بالفاجعة الشخصية حتى أصبحت إحدى الثيمات التي رافقت الحداثة عنده.
ويمدنا التعامل مع المناخ المحبط بثلاثة تصورات منهجية للكتابة الشعرية: الأول، أن الوشيجة بين شاعر رومانسي وبين الأحداث الآفلة من القوة ما يجعلها محورا للغة تبدو أكثر ارتباطا بالماضي.

كل آمالي تلاشت
مثلما يتلاشى النور عند الغسقِِ
وتساوى الليل عندي
والضحى
ربّ ليلٍ فجره لم يفقِِ
أجرع الحزن كئوسا
كلما، أفرغت أترعتها من أرقي.
الثاني، أن أنا الشاعر تصبح أنا مصلحة، وثورية في آن معا، وتعاملها مع الحدث تعاملا شخصيا، والحدث مهما كانت موضوعيته تعيد إلى أنا الشاعر بضمائر التملك الماسكة به.

وددتُ لو حطمتها
لو دستها
لو أنني قتلتها
وددتُ لو جبلت من عظامها
مرآتي المحدبة
أظل فيها مبحرا تحملني أشرعتي
حكاية أجمل ما فيها.. أنا
الثالث، هي أن هذه الأحداث المأساوية، والآفلة تمتلك أرضية جماعية، مما يعني أن لغته الشعرية ستحمل هما جماعيا، أو إيحاء بالانتماء إلى الجماعة، كما أنها دالة على سوء وضع واكتشاف مجهول. وأن هذه اللغة من الممكن أن تصبح لسان جماعة.

نزت الآثام من عمري
فثوري
وأرقصي نشوى على قلبي الكسير
مضغ الحزن شبابي
يافعا
فامضغي بالشهوة القصوى مصيري
لستُ أهوى جنة الله.. ولا
أتمناها رجاء في شعوري.

5
ستتسع لغة ديوان" خفقة الطين" في مسيرته اللاحقة بعدما يضيف عليها جديده لاسيما وأن ديوانه الثاني" أغاني المدينة الميتة" قد صدر عام 1951 أي بعد خمس سنوات من " خفقة الطين"، وأولى الملاحظات، أن عنوانات قصائده مالت إلى التجريد، فقد احتوى الديوان سبع عشر قصيدة بعنوانات مفردة، بمقابل إحدى عشر قصيدة في ديوانه الأول، ويعكس هذا انطباعا أكثر بالتركيز والاختصار، فالعنوانات استهلال أول يتضمن معنى مضمر للقصيدة، ولم يقف الأمر عند العنوانات المفردة، بل أن استهلالات القصائد في هذا الديوان، شهدت هي الأخرى تطورا في البنية فقد تضمنت وبوضوح النوى الفعلية لمعنى القصيدة، كل استهلالاته تتضمن معنى الموت والوحدة، والغربة، إلا أنها من حيث البناء تعد متعددة، حيث يحكمها منطق الجملة المولدة، والكلمات المتعدية، ولذلك عمد الشاعر إلى التطويل كجزء من بنية الخبر إذا ما اعتبرنا الاستهلال ابتداءً.

شتوية أخرى
وهاأنا
هنا
بجنب المدفأة..
فقد تضمن الاستهلال ثلاثة عناصر بنائية فاعلة: الشتاء والمدفأة، والشاعر. وكل مفردة منها سوف تتسع داخل النص مولدة صورها المكملة، حيث الشتاء يعني قسوة الخارج ودفيء الداخل، وحيث الأنا يشدها الجلوس والذكرى، وتعطي نار المدفأة توازنا شعريا بالأمان لاسيما وأن مثل هذه الحال تدفع بالصور الشعرية إلى أن تصبح تعويضا عن حرمان ما. لعل الأحلام إحدى السبل لفتح كوة في هذا المكان المدفأة.. لاسيما أن عنوان القصيدة " شيخوخة" يدفع هو الآخر أحاسيس الوحدة إلى التوزع والتنوع.

بالأمس إذ كنا صغار
كم كانت الدنيا صغيرة
يتضمن استهلال هذه القصيدة عناصر ثلاثة أيضاً: الفتى/ الشاعر/ الدنيا. والكل مشمول بالصغر، وضمنا ثمت ماضٍ، وقد عبّر عنه الشاعر بالذكريات والدروب المعتمة. والاستهلال الناضج، هو الذي يحتوي أبعاد القصيدة، ويتوزع على مفاصلها.فقد تكررت صوره خمس مرات داخل النص ما زلت اذكر- ما أصغر الدنيا- مازلت أذكر- تعود ثانية- كم كانت الدنيا صغيرة.. ومن الواضح أن الشاعر في هذه التجربة أكثر نضجا، وفهما لمعنى الحداثة، وتؤكد ذلك مفردات قاموسه الشعري التي بدت هذه المرة، بعيدة عن الرومانسية، فالعنوان هو " أغاني المدينة الميتة" وهذه الأغاني تفرز مناخها المأساوي، لذلك لا نعجب إن كان الموت والماضي يغلف كل التجربة. مما فرزت مفردات قاموسية له عمادها: الوحدة، الحارة، المأساة، المرأة، البحر، التشاؤم، الفقدان، الندب، القرية، الطيف، الدروب الموحشة، الظلال، الرمال، الرؤى.. الخ مفردات كلها جديدة، ومؤكدة من خلال بعدها الاجتماعي، ترى بماذا كان يرثي بلند المدينة؟ وأية مدينة؟ لا شك أن بغداد في العمق من هذا التصور، وأم المرحلة هي بداية الخمسينات حيث المجتمع يشهد نهوضا سياسيا بعد نكبات عدة : 1948 في فلسطين، وثبة كانون 1948 في العراق أيضا، اضطرابات عمالية عدة في سوريا ومصر.. من هنا يظهر البعد السياسي في هذه الأغاني، وبرغم أن الشاعر ما يزال مركزا في هذه المآسي، إلا أن حسه الاجتماعي أفرز لشاعريته مساحة جديدة . لعل ميل الصورة الشعرية إلى اعتماد المفردة بدلا من الجملة أحد هذه المؤشرات، فقد بدأ الشاعر يركز بصره وذاكرته، وبدت القصيدة تتكثف في مناخ خاص، كما في قصائد " دروب" و" ثلاثة علامات" وغيرهما. والتركيز على الكلمة المفردة، يعني كذلك بدء فاعلية النغمة الضربة، والنغمة الدالة، مع أن القصيدة بعامة ما تزال خاضعة لذلك المناخ الوزني الصارم، وتلك الحالات المشددة، وعموما فالمدينة في عرف بلند موضع سخرية ومجافاة، لينهض بدلا عنها القرية والحارة.. هل هي رومانسية مشبوبة بحس الريف؟ أم أن التعويض قائم بين مدينة مكبلة بالسجون والموت كمركز للسلطة، وقرية ينشدها الشاعر أمانا ومكانا للدفء والمواءمة. وهذا ما يتعمق ثانية بكثرة نشدانه الصداقة، واللفة، والناس البسطاء والحالات الأكثر اجتماعية ويعني ذلك أن الشاعر في هذه المرحلة كان يقترب من عامة الناس ومن مشكلاتهم، ويرى في حركاتهم اليومية ومشاغل حياتهم صورة لموقفه الوطني.
إلا أن النقلة المهمة في تجربة" أغاني في المدينة الميتة" هي تحول رمز المرأة، فلقد أصبحت هنا قضية بعدما كانت كيانا أنثويا مغطى برومانسية شاعر يحب، وكيانا مسحوقا تحت فعالية الرغبة الجسدية. المرأة هنا موقف ولغة في الحداثة، وبنية معرفية، وكائن له حضوره الاجتماعي والسياسي، وإنسان يشارك ويتفاعل، فقد بدأت جزء من الحوار، حيث اتخذت صفة المحاور الذي يمتلك خصوصيته، بعدما كانت رغبة تفرز كلماتها على لسان الأخر.
النقلة الثانية في فنية هذا الديوان، هي البدء بتوزيع الصوت الواحد، وهو غالبا صوت الشاعر، إلى أصوات عدة، ولكن من داخل بنية القصيدة، فهو لم يستعد بعد فنيا لأن يوزع الحدث دراميا وإنما تعامل مع التعددية من خلال توزيعات هارمونية للصوت، وما محاولته اللعب بالضمائر إلا طريقة لتأكيد هذا الانشطار الداخلي للنص. أما هوية هذه الأصوات، فقد اتخذت أسماء مثل: القرية، المدينة، الليل، الفتاة، وكلها تستعير ضمير الأنا وتؤكده:

*أكاد اجن يا نفسي
أ أنت ؟
أ أنت يا حسي
أهذا العالم الانسي- الذي القى به
المهدُ
ويطوي شعثه اللحدُ
هو الصارخ.. يا عبدُ
* يا ساعي البريد
ماذا تريد
أنا عن الدنيا بمنأى بعيد
أخطأت..
لا شك، فما من جديد
تحمله الأرض لهذا الطريد.
نجد في تجربة بلند الشعرية توقا إلى تحرير الذات من قيودها الماضية، هل يعني نشدان الحرية تشخيصا لموت المدينة؟ أن فاعلية الآخر الذي المحنا أليه ممثلا بالمرأة أو القرية، هي فاعلية الملجأ أو الموقع الذي يمكنه الوصول أليه نجاة من عسف الظلم، وحقيقة المواقف هذه تدل على أن المرحلة التي شخصها ديوانه" أغاني المدينة الميتة" شبه مأساوية أفعالها المعلنة تدل على تاريخ من العسف والاضطهاد، ولذلك شابت لغته الرومانسية المحلقة سابقا نوع من الركود أو الرسو على أشياء الواقع، وبدت الحياة أمامه كما لو أنها أكثر هدوءً، وعودة على قاموسه الشعري يؤكد أن ما ذهبنا أليه هو حصيلة هذه المفردات المشخصة والقادة.

6
في خطواته الثالثة" خطوات في الغربة" الصادر1965، نلمح ثلاث اتجاهات أساسية تتقاسم قصائد هذا الديوان.. صدر الديوان بعد خمس عشر سنة من ديوانه الثاني، ويعني هذا أن بلند قد راقب فنه الشعري طويلا، وأنه اختبر مواقعه واختبر الواقع، فكان أن هاجر عن العراق بعدما اشتدت أوضاعه وساءت حال الثقافة والمثقفين وقُتل وشرد عدد كبير منهم، فأحداث شباط1963 كانت حاسما بين مرحلتين قارتين للكثير من القضايا.. وبلند الذي عرف انتماءه الوطني لقضايا المجتمع والثورة والتقدم، يجد نفسه أمام تناقضات لا حد لأبعادها فوقف فنيا كما وقف فكريا وديوانه " خطوات في الغربة" حمل كل هذه الوقفات:
فسجننا أعمى بلا كوّة
ودربنا يوغل في الهوّة
ونحن لا حول لنا ولا قوة
لقد سيطرت على الديوان فكرة العماء التي تقاسمتها قصائد عدة، فنقرأ صورا منها.
( المصابيح المطفأة- الأرض الصماء كالصخرة- العيش بلا ظل- أحلام تموت بلا غد- البيت الحزين- الدنيا المظلمة- الأحلام السود بلون الدخان- السكون الناعب، والبيت الغارق في الظلمة.. الخ).
وتفصح هذه الصور- والشاعر خارج الوطن- عن المعادلة التي يخرج بها الشاعر ذات طرفين: واقع مرّ وقد امتلأ سجونا وقتلا وظلما، وأحلا مسافرة تقال لغة ومناشير ووعود، ولذلك لا أمل عند الشاعر في تغيير الوضع.
إلا أن جدلية البنية الثنائية عماء/ ضياء تفرض على الشاعر أن يقول قصائد- وهو في الغربة- توحي بالأمل، إلا أنه الأمل الذي يأتي على لسان " الأنا".. وهنا يعود بلند إلى تأكيد صوته الذاتي ثانية ولكن بلا دراما، بلا توزع أو انشطار.. فنقرأ.
(لا ما انتهيت- سوف نرى الصباح- استيقظت كرومنا- ستشرق الأنوار من بيوتنا- أريد أن أغور في شوارع مزدحمة.. الخ).
ولم تقف ثانية العماء/ النور، عند حدودها المعلنة، فالشاعر يرى في تداخلهما ثمت موقع ثالث يجمع بين الاثنين وينفرد، إلا أن هذه المواقع ليس له ، أو لصوته، أنه للآخر الذي أصبح هذه المرة شخصا أو حزبا، أو فكرة، أو أملا مجسدا.. والآخر الذي يعنيه بلند لا هوية واضحة، ولا أسم.. فنقرأ.
( بالأمس مرًّ من هنا- قال لنا شيئا ومرَّ- أنا أن رجعت غدا إليك قد ترجع نبرة حزن في صوتي- لابد أن يأتي فقد جفت من النزف الجراح- ما دام في الدنيا غد.. الخ).
لقد جرت تحولات جذرية على شاعرية بلند في هذا الديوان:
أولاها: أن البعد التشاؤمي الذي اتسمت به قصائده السابقة عليه، قد تحول إلى بعد مأساوي، فلقد جسدت الوقائع والأحداث ما كان يستشعره سابقا، ويعني هذا أن اللغة الشعرية لم تتخلص كليا من نغمة الحزن والغربة والوحدة، إلا أنها بدت أكثر رسوا على الواقع، وأقرب منها إلى العلن منها إلى البوح، وأنها شحنت بمناخ مرحلة، وأنها كذلك حملت لغتها الاحتجاج والرفض والمواقف.
ثانيتها: أن صوت الشاعر الأنا، لم يكن سائدا في كل القصائد، صحيح أن بلند لم يتخلص كليا منه، ولكنه جاوره بأصوات أخرى، ويظهر لنا صوته صافيا، متوحدا، فالغربة ليست إلا إحساسا بالوحدة حتى ولو كانت ثمت جماعة، كما أن صوت الأنا قد تخلص من الدرامية، ومن التوزيع وكأنه أصبح محاصرا، بالوقائع، ومحاطا بصفاء اللغة المؤكدة على فاعلية الأنا في مرحلة مضطربة.
ثالثتها: أن الآخر الذي كان قرية، وبلدا، وشخصا، ووطنا.. الخ، قد أصبح لغة سياسية، وبعدا أيديولوجيا ، وتشخيصا لحزب أو لفئة، وهذا يعني أن الآخر لم يعد مجهولا، ولا فكرة مبهمة، إنما هو قضية تحملت أكثر من سواها ما حل بالعراق.
لم تكن هذه التحولات على البناء الفكري، وإنما على مستوى البناء الفني، فقد أصبحت قصيدته أكثر صفاء، وقل فيها التشديد، وتنوعت التفعيلات واتسعت دائرة الموضوعات، ففي الديوان عدد من الأفكار الجديدة، والموضوعات المختلفة مما يعني أن الحساسية الشعرية عنده بدأت تتعامل مع مواقع عدة.
هذا
أنا
- ملقى- هناك حقيبتان
وخطى تجوس على رصيف لا يعود إلى مكان
من ألف ميناء أتيت
ولألف ميناء اصار
لا…
ما انتهيت
ومن الطريف أن هذا المقطع وسواه من قصائد بلند والبياتي كانت تغنى في جلسات الأدباء معمقين بها حال الاغتراب الذي يعيشه الأديب في فترة الستينات وما بعدها. ولعل البعد الغنائي لهذا المقطع يجسد معاناة أوسع، تلك هي التصاق الحداثة الشعرية بمجالات خاصة بدت في الستينات أنها معاناة اجتماعية.

7
في ديوانه الرابع" رحلة الحروف الصُفر" ببيروت عام1968، حدث تطور جوهري على صعيد البنية الفنية للقصيدة، فبالإضافة إلى أن قصيدته فيه لم تصبح انعكاسا لحال، ولا ترديدا غنائيا لتجربة مفردة، ولا تجسيدا لوضع مأساوي سابق، وإنما تحولت إلى توظيف الحكاية بإطار درامي فكانت المحاكاة لأفعال أسطورية( أوديب) ومن ثم تلبيها أحداثا واقعية عن طريق الجوقة وصوت الشاعر بمثابة ترديد شعري ينهض به حال قديمة بأثواب معاصرة منتقلا بأدواته الفنية من أطرها الحكائية البسيطة التي كانت تتحكم بمسار النص إلى إطار درامي شعري تتوالد فيه الأحداث وتداخل الأصوات وكأنها ترنيمة معاصرة لجوقة عراقية شهدت على أرض الستينات أحداثا جساما.
وأهم ملامح تطور قصيدته في هذا الديوان، أن كل قصيدة جيدة ابتدأها باقتباس لقول من رسائل له أو منه، والاقتباس بحكم الضرورة يمثل استهلالا معلنا، فهو تعميق للتجربة السابقة في التجربة الجديدة. وهو توصيل ما لحق بما سبق، ولذلك لم يأت عند بلند بمثابة عنصر اتكاء.
في هذا الديوان تبدأ قصائده بالرسو على الأرض مشبعة بوجدان شاعر أحس أن حدث في العراق من أحداث جسام لابد وأن تجد صداها في بنية القصيدة الحديثة، ولما كان اليأس قد أتخذ شكلا مأساوية تحددت عند بلند هوية المخاطب، أو الآخر، وفي الديوان- إضافة إلى اقتباسات ومعظمها من رسائل بين اثنتين- نجد( الآخر) يتدرج؛ فيبدأ بـ ولدي، ثم الأم، فالجد، وصولا إلى الصديق، ثم مظفر النواب، وأخيرا الإله.
الليل
قد يمرّ يا صديقي
ولا يجيء الصبح
مت يا ولدي
مت في الساحة يا ولدي
كن دربا للوطن
هل لي أن أحلم يا مدينتي
بالرجوع..؟
لدارنا المطفأة بالشموع.
ياجدّي
قل لي: هل لي أن أبعث في يوم ما.. في
زمن ما؟
هل لي ابعث في أمسك؟
أن أولد ثانية في فرحة عرسك؟
في حلم أبي المتنسك؟
أ صحيح يا مظفر
أن غصنا طمرته الريح في الصحراء
أخضر..؟
أوديب:
مهجور كالليل أنا
كالصمت أنا مهجور
آه لو تدري ما أطول رحلاتي في صدري

في كل هذه المقتبسات نلمح ظاهرة الخطاب ، الرسالة. فاللغة متوجهة من شخص إلى شخص، وفيها نغمة التبليغ، والأخبار. لعل المقتبسات التي تقدمت قصائده قد أثرت نثريا على تحديد المرسل والمرسل أليه مما طبع الرسالة بأن تكون ذات هدف شخصي، فالمخاطبة الوجدانية تستدعي حالة معتمدة على أرضية ليست متصورة او وهمية، أرضية واقع منهار، وآفل، من هنا اصبح الرسالة ضرورة لأن تستدعي طرفيها المرسل- والمرسل أليه، على درجة عالية من اليقظة والحيطة. ولهذا نجد الشاعر يطلب من ولده أن يكون دربا للوطن، وتأمل أناة بالعودة إلى العراق بعد قطيعة سنوات، وأن على" أوديب" أن لا يكون مهجورا أو منبوذا، فالمدينة التي فك الرقية عنها تستدعيه ولكن ليس بأهبة محتل وإنما بهيئة مناضل… على هذه الأرضية إنشاء بلند مراسلاته، فهي التميمة التي تلازم كل مغترب عندما تصبح الرسالة أكبر من لغتها فالمعنى كامل العنوان وفي الانتقال وليس في المادة التي فيها.
في قصائد بلند هذه ثمت بعد سياسي معلن ومضمر معا، برغم الغطاء الرومانسي وقد اعتمد خلفية فعالة في اللغة، فالشعر ظل لواقع يقول، هذا ما يوحي به ديوانه" رحلة الحروف الصُفر" والقول هو رحلة، وقد يطول ليل الرحلة وقد لا يأتي، فالشعر منذ أن عرفناه جاهليا وعباسيا صدى لواقع ملتبس مغلق، يكون القول فكا لرقية هذا الواقع. ولا نستغرب أن تصبح الغرابة موتا، ولكنه ليس مثل الموت قرب الدار" فالموت قرب الدار حياة" ولكن ليل الغربة مخيم كثيف الظلام، وليل أثر ليل يمر وليس ثمت صبح يأتيه، هذا ما يقوله أيضا " مكبث" شكسبير" طويل هو الليل الذي لا يلقى النهار"
في أبعاد الرحلة نلمح أيضا فعالية المغاوز، والمساحات، فتصبح الرسالة المكتوبة أقوى عندما تختصر هذه المسافات والزمن.. أما رسائل الشاعر فكتبت لا لتُرسلن ومن ثم تصل فتنطفئ. أنها تضيع في هذه المسافات وتحترق، ومن رمادها يوقد الشاعر، والمرسل إليه الذكرى بالكتابة، أما المكتوب فيها، فهو الشعر الذي يصبح ملكا لقارئه، ومتجددا كلما قُريء ثانية، ورحلة لم تصل طرفاها بأسلاك أو برسالة ما رحلة ما تزال منفتحة على الطرفين..
وفي أبعاد الرسالة أيضا، ثمت ألغاز، قد يكون المخاطب وطنا يتلبسه طفل، أو " أوديب" أو الجد هذه الرموز المعيشة شفرة تحل رموزها لاحقا، أن واقعا ملتبسا يلغز اللغة، وهذه ميزة تشكيلية اعتمدتها أساليب الحداثة الأولى للشعر..


8
في ديوانه الخامس" حوار عبر الأبعاد الثلاثة"، بغداد 1964 ثمت تطور جوهري في ثيمة الرسالة، والمرسل إليه. مع بقاء المرسل نفسه، فلقد جيء بالمرسل إليه وأدخل مسرحا، وجيء بالشعب ليصبح جوقة، لا بل جوقتان ، وجيء بأوديب، وجيء بالإله لتصبح الرسالة- القصيدة- درامية، طويلة ومتعددة الأصوات ومركبة. لقد نضجت عند بلند فكرة المحاورة عن قرب. ولكن بصيغ الرسالة، التي لا تطلب جواباً سريعا، ولا تطلب إلا تساؤلات. وهذه الطريقة الفنية لابد لها كي تتوضح أبعادها، وتختلف مستويات اللغة فيها من موضوع كلي، وصارم، وعنيف.. فاختار الخطيئة. ومنذ خطيئة آدم الأولى وحتى خطايانا السبعة المعروفة، ما يزال الموضوع يثير هواجس الشعراء.. وخطايا بلند، اجتماعية- نفسيه، خطايا الأب- وخطايا الذات، وخطايا المجتمع، وخطايا الوجود، وقد تحولت إلى رموز: الأب( الإله) ، السلطة(الآخر)، المجتمع( نحن)، الرب( المطلق). أما الشعب الرافض والمتسائل، فكان الجوقة، الناطقة ومن داخل هذا البناء تلوح الساحة الاجتماعية والمكانية، فإذا هي بغداد، اختصارا لمسافات لم تقطع، وتحديدا لزمن لم ينته بعد.

يا أنت الحجر الساقط في الموت بلا مأساة
كن موتي
كي تولدَ في الزمن الآت
كن جرحا في كفّي
كن أفعى في صوتي
كن أنت الله، الإنسان بلا موتِ
لم يمتلك بلند خلال رحلته الشعرية أي فكر شمولي، والمواقف الوطنية لا تعني بالضرورة موقفا شموليا، لعل ذلك أحد الأسباب التي ميزت ليس بلند بل كل الشعراء الحداثة الأولى، لقد كانوا خلواً من كل موقف كلي وشامل، وأعني ليس لديهم نظرة كلية شاملة، بل لهم أيديولوجيا . وعبروا عن هذه الأيديولوجيا شعرا، فكانت القناة التي توصل الذات بالمجتمع. لعل الطابع الفردي الذي ميز شعر الحداثة الأولى، هو اغتناء الصوت الواحد بالأصوات المضمرة فيه، ومعظم هذه الأصوات فروع.بلند الحيدري أكثر رواد الحداثة الأولى ابتعادا عن التصادم مع أي فئة سياسية- عدا السلطة- كما كان أكثرهم حياديا في المواقف التي لا تمس فئة سياسية، وهذا الحيز الفكري أمده برؤية الوقوف عند ثيمات معينه سعى إلى تطويرها عبر حياته الشعرية. فقد يحدث أن تطابق مسيرة القصيدة مسيرة الرؤية الشخصية للعالم مع احتمالية جدلية قائمة، وعمادها أن التناقضات تنشئ مسارا ثالثا. لذلك حمل ديوانه حوارا مبهما وفلسفيا مادته" الخطايا" فهل كان بلند يريد إسقاط الأفعال من الناس باعتبارهم حاملين لخطايا مسبقة ليس لهم يد في صناعتها؟ أم يريد إسقاط الخطايا عن العلاقة المشوهة وغير الواضحة بين الشعب والسلطة؟ أن إبهاما واضحا في كل هذه الإسقاطات. فالشاعر اختار أن يواجه الخطايا بأوضاع وأسماء مبهمة أيضا. فهناك جوقة للنساء، وأخرى للرجال، وهناك في قصائد أخرى الإله، وأوديب عند بلند ليس "أوديب" سفوكليس، بل أسم مجرد دال على رمز من فقد اليقظة والنوم. وقلقه قلق وجودي، وليس قلقا من أجل طيبة" بغداد" وقد دلل الشاعر عليه بـ" البعد الثالث" الذي عبر عنه تعبيريا فنيا بالشكل- " المقطع الطويل الذي لا يلعب دورا مهما نمو الحدث، إلا أنه يفسره ويعلن عنه". فهو أشبه بالعامل المساعد في المعادلة الكيماوية التي تنتج مادة مغايرة وجديدة دون أن يصيب العامل هذا أي تغيير. أما البعد الثاني، فهو صوت النساء الذي كان ممثلا بجوقة النساء، وهو صوت ميثولوجي، ومبهم أيضا، ويفسره بلند بأن" المرأة هي صوت الحضارة والاستمرار" وهو هنا يعيد مقولة ميثولوجية قديمة تقول أن المرأة هي التي علمت الرجل الجنس والنار والطهي والسكن والبناء والأسرة واللغة، في حين يصبح الصوت الأول" الرجل" أبا ممتلئا بالخطيئة حسب مفهمو دستويفسكي، ومن ثم فرويد، لأنه مولد الخطيئة بوصفه أبا ينتج أولادا. فهو إذن خاطئ بحكم كونه مانحا. وكان وجوده الشعري ممثلا بـ" الخط العرضي الذي يرى ولادة ابنه قتلا له".
هذا ما عنيته أن ديوانه الخامس" حوار الأبعاد الثلاثة" مليء بالرؤية الشخصية المسقطة على العالم . فهل يا ترى نلمح بعدا سياسيا من وراء ذلك؟ أن المجتمع العراقي وخاصة في أوائل وأواسط الستينات كان مهيئا لأن يلد نموذجا ثوريا ممكن أن يكون نتاجا لمعانات طويلة. إلا أن تفسيرا مثل هذا يضع لما حدث في العراق ( أوائل وأواسط الستينات) خلفية غير مسندة لمثل هذه القصيدة المركبة. ولكننا نعيد للأذهان أن بلند الحيدري أكثر الشعراء ابتعادا عن السياسة المباشرة مع الفئات الأيدلوجية التي شهدت صراعا حادا في الستينات إلا أنه كان عدوا حقيقيا للسلطة القامعة. لعل ذلك يشكل خلفية غير مكتملة لجريمة قتل الأب بالولادة، وبلند- شعريا- لا يخطئ أحدا ولكنه يسعى لأن ينشئ محاكمة من نوع خاص مع ما حدث " فالمحاكمة تمثل عصرنا الحاضر" كما يقول.
إذا كان ثمت تصور أن يحصر في المحاكمة كل الفئات المتنازعة، فالأمر إذن سياسي، وموقف كهذا يحيل الشعر إلى ترميز لواقع معلن. لعل اعتماده على بنية الدراما، وتعدد الأصوات، هو الدليل على أن المحاكمة تأخذ صفة المواجهة. فتحولت الدراما من كونها شكلا فنيا يستوعب بها متطلبات التحديث إلى فعل يحمل سؤالا أيديولوجيا. وهذا ما توحي به المقابلة المدرجة مع الديوان أما القصيدة ذاتها- كل القصائد الديوان هنا معنية بدلالة المحاكمة- لا تحمل مثل هذه الإحالة. وعندي أن سبب ذلك يعود إلى أن بعض الشعراء يعولون على النثر في الشرح لما التبس في تفسير ما لم يكن واضحا في النص. ومثل هذه النثرية تلقي بظلالها القاتمة ليس على النص وحده وإنما على مسيرة تطور البنية الفنية للقصيدة.
فالإنسان عند بلند كما صوره في قصيدة" مسيرة الخطايا السبع" بلا ظل، ولم يدر من أين ينتج السؤال، وأن جاء بولادة مبهمة، وأن التاريخ يلغي الزمن الفردي، وأن الأحلام ليست إلا محطات صغيرة، وأن الموت يولد وأن الحياة ليست إلا أقنعة جوفاء. في حين أن قصيدة" نداء الخطايا السبع" تحمل سؤالا جوهريا عن المصير. سؤال المسيح ساعة الصلب، وهو السؤال نفسه للسياسي الذي يستشهد من أجل الوطن، وهو نفسه السؤال الذي تثيره جثة من يشنق في مفترق طرق، وهو نفسه السؤال الذي سأله كلكامش عن الخلود.. فبلند لا يسأل عن إنسان غامض، ومبهم ، ولكنه موجود:
كن أنت الله، الإنسان بلا موت.


9
بعد هذه الرحلة الشعرية الطويلة، بدأ بلند يلتفت كثيرا إلى فكرة الإنسان المتوحد. الإنسان الذي تصيره الأقدار حارسا ، وحارسا متعبا، وحارسا متعبا يغني، فكان ديوانه" أغاني الحارس المتعب" ببيروت 1973، مثالا للأزمة التي يعيشها الإنسان المتوحد في ظل الهزائم والانكسارات فهو قد عبر عن نفسه بـ" المسؤول عن.." فكانت القصائد على تساؤلات الحارس المتعب بفعل ما حدث فكان ديوانا عن القتلى، وعن بغداد، وعن المقاومة، وعن جيفارا، وعن الناس الذين استشهدوا مما يوحي أن القصائد رثاء العصر، والمرحلة، والحالات..
ماذا تبقى للحارس وقد انهّد من حوله كل البناء، أرض محتلة بالقتلة، وفكر راح مثاله في أدغال بوليفيا، وشعب مهيأ لأن يعطي لإسرائيل كل شيء، وبغداد ما عادت بغداد بالنسبة له.. هي إذن بدء مرحلة جديدة.
لماذا الحراسة؟ وحراسة من؟ وما هو الشيء الذي يُحرس؟ أن أسئلة مثل هذه تحيلنا إلى واقعة وإلى حدث.. والشاعر يوضح في عدد من القصائد مثل هذه الهدف..

أعرف كم أنت حزين أيها الحارس
أعرف كم أنت متعب أيها الحارس
وأن الفجر الذي تنتظر مازال بعيدا.. ولكن،
حذار من أن تنام، فالشوارع
المضاءة بآلاف المصابيح مازالت
ملأى بالجريمة والزيف والخداع
فالحارس إذن فكرة، مجسدة برمز، وقد تكون شخصا ما، حيث الهجرة عن العراق تعني فراغا من، وتحمّلاً غامض. وبلند الشاعر لا يريد أن يترك القصيدة في هذه المرحلة بدون مراس تشده إلى العراق، فكانت رمزية الحارس وديعة الهجرة إلى البقاء، فالمدينة..
بغداد
يا بيتاً مهجوراً
يا زمناً مأجوراً
يا وجعاً مأسوراً
والحارس يعرف تماما حال بغداد، فهل تراه قادرا على حراستها بعدما أصابه التعب، وأصاب المدينة البلى؟ كلاهما مغترب:
قد نتعبُ
قد نندبٌ
قد نغصبُ
قد يغترب واحد منا الثاني
والاغتراب الجماعي يولد حالا من فقدان الذاكرة، فالمدينة قد تنسى أبناءها، وقد ينسى الأبناء مدينتهم ولذلك لم يبق إلا الحلم، المشترك بين الاثنين: فالمدينة تحلم بأبناء جدد يأتون، والأبناء يحلمون بمدينة جديدة تولد..
.. من يدري يا بغداد
قد نولد ثانية في حلم
.. .. ..
قد نبعث ثانية في أمل ينتظر الميعاد
ويبدو تعب الحارس كبيرا، فهو متهم أولا حتى ولو كان بريئا، وهو مصلوب دائما على جدار الزمن العراقي الثقيل، وهو مهموم حتى في لحظات الحب والوجد، وهو ضائع حتى ولو كان بين الأهل، وهو صامت حتى ولو كان الحوار الذي يجري يشترك فيه، وهو عنيد حتى ولو كان كل شيء سهل.. فخناك دائما دعوة للحذر، وأمنية للسهر، ودافع للإهمال والكدر، فالمستيقظ لوحده يعرف كم هي ثقيلة ساعات الظلمة، والحالم لوحده يعرف أن كل الأمنيات تذهب حالما يستيقظ، فمدينة النعاس التي يحرسها قد أصابها العتق والنبذ والغياب،

لا ساعة تأرق في عينيه، لا أرقام
ونامت الكلاب
والليل نام
ونامت اللصوص والحراس
فنم
أطفئ عيون الناس
ونم
ولتصمت الأجراس
ولأن الحارس نتعب، والصمت من حوله كثيف، والليل يزداد اسودادا، فأن الحلم رفيقه.. يحلم وعيناه يقظتان، ويفكر وقلبه مغلق.. يسكن بلا مأوى، ويشرب الشاي خارج زمن الكسلة، وليس هناك من مبغى أو امرأة، أو حان.. حارسنا الحالم اليقظ نائم، وأمامه تعرض الحياة سلسلة من لقطات نعلم بلا مخرج أو ممثلين.

ولأني لا أملك مأوى
لا أعرف مقهى
ملهى..
مبغى يلقاني
ولا امرأة في حانِ
سأظل هنا
وسأنتظر الدور الثاني
وثمة ملاحظة من شانها أن تكمل القصيدة، أو يكتمل بها الحلم، تقول:" الصالة خالية إلاّ من رجل نائم". الصالة عهنا هي المدينة، أما النائم فهم حراسها. وأما الخلاء فكل بقعة أرض أو حلم يستوجب اسماَ أو حارساً.
في مرة قادمة ، أو ربما في ليلة قادمة، وعندما يبدأ الصباح بالتسلل إلى أقبية المدينة، سينهض الحارس ليرى أمامه جثة جيفارا أو أي شهيد آخر. وعندها سيصرخ ن آه من حلم مزعج مرًّ، ثم يروح يهتف " يحيا الموت" و" موتاً" للحياة، عندها تتساوى نومة حارس، مع استشهاد مناضل.
يحيا…يحيا
تبعثُ في أرضٍ اشجارا
تبعث في أخرى نارا
تبعث حيناً رملاً وحجارا
وتصير هنا…..
مت… يحيا
مت…يحيا
الموت/ الحياة. هي وقفة المتأمل من داخل الظلمة، وهي النداء الذي لا تحويه حنجرة فالحاضر قرين الماضي، والزمن لا يمتد كثيرا، والجغرافيا ما عادت مدنا قصية تعلم بها الخرائط، بل صارت قارات متحدة بالمأساة، وسيان هنا، أو هناك، بغداد أو بوليفيا. امرأة يطرق بابها للبيع، وأخرى تتلفع بعباءة الصمت في انتظار جثة أبنها.. ولو كان لبلند عينا زرقاء اليمامة، لكان ما حدث في ثمانينات هذا القرن من حروب في العراق لرأى أن الأبعاد واحدة، والمسافات متساوية، والحزن يغلف كل النوافذ، لرأى أن البيوت المطفأة لا حراس عليها، وأن الشوارع المليئة بالفراغ قد هجرتها أقدام المناضلين، أما الموت أو الحياة، فما عاد في لغتهما أي معنى.. أنني أتحدث عن سنوات الحرب العراقية الإيرانية، والعراقية الأمريكية…


فقرننا العشرون
ألغى مسافات الرؤى في النوم
كل المسافات
لا شيء غير الموت للحفاة
يوصد الحارس أمامه الباب، وخلفه الباب. ثم يبدأ بالولادة. أنه الآن لا يلد إلا مثيلا له. والتكاثر هنا لغة تتناسل حتى لكأننا لا نرى إلا واحدا. فعذاب الله على الأرض هو أن تلد شبيها لذاتك والحارس المتعب لا يغني إلا ليكرر، ولا يحرس إلا المتكرر، كل شيء في حياته أمسُ. ليس هناك غد أو اليوم. وسيظل حارسنا ممثلا " للحضور في الغياب"و" للغياب في الحضور" لا مدينة يحرسها، ولا أناس، لا حلم يفسر ولا امرأة يطأها لا حاكم يخشاه، ولا محكوم يماثله. حارسنا الحامل للعذاب لا يتلو قرآناً ولا أناشيد، وإنما كلمات مبهمات ولدت من أفواه الكثرة.

ألم تنم.. يا لحارس الحزين
متى تنام
يا أيها الساهر في مصباحنا من ألف عام
يا أيها المصلوب بين فتحتي كفيه من سنين
إلا تنام..؟
.. .. .. ..
سقطتُ في النوم ولا أنام.
تختلط في لغة الحارس المتعب الكلمات، فعندما يقصد بيته بلغة، يصبح الوطن هو المقصود وعندما يرى وجهه في مرآة اليوم، يرى كل السنين الآتية وكأنها الماضي وعندما يجيء إلى.. وكأنه يذهب من .. فالحارس
مصلوبا بين الألفين الكوفيين
وبين الحرف المتسائل عن حرف
وتتضح في لغة الحارس، الكلمات المبهمة، كالدين، والسياسة، والحب، والعلم، والثقافة، والسلطة، والحرب، والموت، وعندما يحاول أن يشرحها لطلابه، لا يتفوه إلا بالمعلوم، أما المجهول منها، فيغمض عينيه خوفا من أن يقال أنه مبصر أعمى. فالثورة لا تلد ثورة، ولذلك أصبحت كل معلومات الأمس محظورة.
لكن وراء الأبواب المسدودة
ما زال لنا وعد بالثورة
ما زال لنا من يحلم بالثورة
من يدري
قد لا يشرب قهوته.. مُره.
حارس الأبواب المسدودة، موعد بمن يحلم عوضا عنه، ويتأمل أن لا يشرب قهوته إلا على صياح الثورة.. لكن الحارس إذ يحيا بالملفوظ لا يملك إلا أن ينام على تردد حروفه.. فالليل جاثم، والأغاني لم تسمع والأحلام ما عادت مفرحة.. كل لغة الحارس المتعب كوابيس.

10
المحطة الأخيرة في شعر بلند الحيدري هي بيروت.. آه من يتذكر بيروت يوم احتضنت الحداثة الأولى الشعر؟ بيروت اليوم فتاة عارية إلا من القلب، تتجول في شارع الحمراء بلا حماية، إذ لم يبق عندها ما يسرق، وبيروت اليوم تحتضن الثورة، حداثة من نوع آخر، فزمن بيروت لم ينته وأن تغيرت الأدوار..
فيا سيدتي
.. كوني إلي
فأني تعبت
وأني سقطت فلست لليل ولست لصبح
ومسّي جراحي علّ لنا
لقاء هنا
يصير بنا.. الموطنا.
فأدرك بعثي.. بموتي..
هي المحطة الملتقى، المسافر والمهاجر، المغترب والمنتمي. هي الأغنية التي ينشدها الجميع، ولكن لن تكون عذبة إلا على حناجر المغتربين في شوارعها وأعني أهلها.. وبلند من أهلها.

وجه محفور في كل أزقة لبنان
شباكا في هذا البيت
وسلالم في بيت ثان
مثلت بيروت في حرب شوارعها، وبين أهلها انتكاسة ومثالا لفتنة الحروب المحلية، بحيث غدت عادية إذا ما قيست بما حدث بين العراق وأمريكا في حرب الكويت، مع ذلك لم تحرك لا حرب لبنان ولا حرب الخليج الثانية أي قيادة أيديولوجية كي تسعى للتغيير، بل أن الحربين متشابهتان فيما أحدثته من تهجير أبناء البلدين ضمن هذا التصور الواحد لحربين مختلفتين، حاول عدد من المثقفين أن يعقد مقارنة ما دامت إسرائيل هي اللاعب الأكبر بين الاثنين، بلند الحيدري، حاول المزج بينهما من أن الثانية وقعت بعد سنتين، ويكفيه ما اشبع به طوال الحرب العراقية الإيرانية. فديوانه" إلى بيروت مع تحياتي" دار الساقي بيروت 1989، يحمل نذير انهيار كامل للمنطقة العربية. فالشاعر لا يرى دربا مضيئا ولا يرى عتمة أيضا، كل ما يراه عماء كأن العالم العربي لم يولد.
في تلك الليلة
كانت بيروت بلا قلب
اختنقت كل شوارعها بالعتمة والنقمة والرعب
ولأنها مدينة بلا هوية- خلال الحرب- حاولت بيروت أن تؤكد هويتها الأصيلة عبر بحثها عن هويتها في الهويات العشر
.. وخرجت الليلة
كانت في جيبي عشر هويات تسمح لي
أن أخرج هذي الليلة.
لكن بيروت لا تصنع من الهويات العشر التي تقاسمت أرضها، كيانا لأحد، ولا هوية لأحد بل حاولت أن تمحي أثر الإنسان الذي حاول أن يلغيها بهوياته، فما كان منها إلا أن تضع له ظلا والظل دائما لا يتقدم.
والظل ورائي..
ما أكبر ظلك إنسانا يملك عشر هويات
في زمن.. في بلد لا يملك أي هوية
وكعادة من يحب مدينة، يخول الحب إلى أشخاص فيها، أو مواقع، وأماكن، ولحظات. وهاهو المطران كابوتجي ثائر الصليب المعاصر. يمثل نقلة وعي كبرى، مثله ينهض حجر من بيروت. فالحب لا يفرق بين اثنتين حتى ولو سميا ، ومن خلال بيروت تأتي بغداد، مع صحن حساء أو مع الغبش، أو مع العرق المغشوش، ما يقول سعدي يوسف، ومعها يأتي قتيبة الشيخ نوري، الفنان والطبيب ، والمناضل، وتأتي التواريخ الصغيرة والكبيرة معلنة عن أيام مضت، وعن مواقف وحالات.. لا يملك الشاعر في الغربة إلا دفترا يختزنه لغة وصورة، دفتر لم يحو أي مدونة لكنه مليء فراغه الأبيض. والمدينتان : بيروت وبغداد مجرد مدينتين حولهما لا عب البيت الأبيض إلى عرائس في مسرح السياسة والجغرافية. وهاهو يمسك خيوطهما من هناك ليدير بها حركات المديتين: الأول عليها أن تفقد حبها لكل حاملي السلاح فيها، والثانية عليها أن تعود إلى القرون الوسطى بعدما هيئ لها من يرتضي بذلك. لتصبحا في عرف اللاعب أسمين ضائعين. وإذا كانت بيروت حاضنة القصائد فبغداد شبح يطارد الشاعر.
تطاردني بغداد
تحاصرني
في كل زوايا المرآة
ويستعيد الشاعر مأساة أوديب، الذي أحب طيبة فأنقذها فإذا به يفقد نفسه ويفقدها.
كي لا أبصر وجهي الآتي
يهرب مني
قد يسمل الشاعر عينيه وقد يفقد قدما متورمة، لكنه لا يفقد لسانه، لغته، فبغداد كبيروت مدينتان حزينتان، والبرد شديد، والرصاص كثيف، واللغة عاجزة عن وصف المأساة..كل الدروب إليهما مليئة بأشباح سود، أما سماواتهما، فقد احتلتها نجوم العلم الأمريكي.
يا سيدتي
معذرة فأنا لا أملك إلا صمتي
وأنا أعرف أن الصمت شتاء آخر.. برد آخر
يمتد بلا زمن
حاول الشاعر أن يمثل المدينتين بشواهد، أشخاص، وحجر وأماكن ولغة. لكنه يلجأ ثانية إلى النصب. فبيروت نصبها : حجارة ومدفع وراية. وضع كل هذه الأشياء في مرآة.. فبدا التاريخ منعكسا فيها، مرآة الزمن الحاضر تعكس ماصي بيروت، أما حاضرها فقد بقي خارج المرآة، أما بغداد فاستعادها من خلال نصب الحرية لجواد سليم، ففيه وجد الشاعر بغداد، أما جواد فقد تنكر لنصبه بعدما غيّرت بغداد من معنى " الحرية"
وجواد لن ينحت بعد اليوم
لا موعد ثار
لا صبوة ثوّار
لا بعث امرأة قتلت غسلا للعار
كل شيء في المدينتين : إما راية سوداء، أو قطرة دم، الراية تقف على أرض سوداء، بور، والقطرة تطفو فوق مياه الأنهار والبحار معلنة عن موت شهيد. أما الشاعر، أما هو، فقد إقتعد نافذة عمياء في فضاء المدينتين ليطل منها على بدء التكوين، فالأبواب قد سدّت، والناس أنكروا معرفته، والسراج انطفأ، والبيت مهجور، والزمن مليء بالكذب ، والاسم ضاع.
وطني يا وطن الجلادين
يا ليل " عراق" مسكين
يا أنت العالق كالغّصة،
يا أنت القاتل والمقتول
وأنت الجرح وأنت السكين.
قد تطول المعاناة، وتكثر حالاتها، لذلك بقي الشاعر في هذا الديوان وفي ديوانه الثامن" آخر الدرب" دار سعاد الصباح، القاهرة1993، يعيد حالتي بيروت وبغداد فالزمن الذي أعقب الحربين ما زال مشبع بحالتيهما، لذا لا جديد في ديوانه الثامن إلا ما قاله في تعدد مراكز المحاورة وفي توسيع رقعة الألم ، والأمثلة كثيرة، والشواهد لا تحصى، وبلند ارتضى الوقوف عند مستوى المعينة المرة لما حدث وبقي من هناك يرسل إشارة مكررة.

11
أما القصيدة، فبلند فيها متنوع،قطع رحلة ليست متشابهة المواقع، وقطعت القصيدة معه رحلة ليست متشابهة البناء ، وعودة على ما ابتدأنا به دراستنا هذه، نجد بلند لم يغادر الضلع الرابع من مربع الحداثة، ذلك الموقع،- واعني به المحاورة والدرامية – ما يزال غضا في الشعر، حتى في حداثته الثانية وملامح الحداثة الثالثة. وقد يكون التطور الذي أصاب القصيدة الحديثة متنوع في أساليبها، قد أغنى هذا الضلع، وبخاصة عندما تحولت القصيدة الغنائية إلى قصيدة مركبة- درامية، واصبح الصوت الواحد أصواتا عدة، أما انشطارا أو تعدداً، أقول قد يكون هذا التطور هو المعوض الفني عن ما يمكن أن نقوله عن النقص الذي لم يمتلئ في الحداثة الأولى، والذي يمثله بلند. لكن الشعر الحديث ن وبعد ثورة النص كقالب، والشعرية كنسق، ينظم ويداخل بين مستويات الصوت الواحد، لم يعد بحاجة إلى مراجعات أو تراجعات، فقد ملأ سفينتيه بكل ما هو غريب ويومي وتاريخي، وميثولوجي، وغرائبي، وديني،وسحري. بانتظار طوفان لم يأت بعد.
امستردام 1996










































قصيدة النثر قصيدة مستقبلية
صلاح فائق نموذجاً
دراسة واستنتاجات
























تميز صلاح فائق من بين جيله من الشعراء باستمرار كتابة قصيدة النثر، بل والإخلاص لها، محاولة اجتلاب الموضوعات الأكثر حداثة لها، كي لا يقال أن قصيدة النثر لا تعالج إلا الذاتيات. وزاد صلاح في ديوانه" رحيل" بأن وظف لها صورا"كولاج" هي أشبه ما تكون بقصيدة نثر. لأن هذه الصور، تعتمد المفارقة الأسلوبية، وتداخل الأزمنة والأمكنة لأنها الطريقة البصرية التي توازي طريقة الإدراك والقراءة. وكلا الأسلوبين يوظفان معا رؤية كلية أو زوايا عدة للأشياء.
سأتناول هنا قصيدة"الرحيل" الطويلة والمحتوية على "10" أرقام- أو أقسام. في كل قسم منها تلحظ الرحيل ممثلا أما بأشخاص أو مجالات. وفي كل قسم منها تجد ثمت صور مركبة جديدة، أن الشاعرية عند صلاح تنمو وسط المفارقات والمتناقضات أنه ينشئ كيانه الشعري في الواقع المليء بالأخطاء، وفي الحالات التي مرت عليها عجلات الزمن، وفي المواقف الدراماتيكية، أنه لا يصنع مشهدا، بل يجده، يكونه، يخلقه. يفعله ولا يطلب من القارئ أن ينساق وراء مفرداته، بل أن مفرداته تشكل سلسلة من الأغاني الصغيرة، ترتبط الواحدة بالأخرى لتقود الأذن والعين إلى الموقع النهائي، وعندما نصل أليه نجد أنفسنا في البداية. ولكن بعدما راكم فوقها حالا جديدة، أو قولا جديدا. هذه الطريقة عند صلاح، تعتمد بنية داخلية، تتراوح أبنيتها بين أفعال"الأنا" وأفعال "الآخر" لذلك نجده حواريا ولكن بدون متحاورين، ودراماتيكيا، بدون أفعال كبيرة، كل مادته هي الحياة اليومية والآفلة، واللحظات التي تخثر الزمن فيها فغدت سوداء أو ملحية. والمواقف التي لا تصنع مرتين في الطريق تخيلتها،
الميت والغراب يتحاوران
أو ربما يتضاربان
بالكتب
" والأسطوانات"ص48
وتقرأ أيضا
"بهجة أن نكتب، فالشاعر دساس
يشاغب بين الكلمات، في أفيائها النائية:
الصدفة، لا غيرها. لسان الشاعر
"المعاني رواسب تلطخ الأشياء"ص51

2
المبنى الحكائي
يعتمد صلاح فائق تسلسلا، هو أشبه ما يكون بالمبنى الحكائي. ففي كل قصيدة ثمت تسلسل داخلي، هو إيقاعها الداخلي. الذي يقترب من بناء قصيدة الشعر الحديث ذي التفعيلة الواحدة، إلا أن مفردات مبناه الحكائي هنا قائمة على إيقاع الصورة وإيقاع الفكرة وهذان الإيقاعان يجدان نفسيهما أكثر حرية في قصيدة النثر حيث الحرية الداخلية لهما تتيح مجالات رؤية أكثر.
أعرف كل ليلة يحيطها نهاران
كل نهار تحيطه ليلتان
الجمل الفعلية ساحات
تتقاتل فيها الأزمان
ومن هذه الأزمان
رجل غير مرئي
يطلي في كل شفق
جدران عالمه الخيالي بالأبيض..ص32
يعتمد في مبناه الحكائي على مفردات حية! الليل والنهار والجمل الفعلية والرجل.. هذه المفردات كلها زمنية، بمعنى أنها لا تتضح أزمتها إلا متى ما علمت في مكان، لذلك يصنع مكانه في الخيال ويسميه بالجدران والشفق.
ويحاول عبر هذه المداخلة بين أمكنة الحلم وأزمنته أن يصنع لنا مشهدا غير مرئي، مشهدا عناصره: فكرة الخيال الذي تلغى فيه الحدود ويصنع صورة مطلقة الأزمنة.. هذه المزاوجة، هي مادته في أي مبنى حكائي لقصائده. فصلاح فائق لا يولد المشهد بل يفجره، يخلقه من مفردات متباعدة
" نستطيع إذا رغبنا، بعيدا عن هذه الأبنية، أن نجد شخصا غريبا ينقب عن الذهب في الجبال، يتجسس عليه قمر صناعي يلتقط له صورا، لن نجدهن عندما نفحص الشريط، بل نشاهد قاربا معبأ بأسلحة يعبر مجاهل الروح، حين نعود إذا عاد، من الضفة الأخرى فلن يكون فيه سوى نمل مكومة فوق مرآة تعكس المنقب يستخرج عسلا من سفح ملغوم، سوف ندعوه، في مقطع آخر، يحدثنا عن ولعه بالحفر.."ص49
التسلسل الحكائي هنا أوضح ما يكون، الشخص المنقب، يراقب من قبل قمر اصطناعي، لكنه يختفي عند تحميض الشريط، ويستعيض عنه بقارب معبأ بالأسلحة يعبر به مجاهل الروح.. هنا يتحول المشهد من الخارج إلى الداخل ووسط تساؤل غامض، فيما إذا عاد القارب من الضفة الأخرى، لا نجد الرجل أو الأسلحة، بل نجد نملا فوق مرآة.. المرأة تكشف ضمن مستواها الآخر، الرجل الذي لمحناه في أول المشهد، الرجل المنقب، ولكن بدلا من الذهب يستخرج عسلا، كلاهما الذهب والعسل، بلون واحد، والأهم في الأمر، أن المشهد اكتفى بمكانية، وكي يكون لنا ثمت استمرار لفعل الحكي، فأننا سنضطر إلى استحضار الرجل لنسأله في مشهد آخر عن ولعه بالحفر، وفيما إذا كان حفرا في الجبل أم في الروح أم في المرآة.. هذه البنية السريالية تصنع لخيال القارئ مجالات من التفاعل الحر مع الأشياء، أنه هنا لا يبحث عن الأشياء بصلابتها، ببريقها، بل يبحث عما هو مشترك بينها، وفيما إذا كان بالإمكان إلقاء عدد من خرز الودع في لحظة زمنية، وفي مكان محدد أن تصنع لنا سحرا أو فألا أو صورة للغد.. الشاعر هنا يلعب بالأشياء، يفجرها، يلقي بها أمام بصرنا، ليشكل مشهدا مشحونا بالشعرية، مليئا بكل ما هو غريب ومبهم، لكنه مقبول، لا تستطيع القصيدة الحديثة اكتشاف مثل هذه البقع الخلاقة، لأنها عاجزة إيقاعيا عن الدخول في مجاهل عدد من الأشياء دفعة واحدة، قصيدة النثر تمتلك طاقة الاختراق، والذهاب بعيدا بالكلمة إلى المواقع التي تتساوى فيها الأشياء جميعها، إلى تلك الروح البدائي الذي صنع لنا كل الأشياء فألغى الحدود بينها، وألغى أسماءها، وألغى التعريفات بها.. هذه البقعة من الممارسة الخيالية الشعرية تجعل من أية ممارسة حرة شعرا، حتى ولو كان هذا الشعر بدون شروطه المألوفة.
المبنى الحكائي في قصيدة النثر، أكثر وضوحا، لميل قصيدة النثر إلى التسلسل، أو الإيقاع الفكري المتتابع، ولذلك يتطلب مبناها الداخلي إلى تراصف عدد من الصور كي تخلق إقناعا ما بنيتها ومشروعية الحكاية المعتمدة فنيا فيها، ولعل اقتراب بعض مطلقات قصيدة النثر من الحكاية قد يكون ضعفا بنائيا، إذا ما استخدم هذا البناء طريقة أحادية، في حين أن قصيدة النثر أبعد ما تكون عن صياغات المتن الحكائي، لأنها تعتمد المشترك بين مواقع وأزمنة مفترقة أنها اقتناص اللحظة الهاربة عن الأشياء المألوفة، فهي في تعاملها اليومي، تلتقط النادر، والشاذ والغريب، وتروح موحدة بين هذه المفترقات من خلال ما هو مشترك بينها.
سنضحك أن تتذكر
قسا ينبش في خزانة ثياب
ولا يعثر إلا على قصائد
ما الذي يجمع القس، والخزانة، والقصائد، غير تلك اللحظة الهاربة من مألوفيتها اليومية، اللحظة التي تجتمع فيها هذه المتفارقات جميعا، وهي اللحظة البدائية، الكائنة في أعماق الصورة الكلية للأشياء.
من لا يرأف بالشاعر
حين يهرع إلى نفسه
باحثا عن كوة غريبة، سميرها ليس نباح كلاب
في وديانها بضعة آمال
وجدول يبحث عن مصب ص27
محور المبنى الحكائي، هو الشاعر، والمشهد يتألف من ذات الشاعر، فكانت مفرداته: النفس، الكواكب الغريبة، الوديان المليئة بالآمال، والجدول في آخر المقطع هو الشاعر الذي يبحث عن مصب.. جريان الشعر لا يقف عند مصب، بل يقف عند البحث.. الأشياء المتباعدة: الجدول، الكواكب، الوديان، الشاعر.. كلها تتعايش بما هو مشترك فيها، وهو اللحظة التي تخلت هذه الأشياء عن خصوصيتها واشتركت بما هو بدائي، حر، فولدت القصيدة.. قصيدة النثر لا تعيش إلا في هذه المواقع، المواقع التي تلغي فيها حدود الأشياء من الداخل لا من الخارج، أي عندما تكون الريح هي الماء، وهي الصخر، وهي الإنسان، وعندها تتولد نار الشعر منها كلها، وفي لحظة احتدام خاص يولد المجهول.. أعني تولد الشعرية.

3
الصيانية- التدميرية
كل منتوج ثقافي يحمل بنية المجتمع الذي عبر عنه وتولد عبره فمفردات أي منتوج ثقافي، حتى ولو بدت تجريدية، ومغرقة في الخيال، وبالغرائبي فهي نتاج اجتماعي، ومهما حاول النقد الحديث، البنيوي منه العزل بين النص والمجتمع، محاولته عاجزة تماما، إذ لا يكون العزل كاملا، إلا متى ما أبدع النص له مفرداته اللغوية الخاصة، ولذلك فالبنيوية عاجزة تماما عن إيجاد البديل..
ثمت بنى لا واعية جماعية تتحكم بكل منتوجاتنا، الشعر، أو الرؤية أو المسرح واحدة من هذه المنتوجات، وتحمل ضمن ما تحمله التصور الكلي الذي يحكم المجتمع والفكر والسياسة والاقتصاد، وأعني به أن المؤسسات التي تؤدلج هذه المفردات وتسعى لترسيخها ومنهجتها وبالتالي ضمان استمرارها والنضال من أجل تثبيتها وعدم أحداث أي تغيير يؤثر في مسارها أو يغيرها أي ما هو مضاد لها متحصنة بقوى تصون مسارها القديم، وستدمر أي تركيب فكري جديد يحاول التغيير أو التثوير.. وهذه البنية العميقة التي أخذت وتأخذ بلباب إبداعنا كله قديمه وجديده ، ومهما ابتكر هذا الإبداع من وسائل تعبير جديدة، ومهما تمشدق بالنظريات الغربية، وبمنتوج الحضارات الأخرى، يبقى منتوجنا الثقافي مشدودا إلى بنية العقل العربي- الإسلامي، فكرا وأسلوبا وبناء، ولغة ودينا، وتكوينا، وتصورا، وإنتاجا ثقافيا.. وهذه البنية تعتمد مبدأ الصيانية، بمواجهة مبدأ التدميرية، ولذلك استمرت هذه البنية منذ خمسة عشر قرنا، وستستمر، وخلال هذه القرون كلها نشأت حركات تدميرية- ثورية، ولكنها حملت أسيم الله والقرآن.. وما أن استوطنت حتى قمعت( القرامطة- الزنج- البابكية- الصوفية- والعديد من الفلاسفة..) لا نقول ذلك لمجرد أننا نريد الإحاطة بموصوف شامل وكبير، وإنما نقوله لأن منتوجاتنا الثقافية، تتحكم فيها البنية الصيانية، وأما البنية التدميرية فتأتي من قبل الشاعر المجدد، الشاعر الثوري، الذي يعتمد خرق الأشكال القديمة ليولد أشكالا تعبيرية جديدة، لكنه يفاجأ بقوى صيانية داخلية قابعة فيه تمنعه من الاستمرار بالتدمير لخلق عالم جديد.. وعندما حاولت القصيدة الحديثة التمرد على عمود الشعر، خلقت نوعا من حرية القول أسند هذه الحرية واقع ثقافي وسياسي في الخمسينات كان يتطلع هو الآخر إلى التجديد والجديد، ولذلك على رواد قصيدة النثر أن يستمروا بتدمير البنى القديمة، والعائقة لمسيرتهم كي يرسو لونا من التعبير الجديد القادر على خلق كيانات معرفية متطلعة لا مقيدة، شاملة لا محددة، إنسانية، لا فردية، وقصيدة النثر تقترب بذلك من مطلقات القصة والمسرحية في لملة مساحة كبيرة من الأفعال والأحداث في مشهد مكثف وغني. وفي ضوء ذلك، تحمل كل قصيدة، نثر أو شعر ثنائية الصيانة/ التدمير، وقد عبر عنها الشاعر بطريقة لا واعية طريقة تتحكم بآليات الإبداع العربي- الإسلامي ككل ففي قصيدة صلاح عن الشاعر محمود البريكان يقول

محمود البريكان
لا يهتدي إليك
سوى عابر البراري
المشققة من الملح
والعذاب- أخبرني كفافي
في الطريق إليك
تنشق عند قروية تدير الرحى
وهي تغني
أمام منارة مائلة
محاطة بمفاتيح
وجدك تتطلع إلى الاهوار
زارني هذا المساء، قال:
عيناه ماستان
فيهما جموع تغمر الأرصفة بالفراغ
أعرف هذا عنك:
احتفالك بالصورة دائم
لأنها خلاف
وحيد في الشوارع
يتجمل بالصبر، هدوء اليائس
وفي نفسه احتفالات
كثير النسيان
نلمح بعض خصوصيات يفترضها- نتيجة القراءة لشعار البريكان- صلاح فائق عن الشاعر، وهذه الخصوصيات مفترقة، يحاول أن يجمعها في بوتقة القصيدة ليصنع منها صيانية خاصة بالشاعر- البريكان- أي خصوصية شعرية وحياتية، أو هما معا، الصيانية هنا تكوين معرفي يتحول داخل القصيدة إلى بنى قبلية، قائمة، أو محكومة بالمألوف حياتيا، وشعريا، ويؤكد صلاح هذه الخصوصية باحتفال البريكان الدائم بالصور، الذي هو خلاف لكل الشعر، ثم يؤكد هذه الصيانية، بأنه وحده في الشارع، يتجمل بالصبر والهدوء.. لكن داخل النفس مهرجان من الاحتفال، مهرجان من الضجة والصمت الفاعلين.. إلا أن هذه الصيانية المقفلة على شاعر كالبريكان، تحاول القصيدة أن تسرب إليها قوى تدميرية، هي أيضا من خصوصيات البريكان.. القوى التدميرية، فاعلة وموجودة ضمنا، وخاصة، ولها قوى معرفية ووجود مهيأة لأن تكون البديل.. ونحن إذ نلمح بعض الإشارات لهذه القوى الكامنة، إلا أن معظمها يكمن خلف الأسطر، وصلاح فائق ينتمي إليها ويؤكدها كجزء من خصوصيات الشعر عند البريكان.
تتمثل القوى التدميرية في القصيدة بثلاث أبعاد
الأول: أن الشاعر يستعين بكفافي للقول عن البريكان، وهي استعارة منفتحة، فقد يستعير شاعر آخر بشخص آخر مناقض لكفافي كي يرى البريكان وبذلك لا تحدد أية استعارة فكرية مطلقة وكاملة، بل تفتح مجالا لاستعارات أخرى، مؤيدة أو مناقضة، ولذلك فلا استقرار ولا تحدد، بل انفتاح وتأويل، وهذان عنصران من عناصر تدمير النص أو الفكرة.
الثاني: العين الماسة، وهي عين مركبة، لا ترى حدا واحدا، بل ترى كلا متداخلا، ولذلك فهي تحتوي كلية المشهد ولا تركز على بؤرة منه. وبمثل هذه الرؤية البصرية، يفقد الشاعر البريكان، خصوصية تصون من الزلل، أنه كلي المنظر، شامل، لا محدود.. وهذا عنصر تدميري كائن في البنى الصيانية نفسها.
الثالث: الفراغ.. وهو هنا، يرد في معنيين اثنين: أما الفراغ المولد، الفراغ المليء بما يدخل في العينين الماستين، أو الفراغ العدم، حيث الأمل في ملئه وأشغاله. وهذه صورة تدميرية واضحة كائنة في بنية الصيانية نفسها..
لاشك أن القصيدة تنشد التجسيد، تجسيد رؤية شاعر إلى آخر متميز، ولأنها كذلك، فالمحاولة مهما كانت إيجابية، ويجب أن تكون كذلك، تحمل في داخلها كجزء من بنيتها الإيجابية(الصيانية) قوى تدميرية، وهذه القوى لا تولد من فراغ، ولا تدخل من شيء آخر، ولا تتوالد من تكوين مغاير، وإنما وجودها ضرورة تمليها البنية الصيانية نفسها، بهذه الجدلية الواضحة يبني صلاح قصيدة النثر المتميزة.


4
البؤرة المكانية
لا تختلف قصيدة الثر عن أية قصيدة في أنها تمتلك بؤرة مكانية مولدة، لأمكنة فرعية، وأزمنة تتوزع أجزاء وصور القصيدة، وهذه الأمكنة الفرعية وأزمنتها مشتقة تكوينا ودلاليا من المكان/الزمن البؤرة، وبذلك تحافظ قصيدة النثر على البنية الأساس لكل الأنواع الأدبية، وما دامت قصيدة النثر تميل إلى التركيب فثمت مكان بؤرة كلي يشمل به كل المفردات والأجزاء المركبة للقصيدة، ففي القسم رقم"2" من قصيدة الرحيل، نجد المكان البؤرة الكلي هو "الأقفال" التي تحتاج إلى "مفاتيح" والأقفال في القصيدة متحولة، متعددة متغيرة، كثيرة، متنوعة: فهي الأسلاف/ الأساطير البابلية/ الفرق/ المخابئ/ المطر المأهول/ الطفولة/ الأكواخ/ السفن/ الأسواق/الداخل/ الصناديق/ العمق/ عربة الموتى/ رجل أعمى/ ينبوع/ مأتم/ الكأس/ البيت/ أيام بلا زمن/ زمن بلا أيام/ صفحة بيضاء/ أشباح/ مبغى/ العميان/ الأودية/ المدافن/ الهياكل/ النعاس الطويل/.. الخ هذه الأمكنة، والصور، والصفات، كلها مقفلة، أو تستعير من القفل هيأته ومعناه، ودلالته الرمزية، والشاعر يمثل مفتاحا، أو مفاتيح يلج بها هذه الأقفال المبهمة، ليكتشف ومن ثم ليجمع ما هو موحد بها.
البؤرة المكانية، بنية لا واعية، تهيمن على مناخ القصيدة كلها، وتعزز أثناء التناسل الشعري مفردات شبيهة بها ومنطلقة منها، ومؤكدة لها.
"المطر مأهول بالمخابئ في كل مخبأ فجر يخنقه دخان متاريس يكتب مقاتلوها في أوقات الراحة رسائل إلى أمهاتهم المنتظرات، أكتب ما يأتي بلا تغيير.. حتى الظلام الذي يفهرس مكتبتي الآن وفق موضوعاتها المزيفة، لا يثير اهتمامي، غذ لست جنديا حريصا يدور حول ظله الحائر. يريد أن يقول: أنهض، لنهرب إلى الجبال.."ص28
المكان البؤرة هو "المخابئ" وهو متفرع من مكان كلي هو "الأقفال" تقود"المخابئ" مفردات المقطع باتجاه الأسرار والعتمة، والظلام. ويؤدي بالتالي لأن يدعو المتكلم، الشاعر، الرب إلى الجبال حيث المخابئ المكشوفة، المخابئ التي لا تمتلك موضوعات مزيفة..
لا شك أن المكان البؤرة، يبدو أكثر إبهاما في قصائد النثر، لأنها لا تتعامل مع موضوعات منفتحة كليا، أو ذات أفق معرفي تاريخي معاصر، أنها تقتنص اللحظات الهاربة من الحالات، والأمكنة، أية أمكنة تريد الاستقرار، تفصح عن تعمل ووضوح، الأقفال في هذه القصيدة الطويلة تفصح عن وضع كامل، وضع شامل كلي اقترب الشاعر منه ظهر أمامه باب مقفل، وكلما حاول المرور إلى المعلنة امتدت مساحات مجهولة.. هكذا تولد الأقفال سيرورة من إحالات لا متناهية من الغموض والإبهام والمجهول، أنها بقع خالية إلا من أشيائها غير المكتشفة، بقع مليئة بمرايا تعكس الفراغات البكر.
يعمد صلاح فائق في كل قصائده إلى التعمية المقصودة للمكان، فهو لا يريد الإقرار بحقيقة وموضوعية العالم، بل يحاول أن يبني في مخيلته عوالم ذاتية بديلا عن عوالمنا الحسية، ولذلك تغيم عنده حال المكان المعاش، المألوف، والرحمي، ويستبدله بحال المكان المبهم، الملغي، وهذا التصور مكاني بالضرورة.
عراف يحني رأسه، يراقب نجمة
فيرى عاشقا يهب من رقاده صارخا ضد الهواء
الشهود، مخيلته الشاسعة
وفي يده عبارات
سنعلمه صداقة الظلال، مسالمة النفس
تحريك قطارات مشرعة الأبواب، بلا مسافرين
إلى الأرياف النائية، حيث المطلق محراث وغيوم.
كل أمكنة المقطع، البؤرة المتفرعة، غائمة، لأنها وليدة المخيلة، ومعاشرة للظلال، والنجوم، والنأي، مكان مبهم، زمني قبل أن يكون حسيا.

5
القصيدة الملغاة
كل قصيدة معلنة، تلغي قصيدة موازية لها بالقوة والحضور، فالغياب كالحضور معا يكونان الوحدة، الموضوع، لا يتشكل أي موضوع أي فكر إلا وفق منطق جدلي، حضور طرفا الصراع داخل وحدة متعايشة ومتكونة، لكن الشعر المعلن منه يحتوي المخفي ضمنا ويحتوي على ملغي فيه معلن ضمني.
القصيدة الملغاة هنا، قصيدة شعرية، أبعادها، ومكوناتها أبعاد القصيدة الحديثة، أو العمودية، شكلا أختار صلاح قصيدة النثر مادة وأسلوبا، فألغى بقصدية أي شكل آخر للقصيدة، ومضمونيا أختار صلاح مادة تجمع بين التراث والرؤية الكونية الشاملة، فألغي ما هو نقيض لذلك.
والقصيدة الملغاة لابد وأن ترى وتدرس وتفهم حتى لو لم تكتب بحروف. أنها تكوين كائن في سطور القصيدة المعلنة. كل موقف فكري معلن يلغى بالضرورة موقفا آخر مناقض له ومضاد. وكلا الموقفين موجودان سواء بالمعلن أو بالملغى.
تكتب أو لا تكتب
أنت بلا مهرب:
هذه الجزيرة جزأت حياتك
1- المعلن فيها: الكتابة، والجزيرة، والحياة المجزأة..
2- المخفي فيها: هو الكيفية التي تجزأت فيها الحياة. والمهرب وكلاهما موجودان في النص المعلن.
أما النص الملغى، فيحتوي على .
1- الملغى فيها: هو اللا كتابة، وأنا.
2- المعلن في الملغى: هو الحياة الموحدة، الحياة التي لا تتجزأ. أي اللا عمل، اللا كيفية.
كلاهما: المعلن والملغى، متصاهران داخل القصيدة وخارجها، في المكتوب كمنها وفي الملغى, وكما أن المكتوب المعلن، يقرأ، كذلك الملغى المخفي، يقرأ، والنقد أن هو أغفل هذا الحق من الدلالات المعلنة والمخفية الملغاة المعلنة، لم يستطيع الوصول إلى جوهر القصيدة الحديثة.

6
مستقبل قصيدة النثر
بعد تشيؤ الحياة وتحويل مدركاتها الحسية إلى مفردات محسوبة القيمة أصبح الإنسان في محنة عقلية وأخلاقية لقد بدأ العديد من المفردات يحتل مكانته ويأخذ دوره وتفعل ما كان يفعله وقد وجد هذا كله بعد أن تحولت السلعة المادية والفكرية إلى ما يشابه الفيتشية التي بدأت وكأنها نتاج آلهة غرباء عن البشر. في المنحى العقلي لأية مفردة جديدة تطرق حياتنا وأسمائنا يتوفر فيها ذلك الأغراب المتعمدة الذي يصبح لاحقا فكرة مهيمنة ومسيطرة وباستمرار هذه الهيمنة تظهر مفردات صغيرة لها تمكنها من الانتشار والذيوع والإعلانية.
قصيدة النثر، النثر المركز النثر المرسل، النثر. أسماء وجدت في مراحل من تطور الشعرية . ليست إلا مفردة امتلكت قوة الأشياء وتحولت بمرور الزمن إلى فكرة تمارس ضغوطها على الوزن والإيقاع والانطباع والذهن فما كان منها إلا أن تغلغلت في تكوينات الوعي الاجتماعي ثم لما تجد لها رسوا حقيقيا تصبح فيه معبرة عن أفكار اجتماعية أكبر وإلى أن يصبح لها قوة القانون الشعري تحمل خلال مسيرتها أفكارا ما كان لها يوما أن تدخلها أو تتناولها أو تتعامل معها. إذن ما الذي منح المفردة النثرية هذه القوة، ومكنها من أن تأخذ دورا ليس لها؟ أو دورا لا تقدر عليه؟.
الإجابة عن هذا التساؤل تتطلب إيضاح بعض الجوانب المعرفية في هذه لمفردة قبل أن ندخل موضوعنا: لم تستقر الدراما فنا مستقلا إلا بعد أن دمجت فيها: الخطابة النثرية والملحمة الشعرية وخلال المسار النوعي للاثنتين وجدت الدراما وقد جمعت بين الآلهة والبشر، فكانت موضوعاتها جمعا بين الأسطورة والحياة العامة، وإلى أن وجدت طريقا إلى الناس، كانت تخلق كياناتها الصغيرة في الشوارع الحانات جامعة بين الأغاني والشعائر بين الكوميديا الفاحشة، وبين الأناشيد الثابتة. وإذا يتداخل في صناعتها أعياد جز الصوف وأعياد الخمر كانت اللغة الجديدة: أعني اللغة الدرامية تشق طريقها وسط الممارسة الحياتية للناس كما لو كانت الأسلوب الجديد الذي يجمع بين طموحات الآلهة والبشر. والمنحى الجديد الذي ينهض قيم المجتمع العادية إلى مصاف الملحمة الشعرية. وتستقر الدراما وتتنوع وتصبح أسلوبا من أكثر الأساليب الفنية حياة إلى الآن، وإلى أن تتحرر الدراما الحديثة من أشكالها القديمة، فصولها، ووحداتها الصارمة لابد لها من مواكبة أكثر لروح العصر. وهذا شأن الشعر فتصبح دراما تعايش مناطق الوعي الاجتماعي الجديدة تتغلغل في الحياة اليومية وتفرض لغتها النثرية التي حملت في مفرداتها طاقة الشعر القديم وطاقة الحياة الجديدة المليئة بالشعر. ولم تستقر الباليه مثلا فنا إلا بعد تداخلت فيها فنون عدة: المسرح والبناء الموسيقي والرقص، وبعد أن أصبح للجسد لغته الشعرية الخاصة، ولم تستقر السينما فنا مستقلا قائما بذاته إلا بعد أن تطور فن التصوير، والدراما، والأداء الفني والعقلي الإنساني. ولم يتطور الشعر إلى فن نثري يحمل الشعر، إلا بعد أن فرضت الحياة على الشعر وعلى أساليبه وقوالبه قوتها الضاربة فكسرت القيود وتحررت من آسار سجونها القديمة ويعيد الريحاني إلى الأذهان ما كان قد فعله وولت ويتمان بقوله" أن النثر الشعري هو فن المستقبل" إذن ما هي القوة التي امتلكتها المفردة الشعرية بحيث أصبحت نثرية تحمل مسؤوليات الشعر؟
أن الكثير من الشعراء يعيشون تحت وهم الفكر البرجوازي ، والوهم البرجوازي في الشعر افتراضي قلما امتلك قوة القانون فالشاعر الحديث لم يعد مهيمنا على ممالك خاصة به أنه داخل مملكة الحياة ومملكة الحياة من السلعة ما تملك مفردات حقيقة مشاعة تضغط باستمرار على عقول الشعراء وأفكارهم وممارستهم إذ لم تعد الكلمة في مثل هذه الحياة مالكة لخصوصيتها القديمة. بل تتحول إلى كلمة جديدة كلما مر عليها استعمال شعري جديد. لقد جرى تبدل جوهري في صوتها، وتضمنت حروفها دلالاتها. وحتى رسمها وبذلك تحررت من قيودها الشكلية القديمة لتدخل معترك الحياة المعاصرة وقد امتلكت رؤية جديدة تستوعب به طموحات إنسان القرن العشرين هذه التحولات التي هي بالضرورة انعكاسات حقيقة لما اختمر في الواقع والمشكلات الإنسانية ونظرته إلى الكون والحياة والعمل والفكر، هي في صلب تحول اللغة الشعرية من لغة قاموسية ومفردة قارة إلى كلام الناس وبلاغتهم الشعبية المحملة بأيديولوجيا الواقع. فما كان من المفردة الحديثة إلا أن تحمل شحنة هذه التحولات، وأن تفرزها قولا وتشكيلا ضمن إطار من تحديث القول والرؤية والانفعال فما عاد الشعر ذاك القول الموزون والمقفى، بل ما تستجيب أليه مشاعرنا وما يستطيع أن يقدمه لي من سعادة وأفكار وحقائق نسبية فالعصر المليء بالتناقضات عصر لا يعتمد على الكلمات القديمة بل يفرض كلماته الجديدة، لغته الجديدة، تراكيبه الجديدة وعندما استقرت قصيدة النثر على شيء من الأساس المادي لفن القول، وحاولت أن تجد لها في المفردة الشعرية مجالا ما كان مسموحا به قبل اليوم أصبحت. فنا قائما بذاته فهي لم تستعر من الشعر إلا ما يستعيره الواحد منا من تجربته ولم يتداخل فيها الذات والموضوع إلا متى ما وجدت الوحدة الكلية لها.
وإذ تتحول قصيدة النثر إلى صوت عصري معاصر وقوي، نجدها من بين كل الفنون أكثر استجابة لأرواحنا المضطربة، ولقلقنا الحضاري ولأفكارنا المشوشة والمتباينة ولمشروعاتنا، وقد كانت قبلا لا تعايش إلا الموضوعات الثانوية والموضوعات التي يضعف فيها الصراع، وتقل الدراما. وتفقد المواقف الحاسمة وقد تركت مثل هذه المواقع إلى الشعر العمودي وإلى القليل من الشعر الحديث، أما الآن فقصيدة النثر تعاشر الموضوعات الكبيرة أو تعكس الأفكار التاريخية الفاعلة، أنها الأسلوب الخيالي الذي يشترك في صياغته العامل والمثقف والفلاح والصحفي ورجل السياسة ورجل الاقتصاد أو حتى الشاعر. وعندما أتيح لها مثل هذه الموقف الصعب والخطير بدأت عليها الحروب المعلنة والخفية محاولة إزاحتها عن مناطقها الجديدة، علها بذلك تعيد لنفسها ما كان لها يوما ولم تحسن أدارته.
أن التشبت بالشعر الموزون حتى الحديث منه، جزء من الوهم البرجوازي الذي يفترض للثقافة حدودا وللأشكال حدودا وإن ما يصنعه معمل الشاعر الحديث لا يجوز أن يصنعه معمل آخر. أن التشبت بقيم ثابتة هو جزء من الوعي البرجوازي للثقافة وعبثا يفعل أنصاف الشعراء من إيقاف تطور الحياة المتشعب والدقيق، هذا التطور الذي يفرض لغته الجديدة ويتفاعل مع الإنسان المعاصر بطرق فنية لم يكن بمقدور أي فن جامد التعامل بها. ففي العراق لم تتطور قصيدة النثر كثيرا، لأن البناء الفعلي للشاعر لم يتطور إلا بما يجعله عموديا داخل قصيدته الجدية سلفيا داخل أجهزة الفيديو متأخرا حتى وهو يستخدم العلوم الثقافية الجديدة. شاعرنا وأن أدعى الحداثة في الأسلوب والمفردة وبناء البيت وطريقة التناول ما يزال معلقا بذلك الوهم البرجوازي القائل بأن الممالك المحرمة على سواه لا يدخلها إلا من أعتمر كوفية الوزن والروي الواحد والمفردة القديمة أما شحنات الحياة تطورها تغيراتها أفكارها معاصرتها فهذه أشياء لا يتعامل معها لأن مفرداته لما تزال حبيسة إشكالية الوهم البرجوازي القديم.
لقد عطلت علوم أواخر القرن العشرين فاعلية العقل في الشعر، وبخاصة الشعر الحديث، والأخص بالدرجة الأولى: قصيدة النثر، فانتحى التنظيم العقلي جانبا بل وأصبح شبه معطل لالتزامه الحرفي بالإيقاعية والضبط الصوري، والتسلسل الحكائي حتى أن الشعر الحديث قد أصبح من اختصاص آخر غير اختصاصا العقل، وذلك عندما استجلبت السياسات والاقتصاديات وعلوم الفلسفة والدين وعلوم المجتمع العقل وجردته من حريته وانفعالاته، وأحكمت هي السيطرة عليه على العكس مما كنا نتوقع ونحن في نهايات القرن العشرين من سيطرة أخرى للعقل، سيطرة ولكن بطريقة منفتحة وحرة، فلم تسمح هذه العلوم العقل من أن يلتفت إلى فعل المخيلة وجردته من طاقاته الكامنة، التي كان السحرة والمتأملين والمتنبئين والمجانيين والسياسيين العظام يتعاملون معها، وما محاولة القصيدة الحديثة التي ابتدأت هنا قبل عقدين تقريبا، إلا أولى التمردات المنهجية على سيطرة العقل وصرامته فأطلق الشعر الحديث العنان للمخيلة لأن تستبيح مجاهل العالم والنفس السرية، وأحدثت شرخا كبيرا في التفكير المنهجي الصارم عندما استحضرت في البيت العري الواحد أو الصورة- مفردات مفترقة زمنيا ، الميثولوجيا القديمة مع مومس عمياء تركن في إحدى زوايا المدن المنسبية، ايكارورس مع فتى صغير يحبو، الخنزير البري الذي اغتال تموز مع صبي الجنوب المتسخ الملابس، هذه الحرية الأسلوبية فكرية بالأساس، تمرد من نوع خلق عدم التوازن داخل المتوازنات وجعل الشعر يحيا في الواقع التي لا تطالها شمس ومحاولة القبض على اللحظات الهاربة فإذا كان علم الفلك سابقا يدرس المجرات الكبيرة ونجومها المعلنة، فعلم الفلك اليوم يدرس تلك النجيمات الصغيرة التي تملأ المساحات الفارغة كون الكواكب وفضائها أنه يقبض على اللحظات الهاربة من الحياة.
أزداد الشعر الحديث رسوخا عندما كثرت الخروقات العروضية والفنية في بنية القصيدة التقليدية، وأصبحت التوابت التي سار عليها التركيب الثقافي منذ الجاهلية وحتى قبل عقدين محط اهتزاز وتغيير وتنوير فأن ما يصح تسميته بقصيدة النثر سيصح في سنوات الممارسة المنهجية الهوية الأكثر حداثة للشعر وذلك لما تسمح به بنيتها الداخلية من انزياحات مستمرة.. ولما يمكن أن نطلق عليه النغمة التوافقية مستجدات العصر لذلك لا تعالج قصيدة النثر بوصفها خروجا عن بنية القصيدة الحديثة فقط، وإنما تلاؤما مع بنية العصر المستجيبة بحكم التطور لمفردات وصياغات وصور حديثة، مما أتيح المجال لأن تنفتح مجالات معرفية لا يمكن إغفالها، كما لا يمكن للبنية الذهنية القديمة الاستجابة لها أو احتوائها أننا ندرك ما لأهمية هذه النقلة من خروقات كثيرة في بنية اللسان، وبنية العقل وبنية الخطاب الشعري نفسه ندرك أيضا أنها جزء من تكوين ثقافي معرفي يحاول عدم الركون إلى التوابت الصيانية التي سارت عليها الأفكار الاجتماعية والدينية والفلسفية واللغوية هذه التوابت الصيانية التي قمعت طوال خمسة عشر قرنا أي تمرد يحدث فيها باسم التقاليد والأعراف نفسه، نعم لنرفض التوابت أو القيم التدميرية الصيانية ولتنشأ عوضا عنها المتغيرات أو القيم التدميرية الثورية نحن بحاجة ماسة إلى تدمير- أي تثوير- ما ألفناه وسكناه وتعودنا عليه وأصبحنا نعرف أننا محكومين بقيم مرتبطة بكل جزء منا، تشدنا إلى ما هو قديم دون محاولة احتواء هذا القديم بما فعله يوم ذاك.
لم يعد الأمر بأن لونا شعريا قد يولد من تجمع ألوان شعر أخرى بل أصبح الوليد الجديد كيانا متكامل النشأة لأنه كان الجرثومة المولدة والكامنة منذ القدم في كل أساليب القول ومن يتصفح كتابات النفري، أو الجاحظ، أو أبو حيان التوحيدي، أو كتابات الصوفيين، وغيرهم يجد أن النغمة الشعرية جزء من البنية الأسلوبية ومن يقرأ الأشعار العربية القديمة كلها، بدون استثناء حتى تلك الأشعار النظم كألفية أبن مالك، يجد النفحة النثرية- الشعرية موجودة ضمن كيانها وهكذا ببساطة وجد مناخات كثيرة، قديمة وجديدة لولادة قصيدة النثر، التي أصبحت اليوم كيانا ضمن القصيدة الحديثة، أو رويفا، أسلوبيا، وتكوينا داخليا يتوازى في بيتها بل ويعمق إحساسها بالعالم المألوف، أو بتراكيبه وآفاقه.. فالقصيدة الحديثة، ذات البنية الإيقاعية المفردة وقعت في الأخطاء نفسها التي وقعت بها القصيدة العمودية. لأنها ما تزال تتعامل مع المنطلقات الشعرية السابقة أي تلك التي بدأت الحداثة كالأسطورة ، والرمزية والغنائية أو الاستعارة التاريخية للأحداث أو للشخوص في حين أن النظرة الجديدة نظرة الواقع والفكر إلى تلك المنطلقات ما عادت بأساليب قديمة قد جرى تحول جذري في طرق الاتصال والتوصيل، وفي طرق القراءة، والتلقي، في طرق الاستعارة والترميز ما عاد الشاعر اليوم بنظر إلى دار جده كما لو كانت أرثا قبليا يجري التعامل معه كمقبرة حية وإنما النظرة أليها أصبحت مشبعة بحس مكاني- زماني معاصر إلى أي مدى يولد ذلم المكان صور من صور جديدة وحية في الزمن المعاصر أي المكان القديم لم يعد أطلالا للوقوف عليه بل بؤرة تولد صورا حية وجديدة تكتسب خلال الممارسة إمكانية مستقبلية.. قصيدة النثر تعالج مثل هذه المواقع، حتى ولو احتوت على إيقاعات داخلية.
لا نريد هنا استذكار أو توثيق ما نذهب أليه بآراء الآخرين فمثل هذا التوثيق أصبح سمة نقدية"نقليه" يفقد الناقد شخصيته حتى ولو رصف رأيا بموازاة ذلك الرأي.. أننا نحتكم إلى قناعات ذاتية وموضوعية أتت خلال الممارسة القرائية للنصوص وخلال استشراق منهجي يجمع الظاهرات الجديدة ولذلك ليس ما يقوله كمال خير بك أو كوهين أو برنارد أو غيرهم إلا أمثلة لتلك الاستشرافات الذاتية، وعليه فالموازاة النقدية في مثل هذه الظواهر هي المعول عليها في الكشف عن آليات فن واتجاه ونوع لا يمتلك الآخر-الناقد- الرؤية نفسها للنصوص، بل يمتلك رؤيته المستنبطة من نصوص قرأها هو وعليه فالكتابة النقدية كتابة موازية لبعضها البعض، وقائمة على الكشوفات التي يستخلصها الناقد بنفسه، ولا بأس أن تكون ثمت دراسة مقارنة أو دراسة تاريخية للنقد شأنه شأن الشعر إبداع لا يقلد ولا يستعير، وأن استعار خرج من دائرة النقد إلى البحث. في ضوء ذلك، ما نقوله هنا، قولنا كله، قولنا المبني على اقتناص خاص من أن قصيدة النثر قصيدة مستقبلية.
لا بد من أن ننظر إلى قصيدة النثر بوصفها"نفي النفي" هي نفي للشعر الحديث، الذي كان نفيا للشعر التقليدي، وبذلك لا تعود قصيدة النثر كمطلق إيجابي إلى العمودي والتقليدي، بل تقفز فوق ركام الاثنين لتصبح ابتداءً يحمل في داخله النقيض، هذه البنية الجدلية، تبعث بالضرورة من تطور الحياة العربية ومفاهيمها نفسها بمعنى أن الصيانية التي أحكمت سيطرتها على البنى العقلية كاملة وطوال قرون وجدت داخلها قوى تدميرية سرعان ما قمعت هذه القوى التدميرية بالقوى الصيانية السابقة وما أن نجحت حتى بدأت القوى الصيانية تستوعب ما نشأت أو ثارت من أجله القوى التدميرية، ونجد هذا المبدأ الجدلي قائما في كل فروع الثقافة والحياة العربية الإسلامية، ولكنها بعد فترة تكون الحياة قد هيأت قوى تدميرية جديدة ولكن بظروف وأساليب أكثر قوة ولما بدأت هذه القوى تمارس ضغوطها المعرفية وتجهر بأفكارها حدثت أن استنهضت القوى الصيانية من جديد أو قمعت القوى التدميرية، ثم استوعبت منطلقاتها الفكرية وأساليبها ولم يعرف أن وجدت القوى جميعها: الصيانية و التدميرية معا، وعلى ساحة واحدة إلا في مراحل اصطفافها مرحليا أما لمواجهة قوى تدميرية خارجية تريد القضاء على الاثنين وأما في مرحلة بناء داخلي، يفسح عن توازن قوى اجتماعية والجبهات الوطنية شاهد على هذه المرحلة.. إلا أن ما يحدث غالبا، أن تعيد القوى الصيانية موازينها القديمة، وتروح مسندة نفسها بأفكار سابقة، لتمارس فعل التدمير باسم الصيانة على القوى التدميرية ولتعيد لنفسها الموقع الأكثر أمانا في مسيرة العقل العربي- الإسلامي.
هذه البنية المركبة المعقدة والجدلية نجدها في الشعر، وفي الثقافة كما نجدها في الاقتصاد والسياسة والمجتمع والأفكار.. نجدها في الشعر على وجه الخصوص لأن الشعر ترجمان الحياة، وانعكاس لها، والشعر أكثر الأنواع الأدبية تأثرا بالتغييرات الفكرية لاتصاله بالمشاعر لا بالبنية العقلية، رغم أن البنية العقلية- القضائية والاجتماعية تمارس ضغوطا على المشاعر فتفرز لها مجالات قول مباشر، الشعر أحد هذه الأقوال المهمة والعاكسة.
ما نريد الوصول أليه، بالصيانية والتدميرية، أن قصيدة النثر كائن تتسرب به كل الفنون وعندما يستوي على قدميه ويقف، معلنا صوته، ووضوح منهجيته، يصبح نوعا شعريا مستقلا يفرض بالضرورة أساليب تعبيره، وقيمه، وشروطه الفنية الداخلية والخارجية. وليس صحيحا أن نرى الشعر كل الشعر من خلال إيقاعه الداخلي وإنما من خلال إيقاعه الخارجي أيضا فالإيقاع الخارجي يمارس ضغطا مباشرا على الإيقاع الداخلي ليغيره.















الحد: استقصاءات في البنية المكانية للنص





























ليس هينا على مبصر يقظ أن يستسلم لقوة الأشياء الظاهرية، عليه أن يجوس فيها يغيرها، يتفاعل معها، فالعين وحدها قادرة على افتراض أن ما تشاهده ظاهريا يحتمل الخطأ، ولماذا لا تكون هذه الغرفة بهذا الشكل المستطيل، ولماذا وضع الشباك هنا، والطاولة قد حددت بمساحة وحواف وزوايا.. العين تعاشر الأشياء تعاني باستمرار من ركود المعرفة فيها، من أنها ظلت ومنذ البدء وإلى ما لا نهاية تستلم إلى ما هو معطى ما هو خارجي، وكان ثمت قدرية ما مسلطة على النظر كي يبقى يتلقى ولا يبدع يستلم ولا يسلم.

1

هذه المقالة ليست إلا تساؤلا في هذا المجال، لماذا لا نمارس قوتنا على الأشياء فنغير منها، ولماذا تكون الحياة معطاة بطريقة كما لو أنها تعاند التغيير، والتساؤل هذا ليس فلسفيا، أو ما وراء الفلسفة، إنما هو محاولة لوضع كل شيء ضمن حد المعرفة العياني، دون أن نسقط هذه المحاولة في مفهوم الظاهراتية . الذي يعلق كل معرفة في لحظة الانفعال بالشيء. وإنما نحاول أن نعتمد التاريخ أساسا معرفيا والممارسة الحياتية أساسا آخر. وهكذا يمكننا بسلسلة من الممارسة العملية اليومية والفكرية على الأشياء أن نخلق فيها خللا، وبالتالي أن نغير من طبيعتها..
قد لا تجيب هذه المقالة على مثل هذه التساؤلات كلها لأنها هي الأخرى محكومة بطريقة تناول ذاتية بحتة، وهذه الطريقة تفتقر إلى مكملات، بمعنى أنها لا تنوي إلا الحفر في طريق المعرفة العيانية- الثقافية للشيء،وهذا الحفر في أولياته لا يعتمد التطبيق على أي نص أو مفهوم ثقافي، وإنما يعتمد الإشارة إلى أن معارفنا ناقصة ما لم نحاول كسر الرؤية المألوفة للشيء، ولذلك فالمقالة تكتفي بنفسها دون امتداد تطبيقي لها، ما تحاوله هو إثارة السؤال بالحدود الموضوعة سلفا، والحدود الملغاة بالمعرفة، والحدود كجزء من تركيب خاص يفرضه داخل الشيء لا خارجه. وعندما نجد أن فعل هذه التساؤلات حرية البحث والكشف عن مستوياتها، تكون المقالة قد أثارت شيئا من التساؤل العام، وهو إلى أي مدى نستطيع عدم الاعتماد على ما هو مقدم سلفا في التقييم، وهل بإمكاننا خرق قوانين الماضي لنحيا احرارا في صياغة سؤالنا المعرفي الجديد؟
ولما كنا في مقالات سابقة نعاين الظاهرة من خلال توصيف خارجي، داخلي لها، فالمسعى هذا يقوم على ترسيم الظاهرة المكانية وفق سياق أجرائي يحدد لنا الكيفية التي نرى فيها الحد مكانيا ومعرفيا عاما .
فالحد، يعد أهم الأسس المكانية لتحديد المفاهيم والقيم والأفكار، فهو ليس ظاهرة مكانية يعيد تشكيل عناصر البناء الفني كلها.
والحد كما يبدو لي مدخل إلى الفهم الصحيح لأي مفهوم نريد به الدخول إلى عالم النص، فالعناصر التي يتألف منها أي نص تمتلك حدودا داخلية بينها- داخل النص وخارجه وأن الحدود من الصرامة والوضوح ما يجعلها مختلفة من نوع أدبي إلى آخر، وإذا كنا قد ألمحنا في مقالات سابقة إلى أن أي نص يمتلك بؤرة مكانية تولد بقية الأمكنة التي تشكل سدى النص داخليا، فأن معرفة الحدود بين هذه الأمكنة وبقية عناصر النص واحدة من جماليات النقد التي لم يجر الكشف عنها في دراسات سابقة .
فالحد، أو التحديد الذي نسعى أليه في هذا البحث، تعتمد الفهم السابق، أي البحث ضمن تحديد مفهوم الحد بين الأمكنة أولا، وصولا إلى تحديده بين العناصر المكونة للنص ثانيا، وسيسير النهج لهذا البحث في الدمج بين أولا وثانيا.



2
الحد تعريفا
الحد في اللغة: ( المنع، وفي الاصطلاح قول يشمل على ما به الاشتراك، وعلى ما به الامتياز) (1) الاشتراك والتميز هما خصيصتا الحد.( حد الشيء عن الشيء الآخر ميزه عنه) (2) و( حادت أرضه أرض فلان أي جاورتها).( والحدُّ مصدر حدَّ) الحاجز بين الشيئين. و( داري حد داري، محادتها) (3) فالحاجز بين الشيئين: يميز الشيئين ويشركهما معا. وفي الأدب يكون الحد هو ( المعروف الجامع المانع، أي الذي يجمع المحدود ويمنع غيره من الدخول فيه، وشرطه أن يكون مضطردا أو منعكسا وعلامته استقامة دخول كلّ في الطرفين جميعا نحو كل نار فهي جوهرُ محرق، وكل جوهر محرق فهو نار) (4)، وله عند المنطقيين والمهندسين والفقهاء والنقاد والفلاسفة تعريفات وتشخيصات أخرى سنأتي على ما يفيد بحثنا منها.
في حال من أحوال الحد نجده تحت قسم من الظرف المكاني، كالدار والبيت، وقسم من الظرف الزماني كاليوم والشهر وكلاهما مؤقت ، محدود، كما يطلق على الظروف المكانية المبهمة، كالناحية والزمانية المبهمة كالحين. وعليه فالظرفية هنا المعلنة منها والمبهمة، هي جزء من تحديد مفهوم الحد مكانيا، الذي يعنينا في بعض تصورنا المكاني ككل، فالحد المكاني، يتسع لمفاهيم شاملة كثيرة وكبيرة، كالحد الأصغر والحد الأوسط، والحد الأكبر، كما يعيننا على فهم أدق للمكان الفلسفي الذي يعني عند الفلاسفة العرب أنه" السطح الباطن من الجسم الحاوي المماس للسطح الظاهر من الجسم المحوي، هذا عند الحكماء، أما عند المتكلمين فالمكان هو الفراغ المتوهم الذي يشغله الجسم وينفذ فيه أبعاده"(5) الحد يعيننا كذلك على الفصل بين الباطن والظاهر في الشيئين، أي يميزهما من خلال الاشتراك فيما بينهما.
يساعدنا الفهم الاصطلاحي للحد على تحديد مسار بحثنا مكانيا. فالمفاهيم الفلسفية والفقهية والدينية واللغوية والمنطقية.. الخ تنطلق كلها من مفهوم واحد هو التمييز بين شيء وآخر . والتمييز هنا مهما عولج وفهم وفسر هو مكاني بالضرورة، سواء أكان داخل النص فيما هو حاصل بين عناصره، أو خارج النص فيما هو حاصل طبيعيا، ولذلك فالمكان هنا، هو المولد الفكري لكل التفسيرات والتأويلات، وهو بالتالي الفكر البؤري لما يخص تلك المفاهيم ومجالات تطبيقها.

3
كي لا يضيع مفهوم الحد المكاني ، بما يحتويه من سعة شمولية تصل إلى حد التأثير في مفاهيم سياسية وأيديولوجيا كبيرة، كما هو حادث في المفهوم الماركسي والمفهوم النفسي للتحديد. نحاول تركيز بحثنا على ما يخص الأدب. النصوص بمعناها المحدد- لا الأدب بوصفه جزءا من الثقافة. أول ما يتبادر إلى الذهن هو الفصل بين الأنواع الأدبية، أي التمايز بين الشعر وبين القصة، بين المسرحية وبين الرواية.ز الخ، هذا التمايز الذي يشهد الآن تداخلا بين الأنواع فتضيع سمات النوع ولم يصبح صافيا بما فيه الكفاية، وبذلك تصبح نظرية الأنواع الأدبية ملغاة بحكم أن الضرورة الفكرية وحاجات الإنسان المعاصر إلى رؤية اشمل قد فرضت على النوع الأدبي عدم الصفاء. هذه النظرية- نظرية الأنواع- لم تعتمد على ما هو دقيق في عزلها وفصلها بين الأنواع، لأن المفاهيم السابقة المسندة عليها لم تعد بمقدورها اليوم مواجهة متطلبات النص الجديد، إلا أن ذلك لا يلغي كليا الحدود بين الأنواع، بحيث ينعدم التمايز والاشتراك، وإنما يبقى من النوع خصائص خاصة به تميزه عن خصائص خاصة بنوع آخر، وأن هذه الخصائص نفسها يتسع ثوبها ويتجدد ليستوعب عناصر من نوع آخر تدخل فيه دون أن تحدث تغييرا جذريا في نوعيته. هنا لابد من إعادة النظر في الأنواع الأدبية، وذلك من خلال تمدد، وتوسع، وعدم التعيين الدقيق لمفهوم الحد النوعي للنوع الواحد.
يتيح هذا التصور الشامل للتداخل بين الأنواع، وإلغاء الحدود، إلى تداخل من نوع آخر، يخص العناصر البنائية للنص نفسه، فالسرد مثلا لم يعد بالقوانين السابقة نفسها، فبعدما تعدد الرواة وتنوعت أمكنتهم وأزمنتهم وأغراضهم ودخل القارئ شخصا فاعلا في النص، ما عاد السرد ملتزما بزمن معين ولا بحال نفسية محددة، كما أن الشخصية نفسها قد تبدلت وظائفها ومهماتها عندما فرضت الأشياء حضورا فاعلا في بنية النص الجديد. وهكذا تجد العناصر البنائية للنص في حال تطور وتجديد، قد يكون من أجل أكثر تحديدا أو لإلغاء الحدود الداخلية لها. وما نشهده اليوم من تطور ملموس في قالب القصة قد تكون بحدود جديدة أو بإلغاء الحدود السابقة. فما يكتبه محمود جنداري ومحمد خضير ولطيفة الدليمي على سبيل المثال يعد خروجا بينا على قالب القصة الذي يكتبه موسى كريدي، فؤاد التكرلي، عبد الخالق الركابي، احمد خلف، عبد الستار ناصر، عبد الإله عبد الرزاق، عبد الرحمن الربيعي، غازي العبادي، وعدد آخر من قاصي المراحل كلها.
ففي الأدب يكتسب الحد معنى مرنا وأن كان لابد له من وضوح وتدقيق. ففي الأدب يكون الحد هو" المعرف الجامع المانع، أي الذي يجمع المحدد ويمنع غيره من الدخول فيه" ومع أن التعريف هذا يدخلنا في باب منطق العناصر المعزولة والمختلفة، فهو في تطبيقاتها الأدبية قد لا يكون بمثل هذه الصرامة. لأن الأدبية في الأدب تزيح باستمرار عناصر أو أجزاء من عناصر مهمتها إلى مهمة أخرى، فتعطى للمفسر والمؤول إمكانية الاجتهاد والابتكار، كما أن الأدبية نفسها نتاج عقلية ثقافية وممارسة متدربة على تنويع الاستعارة والرمز والدلالة بحيث يتميز لدينا أسلوب كاتب عن آخر، وشعرية شاعر عن آخر، فالحدود التي نعنيها هنا في مراحل تطور الأدبية حاليا قد لا تكون بمثل تلك الصرامة التعريفية، ونعود للتعريف الأساس فنجد الحد هو اصطلاح لقول يشمل المشترك والامتياز..مشترك من أجزاء لعناصر أخرى، ويمتاز بكونه يوظف قدراته الذاتية للتعبير وللتوضيح. لربما زادنا التفسير المتعدد لمعنى الحد في أعراف أخرى من القول فهو عند الأصوليين مثلا" العرض المحيط بمعناه المميز له عن غيره ويرادفه المُعرف"(6) فالشخصية، الأسلوب، الزمن، الراوي، المكان، الاستهلال.. الخ، لابد لها من مميزات خاصة بها حتى ولو تداخلت في تراكيبها أجزاء من عناصر أخرى. فالعرض يعني الموضع أي" محل يقوم به الموجود"(7) هنا يتأكد ما ذهبنا أليه من أن عناصر النص الأدبي أمكنة في مكان كلي هو النص.
وبالمكان الانفتاح على عدد كبير من مفاهيم الحد في الهندسة واللغة والفقه والمنطق. بما يجعلنا أحرارا في الحركة الداخلية لمعنى الحد أدبيا وفكريا، لكننا، وضمن منهجية هذه المقالة، سنركز المحاولة في المساحة المتداخلة بين النص مكانا، وحالات النص المكانية على أمكنة في المحيط وفي المجتمع. ذلك لأن هذه العلاقة تعني لدينا تبادلية التأثير بوصف الأدب انعكاسا ذا مرآتين لا مرآة واحدة، الأدب يعكس ما في المجتمع، والمجتمع يعكس ما في الأدب الانعكاس الأول إبداعي أما الانعكاس الثاني فتاريخي- اقتصادي لذلك يتوجب التحديد للعلاقة أن نستعير من مفاهيم أخرى ما يؤكد معنى ومبنى الحد في النص.

4
يصل الأمر بنا بممارسة الحدود في كل شيء نعمله، فالتحديد يرتبط بالنوع لا بالكيف. بل هو سمة نوعية، وما التعدد في الأشكال إلا تعدد بتحديدات النوع. وابتداءً من تصميم خارطة الشيء مكانيا، إلى تصميم خارطة اللسان لفظيا نمارس فعل الحد في كل ما نقول وما نعمل. تستجلب الحدود حساسية ما بالتنوع، التنوع يعني التعددية ويعني الاغتراب بين ما ينتج وما نحتاج. كما يعني الحد نهاية السيرورة للشيء "لا يكتمل الحد إلا باكتمال الجسم"(8). والحد مادة تشاهد وتحس وتبنى في المخيلة، لذلك وضع الشيء المعلوم بمقابل الشيء المجهول، وابتكر الأدب العالم الواقعي بمواجهة العالم المتخيل، فكما أن للبحر الواقعي حدودا، كذلك للبحر في الحكايات وقصص الخرافة حدودا. فالحد كيان معرفي يسيج المعلوم والمجهول، وبه نتعامل في الدخول إلى والخروج من. ليس الحد عتبة نتجاوزها للدخول، ولا هو عتبة نجتازها للخروج، وإنما هو تكوين مادي/ معرفي للأشياء فقد يكون الحد بين حجر وحجر، أو يكون بين جبل وجبل، إنسان وإنسان. ولغة الحد لغة بصرية/ معرفية، تنشأ عندما نبدأ بالتفكير في الآخر، لذلك يسيج الآخر لنا جزءا من الحد ونصنع نحن الجزء الثاني ، الحد كيان لساني/ مكاني، وهو إذ ينشئ الفواصل يوضح على مدى التعامل والإدراك مع الأشياء إحدى السبل للدخول إلى عالم آخر، وهنا، وبعد أن يتضح لنا الحد. نمارس حضوره في وعينا السابق، أي يتحول ضمنا بعد الاجتياز إلى ماضٍ، أما الحاضر فهو الكيان الذي نخوض فيه فعل الممارسة، وما الحاضر إلى إحدى أدوات الحد الفكرية والتأسيسية.
لنرفع بصرنا إلى أي مكان، سقف الغرفة مثلا، فنرى مئات الخطوط المحددة للشيء، خطوط الزوايا والمسطحات والمنحنيات والتعامد والتوافق ودوائر ومستقيمات.. ونمعن النظر ثانية لنجد أن هذه الخطوط الملايين ما هي إلا تجسيدات للحضارة الحديثة أو جزء منها، وهو العمران وفنون العمارة، أو هو النقلة الفكرية الكبيرة من المجتمع الزراعي إلى المجتمع العمراني- الصناعي، أن هذه الخطوط تحاول كسر حدة الأفق الدائري والانبساط الأفقي الريفي، والعادية الحياتية اليومية،تحاول هذه الخطوط الملايين تقنين الرؤية وتحديد بمئات أو بآلاف الفواصل والعوازل بين الأشياء المتراكمة في اللوحة الطبيعية أو اللوحة المصنوعة، هذه النقلة الحضارية الكبيرة حاولت أن تجعل من التحديد والحدود قضية جمالية وفكرية ونفسية بل وجعلت منها إحدى الهويات المعاصرة لحياة المدينة، مغيرة إياها من طابعها السكني العام أو الوظيفي، إلى طابعها المرافق للعمران الإنساني والفكري.
إذن لنمارس فعل التقطيع، تقطيع الأشياء إلى أجزاء فنحصل على أشياء مختلفة حتى ولو تشابهت في المساحة والحجوم، أن الممارسة العملية لأي فكرة لا تولد متشابهات وإنما تولد استعارات متعددة، كل مفردة في هذه الاستعارات تدخل من جديد في بنية تركيبية أخرى تمارس حضورها من خلال تحديدها الذاتي. بمثل هذه اللغة المكانية يمكننا فتح منطق التفسير على مجالات جديدة في التعامل الحياتي والثقافي، فالغرفة التي أعايشها ببصري وبوجودي الحياتي اليومي تتآلف معي وأتآلف معها عندما لا تدخل في تكوين معرفي آخر، لكنها ما ان تصبح مكانا لرواية أو قصيدة أو الصور الفوتغرافية.. الخ حتى تبدأ بوجود آخر لها ولي. أن المعرفة تملك حدودا خاصة للتأمل في الموجودات المعاشية، وإلا لحاولنا أن نجعل من كل غرفة نعرفها وعشنا فيها مكانا عاما وشاملا لكل الغرف التي ترد في الروايات والقصص والقصائد. أن التعددية للمكان الواحد في الأعمال الأدبية المتعددة وحدها تكشف عن المستويات الخفية غير المرئية الكائنة في المكان الواحد. وعندما تجد المكان قد تنوع وتعدد، فقد اكتسب في كل مرة تحديدا منهجيا آخر هو غير التحديد الذي نعرفه عنه، أو الذي قرانا في عمل إبداعي آخر. وهكذا وجدنا في التعددية التي تفرضها الحدود على الأمكنة طاقة أخرى لعمل المخيلة النقدية.
يعطينا الحد- برغم صرامته- حرية في التأمل أننا لا ندرك الشيء إلا بعد تحديده، ولا نسميه إلا بعد تحديده، ولا نمارس الفعل معه إلا بعد تحديده، ولا ندخله في تركيبات أخرى إلا بعد تحديد دوره، ولا نقيس الشيء الأخر إلا بعد أن نحدد الشيء الأول، والحد في الشيء يولد حدا آخر لشيء آخر. وهكذا يتحول فعل التنوع إلى فعل تأملي تأويلي. قد يلجئنا البحث أحيانا إلى افتراض شيء آخر غير موجود، بعد ما يحدده لنا الشيء الموجود، والعكس يحدث تماما، بل أن تاريخ العلوم واكتشافها قد تم هكذا، شيء مجهول محدد يولد شيء معلوما. المرض هو الذي اكتشف الجرثومة، والجرثومة هي التي اكتشفت الدواء، والمجهول هو الذي يولد المعلوم، وما المعلوم إلا مولدا للمعلوم، والسؤال الفلسفي يبدأ من المجهول لا من المعلوم.
تحديدنا للشيء، جعلنا له حدا، والحد بذاته بداية لشيء آخر فحد الأول هو حد للثاني ولكن بوجه مقلوب، ويتساوى الحدان عندما يكونا لشيئين متساويين، التساوي هنا مقداري لا معياري، إلا أن التحديد يكتسب معاني مختلفة في عدد من التعاملات والممارسات، نحاول في الفقرة التالية بيان ذلك في الاستعمال الهندسي له كمقدمة لتحديد أشمل.


5
" الحد عند المهندسين نهاية المقدار"(9). ونهاية المقدار" يحددها الخط والسطح والجسم التعليمي ويسمى طرفا"(10). ولا يتضح حد المقدار إلا بوجود شيئين ولذلك فالطرف، هو النهاية ليس ما بعدها شيء، أما الحد بين الشيئين فيكون مشتركا أي " ذو وضع بين مقدارين يكون نهاية لأحدهما وبداية للآخر او نهاية لهما أو بداية لهما"(11). ويتضح من المفاهيم القاموسية السابقة للحد عند المهندسين" أنه طرف لشيء ليس بعده شيئا، وحد مشترك لشيئين نهاية لأحدهما وبداية للآخر" والشيئان لهما ليسا متماثلين بالضرورة. نخلص من ذلك كله، أن الحد قيمة مقدارية وقيمة معيارية، أن القيمة المقدارية مقاسه، والقيمة المعيارية مؤولة ومدركة. وفي الأدب تنفع الثانية، في حين تكون الأولى حاضنة لها، فلو نظرنا إلى حدود الدار مثلا، أ, قطعة أرض محددة نجد لها أربعة حدود، كلها على السطح. ولو كانت الدار مشتركة مع دار أخرى بحد، ومع دار ثانية بحد، ومع دار ثالثة بحد بينما بقي مع الحد الرابع غير مشترك سميت الحدود المشتركة تلك بداية للدار ونهاية للدور الأخرى، بينما بقى الحد الرابع طرفا لها. الحدود المشتركة تسمى وتعلم بالدور بينما الطرف لا يعلم إلا بالدار الخاص بها، يتيح لنا مثل هذا التكوين المكاني إمكانية التعامل مع اللغة الأدبية من خلال بناء الجمل، فثمت عبارة أو جملة تكون مشتركة الحد بين مفهومين أو شخصيتين أو حادثتين، وثمت عبارة أو جملة تكون طرفا لحوار، او لحادث او لفكرة أو لشخصية، في البناء الدرامي لا تنفع العبارات الطرف، وفي البناء الشعري الغنائي تكثر العبارات والكلمات الطرف. في اللوحة التشكيلية يكون الحد حصارا للداخل وليس طرفا لأن ما بعد حدود اللوحة لا شيء مشترك معها. حد الشيء هنا ليس حدا ولا طرفا، في حين يمون الحد في المسرح أحادي البعد، وحده الرابع- الستارة- هو الحد المفتوح- المشترك. هو طرف للمسرح ، وحد مشترك مع الجمهور، هنا يصبح الحد ملغيا بفعل التبادلية المستمرة بين المتحاورين: الممثلون والجمهور، ثم تصبح بناية المسرح كلها ذات حدود=معنوية لا مقدارية= مع المجتمع، لذلك لا يصح الحد عند المهندسين إلا في حدود الترسيم الجغرافي للعمارة أي أنه يتيح لنا مجالا للتأويل= دون سواه من الحدود يمكننا العبور إلى محاولات معرفية أخرى كالأدب، في حين أن المعاني للحد عند الفقهاء مثلا تذهب إلى أبعد مما نتصوره في الأدب، فالحد عند الفقهاء هو" عقوبة تجب لـ لله تعالى سميت به لأنها تمنع من المعاودة"(12). في المعنى العام للعقوبة هي حد صارم وفي المعنى الخاص له يتحول الحد إلى مفهوم" تلك حدود الله" وحدود الله ليست معلمة مكانيا، وإنما مشترطة بقوانين التأصيل والاجتهاد، لذلك لن تنفع الحدود عند الفقهاء إلا النقاد، اؤلئك الذين يجتهدون في النص فيرون فيه انفتاحا أو انغلاقا.
في المفهومين السابقين: المفهوم الهندسي للحد: مشتركا وطرفا، والمفهوم الفقهي له" عقوبة مقدرة" تشابها من حيث الدلالة، واختلافا من حيث الإحالة والتأويل. فالفقه يرى في الحد المنع ولذلك سمي البواب حدادا لأنه يمنع من الدخول والخروج، لكنه عند المهندسين اشتراكا وطرفا، الاشتراك منع أيضا، أما الطرف فمطلق إلى الداخل، يفيدنا هذا الفهم في الأدب فائدة كبيرة، لا تفيدنا العبارات والجمل المشتركة بوصفها بداية لشيء أو نهاية له، وإنما الاشتراك يعني التداخل بين المتجاورات، تداخل من نوع النقاد من وإلى، وليس منعا بين من وإلى. ربما لأن الأدب من فنون القول الجمالي المطلق التأويل والتحليل، وربما لأن العبارة متكونة من كلمات تحمل في أبعادها اطلاقيات فكرية، وربما يزيد النقاد منها سعة وعلما.ز إلا أن الحدود بينها لا تكون من الحدود المانعة، بل من الحدود النافذة، والنافذة، حدود متطورة لا تصنع إلا حدا واحدا، هو نهاية النص كتابة.
تعطي حدود العبارة/ الجملة/ الكلمة/ المشهد/ الفصل..الخ. مبدءا جماليا قلما تناولته مدارس الجمال. وهو النغمة الداخلية المتساوقة البناء والمؤلفة من ثلاثة مبادئ رئيسية: الكفاية والدلالة والوصول، كفاية الكلمة والمعنى، ودلالتها ضمن البنية الكلية، ووصلها بين ما سبق وما لحق. شأن هذا كله، شأن البيت المكتمل الذي تؤلف أجزاؤه وحدة كلية قد تتشابه أجزاؤه أو يتشابه هيكله مع مثيله من خلال التكرار، إلا أن الشاغلين له يغيرون من تركيب المبادئ الثلاثة بما يجعله نصا مكانيا مشغولا وخاصا، وبذلك يحقق الحد في العبارة.. المشهد، بنية فكرية أوسع، من خلال مجاورته واشتراكه، لا من خلال صرامة تحديده، فالحد قبل أن يكون فكرة، تجسيد، وكيان بصري، يصبح أداة تآلف بين متجاورات لعل ما تجاور الأنغام المتناقضة والحالات المفترقة واحدة من قيم الحد في الإبداع. فالحد هنا لا يصبح حدا فاصلا، بل حدا متداخلا حتى ولو سمي حدا.
كيف يقيم الحد حوارا عالي النبرة بين متحاورين؟ ففي البيوت والأزقة المتشابهة التكوين. لا يقيم الحد فيها إلا الحوار المألوف المكرر يوميا، حوار العمارة وطرز البناء، حوار التصميم الداخلي، حوار الوظيفية التي أنشأت من أجلها، الحوار الجمالي عبر الرؤية، حوار الحياة الاجتماعية- الاقتصادية، حيث العمل يوحد السكن ويوحد اللغة والمفاهيم، حوار لا حد له، سواء أكانت هذه البيوت في المدينة أو القرى، فثمت تناسب ما فكري بينها. لقد فرضت طرائق العمل على الناس أن يكونوا متشابهين حتى في العادات، وبالتالي لأن يبنوا مجتمعا متلائما وإيقاعهم النفسي والفكري. لذلك يولد التشابه حوارا بين المتشابهين، ولكنه حوار داخلي، حوار نقي ونوعي، أي ثمت بيوت تتحاور داخليا وثمت بيوت لا تحاور إلا جارها.
ضمن هذه البنية المكانية المتشابهة، تلغي الحدود، كحدود فاصلة، لأنها تسمح بالاختراقات الداخلية واختراقها يتم أم بواسطة فعل يؤكدها، أو فعل يوسعها، وعندما يكثر المتحاورين تكثر الحدود.
في أحد أفلام الكرتون للأطفال، يتحاور بيتان صغيران متجاوران، وخلفهما تقيم عمارة كبيرة، فبدا وكأنهما طفلان أمام عملقة العمارة، وكان حوارهما ينصب على أن البيت الكبير- العمارة- قد أنجبهما، لكنه تنكر لهما، وتركهما لوحدهما يواجهان العواصف والأمطار والحرارة، قائلا لهما قد أنجبتكما ووجدتما في الحياة، وعليكما مواجهة المخاطر.. وأثناء حوارهما الطفولي هذا تهب عاصفة فيهتز البيتان الصغيران بينما لا يتأثر المبنى الكبير، وفي لحظات الخوف والقلق يمد أحدهما يده للآخر لينقذه وليشدا بعضهما بعضا، وما أن تمر العاصفة حتى نرى الإعياء باديا عليهما، لكنهما في الوقت نفسه قد ازدادا طولا وانبنت غرفة إضافية لكل منهما، بل ونبتت الأشجار الوقاية وفي لحظات اندهاش البيتين مما حدث، وجدا أن العواصف لا تقلع إلا البيوت غير الراسخة، البيوت العادية التكوين والنشأة.. وفي نهاية الفلم يتلفت البيتان إلى البناء الكبير ليوجها له كلمة..
ليس المهم ما قالا للبناء الكبير، لأن البيتين تحولا إلى فكرة رامزة ببساطتها، فخلقا من الحوار بتجاورهما قوة ربما لأن التشابه بين طرازيهما، ووظيفتيهما، وجمالهما هو الذي جعل منهما حقيقة مكانية تملك لغة بصرية وفكرية.
ويتيح لنا الخيال الشعبي في الحكايات والقصص الخرافية إمكانية اختراق الحدود بطريقة تقربنا للمفهوم السابق، فمن الواضح أن الحكاية تلغي الحدود بين الكثير من الأمكنة والأزمنة والشخصيات. ففي لمحة بصر يتحول البطل المضاد إلى حيوان فتتجمد فاعليته كي يستمر البطل الأساس في مساره، وبوساطة كلمة تتحول البحار إلى جزائر والناس إلى أسماك، أو نحاس، والبضائع إلى معادن، ويبدو السوق ساكنا، لا بيع فيه ولا شراء، سوى بطل يتجول فإذا به في مدينة قد مسها الضر فتصبح بحاجة إلى رقيه يفك بها المدينة من سحرها.. هذه الإمكانية التخيلية جعلت من الكلمة حرة والفاعلية القصصية مطلقة، ومكنتها معا من اختراق حدود الأنواع والأشكال باختراقها الحدود الكائنة بين الأشياء.
وعندما ينتهي جزء من القص كما حدث في حكاية المدينة المتحجرة الكائنة بين الليلة السادسة والليلة التاسعة من ألف ليلة وليلة، نكون بحاجة إلى بطل آخر يفك السحر عن الجزائر السود لتعود إلى ما كانت عليه مملكة والملك المتحول نصفه الأسفل إلى حجر- الجنس- ونصفه الأعلى بقي بشرا- العقل- فيأتي بطل من جنس الملك نفسه، إذ لا يحل السحر إلا بمنزلة من وقع عليه السحر- وعندما تعود المملكة والجزائر والناس إلى ما كانوا عليه تبطل عملية القص. فالقص- الشاعر- المبدع الحدود الصارمة بين الأشياء ليوجد الوحدة المتناغمة والكلية التي تشد المتفارقات إلى مبدأ جمالي- فكري واحد.
ينفتح مبدأ الحكاية الجمالي في حكايات ألف ليلة وليلة عندما تولد حكاية، حكاية أخرى، فيكون التوليد امتدادا داخليا للنص، لا حد خارجي له، حدهُ، هو كفاية الموضوع- نهاية الموضوع .لو كانت الحكايات محددة،لانتهت بعدد الليالي ولما وصلت إلى ألف ليلة وليلة. والعدد عربيا يحمل دلالة على انفتاح العدد بعد الألف .. نقول أن هذا المبدأ الجمالي للحد جديد ولم يدرس بما فيه الكفاية. وهو أن الحد يفرض من داخل النص لا من خارجه، محتوى النص وأفكاره هو الذي يؤمن حدود عناصره الداخلية أولا، وتفرض نهايته ثانيا، فالحد وفق هذا المنطق ليس نهاية تفرض كيانا أو تحد كيانا، فنروح نتلمس هذا الكيان بعدما ندخل أليه من أبواب حدوده، وإنما الحد يأتي لاحقا وليس أولا. يأتي بعد أن يكتمل النص بناءً ومحتوى.
إذن ما هو (حد) الشيء؟ حده هو كفاية عناصره باكتمال المعنى فيها وبمجموعها.
في العلم الرياضي يصبح" الواحد" حدا مطلقا للأعداد، فالـ"2" مكرر للواحد وقيمة أخرى، والـ"3" مكرر للواحد وقيمة أخرى هذا التكرار للواحد، يولد قيما تتضمن قيمة الواحد، وقيمة جديدة لها، ولذلك لا قيمة مطلقة للأعداد، القيمة المطلقة هي للواحد، يحيلنا هذا الموضوع الرياضي البسيط إلى حبة الرمل، فالصحراء ليست إلا قيمة مطلقة لحبة الرمل، وتكرارها الملول، والتكاثر الأميبي لها ليس إلا جمال الكثرة، وحقيقة الكثرة، عندما تتساوى قيمة المتناهي في الصغر مع قيمة المتناهي في الكبر، ولأن حبة الرمل واحدة، فلن يكون لها اثنان أو ثلاثة لاستحالة تكوين عدد محدد منها فهي واحدة وجمالها أن الواحد فيها هو المطلق الكمي والجمالي معا. لذلك لا حد لشيء فيها ، وإنما كلها فراغ وكلها واحد، ومثل الصحراء، اللغة حقل من التوليد المتكرر للحروف والأصوات وواحد اللغة كلها أبجديتها لا حرف واحد من هذه الأبجدية، فالحروف الثمانية والعشرون للغة العربية هي الواحد فيها، ولأنها تنطلق من اللسان، ومن الحياة، فالعلاقة بينهما توليدية، لا محدد لها، حدودها داخلية، أي اكتمال المعنى للعبارة هو الذي يفرض حدا لها، لا حد خارجي يحدها إلا متى ما توقف اللسان وتوقفت الحياة عن التوليد. ومثل حبة الرمل والأبجدية، يكون الشيء المادي، لا حد للقلم إلا بما فيه من مادة، من موضوع، وعندما يفرغ القلم من مادته أو موضوعه يصبح حد القلم الخارجي فارغا. الحد هو كفاية عناصر الشيء باكتمال المعنى فيها وبمجموعها. ما كان لبابل وسومر وأكد أو حضارة وادي النيل ،أو حضارة اليونان يوم ذاك حدا ما، حدها هو في إبلاغ رسالتها، في انتشار وتكرار محتواها، وعندما تصطدم بحضارة أخرى يكون ثمت حد، كما أن للحضارة الأخرى حدا وحدودهما معا مشتركة ومتميزة. حدود الباب ليست إلا حدود الوظيفة التي أنيطت به، فلو كان للأبواب حدودا معلومة، مسبقا، ومقننة لما تعددت الأبواب وتنوعت. حدودها هي كفاية الوظيفة التي تقوم بها عناصرها لوحدها وبمجموع علاقاتها مع المكونات الأخرى للمبنى. ولم يكن للإسلام حدا جغرافيا محدودا، يوم نشأت الدعوة وانتشرت، حدها هو رسالتها زمانيا ومكانيا. ويوم وجدت نفسها تصطدم بديانة أخرى حدثت الحروب الصليبية، فحد الإسلام حدود لا حد واحد. حد في محتواه وفكره، وحد في قبول حدود أخرى يشترك معها ويتميز عنها. وحد في ديمومته عندما تكون عناصره المولدة والمكونة له مكتفية بذاتها ومشتركة مع المجموع، وحد في استيعابه للمتطور والمعيش فكرا وممارسة، علما ووجودا، فالحد يفرض داخليا لا خارجيا.
نعود للواحد في السطوح والدوائر والمربعات وأشكالها المختلفة، بأوضاعها المختلفة، فقد جرى تغيير كبير على طرق استعمال المستقيم والدائرة والمربع والمثلث بحيث يشعر أحدنا وهو يتأمل التكوينات الجمالية لأي تشكيل مسرحي- ديكور-إنارة- تمثيل- أو لأية شريحة من عمارة، أو منشأ ما.. يجد أن البنى الجمالية لهذا التكوين ما هي إلا كسر متعمد وفني للخطوط، وتداخل بينها، بحيث لم تعد الدائرة وحدها المسيطرة فكريا وتصميما، كما لم يعد السطح المستقيم وحده المتعامد على الآفاق.. ضمن هذه التركيبة يخلق المهندس أو المصمم طريقة معملية في تداخل حدود النقطة مع المستقيم مع الدائرة، تداخلا يجمع بين وظيفتين: الوظيفة المنفعية حيث الاستخدام اليومي والوظيفي للبناء، والوظيفة الجمالية حيث القيمة الثقافية والمعرفية والإنسانية.. وكل هذه الوظائف ما كان لها أن تتغير من مبنى إلى أخر، ومن مجتمع أخر لولا العمل المستمر والدؤوب في صياغة أسس معمارية ومعرفية للخروج بها عن الحدود السابقة للأجزاء القبلية.
يقيم الحد في الحدود الأخرى، متجاورا ومتميزا ومشتركا، ولك أن تصوغ ملايين الأشكال الهندسية من هذا التداخل الحر بين الأشياء، أي التداخل بين الواحد بعدما يجزأ، أو بين الواحد عندما يعين بأشكال.

6
يقيم الروائي مثلا حدثهُ في بقعة مكانية محددة، قرية ماكاندو في مائة عام من العزلة، جزيرة كريت في زوربا، السجن والمنافي في بيت الأموات، الغرفة في الجحيم، الصحراء- العيون في مدن الملح، البيت البغدادي في الرجع البعيد، المحلة في المخاض، المقهى في القربان.. الخ والبقعة المكانية هذه خلاقة ولا شك، مولدة ومثيرة، ولها بعدها المعرفي والنفسي، لها زمنها وعناصر تكوينها، ولها لغتها ولها معلوماتها التي يعرفها الروائي، معايشة أو قراءة أو تخيلا.. ليس هذا هو المهم، المهم أن أي روائي أو قاص أو شاعر لابد وأن يحوي في مكانه الصغير العالم كله. فالبقعة الصغيرة، هي كون شامل كلية المكان حدودها الداخلية والخارجية ملغية بمحتواها الفكري والجمالي، لذلك يكون للروائي مكانان مكان تجري عليه وفيه أحداثه، وهذا المكان يدخل بنية وتكوينا كعنصر فاعل في الكثير من مفردات البناء، ومكان مؤول، كلي شامل، وهو الإحالات المكانية العديدة التي يحيلنا أليها المكان الأول. وفي هذا المكان أو عليه يجري النقد ممارسته الحقيقية فالمكان الثاني، مكان المخيلة والوقائع العديدة، والمتشابهات ويتعدد تبعا لعدد القراءات وعدد اللغات، فالمكان الثاني هو المكان الجمالي والفكري والفني، ولذلك يفرض المكان الأول حدودا معينه. حدود التصور والفعل والأداة، بينما لا حدود للمكان الثاني، سعة من حرية التفسير والإحالات وسعة من الزمنية المنفتحة على ما لا نهاية من الآراء والاقتباس وكلما كان المكان الثاني منتشرا وواسعا، ومعروفا، كان المكان الأول غنيا، ذا دلالة، ولذلك لا تنجح الأعمال الأدبية إلا إذا بنيت على أمكنة محلية معروفة .معاشة، ولها حدودها المعرفية والجغرافية، فمثل هذه الأمكنة هي التي تحيلنا على حقل من أمكنة النوع الثاني. في كل بقعة من العالم توجد قرية ماركيز، وجزيرة كازتزاكي، ومنافي دستويفسكي، وغرفة باربوس، وصحراء عبد الرحمن منيف، وبيت فؤاد التكريتي، ومحلة غائب طعمة فرمان ومقهاه، وقرية عبد الخالق الركابي، وغازي العبادي وبساتين مهدي عيسى الصقر، واهوار جاسم الهاشمي.. في كل بقاع العالم ثمت أمكنة متشابهة، هي حدود المكان الأول
في حين يوسع المكان الثاني من رؤية الروائي الأسلوبية، فالمقهى الضيق أو البيت البغدادي المعروف الطراز والوظائف إذا لم يكن في تكوينه تصميما لبنية مكانية أوسع واشمل لا يصح أن يكون مكانا للرواية. أن قيمة المكان البؤرة هنا، قيمة مطلقة أي قيمة الواحد أي أنه يعطي للشخصية أفقا إنسانيا، وللغة إمكانات أشمل، وللسرد طاقة عبور المحليات.. وهكذا يصبح المكان الثاني الكائن في أعماق المكان الأول مجالا للاختبار والكشف والإبداع والإتساع ليس من حيث كونه مكانا عالميا فقط، وإنما من خلال انفتاح عناصر النص الأدبي على مركبات جديدة تغنيه وتثريه ويمكن نقلها أو التأثر بها. أن الكثير من أساليب الكتابة اليوم قد وجدت صداها عند كتاب آخرين، تداعي جيمس جويس، كثافة همنغواي، عبتيه عالم كافكا الواقعي، واقعية نجيب محفوظ ورمزيته.. الخ. هذه البنى الأسلوبية والفكرية وجدت من يحتذيها بعلميته. لا التقليد لها وإنما لمحاكاتها، كما يفعل بعض كتاب القصة القصيرة اليوم وهم يكتشفون أهمية الواقعية السحرية وخيال المعرفة المتسعة. أن الاستفادة هنا آتية من أن هذه الأساليب موجودة في البقع المحلية نفسها، وعندها يفشل التقليد الفج وينجح البناء المتماثل.فطاقة الأمكنة الثانية الكامنة في مكان النص الأول توسع من أفق البناء الأسلوبي والفكري للنص.
للمكانين: المكان النصي والمكان الإبداعي لغتان وقبل توضيح هذه النقطة المهمة نحاول أن نوضح علاقة اللغة بالمكان ككل، ثم بالمكانين.
تكمن علاقة المكان باللغة في تلك البنية التوليدية التي يولدها المكان لغويا، فكل مكان مفردات لغوية خاصة تدل عليه ولا تقال إلا بحضرته. والمدقق في مثل هذه المفردات يجدها الهوية المعرفية للمكان، بل وتتجاوز ذلك أحيانا إلا ما يشبه العناصر المكونة له. خاصة إذا أقترن المكان بالصوت، وبالمعنى لا يقال الكلام للعش بمثل ما يقال للسلم أو المنزل أو المقهى أو للماء، أو للتراب، أو للرمل.. الخ، فكل مكان له مفردات دالة عليه، لغته، لون أسلوبه، حقيقة المعرفية، وإمكاناته الرمزية. وعندما نقول في المكان الكلمة الدالة فيه أو عليه فأننا نزيح المكان من تصوره الصوري السابق، إلى تصور جدلي معرفي، فيدخل في بنية أخرى، كأن تكون رواية أو قصيدة أو لوحة فنية.. الخ، فالاستعارة المكانية، استعارة معرفية قبل أن تكون استعارة لفظية فعندما نقول لمن يتسلق المهن الوظيفية، أنه يصعد، أو يتسلق درجات العمل، نستعير من السلم مفردات الدالة، لندلل بها على شيء آخر، وعندما نقول لعش الزوجية أنه قفص ، نستعير مفردتين، العش وهو من الطيور- البيت- الأحياء ، والقفص وهو من السجن، فنروح نوظف هذه المفردات الهوية في مجال معرفي آخر وهذا شيء عادي وبسيط. كل مكان له ألفاظ لا تقال إلا فيه. ونسميها ألفاظ هوية.
في الأعمال الأدبية ينكشف حقل آخر لألفاظ الهوية حقل الرمز والاستعارة والمجاز، وهو حقول معروفة، ليس من شأن هذه المقالة الحديث فيها، لكننا نتعامل بحدود نقل الكلام الهوية إلى الكلام الأدبي، المعرفي، المجازي، فلغة الهوية لغة تعيين، أما الكلام الأدبي فلغة تأويل وتفسير، الأولى لغة تعيين، والثانية لغة احتمال، الأولى محددة ومعلمة ومسماة، والثانية منفتحة، ومحملة ومتعددة الأسماء، الأولى لغة معيارية، والثانية لغة تعبيرية ، الأولى يمكن تعليمها وتدريسها والاستشهاد بها. أما الثانية فيمكن تثويرها، وفتح حقول مشتقة داخلياً. الأولى قائمة بالموجود، والثانية قائمة بالزمانية، والتاريخية. الأولى وثائقية، والثانية إبداعية، الأولى عقلية ذهنية والثانية خيالية، الأولى غنائية ذاتية الدلالة، والثانية درامية.. ولك أن تعدد ما تشاء من حقول الدلالة وما يسببه أنزياح المفردة من حقل الهوية إلى حقل الإبداع الأدبي. وتمدنا هذه الحال بحقيقة مهمة جدا وهي أن الأديب لا يفكر باللغة الأولى حين يكتب، فاللغة الثانية، لغة الإبداع هي المعنية أولا، ولذلك يكتشف النقد من خلالها اللغة الأولى لغة الهوية فيقيمها معيارا خارجيا للنص، كأن يحيل الناقد النص على أحداث اجتماعية أو على تواريخ أو على شخصيات، أو أفكار أو وقائع نفسية، أو أية تفسيرات أخرى. أما النقد الذي يكتفي بالمعاينة الداخلية للنص، أي من خلال لغته الأدبية، فلا يتعامل إلا مع تكوينات معزولة تاريخيا ومجتمعيا ونفسيا، ولذلك نشأت المدارس النقدية واختلفت. فإذا كانت المدرسة الواقعية في النقد تحيل النص على واقع ما، لأيمانها بوشائج العلاقات وحركتها فأن المدرسة البنائية لا تحيل النص الأعلى نفسه، فيكون بلا تاريخ وبلا أية مصادر. وليس صحيحا أن يقال بشأن نظرية الانعكاس أنها تنتج أدبا مرآويا للواقع، وإنما الصحيح أن يقال أن الأدب بمنظوره الواقعي جدل بين لغة الإبداع ولغة الهوية. وأن الأدب هو الذي يحدد لنا الطريقة لكشف الواقع، وليس العكس تماما ومن خلال ما يأتي:
1- أن الواقع وتاريخه وأفعال الإنسان كل متصل، مبتدئ من نقطة ما ومتجه إلى نقطة لا معينة. وأنه خلال مسيرته هذه يفرز أشكالا أيديولوجية أقل من المضامين المعاشة، وأن هذه الأشكال وحدها التي تحدد طرق تناول المحتوى أيديولوجيا . بمعنى أن الإيديولوجية تبقى أحيانا فوق أو دون التجربة
2- أن الإنتاج الأدبي، والثقافي بعامة، يأتي ضمن المسار الواقعي للواقع، فهو نتاج لعملية تاريخية- جدلية معقدة، لذا فهو ليس نتاجا أحاديا للواقع، ولا نتاجا محددا بالواقع، وإنما هو نتاج الواقع في تناقضاته كلها، وعلى مختلف الأزمنة.
3- أن العمل الأدبي" لا يمكن أن يتضمن أيديولوجية لا تنتمي في حد ذاتها أليه إلا إذا وضعها في علاقة من الاختلاف مع نفسه أن العمل الأدبي لا يمكن أن يوجد إلا إذا أدخل من ذاته هذا العنصر الغريب الذي يؤدي إلى تفجر التناقض في داخله"(13).
4- ونستنتج من ذلك كله أن الواقع لا يحيل إلى أدب، وإنما الأدب يفسر لنا الواقع ويحدده والمرآة في الأدب كما يقول بيير ماشيري" آلة تظهر الأشياء على مسافة من الأشياء ذاتها" ذلك أن المرآة تضفي على الأشياء أبعادا جديدة، تعمقها فتحولها بحيث تبدو مباينة لنفسها، أنها توسع نطاق العالم، لكنها بالإضافة إلى ذلك- تمسك به وتنفخه وتمزقه، وفيها يكتمل الشيء ويتصدع في الوقت نفسه"(14).
5- ما نعنيه هنا" بتحديد الواقع" هو العلاقة بين لغة النص الأدبية ولغة الهوية للأشياء المستعملة فيه، فالبحر في رواية همنغواي" الشيخ والبحر" مثلا يمتلك لغتان، لغة الهوية الطبيعية والواقعية، ولغته الأدبية من خلال نص همنغواي. اللغة الأول تفسر ولا توجد- نقديا- إلا باللغة الثانية، واللغة الثانية مرآة عاكسة ليس للغة الأولى وإنما تظهر لنا مستويات لغة البحر وهو في تباينها وتناقضها كونها مياها مدمرة. لغة المنح، ولغة التدمير كائنتان في اللغة الهوية، لكنهما لم تتضحا لنا بأبعادهما الجدلية إلا من خلال لغة النص الإبداعية.
من جانب آخر يفرض الواقع تحديدات أخرى على الإبداع، لكنها تحديدات عمومية، كأن لا يمكن الحديث عن البحر بلغة الجبل، ولا عن الإنسان بلغة الحيوان.. ويجوز ذلك عندما نستعير، فنستنطق المتغايرات، وبذلك ندخل كليا في الأليغورية. تحديدات من هذا النوع لها مبرراتها، أما نحن فنفترض أن لا نتحدث عن الأشياء إلا بلغة الأشياء ذاتها وهي في مراحل تطورها ونموها وصياغتها إبداعيا.

7
نرى العمق الفلسفي للحد، في نسق ثلاثي، يشمل النسق مفردات الحضارة والفلسفة العربية، كلها، فهو أحد الأنساق التي فرزتها الحياة في المجتمع العربي، ما يخص المكان، نجده في تكوين ثلاثي هو الـ" هنا، وألـ هناك، والـ هنالك" أو القريب، الوسط، البعيد.. مع ملاحظة منهجية أن هذه البنية النسقية، مرتبطة ببنى ثلاثية أشمل كالبنية الزمنية: المضارع، الماضي، الأمر، الحاضر، المستقبل، والبنية الدينية القديمة: "مثلث العبادة عند السومريين: القمر والشمس والزهراء. ومثلث العبادة عند أقوام ما قبل الإسلام: اللاة، وعزه، ومناة،والسماء، والأرض،والآخرة. وفي المسيحية, الله والابن وروح القدس. وفي القرآن: بسم الله الرحمن الرحيم.. الخ"(15) فالنسق الثلاثي لبنية المكان ( هنا- هناك- هنالك) تواجهنا في مبحثها المكاني- الزماني، متحدة ومنفصلة معا. متحدة من خلال النص الإبداعي حيث تتداخل أمكنة الماضي بأمكنة الحاضر وصولا إلى تصور بما سيكون عليه لاحقا. هذه البنية جدلية، أي أنها تتوحد داخل الكتابة وأمثلة ذلك كثيرة. فندما نقرأ رواية" النخلة والجيران" مثلا، نجد أن الطولة، التي تحولت إلى محلة حديثة، وقد ابتنى فيها قصرا، وأن العربة الربل قد تحولت إلى سيارة، وأن تنور الخبز قد تحول إلى فرن صمون، وأن الشوارع بلطت.. هذه البنية المكانية التي أقام غائب طعمة فرمان عليها روايته، مزجت بين ثلاثة أبعاد للمكان: بعد المكان الماضي وبعده الحاضر وبعده المستقبل. وصيغت هذه الأبعاد في وحده جدلية ، تركيبية.. أما المكان المنفصل، فلا يوجد إلا في الواقع أو الطبيعة، شأنه بذلك شأن المفردات اللغوية= الهوية، معزولة وواضحة، فقد تتعاقب على مكان ما أزمنة متعددة، فنجدها وهي في الـ"هنا" الحاضر،أمكنة معزولة. في أحد معابد الكرنك بأقصر مصر يوجد معبد فرعوني قائم الآن، وما أن احتل الاسكندر مصر، حتى بنى فوق المعبد الفرعوني معبدا رومانيا وقطع رؤوس كل تماثيل الملوك والكهنة الفرعونيين، ثم جاء الإسلام فابتنى فوق الكنيسة الرومانية ، جامعا إسلاميا.ز أمكنة الديانات الثلاثية موجودة كلها في هذا المكان، الشاهد والتاريخ، إلا أنها معزولة، بناءً وقوة دينية- زمنية- وتستطيع أن تؤشر إلى أبعاده الثلاثية: هنا: حيث انصهار كل الأمكنة في بعد الآن: الجامع، والـ"هناك" حيث المعبد الروماني، وهنالك، حيث المعبد الفرعوني. ثم نعيد ترتيب هذه الأبعاد، فنجد الـ"هنا" هي الحاضر والـ"هناك" هي الماضي ببعديه الروماني والفرعوني، وهنالك حيث المستقبل.. وعندما يصوغ الروائي المصري الشاب يحيى الظاهر عبد الله في" الطوق والأسورة" رواية حول تداخل الأمكنة، نجد بطلة الرواية لا تحمل جنينا إلا من مصري- صعيدي حمل في أبعاده كل الديانات التي تعاقبت على مصر، أو يحمل في تصوره كل أبعاد مصر المكانية، فيكون الجنين- المستقبل- هو حاضر مصر الدائم.
الحدود بين أبعاد المكان الثلاثية، تتضح من خلال الزمن، واللغة، في النص المأخوذ عن أحدى قصص أميل حبيبي نجد الفصل قائما، إبداعيا، ومكانيا بين الأبعاد الثلاثة للمكان: يقول( الراوي ابن العجوز المغادرة إلى القدس الشرقية يخبر الشرطي الإسرائيلي بأن الوالدة" تنوي الدخول إلى هناك بعد أن أذن لها بذلك" مرفقا كلامه بإشارة إلى الجهة الأردنية من البوابة، ويرد الشرطي الإسرائيلي" بل قل يا سيدي، أنها تنوي الخروج من هنا" مطلقا كلمة الخروج من بين أسنانه في غلةٍ أراد أن يلقنه درسا. ويبدو أن الفرق بين التعبيرين"الدخول إلى هناك" في نظر الفلسطيني و" الخروج من هنا" في نظر الشرطي الإسرائيلي يلخص القضية كلها في أعمق وأدق تفاصيلها) (16)
فالحدود بين الأبعاد الثلاثية واضحة:
الـ"هنا" الأرض المحتلة في نظر الفلسطيني، والتي هي أرضه، وهي أرض إسرائيل بنظر الشرطي الإسرائيلي.
والـ"هناك" هي الأرض العربية بنظر الفلسطيني، بينما هي أرض الفلسطيني بنظر الإسرائيلي.
والـ"هنالك" هي دولة فلسطين بنظر الفلسطيني، أرضه وتاريخه ووجوده.. وحول هذه الـ"هنالك" لم يتضح ماذا ستكون عليه الدولة الفلسطينية بعد، إلا أنها ستكون تعايشا ولا شك.. وأميل حبيبي القاص والمناضل الفلسطيني لا يقيم أدبه وقصصه إلا على أرض فلسطين الداخل.. وما الخارج عنده إلا امتداد طبيعي للنضال الفلسطيني. وليس بديلا لفلسطين.
ما كانت الحدود عازلا أساسا إلا بعد أن دخلت عليها المفاهيم السياسية، وفسرتها وحاولت أن تجعل منها واقعا للأفكار، فالحدود بين الدول ليست الأنهار أ, العوارض الطبيعية، ففي كل بلدان العالم يوجد مثلها، وإنما الحدود هي التحديدات الأيديولوجية، تحديدات اقتصادية، تحديدات فلسفية، تحديدات طبيعية، فهي لغة مشتركة بين بلدين، يفهمها كل واحد منهما فهما خاصا به، لذلك هي موانع تمنع التسريب، وموانع تحدد الأيديولوجيا، وإذا ما أسيء التفسير الأيديولوجيا أسيء تفسير الحدود. فالحدود لغة مكانية صارمة وتقنية يفرضها النظام الداخلي للبلد، ولا تفرض هي هوية البلد أو محتواه، لذلك وضعت لها الخرائط، وعلمت بعلامات ، وجعلت جهاتها محروسة بمخافر وبنادق، وأصبح المرور عبرها جوازا لتعايش نظامين أو أكثر، كما أصبح عدم المرور عبرها خلافا بين نظامين. فالحدود تصنع لغتها الخاصة بها، كما تترجم لغة البلاد المتجاورة فيها.
عرفت الحدود مؤخرا، وقبل ذلك لم تكن الفواصل بين بلدين إلا تخوما كما يقول جوردن ايست في كتابه" الجغرافية توجه التاريخ"(17). والتخوم تشمل عوازل طبيعية. والكثير من البلدان يفضل التخوم على الحدود، فلم تكن ممالك الدولة العربية الإسلامية إلا تخوما، امتدت إلى أسيا والصين وإلى أوربا وأفريقيا.. لكن بعد أن جرت التدخلات الاستعمارية، وبدأ الغزو الأوربي لبقاع العالم جرى تقسيم الممالك الواسعة إلى دول حسب اللغة والجنس والأسرة وكان نتيجة ذلك أن تباينت الأنظمة والأيديولوجيات مع بقاء العديد من الدول الإسلامية.. فالحدود التي نشأت لاحقا بين الدول الإسلامية فرضتها طبيعة الأنظمة لا الدين، ولم يقف الأمر بأن حاددت كل دولة، دولة أخرى بل امتد التقسيم إلى داخل كل دولة وما ظاهرة المحافظات والتقسيمات الإدارية إلا وجها آخر لأهمية الحد بين بقعة وأخرى، بين مدينة ومدينة. وقد جرى توزيع هذه البقع أو المدن كل حسب هويته الاقتصادية والاجتماعية والأسرية وحتى الدينية..
ومن قبل كانت الحضارات بابل أو سومر أو أكد أو آشور أو حضارة وادي النيل، أو الحضارة اليونانية، أو حضارة الآزتيك، حضارات مطلقة المكان، لأنها مطلقة الأفكار ولم تضع لها حدودا إلا في الأمكنة التي لم تصل أليها، كان الخيال وحده، هو الذي يضع نهايات للعالم الأرضي، والعالم العلوي، والعالم السفلي. وكانت الحدود بين هذه العوالم أبوابا، ومجرات وسبلا محفوفة بالمخاطر.. الحدود هنا، حدود المعرفة الإنسانية لإمكاناتها، وقدراتها وتصوراتها، والعقل وحده هو الذي يصوغ مبدأ الحد بين ما هو معروف وما هو مجهول. لو كان البحر عازلا، لما دخلت الحضارة الإسلامية إلى الأندلس والصين، ولو كانت الصحارى والأنهار والفيافي حدودا لما انتشرت حضارة بابل في إيران وأفغانستان والخليج، ولو كانت البحار حدودا لما وصلت الحضارة اليونانية إلى الأرض العربية.. الحدود وجدت لاحقا، لا لتحمي بلدا عن آخر، وإنما لتحديد أيديولوجية عن أخرى، وفهما عن فهم آخر..

8
في موضوع "الحد" جوانب أخرى لم يتطرق أليها هذا الاستقصاء فقد صمم البحث بما يناسب عددا خاصا لمجلة، ولدي من الفقرات الخاصة بالحد، ما يوازي ثلاثة أضعاف ما أنجز هنا، فهناك الحد الفكري في الممارسات النظرية- السياسية، الماركسية بالذات وهناك الحد في الفهم النفسي عند فرويد وادلرويونغ، وهناك الحد في الميثولوجيا- فلكلور العهد القديم- وبخاصة فيما قدمه فيرزر وهناك الحد في التاريخ. والحد في التراث، وبخاصة التراث العربي الإسلامي ومفهوم القرآن فيما يخص" حدود الله" وحدود الناس. إضافة إلى إطلاله حول الحد في المثل الشعبي، والحكاية بوجه خاص، حيث وضوح وظائفها وتحديدها حصرا بعدد ما، جعلها أكثر الأنواع الأدبية القديمة تماسكا ووضوحا، كما أعالج الحد عند الأعمى والمبصر، بوصفه جزءا من الظاهرة العيانية، والحد عند المجنون والعاقل بوصفه جزءا من بنية العقل، والحد عند الصغير والكبير، بوصفه جزءا من الإدراك.. أقول ما يزال في الحد الكثير مما يقال، علنا نهتدي يوما إلى نشره كاملا.




الهوامش
1- التعريفات: أبو الحسن علي بن محمد الجرجاني( السيد الشريف) دار الشؤون الثقافية- بغداد ص51
2- 2،3،4- قاموس محيط المحيط ص154
5-التعريفات م، مذكور ص125
6-محيط المحيط.م، مذكور ص154
7،8- التعريفات ص85،ص19
9،10،11،12- محيط المحيط
13- مجلة فصول، الأدب والأيديولوجيا جـ1. لينين ناقدا لتولستوي بيير ماشيرى. ترجمة عبد الرشيد الصادق معمودي ص156
14- م.ن. ص151
15- مجلة مواقف. ريمون طمان، الثوابت في اللغة والفكر.ع 15. أيار حزيران 1971 ص33- ص48
16- أميل حبيبي والقصة القصيرة، د. حسني محمود. الوكالة العربية للتوزيع والنشر- الأردن ص98
17- الجغرافيا توجه التاريخ، جوردن أيست ترجمة د. جمال الدين الدناصوري. دار الحداثة 1982.
















شعراء عقد الثمانين في العراق









1
تعد قضية الشعر الحديث في العراق من أعقد القضايا الثقافية والفكرية، لتنوعها الأسلوبي ولتحولاتها البنيوية السريعة. ومن ثم لتعدد مشاربها ومصادرها. فهي لم تكن قضية خاصة بالشعر فنا وأسلوبا وبنية، بل تحولت إلى قضية اجتماعية ـ سياسية وجدت في الشعر نوعا يتلاءم والسياق الفكري – التعبيري الذي وضعت فيه. فقد اعتبرت الانتجلستيا الثقافية في العراق الشعر ومن ثم الحداثة فيه جزء من حركة تنويرية ملائمة للمناخ الاجتماعي والسياسي الذي نشأ في العراق منذ أوائل هذا القرن وتطورت نوعيا بعد الحرب العالمية الثانية. فالشعر الحديث وهو يختار شكله الفني المغاير للشكل الفني السابق للقصيدة، أحدث انقلابا في الخطاب الفكري والسياسي أيضاً. و تم هذا الانقلاب في ذائقة المتلقي الذي من مستمع عادي يقر بكل ما يقال له، إلى قارئ غير عادي يتساءل عما يقرأه . فلم تعد هناك رسالة محددة بزمن أو بفئة اجتماعية يريد الشاعر أن يرسلها ، بل هناك معرفة يجري تداولها بين الناس، ومن ثم تجديدها وتحديثها لتتلاءم والخطاب الثقافي في العالم. وهو ما جعل الحداثة الشعرية ترتبط بأهم الحركات الثورية إلا وهو اليسار العربي..الأمر الذي انسحب ذلك على بنية ثقافية واسعة فحولتها من بنية راكدة تحاول التمسك بالتراث تصورا ونموذجا وشكلاً وأغراضا، إلى بنية منفتحة على الثوري والإنساني والأسطوري والغرائبي، وعلى الحياتي والعادي والمألوف أيضاً. فكانت الحركة الأولى للحداثة التي تمت في أواسط الأربعينات أي بعد الحرب العالمية الثانية ، واحدة من نتاج تحديث المجتمع والفكر. رغم أن ظاهرها كان حركة في تحديث الشكل الشعري لبنية القصيدة. ومن يستقرئ خصائص تلك المرحلة يجدها متشبعة بمناخ تحديث عالمي - عربي شمل الفنون والمجتمع في آن واحد، واتسع لاحقا ليصبح جزء من تحديث سياسي تبنته الحركات التقدمية والثورية. ووجد له في التراث سندا، كما وجد في الترجمات من الأدب الغربي سندا أكثر حداثة. ثم توسع التأثير ليشمل البناء الفكري والاقتصادي والثقافي. وهذا المناخ أسهم في انتشار ظاهرة الشعر الحديث بعد أن اتسعت ميادين قراءته ومنابره. ليتحول الشكل الفني بحد ذاته من وعاء يستوعب إيقاعات القصيدة الحديثة وبنيتها الجديدة، إلى بنية تستوعب حركة المجتمع والثقافة. فمهد السبيل لفنون أخرى غير الشعر أن تستفيد من حركة كسر القوالب الفنية الجامدة وتحرير النوع من اسر القوالب الفكرية والفنية... فالمسرحي يتعامل مع النص تعاملا شعريا ، بدأ أول ما بدأ في تغيير بنية الشكل المسرحي من مسرحية بفصول عدة إلى مسرحية بلوحات ومشاهد مركبة ، ونص يتداخل فيه الحوار بالسرد بالغناء بالموسيقى.والروائي الذي تعامل مع الواقع بأحداثه بدأ يفرد للمخيلة وللاحتمالية مجالا شعريا واسعا في تغيير بنية الحدث والشخصيات والتلاعب بالزمان والمكان. فمزج بين الواقعية والأسطورية، بين المتخيل والتراث وبين بنية الفصول وبنية المشاهد المجزأة للحدث.. وقل ذلك بشأن القصة القصيرة وتطورها الذي أنتج عندما تصاهرت مع القصيدة الحديثة قصيدة النثر. والفن التشكيلي الذي يعد رديفا متطورا للشعر. ثم فن العمارة الذي دلل على تزاوج فني بين الشعر وفن العمارة لا سيما وان عددا من مهندسي العمارة العراقية شعراء وفنانين تشكيليين.
2
ميزة الثقافة العراقية بكل فروعها أنها تعتمد أسلوبية شعبية أسهمت في اعتماد بنية النغمة الشعرية لكل الفنون. ليس من فن يخلو من الشعر. وأسباب ذلك في ثقافتنا كثيرة :
1- منها ما يتعلق بطبيعة الكاتب العراقي نفسه من أنه نشأ والشعر في فمه، فهوـ أي الشعر- نوع من أنواع الخطاب الباطني المضاد. وهو خطاب جاء الشعر محمل بالمراحل القاسية والمأساوية التي مر بها الشعب العراقي عبر مئات السنين. فكونت لديه سجايا خاصة تجد في التعبير الانفعالي ميزة أسلوبية يتعامل بها كل فرد مع السياسات الظالمة والقمعية. ولذلك لا تجد قصيدة في مرحلة ما إلا وهي مشبعة بنغمة سياسية محتجة أو معارضة حتى لو كانت قصيدة حب.
2- منها التربية الثقافية والبيئية التي تجد في تعلم كتابة الشعر طريقة لإتقان اللغة العربية والخطابة خاصة في المناطق الوسطى والجنوبية من العراق، حيث يكون التعليم الديني هو الأساس في بنية الثقافة. وهذه الطريقة جعلت التجول في بحور الشعر ممكنة حتى للطلبة مما يسهل اختراق الإيقاعات لا سيما وأن الشعر الشعبي يعد المادة الرئيسة في الثقافة الشعبية الأمر الذي جعل الحداثة الأولى مجالا لأن تستعمل الإيقاعات الشعبية " الدوبيت مثلاً. في بنية القصيدة الحدثة وعندما نتحدث عن العلاقة بين الدين والشعر يتحول حديثنا إلى شيء من الأعتقاد فالشعراء في تطورهم الجديد يكونون أقرب إلى التقديس لظاهرة الحداثة وهو أمر لم يعالجه النقد جيدا لا سيما وان البيئة الشعرية الحديثة لم تنم إلا في بيئة دينية منفتحة وأعني تاثير التيار الديني المنفتح على الثقافات في الدرس وفي التعليم.
3- منها أن الشكل الفني رواية كانت أم مسرحية أم مقالة تعتمد الكثافة الأسلوبية والاقتصاد في التعبير مما مهد لهذا الشكل. لأن يقترب من الغنائية التي تلازم كل إنتاج ثقافي فنجد التداخل اللغوي والتعبيري بين الأشكال الفنية متساوقا والرغبة في النزعة الذاتية في القول وفي السرد وهي نزعة لا تجد حضورها إلا في الكثافة والصوت المفرد. روايتنا وقصتنا القصيرة وحتى المسرحية خاصة ذات الفصل الواحد او المشهد واللوحات لا تكون إلا بصوت مفرد يستبطن الجماعية دون تفصيل..إلى الحد الذي نجد فيه العديد من الكتاب يبدأ شاعرا وهو ما يتلاءم والنغمة الشبابية الغنائية ثم بعد أن يكبر ويستقر يتحول بعد فترة لكتابة القصة والرواية والمسرحية أو الرسم. ثم يعود للشعر ثانية ولكن ليس للقصيدة بل يستبطن الشعر في فنون السرد والحوار. هذه البنية المركبة الطويلة واحدة من الأسس التي أقام عليها شعراء العقود الأخيرة كياناتهم الشعرية.
4ـ ومنها أن الشعر الحديث ابتدأ في العراق ونمى ونضج في مناخ العنف والحب. فاستعار الشخصيات التراثية والتاريخية دون أن يفتح فيها أفقا جديداً، كما لم يلتزم بسياقاتها الحياتية بل جاء بها لتأكيد حال قديم وجد صداه في المعاصر دون أن يكون المعاصر نسخة من القديم. واستعار الأسطورة دون أن يطور رؤية بها، لوجود ذلك الحس الديني المانع كما يشير السياب ولكن ليس الحس الديني الرافض بل الديني الذي يقول لنا أن في تراث الدين ما يغني لو جرى انتباه له وما فعله السياب في المومس العمياء باستحضار أسطورة ياجوج وما جوج القرآنية غلا واحدة من البنى التحديثية التي لم تأت بها أساطير اليونان في شعرنا العربي. واستعار اليومي والمألوف فوجد ضالته فيه. من هنا نجد أن الحداثة في الشعر العراقي لا تبرح الحياتي ولا ترتفع فوق مشكلات اليومي. وهذا ما جعل الشعر له في كل فترة قفزة نوعية.
3
في ضوء ذلك نجد لكل فترة أو عقد ثمت طريقة حديثة لقول الشعر، طريقة ليست بالضرورة جديدة كليا، ولكنها مختلفة عما سبقها ومتطورة عنها. ففي الستينات نشأت حركة ثانية للحداثة الشعرية مختلفة كليا عن الحركة الأولى لها. ونجد تطورا جديداً لها في السبعينات. ثم جاءت فترة الثمانينات فترة الحروب وفترة المواجهة السياسية في الداخل لتبدأ مرحلة جديدة لحركة الحداثة الثانية عندما هيمنت قصيدة النثر على الشعرية مما يشكل حركة ثالثة للحداثة. وهذا يعني أن القصيدة الحديثة في العراق لا تستقر على شكل ثابت لفترات طويلة، كما لا تقف عند منعطف اجتماعي أو فكري معين بل هي هذا التداخل المنفلت بين ما هو فني وما هو اجتماعي.بين ما هو مؤسس وما مغير من بعض تلك الأسس. فهي نتاج لكل هذه التحولات. وعندما تكون القصيدة تعبيرا عن الاضطراب والتخلخل الاجتماعي والثقافي تبحث باسمرار عما يشدها إلى الجديد وقد لا تعرف طريقها دائما أو تعّرفه لأنها في متاهة البحث المستمر. ونجد هذه الحال شاملة لكل مراحل التجديد. فعندما بدأت الحداثة الأولى في أواسط الأربعينات كانت قبلها مئات التجارب الشكلية والفنية وعلى مختلف الأصعدة والممارسات ليس في العراق وحده، إنما في الثقافة العربية كلها. ولكنها لم تجد شكلها الفني الذي شاع وشكل سمات حداثة أولى للقصدية إلا في نموذجين لنازك الملائكة و لبدر شاكر السياب ومن ثم تطور لا حقا على يد شعراء مثل البياتي والبريكان وبلند ليجد نفسه بعد خمس عشرة سنة في مرحلة جديدة هي مرحلة الستينات التي فجرت أشكال تعبير حديثة. ليس في العراق فقط بل في معظم البلدان العربية. أهمها ما كتبه شعراء مثل سعدي يوسف في العراق وأدونيس في لبنان والماغوط ونزار قباني في سوريا وصلاح عبد الصبور في مصر والفيتوري في السودان وعشرات غيرهم. ثم تجد حركة الحداثة الثانية نفسها في عنق زجاجة مرة أخرى عندما استنفذت الأسطوري والتاريخي وقطاعات كبيرة من اليومي والمألوف فعمدت إلى تغيير بنية قالبها الفني وإلى كسر قواعد القول والبنية القصصية للقصيدة وكسرت كذلك وحدة الانطباع التي يقف عليها القارئ من قراءته لقصيدة معينة، وإذا بالتجربة التي كانت القصيدة تكتفي بها تتحول إلى ديوان بقصائد يجد الشاعر نفسه يدور في متاهة الموضوع الذي لم يعد موضوعا مستقرا.
في هذه الفترة وابتداء من منتصف السبعينات عندما بدأ السياسي يهيمن على الثقافي وبدأت الأوضاع الاجتماعية تتمحور حول أيديولوجية قومية تتمركز في تغليب الماضي على متطلبات الحاضر، بتهيئة المجتمع لحروب داخلية وخارجية- حيث كانت الاستعدادات على قدم وساق منذ عام 1974 – ليتوج عقد السبعينات بحربنا مع إيران استعداداً لحربنا مع الكويت وحلفائها. كل ذلك كان تمهيدا لأن يصبح الثقافي ملحقا بالإعلامي. ثم لتقف عجلة الحداثة الشعرية باعتبارها لا تتلاءم وسياقات الحروب والعودة إلى الماضي كما لا تعتمد على بنية المورث السياسي الذي يصب في عقلية أحزاب سياسية وجدت نفسها غريبة عن الحداثة لإشباع خطابها الإيديولوجي بما هو قديم وتراثي وقبلي وأحيانا شوفيني. الشعر من أكثر فنون القول تأثراً بمثل هذه الأوضاع المرتبكة. لتصبح ميادين القصيدة الحديثة منسحبة من الموضوعات الإنسانية والاجتماعية والفكرية الكبيرة، إلى موضوعات الحرب وقضاياها.. وعلى الفور نجد الثقافي ينقسم سياسيا.: إلى تيار ثقافي يمجد الحرب ويطبل لها شعرياً ولكن بلا حداثة، وتيار يرفضها ولا يقول شعراً، بل يتمسك بما قيل وبما أنجز. ونجد القصيدة نفسها تنقسم فنياً: قصيدة حديثة ترفض أشكال القول المباشر وتلجأ إلى تعميق التجربة من خلال بنى شكلية ، وقصيدة ترفض شكل الحداثة لتعود إلى شكل القصيدة القديم منسجمة بناء وأغراضا مع مناخ الحرب ومتطلباتها. وكلتا التجربتين نمتا في العراق خلال الحرب.


4
تحت هيمنة المفردة
في هذا المناخ عاش شعراء عقد الثمانينات في العراق.من كان منهم في الداخل حيث اكتوى بنار التجربة، ومن كان منهم في الخارج حيث اكتوى هو الآخر بنار الغربة والهجرة وعدم الاستقرار. في هذا المناخ الحربي الحاد والقاسي بدا الشعراء يكتبون قصائدهم ونجد في هذه الكتابة نزوعا نحو البحث عن خصوصيات ضمن مناخ الحرب. فكان أن بدأ التمايز بين شاعر وآخر الذي هو تمايز بين طريق قول وأخرى يصبح هوية للشعر. ولتصبح قصيدة النثر هي السمة الفنية الغالبة على القصائد. ولهذا لا تجد جامعا فنيا مشتركا بين الشعراء .
في سياق التجربة الأليمة للثقافة العراقية ككل هي أنها بدأت تعتاش على مفردات قاموسية مشتركة. فقد هيمنت مفردات مثل: الحرب، الوطن، الموت، الفقدان، البعد، الغربة، الحواجز، الرسالة،..الخ بكل شعابها وظلالها على كل الصور الشعرية. وهذه المفردات المهيمنة نجدها تنزح من الأيديولوجيا السياسية السلمية إلى أيديولوجيا الحرب المسلحة. ولكنها إذا ما تمعنت النظر فيها تجدها من مفردات الخيمة العربية الهرمة. تلك الخيمة التي كانت تجمع بين السيف، والعقد الاجتماعي- القبلي ، السلم والحرب معا. ولأنها خيمة أيديولوجية قديمة جاءت للوضع السياسي الحديث هذه المرة بقدرات أسلحة وتقنية عسكرية متطورة. من هنا بدأت الأيديولوجية القومية المسلحة بإرث الماضي وتقنية الأسلحة المعاصرة، اكثر عدوانية من الأيديولوجيات الأخرى. وقد استغل الغرب كل الغرب هذه النزعة الشوفينية عند القادة العرب فسلحوهم وهم العارفين بأنهم غير قادرين على استعمالها تقنيا. ولما تمكن العراق منها وجد نفسه في قدرة تفوق تصور قادته أنفسهم فكان أن بدءوا الحروب تلو الحروب داخليا حيث النزعة القومية العربية تؤكد سيطرتها على كل مناطق العراق. وخارجيا حيث افتراض العدو المهدد لكيان أمة. ولما بدأت مثل هذه المفردات السياسية والأيديولوجية تهيمن على الثقافة بكل فروعها نجدها تبني تصورا لغويا للقصيدة الحديثة . مما جعل القول الشعري الحديث في محنة كبرى، بين أن يعود لمفردات شعرية حداثوية سابقة أكثر هدوءا والتصاقا بقضايا الإنسان والمجتمع . وبين أن يمتح من مفردات الحرب المهيمنة والتي تمارسها كل الأجهزة الثقافية والفكرية مجسدة بالشارع والسينما والملصق الإعلاني وبالعرض المسرحي والقصة المكتوبة للحرب خصيصا وبديوان الشعري العامي والمظاهر الاحتفالية التي يكون الشعر جزء منها وبالهيمنة مرة ثانية لقصيدة العمود التي أعادت أغراض الشعر العربي القديم للمعاصرة الثقافية والسياسية.. فما كان من قصيدة النثر التي لاءم منحاها الأسلوبي المتمرد في نثر المعنى ونثر الصورة هذه الفوضى الأسلوبية والفكرية أن أصبحت الشكل الفني الأكثر تعبيرا لدى الشعراء الشباب الذين رفضوا الصيغة الإعلامية للشعر دون أن تكون قصائدهم مجيرة لصالح الحرب إلا في نماذج ساذجة. من هنا نجد الشعراء ينفردون في قياسات محنهم بما أنتجت أياديهم من صور ليست في مصلحة الحداثة أيضاً، إن لم تكن ضدها. ولكن من يكتب مثل هذه القصائد المعارضة عليه إما أن يؤخر نشهرها ويعيش حال الحرب جنديا، أو أن يهرّبها إلى الخارج. وفي كلتا الحالين كانت القصيدة في العقد الثمانيني قصيدة اعتراض واحتجاج حتى لو كانت قصيدة حب.
في هذا المناخ الملتبس نشخص عددا من النماذج التي نراها قادرة على توضيح ما ذهبنا إليه.
1- في تصورنا أن قصيدة النثر العراقية لم تكن كلها نتاج المخيلة او الغنائية الفردية، ففي هذه المرحلة المربكة من الواقع المر والحربي، فرزت الحياة اليومية صورا سريالية أو غرائبية ليس بسبب ما تفعله الحرب فقط، إنما لغرابتها ولعنفها غير المتوقع أيضاً، خاصة وان جل الشعراء الشباب ممن يخدمون في الجيش ولهم تصورات غير دقيقة عن حجم الكارثة وأبعادها. قد سيقوا لها باسم الواجب الوطني والدفاع عن الوطن. ففرزت الحرب ووقائعها المرير صورا غاية في الفنتازيا والتهكم. مغايرة تماما لكل ما قرءوه من أدب الحروب.
الشاعر نصيف الناصري نموذجا للمرارة الشعرية. فهو شاعر نضج في محن الحرب وأيامها تعلم القراءة والكتابة في السبعينات وعمره كبيرا فلما شب عن الطوق وجد نفسه محاصرا بالأسماء الكبيرة وبالحرب فبدأ يكتب بدمه عن مسببي الحرب وعن أمريكا والحلفاء فالعراق بالنسبة لنصيف الناصري بقعة جنان تهاجم من قبل الجميع. أنه يكتب ما يعرفه وما يحسه لا ما يفكر به. فجاءت لغته حادة مباشرة ومريرة.
قلت لأبي : اعطني نقودا لأسكر
فتح فمه فخرج منه أسد جائع
قلت لحبيبتي: اعطني قبلة
فتحت فمها فخرجت منه لبوة
قلت لأمر سريتي : اعطني إجازة يا سيدي
" فتح فمه فخرجت منه دبابة"
الأسد الجائع
واللبوة
اصطحبتهما معي في نزهة على الدبابة
ثم عدت إلى السجن مصدوع الرأس.
لا نجد لمثل هذه الأشعار إلا تصورا واحدا أنها حالات لا تكتب مرتين. ولا يفكر بها مرتين. ليس لها تاريخ ولا زمن، ولا متكرر، ولا تتكئ على موروث أو أسطورة قديمة ولم تعتمد على مفردة شعرية سابقة. كل صورها آنية، مريرة وغير مستقرة إلا لكونها جزء من واقع حربي لا معنى له. قصائد ليست بحاجة إلى شرح أو تأويل.
2-- في نماذج أخرى من قصيدة النثر نجد التعامل مع الأشياء في لحظة آنية قارة هي مادة من مواد التدفق الشعري الآني. ولكن التجربة غير الناضجة وحدها من تفلت من أسر الأشياء في لحظة توهجها. الشاعر محمد مظلوم وهو من الشعراء المتميزين في هذا الجانب يقود قارئه إلى تفاصيل معمولة بعقلية أحيانا، وبطاقة من المخيلة أحيانا أخرى. ولأنه شاعر فهو يجيد صناعة المناخ العام ويضع نفسه في بؤرة الحدث، ثم يدير أفلاكه الخاصة حوله. الشاعر المتمركز في بؤرة الحدث لا يصطنع إلا دوامة حسية تدور في فلكه، ولا يقرأ ما في سطور الآخرين كي يقول القصيدة، إنما يولد القصيدة من تراكم الرؤية البصرية وهي في علاقتها المنفعلة مع الأشياء . ثم لما تكتمل يكون قد تطهر من خلل العلاقة المشوهة التي خلقتها الحرب بينه وبين الواقع. الكل يشكو من هذا الواقع الأليم واقع الحرب الذي يكدس الأشياء بلا معنى، ثم تتحول إلى قوى ضاغطة على اللغة. والشكوى عند مظلوم كتابة للتطهير. لذا فهو لا يكتب الشعر لمجرد أنه يريد أن يقوله، بل يكتبه لأنه التعبير الوحيد عن حال مربكة تضيق عليه خناق الرؤية والمعايشة والوجود، رؤية تشمل الواقع وناسه والمحيط الذي يدور فيه مع كواكب بيته وأقربائه ومن أحب ومن لم يحب. هذه الجولة الكبيرة من المفردات جعلت قصيدته مزدحمة بالأسماء وبالتصورات الغائرة في الذاكرة. وبقياس التحولات الآنية على صحبة يعيشون معا واقع الحرب يستحضرهم الشاعر في حفلة عشاء تنكرية كي يروا ماذا يفعل بهم الجلاد في لحظة شعرية متخيلة. لكنهم جميعا مفترقون. فالحرب لا تصنع متشابهات دائما بل أفرادا يعيشون تحت مناخ الواحد المتعدد. ولأنها الحرب التي لم تنته بعد، يكون مستقبل أيامها مثل ما مضى منها فراغ ممتلئ بالمحتمل.لذا فالقصيدة تبدأ من الخميس القادم.

في الخميس القادم ،
في حفلة أقامها المدعو إلى موته،
استطاع الكلام، أن يقشر التفاحة وهي في الصحن،
الضيف تعرّف على الكرسي،
لأن المرايا أقلّ من الجدران،
وهنا استأذن المدعو كرسيهُّ لأعداد الوجوه،
أحدهم، تلكأ في استذكار اسمه، فأشار إلى التفاحة،
الآخر استلذّ بمقعد سهل ويثرثر،
وأنا، طمعا في النطق، انحنيت لكي أحرر كلامي من يد أعدائي،
وإذا بي أبرر قتلي،
على أن الكلامَ، في هذه الحالة، موتٌ ترابي وناري أيضاً، أي أن " هي" وجدت نفسها فجأة في حفلة الخميس القادم.

3-الشعر في واقع الحرب غيّر من الرؤية للأشياء وللناس وللزمن. لم تعد العين تستقبل فقط ما يحيط بها بل تفاعلت معه. ولأن قصيدة النثر تنتمي في تكوينها إلى القصة القصيرة أكثر من انتمائها للقصيدة الموزونة. استلت إيقاعاتها من هذا التفاعل. ولكن وفق ما يراه الشاعر، ووفق معرفته بنتائج العلاقة بينه وبين الأشياء في لحظة تداخلها وتلاحمها. لا وفق ما يتطلبه سياق الحكاية.
الشاعر صلاح حسن وهو من الشعراء الذين اكتووا بنار الحرب ومناخها يفرز في ديوانه الأول " المحذوف في عدم اتضاح العبارة" مناخا متعددا للقصيدة الواحدة، ويجمعه كله في سلة الشعر. ويقدمه محتدما منفعلاً متداخلاً ، كما لو أن هذا الخزين المعرفي يتدافع في فمه كي يخرج مكتوبا بلغته صائته لا بلغة مفكرة. من هنا تأتي صور القصيدة عنده غير مسبوقة ببناء عقلي مسبق، أو باستهلال يقود إلى نتائج، ولا ببنية قصصية – حكائية فيها من أزمنة متداخلة، وضمائر متباينة مستويات السرد،- رغم أنها لم تخل من الحكاية ولكنها حكاية كل الشخصيات وليست حكاية الشاعر لوحده- لذا يكون الفاصل بين ما يقوله هو، وما يقوله الآخر هو الفارزة الصغيرة بين الجمل الشعرية. مما يعني أن القصيدة عنده ثوب واسع يجمع تحته كل الصائتين بالكلام. وهو ما يعني أن بناء الجملة هي لحمة الإيقاع، وليس الإيقاع مرتبطاً بالكلمة أو الصورة كما كانت القصيدة الحديثة تفعله. ويتحول إيقاع المفردة، المشتركة بين ضمائر عدة، إلى إيقاع الجملة. وهو ما يجعل البناء منفتحا متناميا وكأنه بلا حدود.
"… يقول بأن الذي ضاع أكثر من الذي سيضيع، لم يكن في الحسبان، أن أبقى وحيداً، عندما سقطت أمي فجأة من نصب الحرية، خرجت ابحث عن سبعة لا يشبهون أبي، في ليلة لا تشبه اليوم، أصبحت الروح مستنقعا، يوم لم يصل الماء، إلى شفتين يابستين كنت أرى في عطش الجبال، يوم بال الجنود على مناديلهم، تذكرت كيف أعطتني قفاها، فقذفت الرمانة على طريق لا يؤدي إلى تمثال بيد واحدة، أستطيع البكاء، يشبه لذة ملوحة الإبط ومرارة التفاح في الكلام، الذي سيقال عني، متهم بالقادمين، استطعت تمييز الضحية، مقرونة بالذي، أوجد القوانين قابلة للضرب والجمع بين النقيضين، كنت أنا الوحيد…"
في مثل هذا التدفق من الكلام الذي يبدو أنه خال من المعنى، في حين انه مشحون بالمعنى، تصبح القصيدة الحديثة صوتا للذات الجماعية، عندما تتحول اللغة إلى كلام عن الفراغ في النفس وفي المجتمع. عندئذ لا تستطيع تجميع جملة مفيدة، بعد أن تكفل الآخرون بالكلام عما تريده، وأجبرت أن تستمع لهم . لكنك تستطيع أن تتكلم اليوم كله، دون أن يقول لك أنك بريء من تهمة وجودك جنديا غير منضبط مع قوانين الحرب. بمثل هذه المفارقة كتب عدد من الشعراء قصائد أسموها هذيان الحرب وهي في حقيقة أمرها اللغة الشعرية غير المفهومة من قبل سدنة العسكر وشرطة الرقابة . في قصائد صلاح حسن تعامل جاد مع المفردة الأسطورية أيضاً ،ولكنها تلك التي تأتي القصيدة دون أن تتكئ عليها شعرية اللحظة المحتدمة. وهذا ما جعل قصائده الطويلة تتسربل بالغريب وبالمفاجأة حيث أن الذاكرة وحدها ـ –لا النص القديم- هو الذي يحرك اللحظة الحاضرة.
4- الشاعر عدنان الصائغ أحد الشعراء الذين نضجت تجربتهم في الحرب. وواحد من الذين اكتووا بنارها كغيرة من شعراء هذا العقد المحترب.ولأنه شاعر تدرب على تكوين صوره من مألوف الحياة اليومية مواصلا بذلك تقاليد القصيدة الستينية، إيقاع منضبط وصور مألوفة معاشة ومفردة أليفة من سياق الحياة. فتميز عن أقرانه بأنه حديث معاصر ومنضبط في إيقاعات الصورة والمعنى.ولما كانت الحرب واقعا يوميا واحدثا يمتد كأمبيا وجد أن الكتابة عنها لا تمر دون أن تقترن بقرين يعادلها في الفقدان وفي الحب ذلك القرين هو " الحبيبة" وفي قصائده ترد الحبية امرأة وطنا وقضية وحالا مشبعة بالحزن والحرمان. في قصيدة أجاممنون التي تعد واحدة من القصائد القصار المكثفة التي تعكس معاناة شاعر شاب نقرأ فيها هذا التداخل بين الوطن والحبيبة، وبينهما معا وبين أنا الشاعر التي تستعير حكاية أجاممنون الأسطورية مع بنلوب.

معادلة صعبة
أن توزع نفسك بين فتاتين
بين بلادين، من حرس وأناناس
بينما ،أنت ملتصق بالزجاج
. . .
معادلة مرة
أن تظل كما أنت
ملقى على الرمل
ترسم أفقا ، وتمحوه
. . .
معادلة صعبة
أن أبدل حلما ، بوهم
وأنثى . . . بأخرى
ومنفى ، بمنفى
وأسأل
أين الطريق ؟ .
تنتمي هذه القصيدة – أجا ممنون – إلى" تكوينات " وفي التقديم الذي كتبة الشاعر سعدي يوسف للقصائد ، وجد في هذه القصيدة " تجل لخطوة الحرية المنفتحة " وكان يقصد حرية الشاعر بعد أن ، حدق في الكابوس طويلا . . هل تعني حرية الموضوع حرية للشاعر ؟ أن مقارنة مثل هذه تحيلنا إلى معادلات صعبة ، قد لا يكون الموضوع لوحدة مسؤولا عن تشخيص هذه الحرية ، وهنا يبتدئ الشاعر خطوة اكثر صعوبة ، فقد لا تكون القصائد الآتية مشبعة بالتحديق بعدما استعار لها التأمل ، عندئذ سيكثر عدنان من التحديق في الحرية ، حرية "الأنا " لا حرية الشكل . وعندئذ سيعود ثانية ليكتب المشابهات ولكن من موقع الحفر على أبواب الحرية بمعناها الواسع : المحتوى والشكل . لعل هذا ما تأمله دعوة سعدي يوسف لعدنان الصائغ . أي التحديق في الحرية حتى ولو كنا في المنفى اختيارا.
أن قارئ قصائد ديوانه " تحت سماء غريبة " يكتشف أن الشاعر قد وقع تحت هيمنة معاني الألفاظ القارة مثل : الوطن ، الدم ، المطر ، البلاد ، المنفى ، الحرب ، القصيدة . . الخ . وهي كما يبدو ألفاظ مرحلة محددة ، لعل تواريخ قصائده المتقاربة بين بغداد وعمان، تفصح عن واحدية التجربة ، مما يعني أن قاموسه الشعري يقع ضمن تأثير هذه الألفاظ ، فالشعر لا يقيس مرحلة ، وإنما يقاس بالمرحلة خاصة إذا كانت مثل المرحلة التي مر العراق بها .
في البعد الفني لتجربة هذه القصائد نجد الشاعر أكثر قلقا فيما يخص الشكل ، فهو لم يعتمد نمطا محددا من الكتابة ، وهذا يعني أن الشعر يتأثر بحجم التجربة وكثافتها ، فيروح الشاعر ملتقطا أبعادها بحالات تتفاوت بنيتها ، وهذه القصائد تؤكد مبدأ دلالة الشكل .
5- الشاعر عادل عبد الله وهو من الشعراء الذين نضجت تجربتهم في الثمانينات اختبأت لغته الشعرية خلف البعد الفلسفي للحال التي يمر بها العراق. وهو بعد ما كان له أن يحتوي الحال العراقية لولا أن المساحة الداخلية له تتيح للشاعر فرضا للتأمل وللبوح خاصة عندما يكون المخاطب في القصيدة " أنت" التي تأتي من أزمنة مختلفة وتحط رحالها على أرض وواقع يزداد إبهاما كل يوم. وللمرة الأولى وأنا أقرا ديوانه " مؤونة الرحيل إلى الفراغ" اشعر أن الحرب مع إيران كانت في أيامها الأولى أكثر وضوحا. فيكتب عن أشياء لم تحدث بعد، بينما هي في حقيقة أمرها حادثة في " الآن" لكنها ازدادت غموضا وإبهاما بعد مرور أشهر قليلة عليها. ليكتب في آخر الديوان قصيدة عن " تتويج الأحفاد" فقصائد الديوان الأولى واضحة ومباشرة رغم عمقها، بينما يغلف قصائده الأخيرة غموضا وإبهاما وكثافة أفكار. هذا الحس لم يأت من ذاكرة تجمع المفترقات بل من الجند أنفسهم الذين أوهموا أنهم في جولة عبر نهر شط العرب وسيعودون بعدها بعرائس البحر. لكن المفاجأة أنهم كانوا هناك منذ زمن بعيد ولم يعودوا للآن.
عندما فاجأتك الرصاصةُ
هل بحتَ للموت عن سرّ أنشودةٍ
كنتً تقرأ في ساحة المدرسةْ
هل رأيت التراب استحالً
إلى هودج طاف بالجندِ
ثم انتهى نخلةً،
تتبناك في جذرها
دفقةً مؤنسه
يا وريث المطر،
ما كان غيرك وارثاً
سيفاً تعمد بالحقيقة
ما كنت غير طفولةٍ
رضعت تراب الأرض وافتتنتْ
بعشق سيدٍ
غطى على الأرض العشيقهْ
ما كان دمك غير نذر معمّدٍ
بمياه " أهلون"
أراق لخدشِ زرقتها عقيقهْ.


6- الشاعرة دنيا ميخائيل وهي من الشعراء الذين نضجت تجربتهم من خلال معايشة يومية الحرب والحب معا. فهي واحد من الشاعرات التي لا تفارق نغمتها الشعبية حزن عراقي دفين.وفي وقت قصير برزت هذه الشاعرة كصوت له لغته الفنية المعتمدة على الإشباع بالإيحاء والغور في أعماق المفردة الشعبية وتحميل مفردتها دلالات المفارقة واللقطة الموحية وميلها إلى الكثافة وقصيدة الجملة القصيرة.. جايلت هذه الشاعرة أهم تجربتين في الثمانينات: قصيدة النثر التي بدأت تسلك مسالك جديدة في بناء الصورة، وقصيدة التفعيلة المشبعة بما هو يومي ومألوف. فكانت أميل للثانية من الأولى لقدرتها على السيطرة وعلى إيقاعات الصورة والمعنى. وفي كل الذي نقرأه لها حتى بعد أن غادرت العراق ما تزال مفردتها الشعرية محملة بنغمة الغياب – الحضور . فالمسيح والصلب ويوحنا المعمدان والأرض الغائبة والأمل وعودة العدالة ثانية للأرض وكل مفردات القاموس المسيحي الديني والدنيوي تستثمره هذه الشاعرة معيدة علينا تأثيرات قصيدة النثر في أوائل الأربعينات بالأناشيد التوراتية القديمة. حيث يختلط في قصائدها الواقع بالحلم. وهو جذر كل يدرس بما فيه الكفاية.فالموت لا يقضي على ينابيع الحب فقط بل يؤسس موتا أرضيا أيضاً. وهناك دائما من يقص جديلة أحلام الفتيات ويتركون الفجر بلا ذاكرة كما تقول: القبر والتابوت والموت والغياب مفردات وجدت في مناخات الحروب تعيش ثانية بعد أن غادرها التاريخ. ودنيا لا تريد بعث هذه المفردات ثانية بل أن ما تحياه يعيش فيها دون أن يكون ذلك مدعاة للعودة إلى الينابيع الأولى.
مكتوب في اللوح الأول :- " لقد غضب الرب علي بسببكم. وقرر أن أعبر الأردن ولا أدخل الأرض الطيبة. فأنا أموت في هذه الأرض ولا أعبر الأردن. وأنتم تعبرونه وترثون تلك الأرض الطيبة. ولكن حذارِ أن يغضب الرب عليكم فيحبس السماء فلا يكون مطر ولا تعطي الأرض غليتها فتهلكون بسرعة على الأرض الطيبة التي يعطيكم الرب إياها.."
وفي قصيدة أخرى يختلط الحلم بالواقع أنها كوابيس الحرب
" … اعتقد أني أثرثر كثيراً حين رأيت الأصداف، تواسي نافذتي التي تطل كل يوم على نهر لا يعرفني صحوت كثيراً حين رأيت الكون صدفة فارغة حاولت أن أتمدد فيها فالتبس الأمر عليها وعليّ واخذ الظل يبحث عن ظله وأخذت أثرثر وقدامي
تقاطعني.. تعرض علي الوقوع بينما الأشجار تستعجل الخطى والطرقات تهرول نحوي..فتحت عيني ..كان غطائي ثقيلاً وكان أحدهم يرتدي صدرية بيضاء لم اسمع شيئاً مما قاله سوى ..ما بك؟
- لا شيء..هل قلت شيئاً؟

7- الشاعر خالد جابر يوسف وهو من الشعراء الذين يكثرون من الصمت في قول الشعر ، شاعر له لغته المتميزة وبناؤه الخاص . وكغيره من شعراء العقد الثمانيني بدا والحرب لغة تملأ فمه. ولكنه شعر منذ البداية أن الشعر ليس هوية تعرض أمام حرس التفتيش كي يمر إلى الظلمة- القطعات العسكرية أو إلى بيت الحبيبة الغائب في الحواف. بل الشعر كيان يحس ويعاش ويحاور ويقرأ ولا يكتب.فقد لا تكون كلماته هي المعنية بقدر أصواته المضمرة فيها.

قلت جردوا جسدي من خرقه الهواء. أنني أترشح
واحملوني، أنا الشكل المتطفل المنزاح إلى نهايته
بعيدا عن الأصل المتوارث والوريث.
أنا السؤال الأليف الذي انبسطت عنه قبضته في وضوح الوحشة
كنت أتلاعب بمادة الزمن،
وحين تناهت إلى عصور ميتة أتطفل على فضائها
وهي تنفخ في حضرة الضوء
وصرت أرسل سيلان الناس في إنسانية جميلة
إنسانية بلا ذاكرة وبلا كدمات

8- الشاعر عبد الرزاق الربيعي وهو من الشعراء الذين ما تزال تجربتهم منفتحة على الجديد، يعني هذا أنه ما يزال يبحث عن مستقر له بين القصيدة اليومية والقصيدة المتكئة على الموروث والنماذج الأسطورية، إلا أن ما يميزه شاعرا هو تحويل التجربة القريبة المعاشة إلى تجربة بعيدة ويحملها بأثقال الزمن والتأوبل والتناص الغريب المفارق، هذه السخرية المبطنة لها تكوينات شعبية معاشة أنه يسعى لأن يجد في المألوف والحياتي بعض صور المفارقة مع الماضي . الحب لديه هو الطاقة المحتضنة لكل أفعاله، والحب دائما فقدان. ما صنعته الحروب بهؤلاء الشعراء لم يظهر بعد، إذ ما زالت كلماتها تقف على أعتاب تجربة عريضة لشعراء عقد كل أيامه حبلى.
الكلمة بحث دائم عن كلمة غائبة من تحويلة مؤقتة لعربة التاريخ
قلت سجاح
أنا لها
هذه الأمعة التي تدعي حرب
أين مسيلمتي؟
رد الجوق
يؤلف آية حربية
من عرشه المائل في المربع الثالث عشر
من الرقعة
ويسميه مكانيا.. غارته


9-الشاعر رياض إبراهيم الذي غادرنا وهو يجتاز أرض الظلام إلى خارج العراق تاركا بيتا وذكريات وآلام وشعرا أحد الشعراء الذين كانوا يتنفسون الشعر مع البارود والملاحقة والمنشورات السياسية. ولأنه محارب لم يدع الفرصة أن تفوته عندما يجد الأشياء والأحياء الأخرى تشاركه وليمة موت الآخرين برصاص معلوم أو مجهول أن الشاهد على أن هذه الأرض حملت يوما جرائم حكامها.

لقد أغلقوا الأبواب على الأنقاض/ هذا انقراضي
أبتهج حين أمسك عنق حمار شاركني احتفالية المذبحة
يفاجئني البحر في باب بيتي ينتظر
موجة خبأتها في حقيبة.
هل يكفي أن أهدي حواسي المتبقية إلى متحف المدينة
وأحتفظ بالأصابع لأداعب ثدي امرأتي..
...
أنني منتسب إلى برابرة ينتهكون الأسئلة
10- الشاعر علي عبد الأمير وهو من الشعراء الشباب الذين لم تكتمل بعد تجربتهم الشعرية بما يجعلها منسجمة وسياقات الحداثة التي نريد. ولكنها كغيرها من تجارب الشباب الذين نضجت تجربتهم أثناء الحرب وبعدها لذا فهي ليست من العقد الثمانيني وليست بعيدة عنه. لذا فهي لا تفقد مراسيها البعيدة عند الإبحار نحوها. ولكنه يسلك المتعرج من الطرق إليها.. فعلي تهمه اللفظة المشبعة قبل الصورة الشعرية. وهي طريقة درجت عليها قصيدة النثر في نتاج الكثيرين من الشعراء الذين حاولوا الاختباء خلف اللفظ. في حين أن الزمن لم يتسع كثيرا لتجربة تتجدد كل يوم بما يمر على الوطن من محن.في ديوانه " خذ الأناشيد ثناء لغيابك" نجده يجمع بين مكانين: العراق وعمان. وهذا يعني أن القصيدة تلتصق بجلده أينما حل. وهي تجربة لما تزل تعيش على المحتمل. يقين علي لم يستقر بعد على قول ثابت. ربما أنه مشغول بالمحتمل السياسي ويعمل به، وهو محتمل فيه من الهلامية والمرونة ما يضفي على اللغة الشعرية عدم الاستقرار. ومع ذلك لا أقول مثل هذا الكلام عن شخص لا يملك شعرا، بل أن كل ما في تجربته المنفتحة لما يزل محملا بالبروق.
في قصيدة " انا العائد بدا غيابي للتو" يقول
ما الذي يفعله الآن؟ غير العناية بتابوت أخضر لإقمار الفتيات، أذرعهن المتعبات، قراءتنا التي ستطول في ثنايا الخشب. وقتنا كم هو متشابه؟ كم هو فائض.. نداءات على هامش الغبار ودواليب لحكاية لا تسعى.. ترتبك نظائر العسل حين صباح البراعم يدفع بشهوة الكرز في مسامات أنثى ترقد الزنابق بين مسرى التراب وتدركني أنا العائد كي تنظمني في سجلات موحدة لرياض ترحلّ ربيعها إلى أقصى الذكرى، شواهدها في الشحوب، في قلة الأنامل ن في الأسيجة الطويلة.."
11- الشاعر طالب عبد العزيز وهو من بقايا الشعراء الذين يحتفون بصرامة الإيقاع وهو الثمانيني المنفلت من حداثة سابقة والذي لم يغادر كغيره من أدباء البصرة الحداثة الشعرية رغم عنف القصف ورتابة إيقاعات الحرب. نجده يغور في الصورة الشعبية للحال ليستل لنا حالا شعبية مألوفة ولكنها مشبعة بالفقدان والحزن والموت. وهي مفردات سهل استعمالها وقل منتجها لكثرة تداولها لكنها لدى طالب تكتسب جدة وتطورا ونغمة شعبية محببة.
في قصيدة الأصدقاء نقرأ
البكاؤون،
البكاؤون أصدقائي
الذين مرت السيوف على أعناقهم
ولم تترك إلا بريقها في الأكتاف
البكاؤون..
الذين ساروا أمامي إلى المناحر
ونحيبهم في أضلاعي
نحيب قطارات تائهة
الذين حلّ عليهم الظلام قبل الآوان
الذين إذا ساروا تبكي الريح
وإذا قاموا تصعد الأنهار منازلها في السماء
البكاؤون ذوو الصدور البيض
كالمصاحف المفتوحة
أزهر عليهم الرمي
واخضرت الفيافي
علقوا بثوب الأفق
وماتوا من الأختفاء.






















































لون العشب اخضر ولكن الظلال ملونة


















1
من يقرا الشعر العربي اليوم خاصة في حركة الحداثة الثالثة له، واعني بها قصيدة النثر يجد ثمت مفارقة كبيرة بين مسعى هذه القصيدة الفني، وبين بناء الصورة الشعرية فيها، ففي جوهر علاقتها الفنية باللغة، حذفت من قاموسها التركيبة اللغوية الصارمة والقائمة على البنية العقلية – الذهنية، واقتربت من " كلام الناس" اليومي والمألوف والنادر والعادي، الكلام الذي يعده باختين صلب البنية الإيديولوجية للافكار العامة. معلنة في اقترابها هذاعن اكتشاف بقعة أداء جديدة ، ما كانت متاحة لقصائد الحداثتين السابقتين إلا وهي الرؤية المهيمنة للأشياء من داخل علاقتها مع الإنسان، واعنية بالمهيمنة السلطة التي مارسها الاشياء على الحواس وعلى المجتمع معا. وهذا الامر ما كان لقصيدة الحداثة بحركتيها الأولى والثانية قد تعاملتا معها بعد.. فقصيدة النثر، والتي شخصيا أعول عليها كثيرا- عدا نماذج يكتبها انصاف الشعراء خاصة ممن يملأون سلالهم بنظريات فارغة وبالتعويل على فنون اخرى ممن لا يقدمون للشعر ولا للنقد فائدة- في مجاراة تطور الفكر والفن الحديثين، خاصة في مرحلة ما بعد الحداثة، قد ذهبت في إنتاج الشعراء العرب، إلى ما وراء الأشياء، إي الدلالة، وإلى بنيتها العقلية- الذهنية، أي أن الصورة فيها هي الشعرية. وتعاملت مع تراكيب الأشياء البلاستيكية، أي ألوانها وحجمها وشكل مظهرها الخارجي ومادتها ، وخفت إلى ما تخلقه الأشياء بصريا في علاقتها المظهرية مع الآخر.، وبنت بيتها الفني في البقعة المكانية والمشهدية، أي مسرحة الصورة. في حين إن هدف هذه القصيدة هو الذهاب نحو الأشياء أي إلى ما تفعله الأشياء فينا من قوة تغني إدراكنا بالعالم، ومن تكوينات منفتحة للمخيلة تمنحنا أفقا بصريا يتجاور المرئي إلى اللا مرئي، ومن بحث عن قرائن لها في الأزمنة والأمكنة للتدليل عن مكونات المعرفة الشاملة بغض النظر عن جغرافية هذه الأشياء أو انتمائها القومي أو البيئي أو الديني. ومن تطويبها للتاريخ، إلى حمولتها لهذا التاريخ. ومن تأكيد واضح للفواصل بينها وبين قصيدة التفعيلة، إلى تحولها إلى تكوينات قابلة للتوليد ولتغيير، ، ومن فاعليتها في خلق منطقة توازن بين الذهنية والحسية، إلى البحث عن مفردات جديدة نجدها في مألوف الحياة اليومية، ومن كونها موطنا للتجارب وللنتائج معاً، إلى انفتاحها على تجارب لم نقرأ بعد حروفها. ومن قدرتها على تحديد العلاقة مع الآخر ووضع لها بنية مستقلة عن الأفكار، إلى إلغاء الفواصل بينها وبين الآخر عندما تستنطق الكلام ذاته. ومن أن الأشياء تنبع مفرداتها وصورها لتصبح فعلا جاذباً، إلى أن الأشياء نفسها هي الكلام. الذي تنمو وتحيى في جوفه كل الصور الاحتمالية،. فعلى قصيدة النثر أن تذهب نحو الأشياء لا أن تبقى في حال دوران دائم حولها. فنحن نريد قصيدة جديدة تكشف عن طبيعة الإدراك بالشيء لا أن تكشف عن طبيعة الأشياء. كما قال جوج هيرد عن الرسام مونيه في نقلته الفنية للوحة التي كرس فيها الظواهر الفنية المرئية.
2

قبل ذلك لا يمكن أن نقف عند الظواهر العيانية للأشياء، هذه نقطة يجب أن تنتبه إليها القصيدة الحديثة، فلون الحشيش أخضر هذا ما كان كوربيه يفهمه، ويعلمه، ويتعامل معه في الرسم، ولذلك بقي فنيا عنده، يتعامل معه كما لو كان فيه القدرة الذاتية المانحة للألوان الأخرى هذا لا يعني أن كوربيه لا يفهم تدرج اللون ولا نسبه ولا إيقاع اللون ، بل كان يعتقد أن اللون بحد ذاته قيمة تختزن الضوء بنسب معطاة مسبقا ولذلك لا حاجة لأن يتعامل معه برؤيته في مواقع وتحت تأثيرات أخرى. يعني أن مظهر الشيء هو جوهره ، ربما لم تكن مثل هذه النظرة الفينومونولوجية قد ظهرت بعد، ولكن كوربيه كان يعي تماما أن جوهر الشيء تمتلكه حركة الشيء الظاهرية وموقعها والرؤية الآنية له. أي أن أي ثورة جديدة في الرسم لا تأتي بالتعامل الطبيعي مع اللون. إذ لا بد لها من تغير نسب الرؤية ونسب العمل معها... في حين أن " مونيه ورينوار رأيا إن ذلك الحشيش قد يبدو رصاصيا ، أو اصفرا، أو أزرقا، قياسا بالضوء الساقط عليه، وهذه الرؤية هي أصل الثورة في رسمهما" هذا ما يقوله عنهما ألان باونيس. فالظلال ملونة، والأشياء تبدو تحت تأثير هذه الظلال مختلفة عما نعرفه عنها ، ربما يقودنا العلم العسكري في رؤية الأشياء في مختلف درجات الضوء بوضوح. للوصول إلى أن الأشياء بلا ألوان أساسا. فلأشياء ليست بلون واحد أو بهيئة واحدة، ولكنها عندما يتغير موقع الراوي لها، تتحول الرؤية لها إلى لغة أخرى فنية غير تلك التي كانت عليها، عندما كان الراوي في موقع سابق. كذلك هو عمل الفرشاة التي تتبع سايكولوجية اليد الفاعلة في انتقاء النسب اللونية المسحوبة من الواقع إلى المخيلة التي تتبع ظلالا من الأحاسيس لم تكن مرئية من قبل. وعندئذ لا تبدو لنا الأشياء هي نفسها عندما تتغير مواقعها وأزمنتها أو عندما تتغير النظرة إليها أو اللغة التي تتعامل معها.

3
لنشخص من هي الأشياء التي يمكنها أن تمنح قصيدة النثر شعرية جديدة، ومختلفة عن الأشياء التي كانت تتعامل بها القصيدة الحديثة في حركتي حداثتها السابقتين؟. بدءا نقول أن كل الأشياء تصبح جديدة وقديمة في آن واحد، وكلها صالحة وغير صالحة للتعامل الفني، شأنها شأن اللغة، ولكن من يستطيع أن يستعمل كل مفردات لغته؟ هذا شيء مستحيل، إن أعظم كتاب العالم لا يستطيعون تجاوز نسبة 10% من اللغة التي يكتبون بها. الأشياء نفسها تخضع لقانون الرؤية الجديدة لها. في لحظات تجد أشياء ميتة بعثت للحياة وأخرى حية معاشة تبدو ميته. والسبب يعود إلى أن كل الأشياء تمتلك قوى كامنة فيها لا تظهر إلا عندما تكون في علاقة جديدة مع أشياء أخرى.هذه القوى هي ميدان الفعل في أي حركة حداثة جديدة. علينا كي نكون حديثين أن نجدد الرؤية للأشياء القديمة، تلك التي اختبرت حياتيا ودخلت في علاقات قديمة. فهي ذات تجربة وحضور قد تغني رؤيتنا من جديد إذا شحنت بمفردات ومعايشة جديدة. فللتماثيل القديمة مثلا قوة حضور معرفي من خلال المخزون المادي والروحي لها، وعندما تدخل في علاقة معاصرة تمنح القصيدة طاقة من مخيلة الماضي، لكن هذه النصب القديمة استعير عنها في قصيدة الحداثة الأولى بالأسطورة المتعلقة بشخصيات، لأن الشاعر ليس فكرة ولا هو تاريخا، إنما هو شخصية أيضا يريد من خلال استعارته للأسطورة – الشخصية أن يختبئ تحت عباءتها. هذا ما فعله أدونيس في الاستعارة من الأسطورة العربية وشخصياتها، صقر قريش مثلا. وما فعله عبد الصبور مع الحلاج والسياب مع برسفون وياجوج وماجوج وهرقل والبياتي مع أبي العلاء والسهروردي وغيرهم.

4
فالأشياء مثل أي كائن، تخضع لقانون ثلاثي: الطفولة والشباب والهرم، يأتي عليها الزمن، شأنها شأن الإنسان، تولد وتهرم وتموت، أشياء التراث القديم، وما يبقى منها يتجدد بالرؤية الفنية المغايرة للسياق السابق لها. ما تفعله قصة الواقعية السحرية هو البحث عن البنية الواقعية المعاصرة في البواقي من التراث سواء أكانت هذه البواقي لغة أم أشياءً وبعضها يولد وينمو ويستمر، أشياء العصر التقني الحديث. رغم الصعوبة في أن تجد القصيدة الحديثة الطريق سالكة إلى الأشياء الحديثة والمعاصرة، خاصة تلك التي لم تختبر محليا. إنها مملكة من كائنات حية- ميتة. قادرة على أن تعطي أفقا حديثا وجديدا للقصيدة متى ما غيرنا النظرة إليها، سواء كانت تراثية أم معاصرة. فالأشياء لها القدرة الذاتية لأن تتوقف عن منح القصيدة رؤية جديدة إذا لم نكتشف عن جوهرها المخفي المتنوع الظلال من خلال إدخالها في علاقات جديدة مع أشياء أخر. هذا أولاً، كما إن العلاقة المتوترة بين الأشياء نفسها، تلك التي تعود لحقب زمنية متقاربة أو تلك التي تنتج في عصر واحد، تمنح القصيدة شحنة من التفاعلات لتولد علاقة جديدة بين الفن والواقع، ما يحدث مثلا بين إيقاعي الموسيقى واللوحة،أو خشبة المسرح والإنارة. وهذا ثانيا. وثالثا أن كل الأشياء القديمة منها والجديدة إذا لم تدخل في سياق حياتي محلي لا يمكنها أن تكون قريبة من تعامل الفنان معها. سقطت تلك القصائد التي استعارت الفقمة والديناصور والبوارج وشجر البتولا وغيرها من المفردات التي لم تكن مختبرة محليا، لا بالنسبة للشاعر ولا للقارئ رغم وجودها واقعا. وقد عرفها بعض الشعر لأنها أشياء لم تنبت في أرض اللغة العربية ولا في حياة القراء بينما تختفي أشياءنا الحقيقة من الحداثة ،لقربها من متداول الكلام اليومي للناس. والحداثة لا تبني بيتها الجديد إلا على كلام الناس المختزن لكل أمطار الحداثة الآتية.

5
لنذهب باتجاه الأشياء، نقترب منها نعاينها بعين رؤيوية ، سنكتشف أنها كائنات من مادة غير المادة التي نتلمسها.ليس قطعة الخشب خشبا قبل ذلك، ولم تسم خشبا وهي خضراء، الاسم لها يأتي بعد أن تدخل في علاقات جديدة. الخشب يتصل بالموت، بينما الغصن والساق يتصلان بالحياة. عندما نعاين الشيء نكتشف من خلال الاسم دلالاته في القصيدة.الفرق كبير بين غصن شجرة وبين خشب الشجرة.وعندما تعيد تركيب لعبة من أشياء مفترقة تحاول أن تعطي لمعنى الشكل حياة مستعارة من حيوات سابقة لمكوناته الجديدة. هذه بدهية يمارسها الأطفال يوميا عندما يعيدون تركيب لعبهم من أشياء مختلفة. ولكن الشاعر عندما يعيد تكوين الصورة من أشياء مفترقة يستحضر زمنها ومكانها القديم ثم يذيبه في زمن ومكان جديد. ومن داخل هذه البنية يطل علينا ببناء لصورة شعرية على قدر كبير من الحياة.إنه أيضا يمارس لعب الأطفال ولكن هذه المرة تحت هيمنة عقلية ومخيلة فاعلة في تكوين أشياء جدية من نثار الحياة اليومية.
في المسرح تبدو لنا الصورة أكثر عيانية عندما تتحول قطع الإكسسوار إلى أحياء لها لغة بصرية وتشكيلية، فهي كائنات تحركها الأضواء والميزانسين والديكور ورؤية الإخراج وتعامل الممثلين معها، فتكتسب حياة وحركة مادية تتحول من أشياء بمظهر خارجي إلى روح يستنطق لغة فنية ودلالية ترتبط بسياق النص ومسار الحادثة. في اللوحة التشكيلية تبدو العلاقة بين السطح والشيء علاقة بنائية متداخلة، فالأشياء خارج اللوحة مجرد أشياء تثير برؤيتها البصرية نوعا من تجاذب ذاتي معها، لكنها ما أن تدخل بيت اللوحة عن طريق اللون أو الكولاج حتى تبنى حياتيا ضمن سياق الانسجام مع اللون والكتلة والمكان. هذه العلاقة بدت اليوم في لوحة ما بعد الحداثة المادة الأكثر حضورا. عندما استعارها الفنان عوضا عن الإنسان الذي بدا مملا لكثرة صخبه واحتجاجه ورغبته في التمرد على ثوابت العلاقات القديمة مع ما يحيطه.

6
سأتحدث هنا عن علاقة المصاهرة بين الأشياء، علاقة السكين بالطبخ، علاقة المكنسة بالرصيف، علاقة الرداء بالجسد، علاقة الفراش بالنوم، علاقة البيت بالهناءة..الخ.إن أي قلب لنسب العلاقة بينها وبين بعضها تنتج رؤية حديثة لها. فقد يكون الجسد بيتا أو رصيفا أو مطبخا عندئذ تأخذ الأشياء الأخرى دلالات جديدة، تتحول المكنسة إلى هناءة ، أو إلى فراش، أو إلى سكين. الاستعارات وحدها تؤلف من أشياء اليوم العادية شعراً عندما تتغير نسب علاقات الأشياء مع بعضها البعض وتخرج عن سياق ما تعارفت عليه لتولد صورا حية جديدة.. كيف تحدث هملت مع جمجمة يورك، ليس بين الاثنين إلا حفرة لحفار القبور. الشخص الوحيد الذي يرفض أن تكون علاقته بالجمجمة علاقة شعرية، بينما هملت جعل منها علاقة شعرية عندما أخرجها من تكوينها العظمي المجرد إلى تكوين معرفي ذي دلالة بالموت والحياة والفكر والصمت والغضب وما يمكن أن يكون دالا على ماض له حياة وعلى فعل تجري خفائفه في بيت الملكية بعد مقتل هاملت الأب. العلاقة بين الرصيف مثلا والمكنسة، علاقة بين حركة الأقدام والمتخلفات، المكنسة تقرأ الشارع يوميا بلغة تجعله حيا في الغد، وهي دالة على قدرة البواقي أن تكون مؤثرة. في مسرحية القاذورات لبيكت تحاصر القاذورات عجوزين بقيا في البيت بعد أن اضرب الكناسين عن العمل، القاذورات هنا تتحول إلى قوى فاعلة قد تكون في غير مصلحة الإنسان لأنها دخلت في علاقة التراكم المؤذية بعد أن تعطلت المكنسة عن العمل، الإضراب هو لغة مضادة فاعلة في مجال آخر غير ما تفعله المكنسة بعلاقتها الحميمية مع الرصيف يوميا.
7
التوجه نحو الأشياء يعني فهمها أولا ثم وضعها في علاقات مع غيرها مغايرة لسياقها ومراقبة لما يحدث فيها ثانيا. ومن أجل إدخالها في مختبر لغوي يمكنه أن يبني لها صورا ومجازات جديدة علينا معاينتها معاينة ظاهراتية. وإذا ما أتيح لنا التعامل الفني- سينما- مسرح- لوحة تشكيلية- موسيقى ..الخ نبحث عن مكوناتها القديمة وما أضيف إليها لا حقا ومن ثم استخداماتها المختلفة في الحياتي. كل ذلك يجري ولنا فيها فهم محلي لعلاقاتها، وبدون هذا الفهم المحلي نبقى معلقين في وهم الذهنية . للفلاح علاقة تصاهر مع أشيائه البسيطة عندما يكون هو وأشياؤه على علاقة بنائية مع الأرض. وقل ذلك بشأن كل الأشياء وكل الأعمال. إلا أن هذه العلاقة لا تنتج شعرا إلا إذا قلبت العلاقة بينها وبين الأرض، عندئذ تبحث الشعرية عن انسجام مفارق بين اللغة والحال. وهو ما تتيحه لك الأشياء عندما تتوجه نحوها وأنت ممتلئ بالاحتمال.
























كيف نقرأ القصيدة؟

































.

1
لا أحد يسأل لحظة قراءته القصيدة، ما هي السبل لفهمها. لذلك يبدو التساؤل المسبق عن كيفية قراءة القصيدة الحديثة كمن يحطب في البحر. ولكن مناهج النقد قد وضعت في السياقات المعرفية سبلا أولية لقراءة القصيدة، رغم أن هذه المناهج لا تعطينا طرقا دقيقة في أغلب الأحيان، بل تسهل علينا عملية القراءة، لا سيما وأنها مناهج ليست بريئة، وبنت مفرداتها على نماذج قد لا تكون متوفرة دائما، خاصة وأن العلمية فيها تتعرض إلى اهتزازات مستمرة من داخلها ومن خارجها، وعليه ليس كل قارئ على علم تام بهذه المناهج ولا بتطوراتها. وعندئذ ليس من سبيل لفهمها إلا أن تكون عدتك ذاتية بحت. فالقصيدة تختزن أسئلتها ، ولكن عدم التساؤل عن هذه الكيفية إشكالية بحد ذاتها. إذن كيف نهتدي لقراءة القصيدة ؟
أولاً قبل البدء بقراءة القصيدة علينا أن نضع افتراضا نقديا ما عن سبب اختيارنا لهذه القصيدة دون سواها، أو لهذا الشاعر دون شاعر أخر، أو من هذا الشكل الفني الحديث وليس من الشكل العمودي ....الخ من الافتراضات النقدية التي تثار في أول الأمر كسؤال مبهم كي نضع القراءة في إطاره. فنحن لا نقرأ إلا إذا كان ثمت حاجة ما، إذ ليس من قراءة بريئة على الإطلاق.
ثانياً لا تقرأ القصيدة إلا كاملة، ودفعة واحدة. كي يتألف ما يسمى بوحدة الانطباع، فإذا جزأت القراءة فقدت القصيدة سياقها، فثمت تواشج خفي بين القراءة المتتابعة وافتراضات الذهن في تكوين الرأي عنها.
ثالثاً فأن وجدت فيها ما يتفق والسياق النقدي المفترض الذي وضعته أول الأمر تكون قد مهدت الدخول إليها من مجالين : المجال النقدي المفترض وهو مجال خارجي، ومجال القراءة الذاتية لها وهو مجال داخلي. وهذه أولى خطوات الدخول إلى القراءة الدقيقة.
رابعا لا نقرأ القصيدة الحديثة إلا إذا كنا عارفين ماذا نقرأ، فقد يختلط علينا النثر الموجود فيها والشعر، وقد لا نحسبها قصيدة حديثة بل هي مقطوعات شعرية ، وقد لا نكون لنا قراءات سابقة في هذا الميدان، كي لا نفاجأ أننا نقرأ نصا لا دراية لنا بتاريخه ولا بالتطورات التي لحقت القصيدة ولا بأشكالها ولا الفترات التي مرت بها. في حقيقة الأمر أن القارئ حتى المبتدئ منا شأنه شأن الطبيب أو القاضي لا يمكن معالجة قضية ما إلا إذا كان مطلعا على قدر أكبر من تاريخها.
خامساً ، لا نقرأ القصيدة إلا إذا كانت منعزلة عن سياق ناقد – قارئ آخر، فلكل قراءة سياق يضع القارئ قراءاته للقصيدة في إطار مفاهيمي خاص به، وبالتالي فالنتائج المعلن عنها في قراءة الآخر تبقى محددة بالإطار النقدي الذي وضعه لها. . فقد يكون قد استشهد بنماذج من القصيدة رأى فيها ما يتوافق ورأيه، وأي نماذج لا تمثل الكل . فنحن لا نستعير ألسنة غيرنا في القراءة
سادساً لا تقرأ أجزاء من القصيدة في كتاب آخر، ونقول أننا قد قرأناها حتى لو كانت القصيدة كاملة. فقد يلجأ بعضنا لقراءة أليوت مثلا من خلال مقاطع منتقاة من الأرض اليباب،في كتاب نقدي أوهملت شكسبير من خلال حوار بين هملت وأو فيليا فقط شاهدناه على المسرح وفق رؤية مخرج وأداء ممثل. أو الجواهري من خلال مقاطع من قصيدة المقصورة….الخ فالقصيدة مثل الشاعر لا يقبل التجزيء عند قراءته فالشعرية ليست أجزاء تقبل أن تكون كلاً عندما تقرأ ضمن موضوع آخر. والقصيدة عالم مغلق، لا تقرأ إلا لوحدها شأنها شأن الشاعر لا يقرأ أجزاء منه للحكم عليه. هي إذن هي إشكالية القراءة نفسها، تلك التي تتعامل مع القصيدة بوصفها عالما كلياً مغلقا على ذاته يختزن الأسئلة ، وتلك التي تقرأها لتستعيرها لموضوع آخر ومن ثم لا سؤال فيها أو عنها. والشعر في كلتا الحالين يقف على مبعدة من سؤال النقد. في الحال الأولى تصبح قراءة تجربة الشاعر قراءة لأجزاء من قصائده فقط، وقراءة قصائده مفترقة ليست إلا الشاعر موزعاً على مراحل. وفي الحال الثانية تصبح قراءة القصائد ضمن قراءة موضوع آخر، ليست إلا مجاورة مع معارف ومرجعيات أخرى لا يربطها إلا الموضوع ، حتى لو كان الموضوع عن الشعر نفسه. وعندئذ لست بقارئ لا للقصيدة ولا للشاعر. فهل يبقى من الشعر في الحالين شيء؟.
سابعاً: قبل القراءة علينا أن نفهم بعض آليات النص الشعري، ونبدأ بالسؤال هل هناك لغة شعرية ولغة غير شعرية؟ هذا التساؤل البسيط يحوي في داخلة على تعقيدات كبيرة، هناك من يرى أن كل الكلمات تحمل شعرية عندما توضع في سياق شعري، والكلمات نفسها لا تحمل الشعرية عندما توضع في سياق غير شعري.هذه من البدهيات، ولهذه الحال أشكال كثيرة فعندما تأتي باقتباس من قصيدة وتضعه في سياق المقال النقدي لا يصبح الاقتباس شعريا حتى ولو كان مموسقا ومحافظا على كلمات الشاعر نفسها، لأنه دخل في سياق نص غير شعري وخضع لمنطق تحليلي آخر. لكنه هل يصبح نتوءا شاذا في السياق إذا لم يجد الكاتب استخدامه، أم أنه يصبح خاضعا لسياق المقال عندما يكتشف الكاتب قوة النثر فيه؟ وعندما ندخل في هذه النقط، نعيد إلى الأذهان أن اللفظ يكون شعريا ويكون نثريا ليس من خلال استعماله فقط، إنما للطاقة التي يملكها في داخله وهذه الطاقة الموجودة فيه لا ترى نقديا ولا شعريا ولا نثريا بل هي من البقع السديمية في اللفظ، تلك التي ما نقترب منها حتى تختفي عنا. ومنها إذا أخذت كل لفظ من المقطع الشعري لوحده، لا تحصل على الشعرية في المقطع عندما تقرأ كلمات معاً، مما يعني أن الشعرية هي " العلاقة " بين كلمات المقطع الشعري وليست في الكلمات المتضمنة في المقطع. وهناك من يرى أن الشعر ليس من نصيب اللغة بل من نصيب الكلمات، واللغة لا تحدها طبيعة الكلمات بل تعينها طريقة الصوت، والصوت في مجمله هو جزء من تلك " العلاقة". هذه الأسئلة ضرورية لفم كيف نقرأ، ولماذا نقرأ، فقد نطبق الكثير من خطوات القراءة السابقة ولكن إذا لم نقف عند الكلمة الشعرية في النص لا نستطيع أن نقرأ نصاً شعريا، بل نقرأ نصا أخراً حتى ولو كان شعراً .
ثامناً: في سياق القراءة للقصيدة الحديثة لا نجد قراءة واحدة لها، فكل قارئ – ناقد يقرأ القصيدة قراءة خاصة به، ولنا في الأدب العالمي قراءة قصيدة بودلير " القطط" من قبل عدد من النقاد والباحثين الفرنسيين، وكانت النتيجة قراءات وليست قراءة واحدة، مما يعني أن القراءة للقصيدة لا تتم إلا بوجود أكثر من قارئ لها، بمعنى أن قراءتنا للقصيدة لا تكون قراءة تامة إلا بعد مقارنتها بقراءة ثانية وثالثة ورابعة ..الخ ، فهي كأي قضية تعرض على المحاكم لا بد من وجود عدد من الأدلة لصالحها أو ضدها.. والقراءة المفردة مهما كانت دقتها تعاني من فقر نظري وتطبيقي .في حين أن القراءات المتعددة أنتجت أراءً منطلقة كلها من القصيدة نفسها مما يعني أن هذه القصيدة ومن يشابهها قادرة على منح القراء تصورات نقدية عدة. ولنا أمثلة كثيرة في قراءات شكسبير والمتنبي والسياب المستمرة، ومع أني لا أنوي هنا تعميم مثل هذه القراءات دون أن يكون هناك موضوع جديد يستدعي هذه القصيدة كي تقرأ وتهمل تلك، أو قراءة شعر مرحلة مكتملة وليس لكل المراحل. إنما أدعو إلى فهم آلية قراءة القصيدة أولاً قبل آلية مادة القصيدة. فالقصيدة هي النص الذي ينفتح في هذه القراءة –المرحلة، وينغلق في تلك القراءة –المرحلة. وفهم آلية القصيدة يخضع بالضرورة إلى شروط ليست خارجية، بل هي شروط كامنة في اللغة الشعرية نفسها تلك اللغة المحملة بدلالات المعنى
تاسعاً: في سياق القراءة الحديثة للقصيدة نكتشف باستمرار أنم ثمت بقع فيها بحاجة إلى تغيير، في حين لا تحتاج مقاطع أخرى ذلك. وما دمنا لسنا شعراء نكتفي بالقول أن هذا المقطع بحاجة إلى إعادة نظر، بينما المقطع الآخر مكتمل النضج، وهكذا تكون ملاحظاتك النقدية عن أجزاء القصيدة وليس عن كل القصيدة، ولكن هل تنفع مثل هذه الطريقة في تكوين رأي مكتمل عن القصيدة كلها؟ لأن القصيدة الحديثة ما عادت نوعا نقيا شأنها شأن أي جنس آخر، مما يعني أن أي قراءة لا تقوم من داخلها قراءة ناقصة فالفهم السابق للقصيدة الذي يأتي بمقطع نثري وأخر شعري ويقول أن القصيدة الحديثة قد غيّرت ثوب جنسها، رأي غير ناضج نقدياً، بل أن تطور البناء نفسه قد فرض على القصيدة الحديثة أن تفتح جسدها لمقاطع نثرية دون أن تكون قصيدة نثر. هذا أيضا لا يعني أن حجم أبيات الشعر في القصيدة أكثر من حجم مقاطع النثر طريقة للمحافظة على جنسها، إنما يعني أن الشعرية لا تجد مكانتها إلا في هذه المقاطع التي تكون أقرب إلى السياق العام للقصيدة حتى لو امتلأت بأبيات من الشعر أو النثر .
عاشراً: لا تقرأ القصيدة الحديثة لمرة واحدة، فثمة قراءات لها عدة كي تكتشف مساربها ومستوياتها، تقرأها أول الأمر فيتولد لدينا انطباع بالرفض أو القبول، ولا يقبل مثل هذا الانطباع إلا بالقراءة الثانية لها. فإذا قبلت تقرأ ثالثة للكشف عن العلاقة بين اللغة والصور فالكل في صياغة المشهد الذي لا فكاك للقصيدة من تكوينه. ثم تقرأ من أجل البناء الشعري فيها، وطبيعة الاستعارة أو الرمز أو المحتوى. وإذا كنت ناقدا لا تقف عند حدود هذه القراءات بل تصل إلى تفكيك صور وبنية القصيدة اللغوية كي تشكل سياقا أخر هو غير السياق الذي وضعه الشاعر لها. وهكذا يمكن أن تقرأ القصيدة الواحدة مرات عدة وفي كل مرة تكتشف مستوى لا يظهر إلا بعد القراءة السابقة لها. أننا نحرث في تربة خصبة وكل عمق منها يكشف عن أحياء مجهرية لا توجد في الأعماق العليا.













القول الشعري

إثارة السؤال








ما القول الشعري؟ وما دلالته؟ وهل هو قول فعلاً، أم صورة مرسومة باللغة ؟ وماذا يعني بالنسبة للقارئ وللكاتب وللناقد؟ هل يعني معرفته وفهمه فهما للنص؟ أم أن ذلك لا يعني إلا القلة من القراء، خاصة أولئك المعنيين بنقد النص؟ ثم وما دوره في للنص؟ هل يشكله " معنى" "ظاهرة" شكلاً" " فكرة"؟ أم أنه البنية المضمرة في القول المعلن؟ وهل هو قول فعلاً نقرأه في نص ما، و نشاهده في لوحة أو مسرحية، فنؤشر إليه ونقتبسه ومن ثم ننسبه لقائله، أم هو فكرة نستدل عليها من بعد قراءتنا للنص فنقول أنها الفكرة التي نريد، ونروح نعممها نقديا إذا ما وجدنا فيها ما يغني التحليل لنصوص أُخر؟. أم هو لا هذا ولا ذاك، بل تصور ما نستشعره من خلال شيء ما قد يأتي به النص أو قد يوحيه؟ وقد يكون هذا الشيء الجديد، قديما أو حديثاً، مقلداً أو مبتكراً. فنحسبه القول الذي يفتح لنا مغاليق النص المبهمة. وقد يستشعره قارئ ما في حين لا يستشعره قارئ آخر. وبالتالي ما نعنيه نقديا هنا قد لا يعني القارئ. أم ترانا لم نهتد إليه خلال القراءة فيأتي منهج نقدي ما بمجساته المعرفية ليهدينا إلى القول الشعري الذي احتواه النص. فيصبح القول الشعري لغة نقدية قارة في لغة النص المحتملة؟ وقول منفتح على التأويل لا قول نصي مثبت التفسير؟ . وإذا ما اهتدينا إليه بمعونة أو بدون معونة، هل يعني أننا قد وجدنا ضالتنا فيه بحيث يمكننا أن نعلبه لنأتي به لكل نص جديد ومن ثم لنقيس تفاصيل البيوت الجديدة والقديمة على مقاس ذلك القول؟. بل هو من الهلامية ما تجعله موجودا في النص ولكنه غير مرئي. ومعروفا فيه ولكنه مبهم، ومحسوسا ولكنه غير مدرك؛ بمعنى انه لا يتشكل وفق صيغ مسبقة بل يتألف من عناصر مفترقة في النص الواحد. إنه روح النص بالمعنى المادي للروح. ولذلك غالبا ما يلجأ الناقد إلى تجميعه من مواقع عدة في النص ليعيد به تشكيل قراءته للنص نقديا. وهنا نقع في الإطار النسبي للتقييم النقدي. فنجد تعدد النقود هو من قبيل ، الأحتمالية التأويلية لقراءة الناقد.
وفي كل الأحوال ترانا نبحث عن موقعه، أو مواقعه، ونسأل أنفسنا: ترى أين يقع في النص؟ هل يقع في ذروة العمل الفني كما كانت النظرية النقدية الأرسطية تحدده بوصفة "الذروة" ، وهو- عندي ليس الذروة في كل الأحوال- أم يقع في بداية النص كما يفترضه الاستهلال ، وهو - عندي أحد مواقعه وليس كلها- أم يقع في موقع ما في النص ولكنه غير محدد " كالبؤرة" مثلاً فيشمل النص كله بحيث إذا ما شذَّ قول عنه عدَّ القول زائداً، أو إذا لم يكتمل بقول ما عدَّ القول ناقصاً.- وهو عندي شيء من ذلك- وقد لا يقع في النص الواحد، بل في نصوص عدة لمؤلف واحد أو لمجموعة مؤلفين يكتبون في ضوء" قوة الفكرة المهيمنة في مرحلة ما" تخضع كلها لمنطق نظري واحد، أي النظرية الشاملة التي يكتب بها المؤلف إنتاجه الثقافي، فقد يصل كتاب بكتاب آخر وتصبح كتب المؤلف كلها في إطار قول قار فاصل كما هو شأن الكتاب الكبار مثل شكسبير وديستويفسكي وبلزاك، كذلك الأمر عند الفلاسفة والمفكرين والأنبياء الكبار. ونمعن في إثارة الأسئلة فنقول : هل يقتصر القول الشعري على الشعر وحده، باعتبار أن كل المؤلفات العظام كتبت إما: شعراً- الملاحم القديمة-، وإما تعاليم دينية وأرضية حملت الشعر طاقة مضمرة فيها كالقرآن والتوراة والأناجيل وغيرها. أم هو قول في نسيج النص- أي نص-: رواية، قصة قصيرة، مسرحية، لوحة فنية ، ومقالة أدبية؟ باعتبار أن متغيرات التاريخ النوعي للكتابة قد فرضت أشكالا من الأساليب الفنية -التعبيرية تضمنت الشعر فيها دون أن تكون شعراً. واحتوت الشعر وهي المكتوبة نثرا ، وفي ادبنا العربي القديم الكثير من هذا: كتب الجاحظ و امتاع أبو حيان التوحيدي ومؤانسته، وألف ليلة وليلة وغيرها. وهل يدل القول الشعري على ما نعنيه بالشعرية في مفهوم النقد الحديث كما هو عند ياكوبسن وتودروف وجوليا كرستيفا وآخرين؟، أم هو ما نعنيه بالجمالية ، في مفاهيم النقد القديم، عند سانتيانا ولوكاش وستانلي هايمن وريتشاردز ، وهل هو جزء من الفكر بوصف النص الأدبي شريحة من فكر مرحلة لها مفردات مهيمنة على الإنتاج الثقافي كله، بحيث يصبح هذا النتاج خاضعا لتصورات مهيمنة على البنى المعرفية كلها: العمارة الغوطية ومعها الرواية الغوطية مثلا ، أم هو جزء من الفلسفة الحديثة -بعد أن تداخلت الحدود بين الثقافة والفكر والفلسفة التي تستفيد من حرية التعبير الأدبي - في صياغة رؤية للعالم شعرية هي غير الرؤية الكونية الروحية-هيغل- ولا الرؤية المادية للكون وللحياة -ماركس-؟ خاصة وان تداخل العلوم والأداب اصبح معيارا للتحديث ولمرحلة ما بعد الحاثة بالذات.. كما هو عند سارتر وميرلوبوني وفوكو وامبرتو إيكو..الخ، وهل أن مثل هذا القول يرتبط بالأدب الحديث، بوصفة أكثر شعبية بحكم إنتاجه السريع ووسائل الاتصال المختلفة، أم بالأدب القديم؟ بوصفة المرجعيات -اللاّوعي الجمعي" المتحكمة بأي إنتاج ثقافي وفكري للامة. أم نجده في الأدب وفي غير الأدب من نتاج ثقافي - فكري عام، بوصفه جزءاً من ما يسمى" إنتاج المجتمع" وقد يمتد إلى أشكال تعبيرية أخر كالرقص والغناء، وإلى الأشكال الفنية كأغلفة البضاعة، ومتطلبات السوق، وجزءا من فنية الإعلانات والدعاية، وحتى الأزياء وطرق الطبخ وأسلوب التعامل مع الناس في الأماكن العامة.
2
وخلاصة القول هل تنطبق مفهومات "القول الشعري" على الإلياذة مثلما تنطبق على قصيدة حديثة لسعدي يوسف وادونيس والبياتي؟، هل نحتكم به إلى ما قاله اليونان قديما، وأر سطو منه في العين، أم إلى ما قاله النقاد العرب القدامى قدامة والجرجاني ، أم إلى ما يقوله النقد الحديث بتياراته المختلفة اليوم؟ بارت وأجلتون وكرستيفا ونقاد الحداثة. وإذا كان للشعر منه نصيب، فهل للحكاية والأسطورة منه النصيب نفسه؟ وقبل الدخول في ……، نسارع إلى توضيح ثلاث نقاط رئيسية في ما نعنيه بالقول الشعري - تمهيدا-.

الأولى:
ليس القول الشعري، هو ما نعنيه بالشعرية، فهو قول مختلف، الشعرية في أبسط مفهوماتها النقدية أنها تتعلق بالأدب كله؛ شعره ونثره ومقالته ولوحته الفنية وعمارته ومسرحه وسينماؤه ، ومنطق الشعرية هذا يتيح لها رؤية مجمل الخطاب الفني والأدبي، بمعزل عن أي تصور آخر.الشعرية أذن ليست نظرية، وإنما قول في تأويل النصوص. ومنذ " فن الشعر" لأر سطو وحتى الوقت الحاضر تتغذى الشعرية من الاجتهاد النقدي والممارسة العلمية لتحليل الخطاب. في ما يخص القول الشعري، لا يقترب من الشعرية، بل يحتويها، بمعنى أنه لا يأتي من النقد وجهود الناقد والمدرسة الأدبية وألإ تجاه الفلسفي للنص، إنما يأتي من النص نفسه وفي دراية كاملة من قبل مؤلفه. إننا هنا نضع القول الشعري في مجال حرفة الكتابة، وقد يقترب من مفهوم " الصنعة" لدى النقاد العرب. فالشعرية من السعة ما جعلت القول فيها خاصا بالنظرية النقدية ويكتسب صفة التمييز بين قول وآخر، كما أصبحت الشعرية مفردة معيارية، لها تكوينات إجرائية كما يفعل التأويلين للنصوص القديمة. في حين لا يتعدى مفهوم القول الشعري، الطاقة اللغوية المعلنة قبل الكامنة في النص، ونقول المعلنة، كي يتمكن الناقد من تعميق دليله التحليلي عندما بدا في الممارسة النقدية، وبذلك يتجنب الافتراض الذي غالباً ما يدفع بالنص إلى مجالات قد تكون مغايرة. في ضوء ذلك ليس القول الشعري ببعيد جداً عن الشعرية، إلا بحدود الإيضاح، والتدليل عليه عملياً، بل ويصبح قولاً خاصاً بالكاتب لا بالنظرية النقدية. لذلك هو الأسلوب ولكن بطريقة الإشاعة المنهجية -المعملية له.

الثانية:

أنه ليس البعد الجمالي في النص، ذاك المبدأ الذي ساد نقد الستينات، وشمل من بين ما شمل كل الفنون، فالجمالي صفة تطلق على مجموعة عناصر تضافرت لتكوين رؤية مقبولة ضمن عصرها، وهو معيار فكري- ثقافي كان إلى حد كبير مقياساً للجيد من القول تميزاً عن الرديء منه. ولم يكن الجمالي إلا مطلقا في المعايير بحيث تجده في كل العصور وقد تلبس لبوساً خاصا بفلسفة ذلك العصر. ولعل القبيح جميلاً في مرحلة الرومانسية، خير مثال على عدم ثبات الجمالي كمعيار لقياس شعرية أي نص. وبقدر تغيرات الجمالي في القياس ، تغيرت الرؤية إلى العلاقة بين القول الأدبي والعصر، وبين القول الأدبي نفسه كنوع قائم على أسس في مراحل تطوره المختلفة. لذلك فالجمالي جزء من القول الشعري وليس القول الشعري كله.
ذلك لأن الجمالي لا يرتبط بعنصر معين من عناصر النص، في حين أننا نريد بالقول الشعري في النص، ما يتعلق بالأسلوب أولاً، وبالبنية العامة للنص ثانياً، وبالتركيبة التي يتداخل فيها الفكري بالثقافي ثالثاً. والجمالي بعيد إلى حدّ ما عن هذه المواقع.


الثالثة :
ليس القول الشعري هو الموقف الذي تحتكم إليه بنية النص، أعني الفلسفة أوالقضية التي تدور عليها رحى الأحداث، وقد تكون هنا إمكانية القول أن الصراع مثلا وكيفية إدارته فنياً وجماليا يشكل جزء من بناء القول الشعري. لكنه ليس جزء من فلسفة أو قضية، أنه بنية قارة في كل نص إبداعي. وعندي وأن أقترب من فن إدارة الصراع ، إلا أنه ليس هو الصراع. وإن اكتسب منه البنية الجدلية. وسنأتي على ذلك لاحقاً.

الرابعة:

أن القول الشعري ليس هو المزاوجة بين الحداثة والماركسية مثلا. ولا بين ما بعد الحداثة واللبرالية. فمثل هذه المداورات المرحلية لا تلامس القول الشعري ولا تصنعه، إنما تختط له سلوكيات منهجية ، ثورية وراديكالية تلتقي فيها الماركسية بالسريالية، والفوضوية بالعبثية واللا معقول. ويبقى المعيار القياسي لشعرية النص هو القارئ الذي ما عاد مطمئناً هو الآخر لأي تأويلات بما فيها قراءاته هو، لأنه أكثر المنتجين عرضة للتغيرات والتأثيرات الإعلامية. فالقارئ المفترض هو الذي يعيد لنا إنتاج النص من جديد وهذا القارئ ما هو إلا الناقد، الذي يؤمن أن ما من نص برئ، وما من نص لا يحمل أوجهاً، وما من نص يقال لمجرد أنه قول يكتب على ورق، وحتى لو وجد هكذا نص مقذوف إلينا برغبة خاصة فثمة نوايا وراء إنتاجه بالضرورة. أذن ما من نص برئ، وما من نص إلاّ ويكون هجيناً، وما من نص يولد ولا يكون خلفة التاريخ. من هنا يصبح الناقد ليس قارئا حياديا،متجولا في حقول الكلمات يختار ما يلائم ذوقه ويرفض وما لا ينسجم وطباع من يغازلها، بل هو قارئ " مغرض" وقاري غير برئ من أهداف كامنة في جوهر التأليف، وحده القادر على رسم طريق الوصول إليها من خارج نوايا المؤلف. فهو يمتلك الحد الأوضح من الشجاعة كي يقول في جانب القول ما هو خاص بالنص وما هو مغاير له، وأن قال ذلك فحقّه موجود في الظاهرة العامة نفسها " اجتماعية - فكرية - اقتصادية - فلسفية..الخ"، وليس في النص المنقود فقط، وعندئذ يصبح الناقد أكثر المنتجين فردانية وتميزاً عمّا قاله مؤلف النص ، وعما تفرضه المرحلة نفسها من طرق إنتاج مألوفة. ليس القول الشعر خاصا بالشعر وحده ، إنما هو في كل نص له ما يمثله من قول فهو المعرفة التي تقرب القارئ من الواقع، ولذلك لا تملك اللغة إلا الإيضاح عن هذا الجانب في النص، وتبقى بعد ذلك قدرة المؤلف على إيصال المعني .

الخامسة
ان القول الشعري ليس خاصا بالشعر وحده، إنما هو الطاقة التعبيرية التي يمتلكها كل نص مهما كان جنسه أو أدواته . ويبقى بعد ذلك الأمر على قدرة المؤلف على التعبير باللغة التي ينفذ بها عمله الفني. الشعر الذي نعنيه هنا ليس إلا الحقيقة وقد قيلت بلغة فنية عالية، لذلك كانت للدى العرب تقال بمسميات نقدية مختلفة، : الجيد، الحسن، الجميل، ..الخ أما في النقد الحديث فقد اتسع مداها ولم يعد لها في العربية نتيجة المترجمات المشوه للمعنى من تعبير قار.

























اللغة الشعرية العليا





1

تبقى النظرية الشعرية الحديثة في بحث مستمر عن قواعد جديدة للشعر تثبت بها مشروعيتها المتعالية، فقد غدت النظريات النقدية حول الشعر، منذ كتاب" فن الشعر " لأرسطو، وحتى اليوم أكثر أهمية من الشعر المكتوب نفسه، خاصة في مجال الثقافة الغربية. إذ ما عادت النظريات النقدية مقتصرة على الشعر وحده، بل عن كل الفنون. فهي تتحدث عن العمارة، والرسم، والتخطيط، بمثل ما تتحدث عن الرواية، والدراما، والموسيقى والرقص، والغناء، وغيرها. والأمر ليس غريبا كما يبدو، فقد أعطى الزخم المعرفي الذي تداخل في تكوين هذه النظريات مدى واسعا لتشمل في رؤيتها كل المعارف، في الوقت الذي تقلصت فيه الهوة بين الأنواع الأدبية، حينما وجدت الفنون نفسها في دائرة واحدة من الإبداع، فتخلص الشعر من مفهومه النوعي المستقل، الذي كان محددا بأطر الشكل: من صرامة الوزن والقافية والروي وما لحق به، ليصبح حقلا من حقول الـ " شعرية" التي تقترب فيها كل الأنواع، وليصبح الشعر بيته مفتوحا على تعددية الأصوات، وعلى بنية درامية مركبة، وعلى تداخل بين كتل العبارة، وضربات الصورة المفردة. لقد أقترب كثيرا من مفهوم " الشعرية" التي كان يبحث عنها في رحلته الطويلة. كما فعلت فنون القصة والسينما والرسم. ، وعندما بدأ الشعر في حركة تحديثه الأولى في الخمسينات، وجد ضالته في في الفردي وفي الشعبي ليتوسع لا حقا في اليثيولوجي. لكنة ما أن تعمق في الاستعارة منها، حتى تكشف له، مساحة أعمق منها، تلك هي اليومي والمألوف الحياتي. الذي تتداخل فيه كل الفنون، وتتحول النغمة الشعرية المتعالية التي كانت تلاصق المثيولوجي والأسطوري والتراثي والتاريخي، إلى نغمة شعبية، بطلها من عامة الناس، ومادتها من تلك التي نتعثر بها في الطرقات، ونحملها منشورا بين ثنايا ملابسنا وأفواهنا، وندفنها مع أغاني الحب والفقر والعمل. أنه اليومي الذي شكل ملامح الحداثة الثانية في الشعر، ليبتدع نظرياته الجديدة، ويؤسس أفق معارفه من محيط اللغة المحكية. فالشعر في كل مراحله نتاج العامة، بأفكارها وحياتها الحاملة لجدل الأفكار الكبيرة. فما عاد الصراع الطبقي، ميدانا قارا له، وما عادت الهيمنة الاستعمارية موضوعات مانحة من خلال لغة العداء. فالقصيدة ما لم تر انعكاساتها في اليومي، وحياة الناس وأفكارهم وسلوكهم، لن تكون مليئة بـ " الشعرية". وما أن تكون صعبة على الفهم العادي لن تكون محملة بالشعرية. الشعر هو العالم في حركة يشمل بها الكوني والمحلي، أما شكله الذي يعبر به عن هذه المهمات ما عاد بوزن وقافية وإيقاع، وبأبيات مسطرة بعضها كلمة، وبعضها عشر كلمات. ولا تعرف لماذا وضع هنا نقطة،وهناك فارزة، ولم هو مشغول بأن ينهي صورته عند هذه المفردة، ولا ينهيها عند تلك. فق منح التداخل الثر بين نثرية الحياة، المنسابة، القلقة ، المسكونة بالغرائبي والمدهش والشاذ، والمألوفة، وبين أفعالها الصاخبة التي تراها في الاقتصاد والسياسة والحروب والموت والجوع والخوف والغربة في الوطن. طاقة للقول الشعري لم تمنحه الموضوعات نفسها في مراحل سابقة، لأن الذائقة الشعرية، والتغير المستمر في الحساسية الشعرية للأشياء وللحياة قد منحت الشاعر مفردات جديدة للقول. فنحن لا نحتاج في الشعر مفردات من نظريات الصراع الطبقي، ولا من نظريات الشوفينية القومية، ولا من نظريات اقتصاد السوق والرأسمالية التي تجدد نفسها، ولا من كل منافذ ونظريات المعرفة التي تؤسس لها جامعات العالم من: نهاية التاريخ والدولة وانهيارات الاشتراكية ..الخ، لأن نفسر وضع العراقيين مثلا في الداخل أو في الخارج، بل ما تقوله الحال العراقية بسيط وسهل وشعري وأسود ومظلم وواضح، ويراه الشاعر كما يراه بائع المخضرات في السوق الشعبي. فليس من خطب تعلنه، ولا صحف وإذاعات تذيعه، ولا من جيوش في الظلام تسير إليه. كل ما تقوله القصيدة " الآن" عن الوضع العراقي مليئ بالشعري، وإن أختل وزنه وتعثرت قافيته، واضطرب رويه.
ضمن هذا السياق وغيره، تعددت نظريات الشعر، وتنوعت طروحات النقاد وما عاد ناقد الشعر غير مهتم بنقد الفلسفة أو الرسم أو المسرح، ولا ناقد السينما والرسم والمسرح غير مهتم هو الآخر بنقد الشعر، فالمسافة بين حقول النقد تقلصت مثلما تقلصت المسافة بين مجاهل أفريقيا والمكسيك وحقول التوليب في هولندا. حيث أن هذه الفنون في مرحلة ما من تطورها تلتقي في نقاط مشتركة: الغرابة التي تولدها الحياة البسيطة، والدهشة التي تولدها حقول المعرفة الكونية. هذه هي الشعرية، جمع بين مفترقات لم تلتق سابقا . في حين أنك تجدها اليوم منسابة إليك عبر الانترنيت والإعلان والكومبيوتر وحتى قطعة الشوكولاته. وفي مرحلة ما من نمو الشعرية العضوي، لا تفرق في أدواتها، بين الكلمة وبين المشهد، بين اللقطة الفوتوغرافية وبين الصورة اللغوية، بين أن تكون أنت بضمائر غيرك، ويكون غيرك بضميرك المتكلم. بين اللغة الغامضة المبهمة والمتزنة التأويل، وبين اللغة المباشرة المنسابة من أفواه العامة وفي الأسواق. في هذا المناخ الشعري المحتدم والغريب والنادر وغير المنسجم، والذي تطلق علية ما بعد الحداثة " الخنثوي" لا تنمو القصيدة وحدها، بل ينمو كل ما من شأنه أن يجعل الشعر يغذي البصر واللسان والعقل والفكر. ولا غرو أن نجد التيارات النقدية في الفلسفة، وفي الفيزياء، في علوم المادة، وفي علوم الروح، تستفيد من الشعرية بنماذج استعارة، وبنماذج شواهد. وكأن الشعر ليس له ثوب أو هوية، وليس لغة معينة، بل هو جمع بين كل اللغات، لا تحده الجغرافيا ولا تكونه القارات، ولا يقوله قائل واحد، ولا يمنحك صورة قارة لكل الأشياء. بل هو شيء من قدرات غير معلومة تمارس في كل فترة حضورا مبهما على الذاكرة البشرية، فتمنحها لسانا كونيا مليئا بتجارب البشر. والغريب أنني أتصور الثورة المعلوماتية ، شعرا حتى ولو لم نفهمها بعد، فهي في تراكيب عقولنا، كما هي في ممارستنا اليومية.
2

كتاب جون كوهين " اللغة العليا" واحد من الكتب التي تعالج النظرية الشعرية الحديثة، من خلال ست مفردات جديدة في البحث وهي : مبدأ النقيض، والشمولية، والمعنى الشعري، والحيادية واللاحيادية، والنص، والكون. وقد تبدو العنوانات هنا مبهمة علينا، في حين أنها تعالج مفردات واضحة في الثقافة الغربية. فهو عندما يتحدث عن مبدأ النقيض، يسحب خلفه مئات التصورات الفلسفية، ليفرق بين الشعر واللا شعر. ابتداء من دي سوسير الذي أشاع مبدأ " في اللغة لا يوجد إلا فروق" والشعر هو حامل الفروق. وعندما يعالج الشمولية في الشعر، يترك مئات التصورات عن معناها السياسي والإيديولوجي، ويستعير ظلالها الشاملة دون اهتمام بحدود أو تصورات قديمة. والشعر عنده " لغة شمولية" شأنه شأن الموسيقى والرسم. يتجاوز اللغة إلى اللغات. وعندما يتحدث عن " المعنى الشعري" نجده يصل إلية ببساطة " فكلمات القصيدة لا ترسلنا إلى تصور آخر، ولا إلى مرجع آخر، "ولجان كوهين كتاب آخر هو " اللغة الشعرية"، سبق أن ترجم منذ سنوات إلى العربية، ويعالج فيه مشكلة الانزياح اللغوي في الشعر الفرنسي عبر ثلاثة شعراء فرنسيين. ومنذ أن قرأنا تلك اللفظة المبهمة" الانزياح". ونقدنا العربي يستخدمها دون بحث فيها. وهذا شأننا دائما لا نخلف أثرا، بل نقتفي أثر قافية مرت. فمما لا شك فيه أن لغة المتنبي الشعرية ليست لغة امرؤ القيس الجاهلية، ولا هي لغة المعلقات، في حين لم تكن لغة أبو نواس التجديدية هي لغة أبي تمام التجديدية أيضا، ولا لغة الشعراء الصعاليك الطليعية في زمن الجاهلية، هي لغة المتنبي الجديدة في العصر العباسي.، وهكذا نجد أنفسنا في انزياحات لغوية تبعت تطورات الحساسية الشعرية للمفردة وللموضوع. مثل هذا الأمر لم يدرس في شعرنا الذي يمتد لتاريخ طويل، كفيل بأن يمنح أي دارس أفقا نظريا حديثا، واستثني من القول كتاب الدكتور جمال الدين بن الشيخ " الشعرية العربية" الذي حقق تصورا جديدا لتطور الشعرية العربية من خلال منهج إحصائي تحليلي .

3
لا تملك أي نظرية قواعد فن تصب بها القصيدة شعريتها، وهذا يعني أن لا نظرية تأتي بعد الشعر، وتتحدث عن الشعر. النظرية الوحيدة الممكنة،للشعر، هي أن تتحدث عن غير الشعر، عن : الطبيعة في ثورتها التقنية وقدراتها على التوليد، البحار في ألغازها والمجهول والمبهم فيها. الجبال عن المكنون ا البصري والمادي فيها، وقدراتها على الوصول إلى السماء. الكهوف وإمكاناتها في احتواء الرسوم والهياكل العظمية وأسرار الأديان، الكتب التراثية في أوراقها البردي وفي كتاباتها اللغز وفي شفراتها السحرية، الإنسان هذا الكائن المجهول، منذ أن وجد وإلى الآن، والمناخ الذي يركب لنا كل النار التي تطهي أطعمة المستقبل العلمي، وقل ذلك عن كل معلوم ومجهول. فالشعر لا تصنعه نظرية، ولم يصنع نظرية، هو في كل حالاته فوق هذه وتحت تلك، لا يملأ مسافات فارغة في الحياة ولا يفرغ ممتلئ، تجده حينما تحتاجه لخلاص من شرور الحياة، ويهرب عندما لا يجد له فسحة على مسرح الحياة. لذلك ليس من لغة تملكه، وكانت النظريات الحديثة تحاول أن تحوله إلى معادلات رياضية، وقد لا تكون موفقة إلا إذا حسبنا أنه فوق أي قانون ،من هنا تتبع النظريات الشعر، والشعر حيوان أصيل يغير من أثره كلما مرّ على أحراش غابة مجهولة.

إذن ما هي مفردات اللغة الشعرية العليا؟.
1- المقصود باللغة الشعرية العليا، تلك اللغة المشتركة بين الفنون. تقرأها فتشعر أنك تشاهد فلما، وتسمعها وكأنك في حضرة الموسيقى، وتتأمل فيها وكأنك أمام لوحة. وعندما تقطعها كشاهد لتدخلها في نص آخر تكون مكتفية المعنى، قارة بما تقول.
2- تنبع مفرداتها من المكونات الأولى للحياة: من الماء والتراب والهواء والنار. وهذا يعني أنها تذهب إلى أقصى حد من البدائية حين التعامل مع الظاهرة. فعندما تستعير مفردة من البحر تكون دالة الماء كله، ومن الخشب دالة على الشجر كله، ومن الموقد دالة على النار كلها، ومن الريح دالة على الهواء كله، ومن البيئة دالة على الأرض – المادة كلها. وهذا لا يعني اقتصار اللغة الشعرية على مفردات محددة، بل يعني توسيع الدلالة وجعل المفردة بالاستعارة منفتحة على التأويل والتفسير.
3- في حالات السيرورة الشعرية، لا تجد فواصل بين مفردة وأخرى إلا في انتقال المعنى، فالكلمات تتبع الصورة، فليس للكلمة الواحدة إلا معنى الحلقة في السلسلة- الصورة-، والصورة وحدة لمعنى مكتمل.
4- اللغة الشعرية غير الكلمات، فالكلمات جزء منها، فقد تعطيك كلمة واحدة فاعلية الشفرة، وعليك أن تحل رموزها. لذلك لا زمن معين لها إلا زمنها الخاص، ولا مكان لها إلا مكانها الخاص. فهي تعبر التواريخ والأحداث وتستقر في المعنى القار الذي نقرأه، آتيا إلينا من كلكامش وشكسبير والمتنبي وأمرؤ القيس ، من اليونان ومن الميثيولوجيا، من الأساطير ومن الكتب السماوية، ومن الحياة الشعبية المختزنة لكل الصور. ومن لغة التراث. من الحكاية الشعبية ومن الأحلام.
5- ليس شرطا أن تكون القصيدة بمثل هذه اللغة مبتدئة من الأعلى إلى الأسفل أومن اليمين إلى اليسار، أو من اليسار إلى اليمين أو أن طول البيت منها كذا من الكلمات، أو أن تنتهي عند هذا الروي أو ذاك، و تدخل في شكل هذه القافية أو تلك. أنها فيضان من اللغة تعبر شكلها التعبيري إلى المعنى، متجاوزة حاجة البصر إلى السمع، وحاجة السمع إلى بقية الحواس. وقد تكون ملموسة كما هي مقروءة.
6- لا تتعامل اللغة الشعرية العليا مع الحالات الشخصية أو الحالات العامة، فاللغة الشعرية العليا ليست لها وظيفة أخلاقية أو أيديولوجية، إلا إذا كانت حالات كلية، بمعنى أنها تعود بنا إلى الأغراض ولكن أغراضا كونية.
7- تحاول اللغة الشعرية العليا أن تخلق لنا ميثيولوجيا الحياة اليومية، تلك الحياة الغنية بما سبقها، ولكن الفقيرة شعريا بالتعبير عنها، فالبشر يمتلكون حياة غنية بالرموز والدلالات لم تهتد إليها اللغة الشعرية العادية لالتصاقها بالتقنية الشكلية وبالتطور، في حين أن الحياة المعاصرة أكثر بدائية قياسا بما تمتلكه من شيوع وأفق معارف من تلك الحياة التي كان الإنسان القديم عليها. فالتقدم لا يستبدل حياة بأخرى، وإنما يغير سبل الوصول إليها.
8- وإن هذه اللغة لا تقف عند حد من تغيير جلدها بما فيه البلاغي والنحوي والتعبيري،فكما أن الصمت لغة، والفارزة لغة والنقاط الفاصلة لغة، والخطوط لغة، والفواصل لغة. يكون الأمر مفتوحا على التجديد في الحروف وفي النطق كلما كانت هناك حاجة للتعبير دالة.
9- من هنا، وفي ضوء المتغيرات التي أصابت النص الحديث، نجد اللغة الشعرية العليا، لغة موزونة أو بلا وزن، أو سردية، أو نثرية، كولاجا أو رسما داخل النص، مقطوعة موسيقية، أو شعرا قديما. صورة فوتوغرافية، أو مشهدا صامتا ، إعلانا تجاريا أو نغمة في فراغ لم تهتد إلا مستقر. فللنص استهلاله، كما أن له نهايته ومتنه وطرقه وأساليبه.




























قراءات في تجارب شعرية وقصائد









1


الرسالة الضائعة


سعدي يوسف









1- ستجيء الحمامة
2- وسألمح دورتها من هنا
3- سوف تبدو الخوافي من البعد
4- بيضا
5- رمادية
6- تتواثب في خفقات الجناحين
7- إذ يهبطان
8- هنا
9- أنا
10- من مكاني الذي لا يرى
11- سأقيم الصلاة
12- السلام على معشر الطير أنى
13- ربما كنت أهذي
14- ولكن..
15- ستأتي الحمامة
16- فأنا الاعرف. الآن، بالأرض، والريح
17- حتى وأن كنت أعمى، هنا
18- نما فلا
19- نا فلا
20- لا يراني أحد
21- منذ سبع سنين ولا شيء يدخل مكمني
22- لا أحد
23- غير ما ترسل الروح
24- أو غير ما يتناثر مني على كوة البرج
25- حبا
26- وماء



سنحلل قصيدة "الرسالة الضائعة" وفق منهجية "البؤرة المكانية" التي حللنا فيها نصوص شعرية وروائية عدة، وما نزال نؤمن إنها واحدة من الطرق النقدية المحملة بمجالات رؤية واسعة برغم إنها تعتمد على قدرة الناقد في استعمالها للكشف عن أسرار الشعرية في النصوص .وبدءا يفترض أن كل نص يحتوي على بؤرة مكانية، هي أشبه ما تكون بالمولد الذي يوزع سماته وخصائصه على مفاصل العمل الفني كله فتبدو العلاقة بينه وبين هذه المفاصل عبارة عن شبكة من العلاقات البنائية والمضمونية مشدودة كلها بخيوط من والى تلك البؤرة. وكان الشعرية في النص، ما هي إلا النسغ الصاعد النازل بين فروع النص وآفاقه.
ومن السابق لأوانه القول أن هذه الطريقة الفنية قد اكتملت أو استقرت على قواعد إجرائية ثابتة.وإنما هي جزئية ضمن شبكة معقدة من فكرة فلسفية. جدلية نعاين بها الفلسفة العربية الإسلامية، التي نعتقد جازمين إنها فلسفة صيانية- تدميرية ليس المجال هنا كافيا لتوضيح ما نعنيه بالصيانية- التدميرية وإنما يكفينا القول، أن البؤرة المكانية، واحدة من مقولاتها المتشعبة التي منها يستمد النص مفاوزه، واليها يعود بتحليلاته، والبؤرة المكانية من السعة ما نجعلها،لفضة أو دلالة ، أو سوادا في ورقة، أو بقعة جغرافية، أو أي شيء آخر ديناميكي ومولد.

2
البؤرة المكانية في "الرسالة الضائعة" هي الألفاظ الثلاثة : هنا / أنا / الآن، الأبيات 8-9-16. والعلاقة بينهما مكانية / زمانية.
الـ"هنا "قد تعني مكانا محددا، ضمن زمن محدد، وقد تعني الآن أو الأمس أ, الغد، ولذلك لا تحديد واضح لها، لأنها فكرة كلية، شاملة لوجودها ضمنا في "هناك" وفي "هنالك" وهذا الوجود المتحرك يرافقه تحرك آخر في "الآن" هي الأخرى عدد لا متناهي من الأنات ففي كل لحظة تولد الآن وتنزاح بـ"الآن" أخرى ولذلك فهي فكرة زمنية كلية أيضا.
الـ"هنا" و"الآن" معا يحددان من خلال الأنا ومن خلال العلاقة الجدلية بين الأنا وزمانها"الآن" وعليه فليست "الأنا" شيئا ثابتا فهي الأخرى فكرة كلية- كما تقول الفلسفة ولذلك تضعنا القصيدة في كليات مطلقة وغير متعينة بمعنى أنها ليست قارة، أو ثابتة، يمكن تشخيصها، أو البحث عنها في موقع ما، أو في لحظة ما. في مثل هذه الكليات، يستقبل الشاعر رسالته، وعبثا نقنع أنفسنا أن الرسالة التي ستصل لا تصبح كلية، أيضا، لأنها آتية إلى مكان/ زمان غير قار، فالضياع الذي يرافقها، ضياع مكاني قبل أن يكون ضياعا دالا على حدث ما سيأتي.

3
الأبعاد المكانية هنا/ أنا/ الآن في تصاهر حركي غير ثابت، ضعوا لنا مكانا وزمانا لكننا لا نعرف بالضبط أين يقع المكان، ومتى كان الزمان، هل المكان فوق- تحت- أمام- خلف- أعلى- أسفل- حول- بين..الخ، وهل الزمان، نهار- ليل- صباح- مساء- يوم- شهر- سنة..الخ.

4
وعندما نفكر أن "الأنا" أعمى البيت(17) فالكلية للأنا تواصل هيمنتها المكانية، وسيطرتها اللفظية- حيث معظم الضمائر العلنية والمستترة تتصل بها، فتصبح معرفة شاملة ومباشرة باتجاه أن تأخذ لها خطوة جديدة، أما لنفي هذه الشمولية، أو لتأكيدها. وهذه المفارقة يوضحها لنا البيت السابع عشر،(حتى وأن كنت أعمى) فحتى تبطل وعينا بتحديدها المعنى، فالعماء ليس عجزا، وإنما بصيرة، وذاكرة وخبرة، فيعود المكان(هنا) ليمارس ثقله ثانية أو حضوره الكثيف من خلال(حتى- أعمى) فالأنا محددة لموقعية الحدث، وهذا ما آل إليه مصير البيت الحادي والعشرين(منذ سبع سنين ولا شيء يدخل مكمني) حيث العمى مطبق على الأنا وعلى الـ هنا، وعلى الآن أيضا.
والملاحظة الثانية، أن البؤرة المكانية(هنا- أنا- الآن) هي مكان كلي متعدد المستويات، ذو رؤية كونية لكل الجهات، فهو(لا يرى لكنه يرى) ومن خلال هذه الثنائية يحدد الجهات، ويتحدد بالجهات فتجده.
1- بعد يتصل بالذاكرة..( سألمح دورتها من هنا)
2- بعد تصوري- استعاري..(تتواثب في خفقات الجناحين)
3- بعد شمولي للأنا..( أنا أعرف، الآن، بالأرض، والريح)
4- بعد ذاتي..( غير ما يتناثر مني على كوة البرج)
كل هذه الأبعاد مجتمعة في (الآن). وهذه الآن متغيرة، إذ لا نعرف متى كان الفعل: نهارا أم ليلا، صباحا أم مساء، أمس أم اليوم، مستعادة من الذاكرة أم تجربة حسية.. فالآن الكلية، والمكان الكلي، والأنا هي المكان الشامل المطبق العماء ووحده الذي لا تأتيه رسالة لأنه هو رسالة عبر ذاته.
وما الرسالة التي ستحملها الحمامة، إلا بداية خلق جديد، يولد في أرض مبهجة، وبفعل قوى غامضة، فضياعها هو حقيقتها وعليه ليس من رسالة ستأتي..
إلا أن هذا الاستنتاج المتسرع، لا يوقعنا في حسم النتائج، لفعل المكان في مفاصل النص، لنرى ذلك بوضوح ما يلي:
المكان الإطار. تؤطر القصيدة بالبيت الثاني" سألمح دورتها من هنا" حيث"هنا" المعزولة عن الفاعل بـ"دورتها" تعني أنها المعنية بالبيت كذلك أنها السلب للأنا، وقد كونت بؤرة فاعلة في تحديد الدورة والرؤية.. وما سيأتي من أبيات كلها تستمد من هذه البؤرة فاعليتها وشعريته.. أما تكملة المكان الإطار فنجدها في البيت الرابع والعشرين" أو غير ما يتناثر مني على كوة البرج" فما بين سألمح، ويتناثر، فعلان أحدهما إرادي والثاني لا إرادي، الأول مشدود بـ"هنا" والثاني مشدود إلى الجسد/ البرج. الأول يتصل بالأعالي، بالإعلان، أما الثاني فيتصل بالخيبة، بالأسفل، بالاختباء.. وما القصيدة المتبقية إلا حركة فعلية الإطار بين(هنا/البرج) أو (الأعلى/ الأسفل) (إرادي/ لا إرادي) (مبهم/ فعل جسدي مباشر) ويحدد الفعلان للإطار، حركة تموجية داخل النص، تتراوح بين فعل الآخر وفعل الـ"هنا".
الأبيات 3-4-5-6-7 أبيات وصفية لفعل الحمامة، وأجزاء جسدها، وهي أبيا استعارية لصور قديمة، أو لخبرة، وتعود هذه الحال في الأبيات(12-15). والموجة التي تحدتها هذه البنية الاستعارية أفقية، بمعنى أنها خارجية تأتي لتتواءم مع حركة "الأنا" وقيمتها التعبيرية أنها تستل من البطل صورة للمقارنة، أو صورة إتكائية يحقق من خلالها سعة في الحدث وتعميقا للشعور.
أما الموجة الثانية، فتتعلق بـ(أنا/هنا). وتمثلها الأبيات(9-10-11) حيث يحدد بها ثلاثة مواقع جسدية (أنا مكاني- الإقامة) وهي أمكنة كما تبدو داخلية أكثر منها خارجية، حيث المكان لا يرى، وحيث العبادة لا تخص أحدا، وحيث "الأنا" منسحبة منها الرؤية. ثم تتسع الموجة المكانية فنجدها في الأبيات(13-16-17-18-19-20) وهي أبيات البؤرة والمعنى للقصيدة، فالهذيان يعني اختلاط الداخل مع الخارج، وهو وجد صوفي ينطلق من خلال انفتاح الرؤية البصرية على الداخل، ويعمق ذلك البيت(16) حيث يقرر لنا أن الأعمى(الأنا) هي الأعرف، بالأرض، والريح( الداخل/الخارج) معا، البرج والحمامة، وهي معرفة دالة على الصلة بين الأنا والعالم، صلة تبدو لأول وهلة أنها مستعارة من الذاكرة أو من فعل الحمامة، ولكنها صلة مؤسسة على وعي بالغربة، وبالفقدان، وبالحزن، لتأتي الأبيات الباقية لتؤكد هذا التناوب المكاني حيث لا يرى من أحد، والمنتظر لرسالة الروح المؤجلة في الأعالي أو المجهول، وتتعمق هاتان الموجتان المكانيتان بالأبيات( 21-22-23-24) وهي أبيات الذروة، حيث القصيدة كلها ليست إلا أفعال الأنا وهي في اتحادها المكاني مع البرج(هنا) فتبدو الأنا/هنا، واحدة كلية وشاملة.

5
هل تحيلنا القصيدة إلى وحدة ما شملت قصائد الديوان" جنة المنسيات" أم شعرية سعدي يوسف تميل إلى بنية الموقعة الداخلية، فتبدو القصائد مفترقة، مختلفة؟.
في اعتقادي النقدي، أن الرسالة الضائعة، لم تحسم معنى ودلالة في هذه القصيدة، كما أن المصاهرة بين( الأنا-هنا- الآن) هي الثيمة الكلية التي طبعت عددا كبيرا من القصائد كما في قصائد مثل: الطريق- نهايات- نور- ابتداء- ملمس- القيثارة الحمراء.. وقصائد عدة. وهذا يعني أن الشاعر في مرحلة الديوان هذا يركز على البنى المفقودة، وعلى الأماكن المتداخلة مع الجسد/ الموقع، وعلى الفكرة التي لا تأتي ولا تأتي وكأنها فكرة قائمة في "الآن" الفلسفية المتعددة الأنات ونتيجة لهذه البنية المركبة المتداخلة بين فعلي الجسد الآخر قد أفرزت قصائد إيقاعية زمنية متداخلة، بعضها امتلأ باللغة- الكلمات، وبعضها امتلأت بالصمت- التنقيط- ومراجعة لعدد من القصائد نجد أن هذه الإيقاعية التنادبية بين البوح والكتمان، هي إحدى الثيمات التي ترتبط بـ( الأنا- هنا- الآن).
الملمح الثاني الذي تؤثر إليه قصائد" جنة المنسيات" هو أن عنوانها يشمل مضامين القصائد، فثمت منسيات، في الذات وفي الآخر، وأن هذه المنسيات شاملة، في المكان وفي الزمان، وأنها كلها تمتد في موقع هو "الجنة" قد لا تكون الجنة بالمعنى الديني أو الميثولوجي، وإنما يكمن معناها الشعري أنها وجدت طريقها إلى القصيدة، فالقصيدة- جنتها- أو موقعها الذي تلغي الحدود والفواصل، ويحيا الجميع، أما في يقظة دائمة أو في حذر دائم، حيث الغياب، غيابان: غياب الرؤية- الأعمى- وغياب الآخر- السلطة- وجنة المنسيات المفترقة الدلالة تتوحد ضمنا في بنية شعرية، هي الوحدة بين المفترقات.
الملمح الثالث الذي نجده في قصائد هذا الديوان، أن سعدي يوسف فيه/ يبتعد عن الجناس اللفظي الذي ساد بعض قصائده في السبعينات وعد يومذاك اكتشافا في المعنى عندما يجد للألفاظ المتشابهة رسما، مختلفة بالمعنى، ويتحول منها إلى جدل المفارقات، الذي ينشئ من العلاقة بينهما بعدا ثالثا، هو سلب للاثنين، وفي الوقت نفسه بناء في تركيبة جديدة.
مسرعا يهبط
حتى ناسيا ما يفرق الليل عن الصبح
ولكن البيوت
وحدها تمنحه، من نورها، الضد
الذي يجعله ليلا
لتلتم البيوت
في لآليها
وتحيا، إذ يموت.
هذه البنى المفترقة لفظا، ومعنى الليل/ الصبح، يولدان معا(الضد) والضد يجعله(ليلا). وفي الليل تتوحد البيوت حيث الظلمة(العماء) ومن خلال هذا العماء، تولد الحياة أو تموت..
هذه البنى المركبة المتداخلة، هي حصيلة العلاقة الجدلية بين الأضداد اللفظية والتي تحولت إلى بنية علاقة متصاهرة تولد الجديد، وتمنحه هويتها، إلا أن الجديد يصبح مركبا في بنية أخرى متفرقة.
الشعرية عند سعدي في جنة المنسيات، لا تبحث عن ثوابت، أو استقرار، أو تحديد إنما هي في حركية متصادة نحو مواقع تكشفها هي بنفسها.
الملمح الرابع الذي تؤشر أليه قصائد الديوان، أن الشاعر معني بأن يكمل حدثه في الخارج، ثم يدخل الشخصية بعد أن تتشبع بحدثها إلى" مكاني"، وغالبا ما يكون المكان –كما هو في الديوان- برجا- بيتا- كوة- غرفة- بحرا- مجاري- خانا..الخ.
وفي داخل هذه الأقبية الزمنية لا ينمو إلا فعل الانتظار كل الشخوص- الشاعر- تنتظر رسالة ضائعة أو تؤجله، وهي في انتظارها هذا لا تقول إلا عذابات الأزمنة المتداخلة والمعقدة، المحفورة في الآن/ الأنا/ الـ هنا. أي في المطلقات اللفظية- الزمنية- المكانية.






انحناءة الخيزران


دراسة في ديوان حسب الشيخ جعفر



في مثل حنو الزوبعة

















1
لا يستطيع شاعر مجدد مثل حسب الشيخ جعفر أن يتحرك في كل مرحلة جديدة له إلا في مساحة إبداعية مبتكرة وجديدة، فالشاعرية عنده، وعند بعض المبدعين، هي الكشف عن بقع خلاقة جديدة، منتجة وثرية، مكملة لما سبق، ومحققة لنفسها دورة إبداع جديدة، لذلك لا تجد حسبا إلا شاعرا بمراحل، وشاعرا بتجارب وابتكارات وشاعرا في كل الذي يقوله، حتى ولو أخفق، أو أخفقنا. ولذلك لا يدرس حسب الشيخ جعفر إلا وفق اكتمال العمل في المرحلة، أو اكتمال المرحلة في عدد من الأعمال، ولا يعاين نقديا إلا بعد أن ينفض قلمه عن أسلوبه في المرحلة، وعن المرحلة في أساليبه. في ضوء ذلك كتبنا دراستنا الطويلة عن دواوينه الأربعة الأولى وبعد أن اكتملت دورة فكرية عند أعتاب عام 1979 بدواوينه الأربعة، فكانت المرحلة تلك المبتدئة بديوانه" نخلة الله" والمنتهية بديوانه " عبر الحائط في المرآة"، واحدة برغم شعابها ومنعطفاتها، فكان حسب فيها قد وطن لشعره موقعا حداثياً سواء بموضوعات قصائده أم بنيتها الداخلية، ولعل المدور الأسلوبي أكثر البناءات وضوحا وتركيزا. وكان شعر حسب أكثر أبناء جيلنا ابتعادا عن هموم المرحلة السياسية بعدما أشبع بها سابقا، وأقربه منا إلى هموم الذات المشبعة معاناتها بالسياسة، من هنا تحول الموضوع عنده من الحدث السياسي المباشر، إلى الحدث الإنساني العام المشبعة حروفه بمناخ سياسي أعم. من هنا بدأت أوليات تلك المرحلة في بداية الستينات واكتملت في أواخر السبعينات مقفلا بدواوينه الأربعة تجربة فيها من الشعر الكثير، وفيها من المعاناة أكثر. حتى إذا ما اكتملت دورة الهلال، عافها وتركها، وبحث عن أفق حداثي جديد يكمل به أو يغير به، ومن خلال البحث يكتشف عن مواطئ القصيدة الجديدة وقد أشبعت رؤاها بما هو أهل.
بعد تلك المرحلة بحث حسب الشيخ جعفر عن مواطئ قدم جديدة فلم يعثر عليها لا في القصائد التي كتبها محاكيا الإيقاع السومري للتكرار في الشعر، لا في منعطفات الذات، فكتب عددا من القصائد لم تكوّن تجربة، مما دفع بقلمه إلى الترجمة إراحة له، واستراحة يتأمل فيها ما قرأه في موسكو، فترجم لمايكوفسكي، ويسنين، واخماتوفا، وبوشكين، وبلوك وغيرهم، كما شرع في كتابة مذكراته ويومياته، أنها مرحلة النثر والشعر المترجم، أضاف أليها مقالات حول نماذج من الشعر العراقي والعربي الجديدة، معلقا عليها وباحثا عن أفقها الحداثي، فكان حسب في هذه السنوات والتي امتدت إلى منتصف الثمانينيات يتلمس طريقه نحو أفق جديد، وكان له أن استرجع من خلال ترجماته لأشعار روسية حديثة، وكتابته عن بعض قصائد الأحياء والأموات من الشعراء العرب، أن وجود خيطا جديدا يدخله إلى مغارة الموت ولكن هذه المرة من خلال رثاء لعصر مكلوم، منعدمة فيه الحرية، والقول والبوح، عصر خير ما يمثله هو الأفول، فكان أن جسد مرثاته له بالكتابة عن الشعراء الذين رحلوا، حسين مروان، السياب، وصلاح عبد الصبور، أمل دنقل، كتب عن صبية رحلوا في الحرب وعن آخرين غادروا وماتوا وعن أحياء موتى، كتب عن الشيء الذي يرى فيه مثلا يجسد الأفول. وعندما فرغ من ديوانه هذا، والذي أستمر أكثر من ست سنوات، بدأ مرحلة جديدة، فبعد خراب العالم ممثلا برموزه لا تأتي إلا الحكمة- كما يقول- حيث الحكمة بداية تلمس الأشياء المبهمة، فإنسان هذا العصر قد يأس من الأيديولوجيات، وافتقر هو وشعره إلى مراس تشده إلى مواطن الذي ننشد. ولما جاءت السنون بما لم تشته، حدث الطوفان، ومات الذي كان صوتا، وعم الخراب، وأقفلت الجنان أبوابها، حيث لا دن مملوءاً ولا أصابع ممسكة بالقلم، هذا اليأس، هو ما جسده حسب في ديوانه" في مثل حنو الزوبعة" عندما غادره، غادر مرحلته كلها، وها هو في الرباعيات يكتشف بقعة خلاقة جديدة، وموطئ قدم بدائي، أنه الآن في مناخ الحكمة، والموعظة، والعودة إلى ينابيع الأقاويل المغيرة، فعلى لسان الحيوان يضع حسب حكمته، وأقواله عله يبني للعصر الآيل للسقوط مدنا مشبعة برياح الحكمة.


2
ديوانه" في مثل حنو الزوبعة " مناخ امتد عشر سنوات وأنتج في ست سنوات وقصائده ولدت في معناها المراقبة. ماذا يحدث للشاعر وهو يرى أن دم أصابعه قد جف بأرض لا تستثمر لغاتها؟ ماذا يقول أن كان كل الذي قاله قد تحول على يد شعراء ثانويين إلى مقولات فكرية ينظرون فيها وينظرون حولها؟ ماذا يقول إذا كان كل قصائده قد أصبحت تجارب للآخرين وكان عليه أن يصمت مراقبا وينسحب مسالما، ويقف مصوبا عينيه إلى أفق المعرفة وما كلن له أن يعمل ذلك لولا أن كل الذي كتب عنه وماحكه، وداعبه وأفترض فيه أو عليه، أصبح عنده طنينا بلا صوت، وهواء بلا شميم، وماءً آسنا.. رثاء هو الذي يكتب، أيها العصر الذي لا تلد إلا الندب والأحزان قد أمتهن الشاعر فيك، فغدوت ترابا، وغدوت نسيا محزنا." في مثل حنو الزوبعة" مراقبة لحرفيات عصر ينهار، وحسب فيه لا يكتب الشعر إلا في المراحل المنهارة، الآيلة إلى الاندثار والذاهبة مع تيار الأبدية إلى العالم الآخر. وحسب في هذا الديوان يراقب مقدمات المواكب المنهزمة لا مؤخراتها، حيث الطين يعلو من حوافر الخيول. حسب إذن يرثي عصره، وعصرنا، مرحلته، أو مرحلتنا، نموذجه أو نموذجنا، لغته الفكرية أو لغتنا، يرثي دونما حس ما بالفاجعة الكونية كما كان يفعل في دواوينه السابقة وإنما الإحساس بفاجعة الضمير، النفس، اللغة، الوجود، الأصدقاء، الأرض، التراب والذاكرة.. أي حزن هذا الذي حمله" في مثل حنو الزوبعة" عندما جعل من الموت حدا فاصلا بين مرحلتين، أو فكرتين، وأية فاجعة لا يرى فيها حسب سياسيا، كما لا يرى السياسي شخوصه إلا وقد كفن بعلامات الأفول؟ فالشاعر أنتج قصائده بدم الرؤية المأساوية بعدما كانت مرحلته الأولى مشبعة بالرؤيا، الحلمية والجنسية. كالسياب، حسين مروان، صلاح عبد الصبور، أمل دنقل، لوركا، نيرودا، يسنين، مايكوفسكي، دستويفسكي، من خلال الأبله، المغنيات، العجفاوات اللائى متع جسدهن الزمن،سومين، أد غار ألن بو، وصاحبة الحانة القديمة في رحلة" كلكامش" والمعاصرة التي غضن وجهها الزجاج.. أية لغة سياسية حمل ديوانه الأخير هذا فاحتوت المعاصرة، لغة ولدت من الرثاء، والثاء شاهد على عصر مكلوم، والمادة مخمرة بالهموم.. كل الآمال قد فقدت، قد لا يكون ثمت قول آخر بعد هذا:
أنني ابحث عن قلبي الدفين
في الخرائب
تحت أعقاب المنافض
تحت أقدام الجواميس الثقيلة
تحت أشواك الرياح الخائفة(ص77)
ولربما قال عن نماذج هذا العصر، أولئك الذين تخثرت أثداؤهم فغدوا خنازير أو جثثا لاهثة.

قطيع من الماعز الصيرفي
قطيع من الملكات الرثيثة
تلم عليها وشاح الجرادة
تلم المسابح والحاسبات(ص89)
فحسب لا يرى من النماذج الثائرة إلا مثيله، فهو ليس نرسيس آخر، وإنما ما اختزنته ذاكرته وتجاربه وشعره ومواقفه كافية لأن يرى عذاباته المعاصرة، لكنه وهو يؤكد هذه الذاتية، يبعدها عن أناه ويجعل منها صوتا أشمل:
في اللجة منذ قرون
مهجور ويداي خيوط عناكب
أقبيتي الأفق المفتوح
وأشرعتي الورق المصفر الميت
ملء جفوني
أغساق كنت المراقب والمتخشب فيها
كنت المنتظر المهجور(ص109)
ويوحد حسب بين الرثاء والفاجعة، كما يوحد بينه وبين الأصدقاء الميتين ويعزو ذلك كله للزمن الرديء. زمن الفواجع والنكبات والمواقف الناقصة.
زمن من القطط العجاف
في الليل تتبعني وتأكل من يديا
تتصفح الكتب الرقيقة فوق مائدتي، وتغفو
زمر تقهقه في جيوبي
وتمد أعناقا لنادلي المبرقش
زمر العذارى المومسات
زمر السكارى الميتين(ص29)
كما لا يستبعد حسب في هذا الديوان استعارة الصور المحزنة من سنوات مضت، فالديوان وأن جاء بعد مرحلة الدواوين الأربعة، إلا أنه اختزن تجارب سابقة، ما كان لها أن تظهر في المناخ الشعري السابق له، أنه هنا يعيد إحياء الماضي، تجاربه، أفكاره، ذكرياته، فأي مرحلة تسقط لا يبدأ سقوطها آنيا، وإنما الشرخ يمتد إلى سنوات ماضية، ولذلك يستحضر حسب هنا كل المفردات الخفية، التي انزوت أو أهملت ليعيد أليها الحياة، ويسكبها ثانية بعدما هيأ لها المناخ الجديد.
مات أبن مريم في القماط
لا ضوء غير لفافتي المتضوئة!
خذ وردة متعفنة
أوراق آسٍ هاك يابسة عجوز
ودع القرنفلة البهية للسكارى(ص30)


3
لا تكفي الصورة الإنشائية التي قدمنا بها هذه الدراسة، كي نقول أن حسبا في هذا الديوان يرثي عصره، وحسب منهجيتنا في معاينة الشعر والقصة عند حسب وغيره، نجد" المكان" وهو ميدان دراستنا هنا، وأخيرا من شواهد الرثاء التي أشرنا أليها:
فالمكان البؤرة الذي اقتسم القصائد كلها هو
القبو/ القبر
ينسحب القبو إلى الذات، التجارب، الأحزان المرة، الاخفاقات، ويشير القبر إلى الموتى، الراحلين، والمغادرين عصرهم.. والمكانان واحد من حيث الدلالة الموضعية، والنفسية، فكلاهما مقبرة، وكلاهما ظلمة، معنى، وأحزان، وخفوت، وانحسار الضوء، والابتعاد عن محطات الآخرين المضيئة، كلا المكانين مكور، دائري، يشير إلى العمق، وإلى الماضي، وإلى الحزن، والأسرار، والتكور والابتعاد، والنسيان، وكلا المكانين مشاع في الزمن وفي التجارب العامة، لهما حضور في الكثير من الصور، والأمكنة الأخرى، وحسب كان في كل مكان- كما سنرى- يضمن المكانين فيه.
وفي جدولة إحصائية عامة لأمكنة الديوان المتفرعة من المكانين البؤرة( القبو/ القبر) نجد قائمة طويلة لأمكنة تحملها ضمنا وواقعا، فكرا مؤولا، وشكلا من هذه الأمكنة:
الحفر/ الممر/ المناورة/ الهاوية/ الطلول/ بابل المقفلة/ البنوك/ الأحجار/ الكوى/ الدهليز/ البؤبؤ/ الدنى/ الأساور/ الركن/ الركنة/ الكهف/ الوكر/ القدح/ المدن المعدنية/ المماشي الليلية/ التخوم/ الفروع/ الطبول/ الخمارة/ الخيمة/ المبغى/ المخدع/ الأفق/ الأدرد/ الضاحية/ الدمية/ المرضع/ النعش، البركة الأيقونة/ الكأس/ المنزل/ الأخدود/ الغرف/ الطرق الحجرية/ الأقاصي/ اللا حديقة/ ارم/ الفراغ/ المناقع/ القاع/ اللا مركب/ اللا شاطئ/ القلب/ الخرائب/ المنافض/ الأسود/ المقهى/ المكان العتيق/ براميل القمامة/ الزوايا/ القناني/ الحفر المتعكرة/ الجروف/ العيون الميتة/ الأقمطة/ المحطة/ الحقائب/ المنافي/ المخازن/ الصحارى/ العش/ الحوصلة/ اللهانة/ المسلخ/ النادي الليلي/ الغليون/ الأقفاص/ العناكب/ العوانس/ المحفظة/ الخمار/ المحفة/ المجرى/ الأضابير/ الإحداق/ الدارة/ الزجاجة/ الجيب المثقوب/ المرافئ/ البحر/ المقفلات/ القطارات/ المهجورات/ المراكب البالية/ الأطمار/ الأنقاض/ المنافي/ الأقنية/ الموتى/ الملجأ/ المواقد/ الأكواخ/..الخ
هذه الأماكن التي احتوت مخيلته الشعرية في هذه المرحلة، والانطباع الأول الذي نستنتجه عنها، أنها أماكن مغايرة وجديدة، دلت على رسو تجربته داخل أعماق الأرض، وفي الذات، وفي المواقع المشبعة بالظلمة، بعدما كانت أماكنه في دواوينه الأربعة موزعة بين الأعالي والسطح والأعماق، وامتدت بين السماء والأرض، بين القرى والمدن، بين المياه في والأهوار والمياه النار، كانت البارات والمحطات والشوارع والسماوات الخفيضة ومرابع الطفولة، أمكنته الأليفة، وكانت النخلة المثمرة سماءه المحددة. وكانت أور وبابل وسومر، وسيدات الغجر، مادته الفكرية. وكانت المدورة أسلوبا وإطارا عاما، وثوبا إيقاعيا يلم بها كل تلك الأمكنة المتسعة.. في هذا الديوان- المرحلة- كل أمكنته مهجورة، أو ممتلئة بالمهجورين، الموتى والمبعدين والمنبوذين، كل أمكنته محجوبة، منطوية، دائرية، كوى وأقبية، وخرائب وغرف، وأخاديد، ومباغي، ومخادع، ومخافر، ومحاجر، أمكنة أعمار الصدف، والعين الناظرة إلى الداخل والحركة المسيجة بالأقفاص، والقبر وسقط الجروف، والبرك،والفراغات، والكوى.. أمكنة سحبت خلفها مئات الصفات والصور الحسية المليئة بالنار المحترقة، وكل الصفات الملحقة بهذه الأمكنة: خابية، ثقيلة، فارغة، متحشية، مهجورة، تائهة، عجفاء، عبوس، متضوئة، لقطاء، ضبابية، سوداء، كليلة، متخثرة، غافية.. الخ.
الانطباع الثاني المستخلص من الأماكن، أن حسباً لا يختار موضوعه قبل اختيار مكانه، فالمكان عنده يسبق الحدث، ليس حسين مروان موجوداً إلا بعد أن ووري التراب، وليس أمل دنقل موجوداً إلا بعد أن أصبح صنواً للقبر.. ولذلك ثمة تلازم بين الحدث ومكانه، وبينها وبين مرحلة الشاعر النفسية، وبمعنى آخر أن حسباً لا يرى في تكوينات صوره الشعرية إلا تلك الحالات التي مرت عليها عجلات الزمن، لذلك لا يولد حسباً الشعر، وإنما يراه، يشعر به، يجسده معاشه، ويفعله، وينقله من الأرضي إلى الشعري.
أتذكر آنية تتحطم في ظل الفكرة
أتذكر عينين ارتضتا غرقاً
في أنقاض الفكرة
أتذكر برق جنون في الفكرة
فلماذا العالم في العالم
والفكرة تائهة في أشرعة الفكرة؟(ص52)
الآنية هي التي تحكمت بالفكرة، والقصيدة عن الأمير مشيكين في رواية دستويفسكي "الأبله" فكانت الآنية رمزاً للحضارة الصينية القديمة التي احتلت ثقافتها البيت الروسي القديم، وما كان تحطيم مشيكين لها، وهو الأمير إلا رمزا للتحرر من أسر الأسر الأرستقراطية التي كانت ترى في ثقافتها الوطنية ضعفا أمام الآخر، وحقق مشيكين ما أراد، فتحطيمه للآنية الرمز رافقه فضل مزدوج للزواج بسونيا ممثلة الأسرة في البيت الروسي المتطلع.
لا يكتب حسب الشعر لمجرد أنه يريد الكتابة تعبيرا عن انفعال، وإنما يكتبه لإحساسه بأن أفولا ما يخيم على شخصيته المركزية، وأن هذا الأفول دال على واقع ملتبس، وإلا ما معنى أن يستعير نماذجه من الشعراء الميتين، إلا لأن العصر نفسه يحتاج الرثاء لأن ثمت موتا كائنا فيه. مرة أخرى يعود حسب إلى فيدياس، المثال اليوناني، ذلك المثال الذي ما أن يكون الجمال بين أصابعه حتى ينخرط الطين متساقطا، أنه مرة أخرى يتبع الفكرة، ما أن يمسكها حتى تهرب، لكنه في هذه المرحلة قد ألبس فدياس رؤيته المأساوية، ووضع على لسانه حكمة الموت نفسها، وصير يداه حديدا تمسك بالجمال الهارب، حيث لا مهرب للجمال في هذا الديوان، فكل صورة آتية القبر/ القبو بعدما أشبعت بالمأساة والظلمة. عينا حسب ويداه ممتلئات بالمادة، وكل صوره الجمالية جاثية على الأرض أو في الحفر، ولم لا يكون ذلك، وعصر حسب الشيخ جعفر منهار، مدمر، زمنه العربي مدمر، مقال فيه، ومقال حوله، وهاهو متجاذب من أطراف عدة، مادته الأهواء، والمنازعات، ولم يعد المستقبل واضحا فيه.
الانطباع الثالث لأماكن القبر/ القبو، ومتفرعاتهما، أنها تعكس حال نفسية مكلومة، مقيدة، مليئة بالسواد و" أقبية تحدق فيها إحداق الميتين" و" جروفا منهارة" لا تمسك قدما، و"مجاري مثقوبة" و" مراكب بالية مهجورة" و" اطمار موحلة" و"منافي مليئة بالموتى والمبعدين" و" أكواخا لا يسترها ستار" و" أناسا دمى" و" نعوشا مليئة بالزمن" و" خياما بلا أعمدة" و" مباغي مليئة بالوجوه المصبوغة"و" ضروعا جفت" و" أوكارا تعوي فيها ذئاب الروح" و" أساور وقيودا" و" طبولا صمتا" و" كؤوسا فارغة إلا من هواء الأحزان".. كل هذه المناخات النفسية مكانية، مثقلة ومجسدة بأثقال النفس وقد وجدت رسوا واضحا في زمن شخصه الشاعر بالكتابة عنه.
وتجده في أشعاره أكثر من موقع مكاني خلاق لمثل هذه الحالات، ففي البارات الملاهي، الملاجئ، الأماكن العامة، والتي احتوتها دواوينه السابقة كان يجد الحزن أيضا، ولكنه الحزن العابر حيث الأضواء تهيمن على البصر، وحيث الذاكرة لما تزل في طور التطور والتجميع، لكنك لا تعدم بعض المناخات الحزينة، خاصة عندما يستذكر أصدقاءه القدامى الذين رحلوا معه إلى أوربا وماتوا" أبن جودة" أو أحبته الذين فارقهم خلافا أو اختلافا- أصدقاء الأمس- ولعل هذه الأرضية لم تكن المادة الأساس في تلك المرحلة إلا أنها مهدت لما لحقها في " في مثل حنو الزوبعة". وكما يبدو لي، حتى في مرحلته الجدية" مرحلة الحكمة" لا تخلو قصائده من الأحزان فالحكمة لا تأتي إلا بعد خراب وضياع وتجارب مرة.
الانطباع الرابع أن كل أماكنه ترسو في حفر، جثث فوق التراب يراد لها أن تؤكد ذاكرة العصر، لكنها وهي تعبرنا إلى الأعماق، لا تؤكد إلا حقيقة الأفول الكبرى، أن رجال هذا العصر جديرون بالرحيل عنه. ليس في الديوان أية صورة محلقة في سماء الله، كل الصور مشدودة إلى الأسفل، إلى مجرات الموتى، شهودا على عصر عاشوا فيه.
لا شك أن القارئ لهذا الديوان سيصاب بالخيبة إذا لم يجد في بناء حسب الفني جديدا، أن فاعلية الأفول، وطبيعة المكان القبر/ القبو، حتمتا على القصيدة أن تكون قصيرة، مقطعية، ذات سياق واحد، وذات نفس مكلوم، هو جزء من العلاقة مع الموت، حيث الكلام المركز، والمكثف هو الذي يوصل الغرض، فالفول يحكم مسار الحدث، على العكس من شعريته السابقة، حيث الأمل انفتاح على الحياة وعلى الأساليب المدورة، هنا لا نجد حسبا إلا شاعرا مقطعيا. لعله يقترب في هذا البناء من الغنائية إلا أنها غنائية على قدر كبير من الدراما. فأماكن الحفر، والكوى، والقبر، والبئر، والأكواخ، تعكس حال الكهولة المبكرة، التي بدأت تمارس نوعا من البناء العقلي الصارم على مفردات الحياة، فاختفت الأمومة، الحالات الماضية القديمة، السياسية، المناكدات، الانفتاح على أفق التراث، وعوض عنها بصور الحاضر المحزنة.. هذا اللون من فاعلية الرؤية، حتم المقطعية في القصيدة. كل القصائد لا تريد أمحاء ذكرى بل إنعاشها.
في الأثافي
في القوافي الهرمة
.. .. .. .. .. ..
يا صلاح
أقفرت في القفص، الروح وغطتها العناكب
رياح المحفة في ركنها
رياح الغطاء المستمع
رياح التلكؤ بين الأسرة
رياح أعبئها في حجري(ص90)

هناك تنام أو تستيقظ الأفلاك إلا
شاعرا إلاك، أغنية وترخي هدبها
ويمر في المطر الحزين العابرون(ص72)
ليس بين حسب الشاعر، والشعراء المرثيين أية فواصل، ما أراده الشاعر هنا هو التوحد عبر المأساة. والقول المشترك إزاء الظواهر المربكة، فما كان منه إلا أن جمع كل معاناتهم وعبأها في "حجره" الصغير.


4
ونقف عند قصيدتين متميزتين هما:
" في مثل حنو الزوبعة" و" قصيدة حب إلى سومين"
تكمن في القصيدتين حقيقتان: الأولى هي انتماؤهما إلى مناخ حسب في دواوينه الأربعة الأولى فكرا، والثانية ابتعادهما عن تلك الدواوين بناءً ودلالة.
في مثل حنو الزوبعة، حديث من داخل أوراق تحمل ذكريات عن زمن قديم، أوراق يابسة- يذكرنا حسب هنا بأدب الرسائل، أو بالمحكي مسبقا- تزوره في الليل سيدة الأوراق الماضية، تقف على الباب طارقة بشدة، امرأة بهية مهيبة، كل جلال الماضي وعظمته موجودان فيها، امرأة" ترتدي الخز وتجذب الريح في وله شالها".
وكعادة حسب في دواوينه السابقة، ثمت سيدة من ماض قديم تزوره" زيارة السيدة السومرية" وإذا كانت تلك الزيارات تمنح الشاعر معرفة، وحكمة وابتداعا، فالزيارة هذه المرة مختلفة تماما، فالسيدة جاءت لتقتات على مائدة الماضي.
جئتك ضيفا، أ تدخلني
ألجأتني الزوابع والبرد
قد تكون الزيارة عابرة، بسبب ظروف، أو مواقف، لكنها ما أن تحط قدمها في الغرفة، حتى تستكشف المكان، فتجد نفسها وسط شيء تعرفه، أنه مكانها القديم، وهذا شذاها ما يزال عالقا في الأشياء، وهذه آثار كلماتها وقد تحولت إلى أصص وألوان خضر، وهاهو المكان نفسه وقد أتسع فاحتوى كل الأمكنة الصغيرة السابقة، وهاهي بصماتها، لقاها، وشحوبها، وبعض من تجارب امرأة.
أ تعرفني..؟
أنني أتذكر
هذا الشذى
والشاعر- الفتى- في حلم أو في صحو، كل شيء قد تداخل الآن. من منا الزائر هي أم أنا؟ كلاهما في وزره لمكانهما القديم، وكلاهما في لحظة شعور بنقص ما. الذكرى هي ما تنقص الاثنين، وفي لحظات احتدام تسلكها الزائرة في جولة التعرف المكانية، ينهض من رماد الموقد القديم بعض من كلام مدفون، يبدآن معا بكلمة: أذكر.. أذكر.. والقصيدة تعتمدها اتكاءً لاستحضار ما مضى أذكر أني هبطت، أذكر أني ترشفت خمرك، أذكر أني هنا وضعت أصابعي، زوابعي، أقماري، لغتي، لون بشرتي، أذكر كل الذي ينساه الآخرون، فالذكرى والتذكر صحو لرماد قديم صحو من حلم استمر.
اقترابك أسمعه في الخطى
فأقول: الفتى جاء، أنتظر
الدقة المرتجاه وتشحب
عين الجليد الخطى والعرائس
في أي مقهى لهن ارتقاب
وتحديقة تأسر السائحين..(ص65)
لا تعالج القصيدة – كما تبدو في ظاهرها- العلاقة المقطوعة بين شخصين تعارفا ثم افترقا، فليس هذا الموضوع إلا القشرة الخارجية للحدث، القصيدة تعالج فكرة المكان المشغول بهواجس وأحاديث مضت، فالمكان هو الإنسان، سواء أكان على انطباق الهيئة كما كان يفعل شعب الدكوني، أو أن عمل الساكن في المكان مخزون حتى ولو تقام الزمن عليه، ما أن تعود أليه حتى تنهض كل الذكرى والأشياء والممارسات والأفكار، أننا نحمل أمكنتنا، كما تحملنا الأمكنة. كثير من العلاقات تموت لأنها لا تخلف خصوصية. حسب في قصائد دواوينه الأربعة كان يؤسس لشعرية المكان، لكنه في هذه القصيدة وسواها يستعيد المكان الآفل ليوطنه أفقا آخر، وما المرأة، أكانت حقيقة أم وهما، إلا المحبس الثاني لاستنهاض الشعرية المختبئة في حنايا وانعطافات المكان.
في القصيدة الثانية" قصيدة حب إلى سومين" نجد ثلاثة مستويات للفعل الشعري.
المستوى الأول استعاري- ثقافي هو ادغار ألن بو وسومين. في هذا المستوى لا يتكئ الشاعر على حدث، وإنما يفتح للمستويين التاليين أفقا للدلالة.
المستوى الثاني هو الشاعر المهجور المتروك بلا ذكرى حقيقية، بل كل ما عنده شحوب لذكرى قديمة، أنه يحيا على بقعة صغيرة في مياه الأمطار بعدما جفت الأنهار والمحيطات والنساء.
المستوى الثالث، هو الغد الذي يجيء، منتظر له وهو في شحوبه قاصدا أليه من خلال سومين ادغار ألن بو وغرابه الناعق في بيداء الروح.
تصنع المستويات الثلاث مناخا شعريا غنيا بالدلالات، فسومين مهجورة أيضا، وادغار ألن بو لا يحادث إلا غرابه، أما الشاعر فمنظر الغد على موقد من الشحة. كل مناخات القصيدة أماكن فارغة. يباب وجوع جنس وذاكرة مقيدة وليس ثمت حركة إلا عينان في فراغ شامل.
يرسم الشاعر في هذه القصيدة المركبة، الغنية بمستويات جديدة، مناخا سرياليا، مصنوعا في حلم يقظة مهاجر: ليل وخليج وبارجة تنآى به وحافلة تنقله، وعجائز يبحثن عن مأوى، وأنا الشاعر متلفعة في أثواب الموتى، وصراخ طيور ميتة، ومجانين عمي، وطرقات مضببة، وأضواء ليل ممطر، وغراب سومين النائح فوق جثث الموتى، فأي مشهد أعنف من هذا؟ وأي مكان واقعي ومفترض جمع الشاعر فيه كل عذابات الدنيا؟. في هذا المشهد السريالي، الكثيف والمركز يدفع الشاعر بنا إلى تأمل ما حولنا، أننا نحيا، يقول الشاعر من خلال مشهده في واقع حزين، مريض، لا أمل في الخروج سالمين منه، كل ما هناك أن نستسلم، أو نلبس أكفان الموتى لنصرخ، أو نتأمل الجثث الصارخة والمستكنة.. كل ما هناك، بقع من دم لا تقبل الجفاف، بقع لونها الواننا، ومادتها عذاباتنا البشرية.
في مثل هذا المناخ، الجديد، نمت تجربة حسب الشيخ جعفر الشعرية، هل هي انحناءة لعواصف الأيام أو انكسار وانكفاء نحو مرابع أبي العلاء المعري وأبي تمام وأبي نؤاس؟.. ليس هذا ولا ذاك. أنها انحناءة الخيزران. ما أن تنحني حتى تقوى ضربتها. ويشتد عودها، وصوتها.. انحناءة مولدة، فاعلة، وليست انكسارا أو انهزاما.

5
وخلاصة القول، وعودة على المكان: القبو حيث يحشر الشاعر اناه فيه، والقبر، حيث حشر الأصدقاء فيه، خلاصة لرثاء طرفاه يصنعان القصيدة. الديوان رثاء مأساوي للواقع العربي اليوم كل نماذجه موتى، أنحسروا من المواجهة، وابتعدوا مكلومين عن القول، وما بقي لهم إلا الغد المغبش علهم يجيئون به. الشاعر في " قصيدة حب إلى سومين" يرثي نفسه، يقول القول الذي قاله في صلاح عبد الصبور، والسياب، وحسين مروان، وأمل ونقل، وبوشكين، وميشكين، القول بأن الجميع مهجورون، أماكننا الذكرى والمبغى والحفر، وأزمنتنا الليل، والظلمة، والوحشة، وغدنا يسبقنا أليه الغراب، وإذا جئنا في الغد، حيث يقول الشاعر- فثمت أردية أسمال مليئة بالهجر نرتديها، هي بعض أسمال لغتنا الشعرية.. كل الديوان هو الشاعر، وقد ارتدى هذه المرة أثواب أصدقائه.
في المرحلة الجديدة، بعد هذا الديوان، التي بدأت ملامحها تتضح أقام حسب في رباعياته على ألسنة الحيوانات، خيمة للحكمة،وللقول الفصل بعدما ضرب عالمه القديم، وصيره موقدا مليئا بالرماد وبالذكرى الشاحبة. خيمة للحكمة، للقول المثل، للرأي الموجز، وعندما تستكمل المرحلة شروطها، سيغادرها بعدما يكون قد حقق فيها شيئا جديدا.














سراباد المدينة الحلم

















1

يبدو إن التعامل مع اليوتيبا، حلم يقظة الشعراء الحديثة، واحد من أساليب التحديث في الرؤية الشعرية للقصيدة الحديثة في مرحلة الحداثة الثانية ، وهذه الطريقة التي لا مستها قصيدة الحداثة الأولى، كمعطى خارجي أتى إليها من كتب التراث والتاريخ، وكجزء من نزعة قومية ترى في المدن القديمة التي حملت تراث أمة وتجربة متميزة، قدرة على منح القصيدة الحديثة مساحة للقول وللفعل الشعري: غرناطة، نيسابور، الأندلس، القيروان، سبتة، بغداد، القاهرة، بيروت، الشام، وإلى جوارها استحضرت الشخصيات والمواقع والأحداث الكبيرة : صقر قريش، المتنبي، عائشة، فاطمة، الحلاج، أبو لعلاء، محمد بن علي، صاحب الزنج، ..الخ. الأمر الذي مكن القصيدة في الستينات من دخول ميادين كانت قصيدة الحداثة الأولى تستحي الدخول إلى الأسطورة لموانع دينية وطقسية كما أشار السياب إلى ذلك مرة، فاتكأت على الموروث الغربي، واستعارت منه نوافذه العالمية: افروديت، فينوس، دموزي ، إيكاروس، إمبيقليدس، سقراط، ..الخ. فوسّع الشاعر من فاعلية الصورة الشعرية، ومكنها من أن تستوعب أحداثا معاصرة بدافع من نزعة المشبه به، كي تمكن القصيدة من أن تفتح زمنها الداخلي على أفعال ماضية ترى فيها متشابه أيضا. وهذه جزء كما أسلفنا من نزعة قومية الحداثة الشعرية، وهي نزعة مبررة ضمن مناخ الحداثة الأولى حيث القوى الأجنبية تهيمن على مقدرات أمة تكافح الصهيونية والاستعمار، وتجند لها كل مقومات الحث والنهوض واللغة والصور. هذه النغمة الشعرية في القصيدة في مرحلتها الأولى تنطفئ الآن، ليس بسبب جفاف الرؤية الشعرية للموروث، او تغير الحساسية الحديثة للصور المزدوجة الحمولة، ولا بسبب قدرة الشاعر التي نضبت مواردها بتغير تلك الرؤية وتبدلها بعد أن نافسنا عليها العالمي والمشابه لنا بالدين واللغة، إنما لأن الصورة الحديثة يوم ذاك، وهي تتعامل مع هذا الموروث وقدراته الكبيرة، كانت جديدة على المخيلة الشعرية والنقدية، العربية، ولعل أهم سمة لقصيدة الحداثة الأولى أنها خرجت عن إطار ما كان مطروحا من أشكال تعبيرية ومضامين هادئة وأسرية. وثمت تيارات نقدية حديثة أوربية تجد في هذه المتكئات القديمة نافذة على تثبيت مصطلحات ومفاهيم هي من صلب الرؤية التقدمية يوم ذاك للحياة وللثقافة،.لكنها اليوم، وبعد تغير في كل الروافد التي كانت قائمة يوم ذاك ، لم تعد تلك قادرة على مواكبة القصيدة الحديثة للرؤية المزدوجة للصورة الشعرية وللمتغيرات الإيديولوجية السابقة للموضوعات نفسها. فلم تعد نيسابور موجودة إلا في الشعر، ولم يعد كلكلمش نموذجا إلا في تحديه الموت، ولم تعد غرناطة قائمة إلا في كتب التاريخ الأندلسي، ولم يعد صقر قريش قائدا معاصرا، ولذلك فشلت استعادة التجارب في مجالات الحروب كما شهدناها في حروب العراق مع إيران، حيث تحولت النماذج التراثية والتاريخية فيها إلى لعب إعلامية كاركتورية أعادت النظرة لمعنى الحرب إلى طبيعتها القومية المتخلفة وشوفينيتها المريرة. في الوقت نفسه لم تعد القوى التي حاربت العراق وثقافته وتصوراتها القديمة، قادرة هي الأخرى على رسم نموذجها المغاير، قد تقع هي الأخرى في فهم النموذج الثوري القديم لاستعارته الشعرية المعاصرة. فالحرب تساوي بين جهلاء عقل وفكر، وإن انتصر أحدهما على الآخر.

2

الرؤية الجديدة التي تبنتها القصيدة الحديثة في حركتها الثانية للحداثة، مغايرة بعض الشيء عن رؤية القصيدة في حركتها الأولى، وهو ما طبع معظم نتاج الستينات عندما جعلوا من تلك المدن والشخصيات معاصرة وبلحم ودم معاصرين، مع مسحة ذاتية لخصوصية الشاعر فيها، هذا ما نجده في قصائد سعدي يوسف وأدونيس ومحمد الماغوط، وصلاح عبد الصبور.وغيرهم. تلك الرؤية التي رافقت مسيرة تحديث اجتماعي وسياسي، مشابه لما حدث في المجتمع العربي في أواسط الأربعينات بعد سقوط الفاشية في العالم.فالستينات مرحلة نهوض لقوى اليسار العربي، ولحركته الثورية، الأمر الذي فرض شروطا إبداعية على الشعر لأن يستوعب جديد الرؤي. ومع ذلك لم تنتقل القصيدة إلا حركة باتجاه ترسيخ العلاقة المعاصرة بين الشاعر ونموذجه القديم لتوليد صورة شعرية أكثر حرية من سابقتها السيابية.
النقلة الجديدة التي تشكل جزء من الحركة الثالثة للقصيدة الحديثة، تمثلت في تجريد تلك المتكئات التراثية: المدن والأحداث والشخصيات والأفكار من أية علاقة لها بالماضي أو بالحاضر، إنها تأتي بلا زمنها الخاص، وبلا هويتها القديمة، تأتي كفكرة مجردة لتلتقي مع الشاعر في زماننا المعاصر، ثم لتصبح واحدة من مناخ عام. هذه ليست استعارة للموروث ،ولا استبطانا له، ولا تخفيّاً وراء تاريخ نماذجه، إنما هي تفكيك منهجي لذات الشاعر، أولا من أنه أمام تحول وإنزياح كبيرين في الصورة وفي المفردة، ومن ثم تحولا في البنية القصيدة نفسها.فلم تعد بإيقاعية من تفعيلة واحدة، ولا بروي لنهاية الأبيات والصور، ولا بغنائية مفردة، ولا ببعد جماعي . التفكيك حاء في بنية القصيدة نفسها ، فلا الشاعر ولا الشخصية أو المدينة أو الحدث المستعار، يقف على تاريخ أو بنية قارة، بل أن كليهما في بحث عن ما هو غير متحقق في الذاكرة الجمعية: للناس وللشعر العربي. أن ماضي وحاضر تلك الأحداث يسبحان معاً في وهج القصيدة الحديثة، ويتداخلان، علّهمّا إن تحولا من زمن إلى آخر أن يعطيا صورة وبنية جديدة للقصيدة. ومن هنا لا إيقاع للصورة، ولا وزن في القصيدة، ولا لغة. إنما هناك تفكيك لبنية الإيقاع القديم للصورة، والبحث عن إيقاع جديد للمعنى. وخروج عن الوزن القديم والحديث بحثا عن ترادف الفكرة وعن تغريب في اللغة ونحوها وصرفها، بحثا عن بلاغة الكلام المختفي فيها، وسعيا وراء أجزاء لصورة شعرية تشظت على مدى تاريخ. صورة لم تحوها مرحلة، ولم تستوعبها تجربة، ولم تمتلكها فئة او قبيلة أو دولة.

3
"سراباد " قصيدة الشاعر عبد الكريم كاصد، الجديدة، هي من النوع الذي لا تتكئ على مفردة قديمة، ولا على مكان او مدينة أو أسم علم، كما لا تحاول اصطناع تجربة بلا أساس. من هنا يأتي اسمها منتحلا شخصية شاعرها، ويأتي شاعرها كاتبا لصورها، وعندما تتداخل في القصيدة هذه المستويات، نجد الشعرية فيها ليست من تكوينات اللغة، ولا من تركيبات ذهنية أو حسية الشاعر، إنما هي جمع بين عدة مفردات لتكوين صورة فيها من ؛ الشعبية قدر كبير. ومن الكلام المركب قدراً أكبر. عندما نقرأ:
كان الناس
حولي
والرواحل
في الطريق إليك
يحملنا الهواء
قبابُك التمعتْ وجندك من رخام يرقبون الأفق.
نشعر أن هذه الصورة صورة شعبية، وقد تبدو عادية جداً ومألوفة، لكنها تحمل في بنيتها تداخلا بين اثنين: سرباد، والشاعر. تتحول سرباد إلى مدينة محصنة بالقباب والجند، والبعد والسراب، وهي بعد ذلك مبتغى الوصول اليها، ويتحول الشاعر إلى ناس ورواحل وسفر. وهم متجهون إليها. في حين أن القصيدة ليست ما قيل من كلمات، ولا ما هو الشاعر من صيغه الجمعية بل هي في موقع " الما بين". أي في الموقع غير المحسوم بين: المدينة سرباد وبين قافلة الرحلة. هذه هي القصيدة التي لا تؤلفها الصورة السابقة، ولا إيقاع اللغة ولا وزن الكلمات، إنما تنمو في حسية القارئ والشاعر والمكان معا.
فسرباد ليست مدينة ما، بل هي حلم كل المدن التراثية المنقذة: المتخيلة والواقعية. ولمجرد أن الشاعر نحت أسمها من " السراب" أو من كل مدينة تنتهي بـ "أباد" ، أو كما نقول في العامية " سار بياده" أي مشى على قدميه المسافة غير المعلومة،أو حتى لو كان اسمها واقعا ومدونا فهي هنا " لا مكان " ليس لها ماض، ولا لها حاضر. كل مالها، هو مفردتها، التي يأتي الشاعر بها ألينا من خلال ما تكونه من " صور" ومن "إيقاع" ومن " وزن" ومن "فكرة".
سألنا عن سراباد البعيدة
قيل من عامين جزتاها
وقيل لعلها البلد الذي يأتي
وقيل لعلها جبلٌ
ومحض بحيرة مسحورة الأسماك
قيل لعّلها شجرٌ تحجر
قلعةٌ من صخرة صمّاء
تسكنها التماثيل الغريبة
قيل لكنا نأينا عن سرباد البعيدة
هل نعود؟
يستعير الشاعر هنا لمدينته اليوتيبي، الحلم وثقافة الحكاية الشعبية ، تلك التي تستعير هي الأخرى الذاكرة الشعبية. ومنها حكاية " المدينة المتحجرة" في ألف ليلة وليلة، تلك الحكاية التي تقع ما بين الليلة السادسة والليلة التاسعة: ملك تمارس عليه الرقية من قبل زوجته التي تحب عبدا أسودا، فتحول نصفه الأعلى بشرا ونصفه الأسفل حجرا، وتحول جزائر مملكته إلى بحيرات وناسها بأديانهم : الإسلام والمسيحية والمجوسية واليهودية، إلى أسماك ملونة، بيضاء ، حمراء ، زرقاء، خضراء. وهي بعد ذلك تغيب عن الأنظار، فلا تهتدي إليها قافلة أو طير، ولأنها مدينة متخيلة، يفترض الخيال لها ملكا ووزيرا وصيادا وجارية وطاجنا وسمكا يتكلم عندا تمسه النار، ومن ثم لابد من حكاية أخرى كي تولد من رحم الحكاية القديمة. نحن إذن في نص مفتوح، هكذا تقول القصيدة.
قيل من….
قيل لنا….
قيل لعلها…
قيل لكنا….
أما الصورة الشعرية الجديدة التي تولدها مثل هذه الاستعارات، فتكمن في : "جزناها" و" البلد الذي لا يأتي" و" شجر تحجر" و" قلعة" " والتماثيل الغريبة" و " النأي" . وكلها مفردات مكانية. الأمر الذي يدفعنا لتأكيد ما ذهبنا إليه في مقالات عدة من : هيمنة مفردة المكان على الحركة الثالثة في القصيدة الحديثة.
والشاعر والقصيدة معا يصلان إلى منطقة التداخل، فلا الشاعر حسم رحلته ووجد ضالته كما كان يفعل شاعر الحداثة الأولى، ولا الشاعر أوحى بما يأتي كما كان يفعل شاعر الحركة الثانية للحداثة،إنما هنا في منطقة اللاحسم، في منطقة تفكيك الصورة وإنزياحها الفكري قبل اللغوي
ليت أنا ما نأينا عن سرباد القريبة
ليت أنا ما قربنا من سرباد البعيدة
ليت أنا لم….
إذن فسرباد كائنة فينا، كما كان قد فعل السهروردي في حكاية الطير، لا رحيل إلا في المكان الأول.
4
وإذ نأتي على قصائد الديوان الأخرى، نجدها تمتح من ثنايا المادة التي أكدتها سرباد. فقصيدة رثاء المدن" التي تتحدث عن " عراق الفترة المظلمة"
" …منازل تهوي.. وأحجارٌ.. وملاعب للوحوش تجول..يطردها إلى الصحراء أعراب يقيمون المدينة، ثم ثانيةً تزول، مدائن تهدى وأخرى تستردُ يبيعها والٍ ويقطعها الولاة"
وما كتابته عن العراق في فتراته المظلمة- الفارسية والعثمانية- إلا استدعاء لما يحدث الآن، هذه البنية غير القارة واحدة من شواهد تحديث الرؤية إلى المدن والأماكن والشخصيات، مفردات لا تستقر على حال، حركتها لون من شعرية الصورة المتأرجحة الأزمان.
وفي قصيدة" مرثية أبن خلدون" يحدث الأمر نفسه، لا شخصية قارة وراء القصيدة، بل وراءها الشاعر وفكرة القصيدة، وما تقوله القصيدة من صور شعرية لا يستقر عند زمن ولا عند نموذج، فاستعارة " الختم" هو بمثابة المدونة الوثيقة التي تمر على كل الأزمنة والأمكنة.وبرغم من وجود قراءة غير حيادية لأفكار ابن خلدون في تكوين المجتمعات من هجرة للقبائل واستقرار للعمران، يحاول الشاعر أن يرسم لنا فكرة " الهجرة" تلك التي تلازم روح سرباد، وروح العراق في محنه، أن يكتب قصيدة لا تتعامل مع حدث مدون، بل مع حدث مفترض قائم في قراءة خاصة له لتلك الأحداث. وهذه ميزة للقصيدة في حركتها الحداثوية الثالثة.
5
لا تختلف قصائد الديوان الطويلة في مسارها التحديثي عن قصائده القصيرة، فالشاعر وضع في اعتباره أن يؤسس ديوانا بمناخ واحد:
منذ عشرين عاما
لا تزال الحجارة موطوءةً
والخراف التي عبرتْ مرةً
لا تزال تمر.ز
سأحصي الطريق
ساحةً
ثم جسراً عتيقاً، وبوابة
وبيوتا من الطين منسيةً.























سركون بولص.. والرحلة إلى أين


بحثا عن المعاني التي لم تر النور بعد







قد يكون من المفارقة أن يتحول الـ"الأين" إلى مكان حتى لو كان هذا المكان ضمن الزمان، بمعنى أن تتحول اللغة نفسها إلى تجسيد حسي، والعنوان الذي يشكل استهلالا مبهما يقودنا إلى فاعلية الإيهام والغموض في بناء القصيدة الحديثة، وعندي أن سركون، ومن حوله كل كتاب قصيدة النثر المتجددة، المتغيرة، ما يزالون يبحثون عن المعنى المفقود للصور الشعرية الحديثة التي ابتدأ البحث عنها في مرحلة أواسط الأربعينات وإلى الوقت الحاضر، فكل التجارب الشعرية ما تزال تجوس المناطق المجهولة من خارطة القول الشعري، وأقول ما تزال لأن النقلة الأسلوبية تتم وباستمرار في توسيع قاعدة اليومي والمألوف لهذه الصورة، والحداثة منذ أن ابتدأت كان هدفها وما يزال هو توسيع هذه البقعة من الإبداع، إلا أنها في كل محاولة تؤسس لها رؤية جديدة، هي في العمق تنويعا على اليومي والمألوف،فالميثولوجيا التي اعتمدت ليس معناها الإبقاء ضمن تشكيلاتها القديمة، وإنما محاولة لإيجاد الحاضر فيها هو تحويل الشعبي والعادي والشاذ والنادر إلى بنى أسطورية وفق ما يتصوره رولان بارت في الميثولوجي.
وعندما بدأت موجة البحث عن التراث في المعاصرة، وعن المعاصرة في نماذج تاريخية وتراثية، كان المسعى ينصب على تحويل هذه الموروثات إلى رموز معاصرة، تارة بأقنعة وأخرى بوجوه القوة والماضي والشواهد، وعندما حاول الشعر الحديث البحث عن الأيديولوجي في اليومي، وفي الحياة السياسية والاجتماعية، كان يضع في تصوره البنى الأكثر شمولية في حياة الناس، ومن مألوف أماكنهم وأزمنتهم وهكذا هو شأن بقية المباحث والرؤى التي سعى إليها الشعر الحديث.
في كل المحاولات لم تبتعد الشعرية عن فاعلية المألوف إلى مرحلة أن أصبح التحول من المألوف نفسه لا في الشعرية. فما هو مألوف اليوم بفعل ما أستجد من رؤى نقدية فيما يخص الذات والأشياء والعالم، لم يكن هو المألوف في مرحلة الشعر الميثولوجي، أو الشعر القناعي، أو الشعر التراثي الشخصاني، فلقد جرى تغيير جذري على مفهوم اليومي والمألوف وعد أهم المواقع التي تفشي الحداثية الشعرية وتوقفها في مهاوي العادي والشعري معا، فبدا من أكثر الحقول المعرفية احتواء للفلسفات وللأيدلوجيات، وإذا ما أستمر على حال معينة كالثبات السري مثلا أو الثبات السلوكي حتى يتحول إلى ميثولوجيا، من هنا بدأت المخاطرة صعبة أمام الشعر الحديث، وهو يجوس حقلا معرفيا كان لوقت قريب من نصيب الأيديولوجيا الماركسية في تناوله سياسيا ونضاليا، لكنه أصبح اليوم شكلا معرفيا ضاغطا بفعل قواه الذاتية الكامنة في ديمومته وتجديده.
في قصيدة النثر، والتي تعيد العباءة الواسعة لعدد كبير من شعراء الحداثة، نجد مبدأها الشعري يكمن في أن حقلها المعرفي يحتمل القرابة، والفردانية، والتناقض، وعدم الانسجام، والانقطاع في التواصل، والتراصف، والشيء المتحول، واللفظ المتقطع، والانفعال الداخلي والصورة المجزأة، والمخيلة المحبطة. أعني المخيلة الراسية على فاعلية البصر.. والتداخل الأسلوبي بينها وبين القصة القصيرة..الخ وكل هذه البقع الشعرية جديدة وصعبة في آن معا، ولذلك نجد الكثير من محاولات قصيدة النثر تحوم حول دوائرها ولا تقترب منها إلا ما ندر.
في ديواني سركون بولص:" الوصول إلى مدينة أين" 1985 ،"الحياة قرب الاكروبول" 1988، ثمت افتراق كبير في رؤية الشاعر للحقول نفسها مما يعني أن قصيدة النثر لا تستقر على شكل معين ولا على رؤية معينة حتى عند الشاعر الواحد، وفي الديوان الواحد، مما يعني أن هذه التجربة ستبقى قلقة وغير مستقرة على فاعلية شعرية، وهذا هو سر ديمومتها وبقائها مستمرة، أن لم تكن قصيدة المستقبل. وقد تأكد هذا التباين عبر مستويات التعامل مع الصورة الشعرية، ففي" الوصول إلى مدينة أين" وجدت أكثر من خمسة مستويات. قد يكون ذلك من قبيل توسيع المخيلة إلا أن التجربة في رأيي لم تخضع إلى ضوابط أسلوبية في خلق الصورة، وإنما خضعت إلى عدم الضوابط بمعنى أن حرية ما قد فرضها الإيقاع النثري على الصورة، فعددها، ووسع من مجالاتها وتنوعها.
المستوى الأول: اعتماد الشاعر على المفارقة المكانية، فالشاعر يبحث عن "أماكن لم يرها أحد، إلا نائما أو مخمورا" والمفارقة ناشئة بين صحو المكان وغيبوبته، محاولة منه أن يبني بلدة جديدة، سواء في المخيلة أم في الممارسة، وبعد أن يبنيها يبحث عنها لأن المفارقة كائنة فيها، في تركيبها الشعري وفي بنيتها اللغوية، فهي مدينة زمنية ما أن يسبقها فصل حتى تتغير، وما أن ينشأ في داخلها فعل حتى تتكرر.

وإذا كنت قد بعثت بأوهامي في الطليعة
لتستكشف مدينتكم
فلأنني
حين حاولت أن أطل على الهاوية
ركض الجميع إلى خارج الأسوار
ليس في أماكن سركون بولص ما هو عام أو شامل، كل أمكنته داخلية، متخيلة، حلميه وأسطورية، خرابها كامن في تسميتها، ما أن يسمها حتى يدمرها.
هذه الجدران خيالية
ولكن الكلاب التي تحرس أحلام التماثيل
لا تعرف ذلك.
في حالات كثيرة يحول جسده إلى مكان، ثم يجزئ هذا المكان فيجعل من اليد أو الجمجمة أو أي عضو آخر كونا واسعا، أن مخيلة قاص ألف ليلة وليلة كامن في أسلوبية قصيدة النثر، ابتداع الغرابة واختيار اللا ممكن في التعامل مع الأشياء المفترقة.

في الجمرة دخلت أخيرا
نزلت إلى أحشائها وحفرت جمالها
أيقنت من عزلتها وأنا أدخل وأتعثر بغيمه غضبي
لأن عزلتي كانت قوية جداً
الجمرة في اليد
في نفس الوقت هي في اليد وأنا فيها
رجلا يحمر جمرة في يده تحتوي رجلا يحمل جمرة
في يده
يحاول سركون في الأمكنة المتفرقة، المتخيلة أن ينقل غواية الواقع المألوف سواء أكان هذه الواقع معاشا أو متخيلا، أو محتمل الوقوع، وهو في الحالات الثلاث ينقل ألينا تصورا واقعيا لمتغيرات المكان المفترضة، بمعنى آخر أن الشاعر إذ يغرب مكانه، يغترب عنه، وإذ يعايشه ينفصل عنه، وإذ يخضعه لمفرداته الجديدة، وبهذه الجدلية التبادلية يصبح المكان والشاعر معا على مستوى واحد من التناقض. وهذا المستوى لم يختلف في ديوانيه، بل هو أحد القيم التي ما يزال يتعامل معها لإمكانياتها الأسلوبية والإيحائية.
والتقطت عشيه مجهولة عند ضفافه
فأكلتها، لا ماء فجأة ولا بيت، إنما قدم
تسعى وطريقها؟
أصبحت قدما لا تعرف طريقها ص12(الحياة)
ليس في شعر سركون ما هو أساسي من الأفعال.. كل ممارساته يبدأها هو، ويكملها أو يتركها ناقصة هو، بمعنى أنه لا يعتمد الأقوال السابقة ولا الحالات المكتملة وإنما بحثه عن التناقض يمكنه من الانفراد الشعري في تكوين مفرداته الخاصة بها، من هنا تبدأ عنده القصيدة حتى تمكنه من نفسها بوصفها ناقصة.. فتصبح القصيدة مراوحة بين المنجز السابق، والذي سينجزه فيها.. وما الشاعر إلا لعبة خطرة في المجهول.. سركون بولص يخلق مجاهيله، ومجراته، ويضع لها أدوات من مادتها، ثم يحفر فيها من المعاني التي لم تر النور بعد..
المستوى الثاني: الذي تمتاز به تجربته في ديوانيه، هي ابتداع الحكاية، ومن ثم التقيد بمستواها التعبيري والمنهجي، بمعنى أنه يضع لها متنا ومبنى ويروح دامجاً بين الاثنين كجزء من تحويل الدال إلى مدلول والعكس أيضا، أي أن بنية القصيدة- الحكاية لا تفصل شكلها عن محتواها، وإنما تبادل بين الاثنين كجزء من مخيلة التعامل مع المألوف الغرائبي، ومع النادر من الحالات التي لا تحيا إلا في الشعرية الحديثة التي تنبثق من الغرائبي في المألوف. مثل قصيدة"خرائب"ص24،" قبل أن يزيح البطل"ص34،" موسيقى"ص36، "صباح سحري"ص39 "الثقاب" ص47، "سردين" ص59..الخ.
ففي قصيدة" خرائب" نجد ثمت بطل معلن، وليس ضمنيا، يقرر أن يتبع امرأة إلى داخل مبنى، على شكل رصاصة، يد الرجل اليسرى مقيدة بسلسلة، بينما يجذب البحر من اليمين ردن قميصه.
الرجل لاجئ يتسول في بلدة دمرت بالقنابل والدبابات، وإلى جانبه ثمت رجل آخر يحاول أن يحشر أطفاله نصف الموتى من الجوع من قفصه البطل الصدري وتحت أبطه وبين أقدام الرجل وبين كهوف أحلامه.. ويواصل الشاعر صنع الحكاية الغرائبية بطريقة المفارقة الأسلوبية والمكانية، ويحاول أن يجعل للحكاية عدة مستويات كل مستوى له شخصيته وحكايته الصغيرة ضمن الحكاية الكبيرة، ففي هذه القصيدة خمسة مستويات للقص: رجل يتبع امرأة، وثمت رجل آخر يحاول أن يحشر أطفاله في جوف الرجل الأولى، وكلاهما في بيت على هيئة رصاصة، المرأة تظهر من البيت وقدماها ينزفان دما حجارة، بينما في داخله يبدأ عيون الأطفال بالاحتراق وأخيرا يبدأ الرجل البطل بالمسير تابعا الرجل الأب حيثما يذهب.. يمثل هذه السريالية المتعددة الأبعاد يؤلف سركون لقصيدته مناخا شعريا ليس فيه إلا اللغة، وكل ما تأتيه الحكاية من تصادم للصور، وغرائبية يحتويه الشاعر باللغة، حتى لتبدو أن الصورة المجزأة والمتعددة المرايا لا تعكس إلا ذاتها اللغوية وقد تنوعت وتوزعت وتكسرت.
والحكاية واحدة من كشوفات الحداثة الشعرية، ليس الحكاية التي يعاد سردها شعريا، ولا الحكاية الممكن حدوثها ولا الحكاية الاحتمالية التي تمد أسبابها إلى الواقع، وإنما الحكاية المبتكرة الغرائبية، وغير الممكن حدوثها، الحكاية الإشكالية. وفي مجال قصيدة النثر والقصة القصيرة حيث نعتقد أن هذا الشكل من التعبير الشعري قد تولد من القصة وليس من القصيدة الحديثة المعروفة ، لأن للنثر طاقة الإحالة بمثل ما للشعر ،إلا أن ما يميز النثرية أنها تبتدع أثوابها باستمرار وتغيرها، لا تستبدلها وإنما لتبنى من بقاياها أشكالا جديدة
في ديوانه"الحياة قرب الاكربول" يسود مبدأ الحكاية إلا إن القصيدة إذ تستطيل تتحرر من الشكل الشعري لقصيدة النثر لتقع في المساحة الحرة للقصيدة الحديثة بمعنى ما يحسبه سركون تطوراً في هذا الديوان عن سابقه، أعده تراجعا لانتماء الشعر فيه إلى القصيدة الحديثة وليس إلى ما يجب أن تتطور إليه قصيدة النثر، والسبب هو اعتماده الحكاية المألوفة،المعاشة،الممكن حدوثها،ومعها صفاء اللغة وانسياقها إلى معنى محدد، ووقوعها في إيقاعية واضحة،وثمة ميل إلى تتبع مسرى حدث،وثمة بنية دائرية تضغط على الصور الشعرية،ربما السبب في ذلك كله أن موضوعات هذا الديوان هي من فاعلية التذكر والذكرى،فثمة خلفيات لكركوك والآشوريين وبعض الأماكن والشخصيات وقد وجد نفسه ينساق بحكم المعلومة المتحكمة بالسياق العام للنص إلى تتبع مسرى الحكاية وجعلها مقبولة على المستوى السردي وعلى المستوى الشعري ولذلك اعد مثل هذا النوع من الشعر تراجعاً.
ليست الحكاية في الشعر مرفوضة، وبخاصة في قصيدة النثر، ولكن المرفوض أن يلتزم الشاعر ببناء الحكاية أو القصة القصيرة كما هو معروف، ومع أن شلوكوفسكي يصر على أنه لا يملك تعريفا محددا للقصة القصيرة بسبب بنيتها الإشكالية، فأن القصيدة الحديثة إذا ما استعملت
الحكاية لبنيتها نقدت الاثنين معا، ولذلك على الشاعر أن يكون حذرا جدا عندما يستعمل بنية الحكاية ويلتزم بحرفياتها الخاصة، وإنما عليه أن ينهي قصيدته متى ما أستوجب المعنى الشعري لا المعنى الحكائي. ولذلك فالبناء الناقص في القصيدة فيما يخص استعمالها الحكاية، هو الأفضل، حيث يحيلنا هذا البناء على التأويل. وعلى وضع فواصل حادة وواضحة بين بنيتين: بنية شعرية، وبنية حكائية.. لأن النهاية كما يؤكد شكولوفسكي أيضا لا تتولد من البناء الحلقي أو الدائري. أو ما يسميه بالنهاية الوهمية.
المستوى الثالث من البناء الشعري عند سركون بولص،هو اهتمامه المكثف ببنية الإحباط والفقدان والأفول،لأنه لا يتعامل مع موضوعات إلا ويكون حجم الخسارة فيها كبيرا،عندئذ يتكشف أمامه مستوى من التعامل قادرا فيه لان يحقق رؤية جمالية تبني مفرداتها من الحالة الآنية،فتصبح الرؤية بمثابة إعادة تشكيل لها، ومحاولة إنهاضها بكيفية جديدة..وما القصيدة عند
سركون إلا خلقا للحال القديم بطريقة فنية جديدة،لا يضع لها بديلا،ولا يرمم مكوناتها ليعيدها لوضعها السابق وإنما يتدخل في تركيبها بعدما أتلفت أجزاء منها،فالذي حذف من الحال بقصيدته التقادم والبلى والاستعمال لا لإيعاز ثانية وإنما ينشأ عوضاً عنه لغة.
رجل عجوز ذو لحية وأحذية قديمة
يفرق بعصاه العصور
وكأنها مواكب من الأطفال
ويمضي واجماً وهو يبحث عني
في أزقة بغداد (ص10)
والشواهد كثيرة،لأن بنية الإحباط والأفول أهم المواقع التي اعتمدتها الحداثة بوصفها جزءا من الأيدلوجية،وبخاصة جانبيها السياسي والاجتماعي،وقد أسهمت هذه البنية طوال أربعين عاماً برفد القصيدة بمئات الحالات الجديدة مما يعني إن الشعرية قد اعتاشت على موضوعات قديمة تلبست لبوس السياسة..ولما فطن شعراء قصيدة النثر إلى هذه البنية جردوها من مباشريتها واعلانيتها وقوتها الاجتماعية الصادقة.وحاولوا أن يروها من مواقع جديدة،أهمها المواقع التي تكون رؤية الأنا فيها خاصة،بمعنى إضافة التجربة الشخصية للشاعر إلى الموضوع الاجتماعي. ومن ثم تجريد هذا الموضوع من شموليته وجعله مرتبطا بمرحلية مؤقتة يراها الشاعر لمرة واحدة.. أن تجريد الموضوع الكبير من عمومياته، يتيح للشاعر أن يضمنه رؤيته، وهذا ما يفعله معظم الشعراء، فالموضوع هو كما كان إلا أن اللغة الشعرية اكتشفت فيه مستوى جديدا للإبداع فوصلت أليه بطريقة التخصيص لا التعميم.
وسركون بولص لا يأتي موضوعه الآفل إلا ومعه أما عود ثقاب، أو مصباح، وأمامه حكاية عن، وغالبا ما يسند هاتين الأداتين، أما بامرأة أو بموقف وكلاهما أدوات تعرف على الموضوع. يستعملها ثم يتركهما كما لو كانا مساعدين للكشف عن أن المراكمة لأفعال الإحباط والأفول تجعل النص أكثر عرضة للانتهاك من قبل الشاعر، وتتيح له مجالا لأن يغرب في الرؤية وفي اللغة، بمعنى آخر أنه لا يتعامل مع حدث إلا وقد أتلف معظمه فيعيد تشكيله وفق رياق جديد، يسميه"قصيدة" في حين يمكن تسميته بتشكيل جديد للموضوع القديم مع التأكيد على علانية ما أفل وما أنتهك.
القصيدة بعدما انتهت، بعد أن أكملتها
وتسممت حياتي بآلامها، أنكرتني.ص 46 حقق مستوى الأفول للقصيدة الحديثة إمكانية استرجاع المهمل من الحياة، والثانوي أيضا، وصير العلاقة مع الأماكن الآفلة والأصوات مدمكاً في التاريخ الشخصي، وبما أن قصيدة النثر لها إمكانية التحرر من أي شيء قبلي، فقد مهدت لأن تنكر فيها الأشكال والصور وأن تتجزأ فتتداخل فيها الأزمنة فيصبح الماضي حاضرا لا بصيغة الأفعال، وإنما بصيغة الأسماء والحالات وعندئذ يشمل الأفول ليس ما حدث ودرس وتغير وإنما ما سوف يحدث أيضا.
وبأسرع مما تستطيع أن تقرأ الجملة الآتية
يكون المستقبل قد عزف مقطوعة الماضي كاملة
على جميع مفاتيح العالم الغريقة
حتى قبل أن يجيد يديه.ص70
المستوى الرابع في شاعرية سركون بولص هو ابتداع الحكمة، والمقولة، وقد استخدم لهذا المستوى نبرة لغوية واخزة، وصور مشهديه حادة، واعتماد المقولات في القصيدة الحديثة يعني اقترابها من الناس ومن موضوعاتهم، ومن خلال ذلك قد يلبس الشاعر لبوس القضاة والحكماء لأن المهمة الملقاة على عاتق الشعر ما تزال مهما كان شكل التعبير الشعري-اجتماعية. إلا أن هذه المهمة التي هي جزء من اليومي والمألوف، تتغير من طريقة إلى أخرى، ومن شكل شعري إلى شكل آخر، ومن مرحلة إلى مرحلة أخرى.. وفيما يخص قصيدة النثر كلما كان اقترابها من الحكمة شديدا فقدت طاقتها التأويليه وحريتها في تكسير المشاهد والمقولات، لأن الحكمة تسكن الحال وتجعلها قارة، في حين أن الشعرية الحديثة تبتعد كثيرا عن الحسم والنتائج والحلول والنصائح.. ولهذا فسركون بولص لا يعتمد الحكمة من أجل أن يتقول لغة ناجحة، وإنما يتبناها بوصفها إحدى أهم محطات القول الفاصل بين نقيضين.
• كل رحلة مؤلفة من خطى
مسروقة(ص19)
• الحديث لم يعد إلا مفارقة(ص48)
• كل بنك محصن يخلق جيلا جديدا من اللصوص(ص25الحياة)
• في كل لحظة
يطردني الله من حديقة(ص57)
• الأرض: تنتظر الحدائق
مفتوحة دائما للإخصاب(ص63)
• النهار: لون الأرض السري(ص63)
• اليد: منبع الرسائل والإشارات
منجنيق حي في حالات الطوارئ(ص63)
والأمثلة كثيرة، لأن الشاعر معني بصياغة معنى مكتمل، يقربه من الحكمة دون أن يعتمد الحكمة مقولة سابقة للوعي.. هذه الخلاصة الفكرية المؤطرة بالشعرية جعلت القصيدة عند سركون تصل إلى نهايات، أو تقترب من النهايات بحيث لا يترك للتأويل مجالا لأن يبحث في زوايا النص عن مساحة أخرى للقول.
يتيح هذا المستوى من التعبير للقصيدة الحديثة إمكانية القول المبطن، القول الاحالي، وهو ما يسند الشاعرية بفيض من التأويلات والتفسيرات فاللغة المشحونة بالثقافة والتجربة تحتوي على طاقة تأويل كبيرة، لعل سركون أحد أهم الشعراء الذين يخزنون في لغتهم البروق والأمصار والأفكار، لأن تمكنه من صياغة الصورة الشعرية جعلت لغته غير مرحلية، ولا مؤقتة التعبير، فانفتحت على قاموس من التعابير والألفاظ يتجدد في كل قصيدة، وبالرغم من أن بناء القصيدة عنده يعتمد أساليب فن شبه ثابتة، إلا أن ذلك يعني أن القصيدة لديه قد وصلت إلى حد القناعة في البناء، أي أن لا مجال للاعتباطية ومجانية القول، فثمت شاعر يقف خلف عربته ويعرف تماما الطريق الموصلة إلى مجاهل الشعر الحديث.
• نهاية 1977 كنت هناك ولكن في زمن آخر، قصبة أخرى هربت بها الريح إلى ثكنات الصمت المسورة
بالتماثيل، هربت وهي تطالبني: أين ملحمتي؟ خيولي
وأبطالي؟ كم ليلة أخرى لأكسر اكتافك الهزيلة؟
لم تتعلم مناداتي! أسرع إلى بلدة جديدة إذن، هيا،
خذ أليها حيرتك المغرمة بالحقائب.
الأبواب كلها مغلقة
ومفاتيحك العتيقة لن تجدي هذه الليلة! (ص75)
في ديوانه"الحياة قرب الأكريون" بدت القصيدة عنده تستطيل كثيرا مستعملة اللغة المدورة والحال المستمرة المتدفقة، هذه النقلة الشعرية من القصائد المكثفة والقصيرة واللحظوية، إلى القصائد المبنية وفق سياق حكائي تسلسلي وعقلي أيضا، وثمت وضوح أكثر، وصفاء أدق في اختيار الصورة وبنائها، لم تكن اعتباطية، وإنما جاءت نتيجة الخبرة المعملية لمناخ اللغة الشعرية الجديدة، فالوضوح ليس معناه الدقة في بناء الصورة، وليس الوضوح التعبيري وحده هو الذي يصف الشاعرية الجديدة بالتطور، وإنما الوضوح المقتدر، الوضوح المبني على فاعلية المخيلة. فالمدورة هنا مكانية في الأغلب.
• عائدا من السجن أو من رحلة طويلة بعد الغرق الطويل
في المكتبة العامة، الجولان.. على طول السكة الحديدية، من قلب
المدينة إلى ضواحيها الشمالية، في الطريق البيت
فردوس
الفقراء الصاخب، فجأة في أعالي التيه: أهناك قمر؟
ونجوم كبيرة تخفق كأجفان من الثلج ترن
تحتها أصوات الملاعق على الصحون، وطرق
الكؤوس في
سلسلة لا تنتهي من الأنخاب. (ص 33الحياة)
التدوير المكاني.. لغوي، والتتابع المشهدي لغوي قبل أن يكون شيئا آخر، واعني باللغوي هنا أن الصورة تبنى وهي تحقق حضورا لمفرداتها التعبيرية قبل مفرداتها المكانية-المشهدية، وبهذه الأسلوبية تختزن قصيدة النثر مجالات أخرى للإبداع لما تزل كامنة في تشكيلاتها اللغوية. ونظرة على النموذج السابق، يظهر كم هو المكان معني، أعني اللغة المكانية السجن، المكتبة، سكة الحديد، قلب المدينة، الضواحي الشمالية، الطريق إلى البيت، أعالي التيه، وكلها أمكنة أرضية، ثم يبدأ بالأمكنة السماوية: القمر، النجوم، الثلج، ويخلطها في تكوين أسري يومي: الملاعق والصحون والكؤوس.. هذه البنية الثنائية للأمكنة تكوين لغوي بمعنى أنه يستل مفرداته من الصورة اليومية لحياة إنسان تخلقه الأفعال الأرضية والسماوية من أجل حضور فاعل في تكوين أسرة هادئة تحيا في دائرة مكانية تشمل الأعلى والأرضي والبيتي. وكل هذه الصور هي من تكوينات يومية، أعني أن الشاعر يسعى من خلالها لتكوين حال مثال، وحال نموذج يحمل في داخله المقولة والحكمة والمثال، وما القصيدة عند سركون إلا خضم هائل من المفردات النثار وقد أدخلت مصهر الحال النموذج يستخرج منها حال خاصة يعبر من خلالها عن صورة أعم واشمل.
• في طريق عودته كل ليلة يمر بالعاشقين على مصطبة
في البرد
مدخنا متماشيا إياهما، ناظرا بإجحاف إلى الأرض
الرطبة حيث
تلمع الحصباء
أينما التقى بهم في شوارع باريس، بدأ يغيضهُ
العشاق
كره الحب مبذولا هكذا
مبذولا مسمى (ص15)
ما أكثر مشاهد الحب المبذول يوميا، ولكن قلة من الشعراء من يستجمع مفرداته الكثيرة ليصيرها شعرا، هل يقترب سركون بقصيدة النثر إلى فن المقولة؟
هذا ما يتأكد للقارئ عندما يقرأ ديوانيه:"الوصول إلى مدينة أين" و"الحياة قرب الأكربول".
المستوى الخامس من شاعرية سركون بولص، هو تعامله المكثف مع الأعماق والأمكنة المقعرة والقديمة، ففي كل شاعريته ثمت صرة وكنز، وما البحث عنهما إلا طريق الموصول إلى المجهول فيها، فهناك: القاع والجرة، العشبة والالتفاف، الخرائب والظلمة، الرصاصة والنار،البيت والكمون، المرأة والمرأة، الأحشاء والخيفة، الجمرة والموقد، الغابة والأسرار، المقبرة والماضي، المركب والنسيان، الفندق والمؤقت، الفأس واليد، الزاوية والمتروك، الممر السري والاختباء، المكان المشبوه والتوجس، الكهوف والقدم، الزنزانة والمواقف، الحلزون والمكور، الحجارة والجذور، السوار والاحتماء، القبر والعدم، الهاوية والبحث، الأقفال والأبواب، الأعماق والرحم، الهياكل والزمن، العميان والعصا..الخ. وهناك المئات من الصفات والأسماء الملحقة والمؤكدة لقاموسه الشعري في هذين الديوانين.
وكل الأعماق رحمية، يحتاج دائما إلى عود ثقاب أو مصباح أو ضوء ما، كي يسلك الطريق إليها أو يخرج منها، وما أن يستوطنها حتى يلغي داخلها فيصبح هو هي وبالعكس، وقد مكنه هذا الحلول من أن يلغي أي منطق في التسلسل أو البناء العقلي، فأطلق لمخيلته العنان كي يأتي بالصور المتجاورة التي تقفز إلى الذهن فجأة دونما مقدمات، لكنها كلها تحيا ضمن مناخ الأعماق فتبدو المتناقضات وقد تجاورت لتضع مشهدا مليئا بالحوار.
تمنح الأماكن المغلقة، المبهمة للشاعر حرية الابتكار، فأدوات التعرف على الأعماق صعبة إذا تركت القصيدة بلا مخيلة مخربة، وأعني بالمخيلة المخربة تلك الصور التي لا تعتاد المألوف والعادي إلا من خلال تغريبه وجعله غير مألوف، في أبعاد هذه الطريقة تكمن فاعلية الأشياء المهملة والمنسية، الأشياء التي تمثل الثانوي لأنها وحدها تستطيع أن تحمل جدل المتناقضات بوصفها بطنا رخوة تقع بين أطراف القضايا الكبيرة وسركون يعتمد باستمرار مثل هذه المواقع المليئة بالشعرية، والمختزنة للأفكار المتناقضة.
• تندلع من كأسي نار صغيرة كجديلة طفلة، تدعوني
باسمي من أقاصي العالم.. الكلمة تبحث عن وجه أبيها
لتموت وراء جدار شاهق. (ص46)

• الثقاب في وجهي، يشتعل، في رأسه قارة ترتعد
حية، مذنب
هالي، شمس مصغرة، حياة رايتها مثل حريق، وإلى
جانبي
تنفس امرأة ونافذة مفتوحة على ليل يتنفس عناصره
الغامضة
مقابل حنجرة، كان رجل قد انتهى من العمل في
بستان
وفي المساء طفل على دراجة يربط مصباحا يدويا
على ساقه
(..) أدخن سيجارة أخيرة، وأحدق في وجه الصمت
الملتحي بالمجهولات، حتى يظهر منه ندم جديد، نوم
هذه الليلة
بالذات، صراع مماثل يجري في قطعة الفضاء
الشفافة السرية
المسجونة في إطار النافذة.( ص47)
هل يعتمد سركون بولص طريقة ما في بناء قصائده؟ اعتقد ذلك، وأني لأتلمس مفردات هذه الطريقة: ثمت استهلال حاد تبتدئ به قصائده.. كل قصائد الديوان تقريبا تكون الجملة الاستهلاكية هي عنوان القصيدة. وهذا يعني أن الاستهلال نواة فاعلة يولد كل مفردات القصيدة وصورها. ففي هذه القصيدة يصبح"الثقاب والوجه" هما الفاعلان في النص. فالثقاب، هو مذنب هالي،وهو شمس مصغرة، وهو حريق، وهو ضوء، وهو مصباح، وسيجارة، وهو نافذة مضيئة.. أما الوجه، فهو امرأة، وهو الرجل الآخر، وهو الحقل والدراجة والمنجل والريح والصمت والمجهول والفضاء والإطار.. وتستطيع أن تجد في مثل هذه الطريقة أن الشاعر ما أن يبتدئ حتى يولد من متناقضات الاستهلال صورة القصيدة. أما كيف تأتي وعمن تعبر فاللحظة المشحونة وحدها هي التي تملأ جوف هذه الصور.. ثم ليس القصيدة إلا عتمة بحاجة إلى ضوء، ومكان مغلق بحاجة إلى نافذة، ولوحة بحاجة إلى إطار، أما ما عدا ذلك من حركة وفعل وديناميكية إلا من أفعال المخيلة التي حشرت نفسها في إطار الفعل المكاني المحدد. كل قصائد سركون تتم في مكان محدد، وكأن الشعرية محاصرة تريد الانطلاق إلى خارج العالم الرجعي المهيمن.
يعتمد سركون في بناء قصيدته على فاعلية الخروج من هناك توق حقيقي للتحرر من اسار شيء ما ضاغط، قبلي أو واقعي، أن هواء العالم في الخارج مسجون عنه بيت رصاصة مغلق، ونافذة مؤطرة، وامرأة أو رجل يعيل أطفالا، وثمت عسس يتلصصون من خارج الأسوار، وميكرفون معطل وأدوات تعذيب مدرية لوحدها، وذاكرة مشروخة وزمن لا هوية له، وتكوين هلامي يتشكل في كل لحظة ليصبح أداة قمع، وإغراق عن مسارات اللغة الثابتة، ورؤية مستوية للعالم، بحيث تصبح كل الأشياء المرتفعة منها والمنخفض في مستوى واحد.. بمثل هذه الصعوبة يبني سركون قصيدته كما لو كان الاهاً يعيد تشكيل العالم وفق تصور مخطوء.
يتعامل سركون مع الأماكن المغلقة خلفية أيديولوجية قد لا تكون مرئية، لكنها إحدى البنى الخفية التي تتحكم بشاعريته برغم اغترابه الطويل عن العراق.. فالقصائد توحي في مواقع كثيرة بعالم الطفولة، وبعالم السياسة، وبعالم اللا حرية، ونلمس ذلك من خلال هيمنة القوى العمياء والقوى الضاغطة الكبيرة على الحياة البسيطة.. يمثل هذه الخلفية الأيديولوجية تمثل سركون واقعه، بل لنقل واقع القصيدة الحديثة وهي تنهض من ركام الواقع وحقائقه الصغيرة والكبيرة شكلا جماليا، يبتعد به عن القصائد اللمحة والقصائد اللحظة، والقصائد الواخزة، والقصائد البوستر، ويؤسس بدلا من ذلك كله القصيدة الدرامية ولكن الموشاة بغنائية مأساوية، ففي كل قصيدة ثمت صراع وتناقض واختلاف، ومدى هذه الدرامية، لم يغب صوت الشاعر ولا أناه ولا تجاربه الذاتية، ولعلنا ندرك أن الدرامية إذا ما وشيت بغنائية ارتفعت صورة القصيدة باليومي إلى مصاف الشعري المطلق.
• هنا الصياد الذي يريك شركا
وتعرفه داهية في نصب شراكه، لا يبرق له
ولا شيء يعلن عنه، لكن علاماته في كل مكان
تستدر البريق حتى من الحجر، حتى من الأزرار
القليلة
في سترة جارك البخيل عندما يكنس أما تنوره
الخاوي بقية من الحطب
مجيئه حدث لا يبارى..الخ (ص25)
ففي ديوانه"الحياة قرب الأكربول" نجد الدرامية أوضح، وأكثر حضورا من قصائد ديوانه" الوصول إلى مدينة أين" ومراجعة بسيطة لعنوانات قصائد هذا الديوان نجدها مرتبطة بكركوك والعراق والتراث الآشوري والصداقات القديمة- الجديدة، وبالماضي الثري الذي كان له فيه حضور.. هذه الخلفية الأيديولوجية أسبغت على الشعرية مسحة درامية تطلبت أحيانا الشكل المدور كي يتداخل فيها الأزمنة والأمكنة والحالات، فهناك بارس وأبو تمام والستينات وزفاف في تيه كركوك والميكانيكي عبد الهادي، والآشوري، والمدينة المعتادة، والمنحوتات الآشورية، وبيركيلي، ورجل يذهب إلى العمل، وكاظم جهاد، والأكربول.. الخ هذه العنوانات، وما أفرزته من مناخ شعري جديد حتمت على الشاعر أن يزاوج بين الدرامية والغنائية في نمط شعري مسبق حسب الشيخ جعفر أن تعامل معه، ومه أن الوزن كان هو الضاغط في كل الأحيان، إلا أن الانفعالات وطاقتها المتمردة منحت القصيدة حرية في الاستعارة وفي بناء الصورة، ومهدت لأن تفتح عباءاتها لتشمل المتناقض والنافر والحواف.
أن تعامل سركون بولص مع اللغة بحاجة إلى معاينة أدق من الملاحظات التي سقناها قبل قليل. فاللغة عنده تجمع للصور، والصورة عنده كلمة أو حال، قليل التفاصيل والشرح، كثير الانفعال، بمعنى أن الكلمة- الصورة، هي رؤية قد تكون عيانية وقد تكون خيالية. ووفق هذا التصور لا يأبه سركون فيما إذا كانت الكلمة تعبر عن ذاتها أو أن تحيلك إلى شيء ما.. ولذلك لجأ إلى تجاور صور، وتجمع حالات قد لا يجد العقل المنطقي ثمت رابط بين صورة وأخرى، أو بين حال وحال أخرى.. هذا التجاور مبعثه أن الحياة متفقة وليست متسلسلة وعبثا نقول ثمت ماض وحاضر مستقبل، وإنما هنا أزمنة متقاطعة ومجزأة فالماضي ليس كله ماضيا، والحاضر ليس كله حاضرا، أما المستقبل فمجهول دائما، وعليه لا زمن ثابتا، ولا حقيقة دائما، ولا حتى نسبية في الأشياء غير المعروفة، ضمن هذا السياق المتقطع لم تعد الصورة تجميعا للكلمات، ولم تعد اللغة سياقا نحويا أو بلاغيا، وإنما هي ركام من حجارة الزمان والمكان وجدت في طريق الشعراء المتعثر والمجيد منهم من يختار حجارته من هذا الركام الزماني والمكاني.
• على طول جدار الظلام وبالتدريج ابتعادها
عن عامود للنور يقف تحت الرجل.ز من زقاق
متعرج يخفف بصيمات غرقى
كأنه يتوازن برمته
على نقطة الضوء التي تتعرض في نهايته
دون أن تدخله، صعبة المنال، كإحدى الأميرات
حتى النهاية.
من الصعوبة أن تجد تفسيرا منطقيا لهذا التراكم من الصور والحالات إلا إذا جزأت الصور، واعتبرت كل لفظة قائمة بذاتها عندئذ تحصل على تجميع واسع من الحالات المتناقضة وقد جاءت باختلاف أطوالها وأفعالها لتمثل بيت القصيدة بدون تعارف أو قرابة.
فالقصيدة اليوم ليست تجمعا عشائريا وتناسلا أسريا لغويا، وإنما هي تجمع للمفترقات وللمحذوفات وللشواذ، وللنوادر ولكل ما هو خارج السياق الواقعي المعروف.ز فالمحذوف من حياتنا أغنى بكثير من المعلن فيها، فكيف إذا كان هذا المحذوف حيا أو صداقة أو سياسة أو وضعا عربيا أو فكرة تراثية أو مادة إعلامية.ز أو حربا أو سجنا، أو ثقافة.. أن معاينة المأساة من داخلها تولد المفارقات، وهذا ما يتعامل به سركون بولص مع الجهاز المعرفي للثقافة وللواقع العربي
وبعد، فهذه رحلة اصطحبت بها ديواني شاعر مقل ومجيد، يعد بحق أحد أهم الشعراء في مناخ الحداثة الثانية والرحلة كانت اغترابية، بالنسبة لي حيث أعالج، وبالنسبة للشاعر حيث كان رفيقا لي، وقد لا تكون مثل هذه الصداقات دائميه لأن حجم العلاقة فيما بين أجزائها ينمو بعد اكتمال الكتابة.































طيش الياقوت








المساحات المتخيلة للشعرية العربية في حداثتها الثالثة متأرجحة وغير مستقرة بعد. فهي لم تأخذ من الواقعية إلا ما هو ديناميكي متغير، ولم تعتمد المخيلة إلا وهي في بوتقة الغنائي الوهمي، ولم تتسلم من الروح إلا بما هو أرضي، ومن الأرضي إلا ما هو سماوي، فأنتجت نصا تأملت به مساحتها الجغرافية الجديدة التي يعد الاختلاط فيها هوية لها. مميزة عن جغرافيتي الحداثة الأولى، حداثة نص السياب ونازك والبياتي، التي اعتمدت الدربة الإيقاعية والواقعية المشبعة برومانسية ثورية ووطنية، والحداثة الثانية حداثة أودنيس وسعدي وقباني ودرويش وعبد الصبور وحسب الشيخ جعفر.. والتي اعتمدت الأيديولوجيا وقارة الجسد والتراث والأقنعة وانفتاح النص الشعري على هواء العالم.
في ضوء ذلك لم يعد نص الحداثة الثالثة الشعري معتمدا أي بقعة جغرافية من بقاع النص القديم والحديث معا، ما لم يعتمد أي غرض من أغراض الشعرية العربية القديمة، أو أغراض الشعرية العربية بحداثتيها الجديدتين، وإنما اعتمد المساحة المختلطة للجغرافيات كلها، محاولة منه استخلاص بقعته الخلاقة الجديدة فكان ميلاد" النص" بمفهومه الوجودي إيذانا بميلاد هذه الحداثة. واعتمدت اللا غرض إلا بما توحيه اللحظة المحتدمة من إحساس ما بالأشياء والعالم وأفعال كلية الزمن. لذلك كله ولغيره لا يزال نص الحداثة الثالثة الشعري في مرحلة التبلور وأن كتبت فيه مئات القصائد، وفي مرحلة البحث عن الذات وإن حددت معالمه، وفي مرحلة صياغته لقالب فني وأن اعتمد على تهشيم القوالب الشعرية القديمة..
والنص الشعري" طيش الياقوت" لسليم بركات( دار النهار للنشر- بيروت 1996) وهو أحد نصوص شعرية الحداثة الثالثة، نص سري غامض، مألوف وغرائبي، واقعي ووهمي، حلمي خيالي، وقد لا يكون أيا من هذه المسميات لأنه لم يعتمد قالبا فنيا محددا، حيث تعودنا نقديا أن نسمي الغرض بما يسميه لنا القالب الفني للمخيلة. فالنص يعتمد التركيز على الحركة، لذلك ينفي السكون المتأمل، وكأن الشاعر في تعامله مع حدثه" فكرة الموت" اندمج في رقصة كونية معه، فهو لم يراقبه عن بعد، أو يقرأ عنه في كتاب، أو يقنعه كشخص أو حادثة، أو يستعيره لأيديولوجيا ما، أو يستقرئ منه مادة تفيد النقد أو الإنشاء الثقافي، أو مفردة تلقينية يمكن تداولها واعتمادها، وإنما كان الحدث هو الشاعر، والشاعر هو الحدث فكان الدخول أليه كالخروج منه، والسؤال عنه، كالسؤال فيه، والنفي له، كالوجود فيهن فهو- أي الموت- تكوين غير محدد، وصياغة لسانية لا تحتويها اللغة، ووجود يتمظهر فكرة تارة، وأشياء تارة أخرى. لذلك كان الرفض له كالقبول به، فما يوحيه الموت كامن فيه، وما يفعله نفعله نحن بأنفسنا، لذلك تصبح محاورته إيذانا بفتح طلاسمه، ومخافته دخولا إلى طمأنينة، وبما أنه ليس موتا مسمى، ولا سببا محددا، قيل فيه ما يشبه القول السري، والغامض والمبهم، والمعلوم والمجهول، فهو كل الموجودات ونفيها معا.
وسليم بركات، الذي اعتمد التداخل بين الكلمات محاولة منه لأن يزيح العادي المهمل منها، يفتش دائما عن الكلامية المولدة، تلك البقعة من القول التي لا تستعير الشعر وإنما تحتويه، ولا تتعامل مع الخارج لأنها كانت داخل، بقعة قول فيها روائية مشهدية، وسردية شعرية، وفيها أيضا التوقف عندما تؤذن الكراسي بالرحيل عن دائرة وحاور جلسائها. في هذه اللحظة تكون الأشياء قد ابتدأت بصياغة وجودها الشعري:
" أنت مثلي تشهد ختان الفجر، ومشاجرات الضوء وكذلك النزال الصباحي بين المكان وحماقاته أنت- كفراغ رضيَّ له ثرثرات الخوف لا تُريك الحياة ارتباكها، ولا تريها الفضيحة أكمل من الأنين".
وكعادة الشعراء الدراميين، ينزل الشاعر الموت إلى الأرض ليحاوره، ويدخله مساحة المسرح ويجلسه على كرسي ليوجه سؤاله إلى المشاهدين قائلا لهم: لماذا أنتم أحياء فوجودكم أحياء يعني وجودي حيا، وموتكم موتي، ولما كنت لا أملك قدري الخاص فأنا مشدود إلى حياتكم اليومية، أفعالها سكوتها،صخبها وهدوئها، والحبل بيننا مشدود كلعبة شدنا الوجود أليها. لا أنتم هاربون منها ولا أنا، كلانا موتى وأحياء، والحوار ما بيننا موصول لا ينقطع، كلما هربت منكم شددتموني إليكم، وكلما هربتم شددتكم أليّ. فأي دراما جديدة تؤلفها الفصول بيننا، وأي حوار نتكلمه ما دمنا لا نعرف متى ابتدأنا ومتى ننتهي منه.
" لا قناع عليك، لا قناع يريك النعمة مرفوعة على أنين المشهد، ولا غد لك، لأنك منذور أبدا، للذي تعرفه أيها الموت"
لم تكتمل البنية الدرامية للقصيدة بأن يحضر الشاعر الموت أمام المشاهدين كي يبادلهم الدور، فاللعبة الكوميدية تفرضها أجواء المسرح عندما يستقرئ الشاعر من الموت والمشاهدين جدل الحال الكوميدية التي صنعوها بحضورهم معا إلى المسرح. فعندما يكون" الموت" على يقين من لعبته تبدأ الكوميديا، أي أنها حال انفعال قصوى تصل بنا نحن القراء- الرواة- إلى المفترقات، عندئذ يستحيل كل شيء على خشبة المسرح إلى لغة قديمة، لغة لم يعد استعمالها ممكنا.
"آه، كم تتبرج بالفكاهات التي اسردها أيها الموت كم تتبرج بيقينك وأنت سرد الفكاهة على الحياة رسولك المساء إلى جنائن النهار المنكوبة، وأختامك أختام الأنين أيها الموت"
ومن داخل هذا اليقين المشتبك مع الحياة المنسحبة من الموت ومن الحدائق معا، يبدأ الشاعر بأن يؤسس لمملكة الرؤية الجديدة هذه مفردات قصيدته. وكأي شاعر ملتزم يستحضر هذه المفردات من بيئته ومعارفه وأقربائه وأشيائه الممارسة وقضاياه المختبرة، بمثل هذه العدة الكلامية والحياتية يبني سليم بركات بيت نصه الشعري، وقد تقاسم باحته وحجراته وحديقته، الموت، والأشياء الحاملة لفعل الموت.
" على رسلك أيها الموت:
من شاهق تذر ذر الثلوج نيرانها على المرايا، ويجازف النهار بالليل الذي يزور الأختام. والمكان لعبة في جدالك، المكان يتسول من يديك الحقيقة فكاهة، فكاهة".
والمكان المسرح هنا، هو كل الجغرافيا المختلطة، وأن علمت عليه كرديتان علامة قلقة، وموزعة، فهو مكان كلي، بحره حجارة، وصحراؤه مياه، ونخيله أعمدة، ومعابره كهوفا، وأطفاله رسلا، وصيحاته بوق القيامة، وليله ثقيلا، وصبحه لا ضياء فيه.. المكان المسرح ليس متخيلا،ولا مستحضرا من الذاكرة، أنه الحديقة التي يتصاهر فيها الضوء والزرع، الناس الذين يلفهم الصمت والكلام، أما ما خلف المسرح- المكان- فكان الصيادون، والعتالون، والزراعون والصيارفة، ومن يسترق السمع أو من يتفوه، فالكل في حضرة الموت يقظي ولكن بلا صوت، وفي الدائرة الأقرب يصطحب الموت معه كل عداد الحروب وصلبانها وأسلحتها وجراثيمها وسدنتها، وكأنه في احتفال يشيع القتلى الجدد فيه القتلى القدامى، أما الموت، والشاعر ففي عراك وجودي كل منهما يلقي بعصاه في جغرافية النص، لا الشاعر قادر على احتواء فعل الموت بعد أن خلقه وجسده على المسرح، ولا الموت قادر على الخلاص من أنه موت.
" يا للحروب تطرق عليك الباب في خجل، أيها الموت، لتشغلك كانثي بحديث الذكر، يا لهباتك التي لا تقدمها مرتين، يا لدوي السطر المحمول على يديك وهو يمزق الكتابة"
يحاول النص الشعري الجديد أن لا يجيب عن أسئلة بل يثيرها، ويتركها عارية من الأجوبة. فالأجوبة أغطية قد لا تحسن دثار الجسد، فتبدو ملحقة به أو مموهة له. وسليم بركات لا يجيب، ولا يتصنع السؤال، وإنما يلقي بالحال لتتحول إلى أسئلة. وهذه الطريقة الفنية واحدة من حقول الجغرافيا الجديدة للنص الشعري. ليس في أرضيتها معالم محددة، ولا خرائط معلمة، وإنما هي تكوين لم يكتشف بعد وأن سارت عليها مئات العربات الشعرية. ولأن بيروت أو كردستان هي أرضية هذه الجغرافية فكل ما جرى فيها يؤذن بدخول الموت أليها، أو يؤذن بخروج الموت منها. وفي غبش هذه الجغرافية المليئة بالأموات نلمح ملامح العراة، الصيادين، والمحاربين والصبية والفقراء والنجارين وكل ما من شأنه أن يصافح الفجر فإذا به يفاجأ بالموت وقد أنسل أليه. فأي حزن تولده هذه المدارات التي تلف بيروت أو كردستان، وأي ملف يفتحه سيلم بركات ثم لا يقدر على إغلاقه بعد أن طارت كل الكلمات المكتوبة به لتحط فوق بياض قصيدته مزاحمة شعوره الصباحي، وقهوته ولغته ولسانه، وأي إمكانية قلميه يوفرها سيلم لنصه الجديد بعد أن أطلق طير الصباح جناحيه في جنان النار المحيطة بالذات والمدن معلنة هوية الموت للأشياء وللأفكار معا. ولذلك لا تستطيع أن تأتي بشواهد من النص كثيرة لتؤكد فكرتك النقدية، فأي شاهد لا يؤكد إلا جزئية من هذه الجغرافية، وأي اقتباس يقل فيه الشعر. لذلك فتحول القصيدة إلى أميبيا زاحفة نحو ذاكرتنا لنضيف أليها أو نقتبس منها كلما أعدنا التفكير وعليه لا يصلح النص الشعري الحديث للاقتباس أو الحفظ أو الاستشهاد أو الترديد كالأناشيد المدرسية. لأنه تكوين غير مستقر، وبناء لما يكتمل بعد، ومادة يعاد تشكيلها كلما اكتشفنا ذواتنا. فكيف إذا كان النص عن العلاقة مع الموت، هذا المبهم المعلن، والسري الصواتي، وقد دخل ميادين الجسد والحديقة والأزهار والأشياء، وأصبح مادة تحس وترى، ولغة تملأ بياض الذاكرة. فالنص بعد تحديده لجغرافيته الواقعية أو الوهمية، يصبح حقيقة، ليس من خلال الكتابة وحدها، وإنما من خلال احتوائه على نصوص مضمرة يكتشفها القارئ.
" أ تهذي كلما شُغلت بك؟ نداء اللعبة أنت، يا صرير الباب الذي افتحه صباحا، خارجا إلى مساكب جسدي، أ تهذي وأنت تدفع عرباتك الصغيرة لتنحدر بأطفال الشيخوخة إلى فراغك الفتي؟ كل عدم يتهادى ببغاله إلى حنينك بقطارات منسية، بشجيرات الليف التي تتدلى منها القرى بيضاء كشر اشف الحرير"
تمنحنا النصوص الإشكالية حرية القول النقدي لأنها هي الأخرى تحوي نقدا جزءا من بنيتها، والنقد ليس تساؤلا، بل جدل، ومحاولة لاستبطان الذاكرة علها تفصح عن مكنون جماعي لا يستطيع اللسان المفرد الإحاطة به، هكذا فعل نص سليم بركات، عندما عالج موضوعا ليس ذاتيا- الموت- وصيّره تكوينا ليس أحاديا، فكانت الإشكالية أن تعددت الرؤية أليه: الموت صوفيا، أو الموت دينيا أو الموت قتلا، أو الموت شيخوخة، وسليم إذ يكتشف أن لا هوية للموت، وأنه وحده القادر على أن يكشف العلاقة الجدلية بين الإنسان والطبيعة، الإنسان وتاريخ الأشياء، الإنسان والثورات الإنسان وكل الأفعال اليومية المهملة.
" أيها الموت..
هات سؤالك الخجول لأخبرك كم حررتك من جدال خاسر بينك وبين المشهد، وكم أخفيت حرجك من القيامة بنقاب أسدلته على أبدك المستغيث، أ طفلي أنت؟ أ ندائي المكتوم في مشيئة الظاهر أنت؟ كبرنا معا بالحنين ذاته إلى وحشة أنقى في أنينها أيها الموت"
ولأن القصيدة مركبة، وحوارية، وفيها مستويات مشهدية عدة، فهي لا تعطي فكرتها بيسر، فالشاعر لا يحاور مجهولا، بل معلوم متغير، ومتحرك، وواقع لا يبقى على هيأة.
تحتمل النصوص الشعرية الجديدة- خصوصا تلك التي تداخل بين السري والشعري- في فضاء حرية الأشكال، فبعد أن كسر النص الجديد النوع الأدبي وقالبه المقنن، تمرد على الشكل- اللغة- والذي كان لوحده المعيار الجمالي لكل طروحات النقد الحديث. وجاء تمرده ليس من أجل اكتشاف كلاما داخل اللغات المتداولة، ولا مساحة معينة لم يطرقها الشعر، وإنما في إعادة هذه اللغة إلى منابعها، أعني فاعلية الحكاية والأخبار والقول الشفاهي والتجسيدات والمرئيات. لقد أصبحت القصيدة الحديثة مجسا للغة بوساطة اللغة، وليس عبورا من اللغة إلى الواقع. وهذه حال معقدة نقديا وشعريا، نقديا لأنها تنبئ عن تحديدات للقول نابع من داخل النص، وشعريا لأنها تعتمد التكرار والإعادة والتوسيع على حساب الفكرة الواحدة. وكلتا والقيمتين نشأتا في صلب النص الحديث. وسليم بركات في" طيش الياقوت"( والعنوان له دلالة التمرد على الهيأة الثابتة) قد دار نصه دورات عدة كي يشمل به كل ما هو كامن من جدلية الموت/ الحياة. وكأنه في بحثه المضني هذا يحول ظلال الأفعال الخفية إلى حقائق مرئية ومعاشه لقد قدم النص مشهدا روائيا بالغ التعقيد بلغة شعرية غنائية ومركبة، في محور العلاقة الكونية بين الشاعر/ الموت. وخلفهما معا، تكمن مساحة الصراع الكبرى في الوطن المحاط بالموت، والقهر، والزمن المفروض مما يعني أن الحداثة الثالثة للشعر لم تعد صوتا ضد أحد، أو لغة تؤد لج في بيان، أو مادة، أو مادة تصلح للدراسة، وإنما هي بحث في المكونات الأولى للأشياء، بحث يشبه اكتشاف أعماق البحار أو مجاهيل الكون.. فالكون الذي يمارس حضوره معنا كل لحظة، ليس موتا نسيجيا وإنما هو حضور كوني في الجسد وفي الأشياء معا. فالحداثة الجديدة وهي تفتح كواها الأسلوبية في مجرة الواقع المعيشي، لجأت إلى الكليات من قبيل: الموت، الواقعية والخيالية، كي تكسوها بغبار الحركة الدائمية. ومثل هذه الحداثة قد لا تكون مهيأة لشاعر قصير الرؤية، ضعيف الحساسية بالمتغيرات اليومية على ما يحيطنا، فهي من صلب البنية الدرامية التي تحول الصراع فيها من النقيضين الخارجيين إلى النقيضين وهما معا في جسد واحد.
هكذا هي " طيش الياقوت" بنية مركبة تعاود الظهور كلما وجد الشاعر ثمت دورة جديدة لها. فبدت مكثفة برغم من طولها، وقصيرة برغم من الضمائر المتداخلة فيها.
وفي الكتاب، ثمت قصيدتان هما: الأقفال، مقالة في خواص الظاهر، واستطراد في سياق مختزل. تستحق وقفة أخرى، لا تسعها هذه المقالة المخصصة لصحيفة يومية. والملاحظة المنهجية التي يتلمسها القارئ من هاتين القصيدتين أن الشاعر فيهما غيره في" طيش الياقوت" وربما كانت حاجته إلى تقليل فاعلية السرد الشعري فيها دفعه لأن يركز على البوح الشعري، والفرق كبير، هناك حيث السرد يتطلب محاورة ووجودا عيانيا للآخر، وتفعيل المشهد، وقياس ردود الأفعال مع الخارج بينما هنا نجده يستبطن ويكمن، ولا يحاور إلا قليلا، فالنص الحديث، لا يتقولب في شكل قارورة مستطرقة، وإنما بفرض شكله عندما تجد نفسك مكملا له.

























مكاشفات ما بعد الرحيل

ديوان شعر الشاعر مصطفى عبد الله الذي توفي غريبا عن وطنه أحد المحطات الشعرية التي يتوقف النقد عندها، فهو ليس لأن الشاعر الذي مات مبكرا ، إنما لأنه أحد الشعراء الذين بدءوا كتابة قصيدة اليومي والمألوف قبل أن تصبح هذه القصيدة علامة من علامات الحداثة الثانية في الشعر. فهو إلى جوار الشعراء كريم كاصد ومهدي محمد علي وكاظم الحجاج، قد شكلوا نقلة نوعية في بنية الصورة الشعرية القائمة على تحويل العادي واليومي إلى شعر يحمل جدل الواقع وصوره الثورية. هذه الطريقة التي أنزلت القصيدة من علياء الأسطورة والنموذج والفكرة الكلية الشاملة والصراعات الكبيرة والمهمة، إلى مصاف القلق اليومي للناس ، إلى تلك النغمات التي لا تغادر كلما مررت بدروب القرية أو الأزقة إلى تلك القضايا التي تتقاسمها الناس دون أن تعرف مستوياتها الطبقية والفكرية ولأول مرة تصبح القصيدة على هؤلاء الأربعة مجالا للقول المباشر دون السقوط في العادي، ربما أن مناخ البصرة السياسي والاجتماعي يخلق مثل هذه الألفة الشعرية فيقرب القضايا الكبيرة من هموم الشارع ويجعلها لافتة تقال بأشكال فنية مختلفة – لا نعدم ما للفن التشكيلي من تأثير في تقريب هذه الصورة على يد فنانين تعاملوا أيضا مع الواقع من أبعاده المعاشة- فكان جو البصرة الفني جوا سياسيا وكان جوها السياسي جوا فنيا لنذكر تلك الوشائج التي تربط بين الغناء الشعبي وانفتاح المدينة على ثقافات عدة وتعددية في القوميات والأديان والأجناس مما يجعلها مدينة تنطق الشعر من أبسط مواقعها، وفيها إذ اختمرت البدايات الأولى للحداثة كانت قد وطنت نفسها لأن تستمر في هذا التيار الشعري، وبعد ديوان 51 قصيدة لسعدي يوسف الذي بشر بهذا الاتجاه، ولم يكمله، بدأ الشعراء الشباب في البصرة التأكيد على أهمية المفردة الشعبية والصورة الشعبية ذات الجرس الغنائي الدقيق الإيقاع في تكوين نموذج شعري يقرب المشكلات الكبيرة ويعالجها بشيء من النكتة والسخرية الجادة والمفارقة اليومية واللغة المنطوقة دون تعمل.
2

في قصائد مكاشفات ..ما بعد الرحيل، جمع الناشر قصائد متباعدة لشاعر لم يأخذ حقه في النشر وهو حي، وكأن يقظة الناشر رد دين في عنق الثقافة، الأمر الذي يدفعنا إلى القول أن لا أحد بعد رحيل المبدع يغنيه عن حضور وهو حي حتى لو كان هذا الحضور قليلا. وربما تعامل مقدم الديوان الأستاذ مجيد الراضي بمثل هذا الحس الأبوي. في حين أن قصائد الديوان المفترقة لم تدرس ، ولم تعاين بعين نقدية ضمن تجربة الشعر. الأمر الذي يجعلنا في حل من أراء مسبقة، لنقول أن : هذه القصائد فيها تنوع لتجربة غير مستقرة بعد، مما يعني أن الشاعر كان في طريق البحث عن تكوين شعري أكبر يميزه بعد إن كانت بدايته مع أقرانه علامة، فقصيدة اليومي والمألوف رغم بدايتها العنيفة والواضحة، الأمر الذي جعل تجربة مصطفى متنوعة في هذا الديوان. في نموذج منها: نشعر بروح الطفولة وعفويتها، وقد كونت رؤية لأشياء قريبة ببنية فكرية كبيرة : قصيدة اللون الصامت.
أمد يدي
أعجن كل الألوان
أسقطها فوق الطين، واشرب.
وإذ تكون قصائده القصار أسلوبا محببا لدية ، لقربها من نفس موضعي في الرؤية وفي اللغة، فأنه في قصائده الطوال يميل إلى تجزيء محبب فيبدو أنه قريب من تقطيع سينمائي يباشر به حدثه الكبير من زوايا ومرايا عدة منصوبة في أمكنة يعرف هو طريقه إليها لأن شاعر ما لا يراها بعين واحدة، تلك هي نغمة أيديولوجية الوقوف على أبعاد حدث من مواقع مختلفة لتمكنه من أن يكون شاهدا عليها لا قارئا حياديا كما يفعل بعض شعراء قصيدة اليومي والمألوف. تلك النغمة الدرامية مكنت القصيدة من أن تكون متعددة العنوانات.منها قصيدة : تنويعات على لحن الحرب. وقصيدة كتابي وقصيدة الحجر الذي رأى، وحتى تلك القصائد التي توزع بيتها دون عنوانات مثل الكرسي البارد وأغنية الخط المستقيم والمرأة والرجل. في حين تكون قصائده القصار ضربة ريشة فنان لا تعاد ثانية على القماشة، هذه الطريقة الاختزالية هي من تكوينات الصورة الحادة والمركزة التي تتعامل بها حال اليومي في عنفها المشهدي ووضوحها اللغوي. في حين لا تكون النتائج لغيره ناجحة رغم انغماره باليومي حياتا وسلوكا، إن الشاعر لهذه الطريق لا يترك لغته على سجايا الحال الانفعالية، ولا على الصدفة اللغوية والكلمة العابرة المسموعة، إنما هناك تعمل فكري يشغل الشاعر في لحظة احتدام الصور الحياتية فتكون طريقة الانتقاء هي طريقة هيمنة مفردة على أخرى. إن قارئ هذا الديوان يشعر باستطاعته أن يقول مثل ما يقوله الشاعر، إلا إن الأمر من الصعوبة قد تبدو أنها طريقة شعرية خاصة لا يمكن أن تكون سهلة إلا لمن درب قلمه على التعامل مع المتروك والمهمل الحياتي بروح المنقب عن الذهب في أشلاء الواقع وصوره اليومية المتراكمة.

3
ما يلفت النظر في تجربة الشاعر أنه يتعامل مع مفردات شعرية مكتفية بذاتها، قبل أن تكون هذه المفردات لغة. بمعنى أن الشاعر يختزل الصورة الكلية بكلمة دالة، والكلمة غير اللغة، من هذه المفردات : الفراغ- الصمت- الموت- الرحيل- الأمس- الأجنبي- الأموي- القفل- الأرق- المقايض- الصرخة- الزهرة- الحجارة- الليل- العادي- دائما –الشجر- الشوارع- الأرض- الدار …الخ.
يمنح هذا التعامل مع مفردات قارة من هذا النوع أن الشاعر كان يختزل حالات كثيرة من داخل لغة موحية وحادة، فالصمت لا يعني السكوت، بل الفراغ أيضا،أو لغة غير صائته. أو تكوينا لم تتضح أبعاده ، والفراغ ليس الخلاء بل هو المكان المشغول بالمجهول، والموت يعني الرحيل ويعني الصمت والفراغ، كما يعني شغل مكان في القاع، ويعني كذلك الاتصال ارحمي الكبير، وقل ذلك بشأن كل الكلمات التي تختزن عشرات الدلالات الأمر الذي يجعل الشعر في هذه التجربة خلاصة مكثفة لعقل وحس تحتدم فيه الصور الحياتية الكبيرة، تلك الصور الحاملة لتناقضات الحياة الشعبية.
4
يستبطن الشاعر الحال السياسية برهافة شاعر تعود أن لا يكون مباشرا، قصيدة الأموي مثلا، وقصيدة سيدي الزمان وقصيدة الأجنبي الجميل وعدد أخر، ومادة هذه القصائد : تجربة ذاتية غاية في الرهافة، مع مفارقة سياسية تدل على تباين مستبطن، ووضوح في طرح الموقفين وهما يحتكمان إلى سياق حياتي، هل هناك نغمة ديمقراطية الحوار يمارسها مصطفى عبد الله مع زملاء له تباينوا في المواقف؟ هذا ما توحي به نغمته السياسية العاتبة، ولكن الشجاعة. وقد يقول البعض أن هذه الطريقة هي من سجايا البصريين الذين تعودوا أن يروا أصدقاءهم المتقلبين عليهم قبل أعدائهم، فيكتمون ضحكة ساخرة مرة.
صديقي الذي مرّ كان صديقي، ولكنه كان مبتسماً
حين مر ولم يلتفت
صديقي الذي مرّ قبل قليل، وأخفى جريدته، قافلا
فوق عنوانها كفه، - لماذا
تجاوزني خلف كتف، تبادل موقعه معها ولم يلتفت؟








































خطوات في الغربة






















1


يسعى الصائغ في كل قصائده – وهذا ما نلمس قربه إلى الذاكرة – إلى تأكيد البنية الحكائية فيها ، فيولي متنها اهتماما ، قمة تعامل مع الزمن الصباح – المساء –الليل .الظهيرة ، وثمة تعامل مع الحالات :الانتظار الوحدة الفقدان ، الغياب ،- وهذه أزمنة نفسية – وعماد هذا المتن سردية شعرية تعكس وبوضوح قتامة الواقع النفسي . وكأن الشاعر في هذه الحكاية ينطلق من الوعي بالصور المتراكمة ، ثمة تشابهت متكررة أولاها الشاعر اهتماما ، هي نتيجة للحرب وما تفرزه من تكرار الواحد ، فقد اصبح الأعلام حربا ،والأدب حربا والحياة اليومية حربا ،وحتى الوفيات من خارج الشهداء نتيجة للحرب حتى ولو كان التوفي شيخا .
هذه البنية المتعددة للواحد تعطي مناخا قصصيا حكائيا متشابها . ألا إن الشاعر ،وهذا ما يميز شاعر يته لم يستسلم لمعطي واقعي مباشر لحال الموت ،بل راح يبحث عن دلالات الموت في الروح وفي القصيدة مما أعطى للحكاية المنسابة ، سردية شعرية ناهضة بخصوصية توحي إن تعاملا عقليا صارما يقف وراء اختيار الحكاية والحدث واللفظ الشعري ، وهذا ما جعله يتميز عن أقرانه من شعراء الثمانينات الذين اعتمدوا الاندماج الكلي بالحال ،ولم يضعوا فواصل بينهم وبين قصائدهم إلى الحد الذي اقتربوا به إلى الواقع ، مما وقع الكثير منهم بالتقليد ، او احتذاء المقولات ،او عكس ما يحدث بدرجة اقل .
بينما تتحول القصيدة عند عدنان إلى رفض للنزعة التقليدية ، وتبتعد عن السطح المعاش للظاهرة ، معتمدا على تقنية الترادف والتبادل بين محورين داخل النص – الأنثى/الرجل ، طريقة للتداخل بين الواقعي والمتخيل ، أي البناء الفعلي مشفوعا ببناء عاطفي . وقارئ أشعاره يجدها بعيدة تماما عن أهم تيارين يتقاسمان الحداثة الثالثة : تيار؛ ألا حاله إلى الماضي والحالات ألا فله والمنزوية والخصوصية ،وتيار؛ الانغمار الكلي بما هو يومي ومألوف وعادي . فعدنان شاعر الموضوع الواحد ، الذي يفككه إلى أحداث صغيرة وبمجموعها يرسم لنا في كل ديوان تجربة كبيرة . ولذا لا ينتمي شعر عدنان إلى أي أيديولوجيا ، إلا أديولوجيا إدانة الحرب ،والانهيار الشامل ، وهذا يعني إن نصه يكمل ما ينقص هذه الأيدلوجيا فقط ، دونما إحالته إلى أي أيديولوجيا سياسية أخرى .

عائدا..
من غبار الحرب
بقلب مجرّح
وذراعين من طبول وذهب
حالماً بشفتي كليمنسترا،
العسليتين
اللتين كانتا في تلك اللحظة
تذوبان على شفتي عشيقها إيجستوس
ليلة، ليلة
عندما فتح الباب
رأى في دبق شفتيها
لاف الجثث التي تركها في العراء
فتذكر
انه نسي أن يترك جثته هناك .
النص الشعري لا يطابق الواقع ، ولا يمليه وإنما يولد في الحال الرؤية تتسع للقول المضاف ، مما يجعل الشاعر يعتمد الواحد بدلا من المتعدد ، فالكثرة أحيانا ، أن لم تكن –وهي كذلك – فراغا ، لان عدنان لا يعتمد منظورا ثقافيا –إعلاميا – وهذا ما جعله يكتب عن الحرب من داخلها دون أن يكون داعية لها او لحالاتها –إنما يعتمد بنية مرجعية ووثائقية ، وتاريخية تعمق الحال المعاصرة لأنه كان يرى بمنظور اعم من الفردية ،او الجماعية المنتمية لأيديولوجيا – وهي أيضا فردية ،لانعدام التمايز بين أصوات ممثليها ، فثمة بنى خفية تحكم طور فعالية الحرب وتحببها للناس – ما تزال هذه معمول بها إلى اليوم – كان من نتيجتها أن أنتجت فنا فجا ، والشعراء المعتبرون منهم ، تحولوا إلى السرد ، الرواية والنقد واليوميات . وهو أسلوب أخر للرفض الثقافي المنهج .

معادلة صعبة
أن توزع نفسك بين فتاتين
بين بلادين ، من حرس وأناناس
بينما ،أنت ملتصق بالزجاج
. . .
معادلة مرة
أن تظل كما أنت
ملقى على الرمل
ترسم أفقا ، وتمحوه
. . .
معادلة صعبة
أن أبدل حلما ، بوهم
وأنثى . . . بأخرى
ومنفى ، بمنفى
وأسأل
أين الطريق ؟ .
تنتمي هذه القصيدة – أجا ممنون – إلى" تكوينات " وفي التكوين الذي كتبة الشاعر سعدي يوسف ، وجد فيها " تجل لخطوة الحرية المنفتحة " وكان يقصد حرية الشاعر بعد أن ، حدق في الكابوس طويلا . . هل تعني حرية الموضوع حرية للشاعر ؟ أن مقارنة مثل هذه تحيلنا إلى معادلات صعبة ، قد لا يكون الموضوع لوحدة مسؤولا عن تشخيص هذه الحرية ، وهنا يبتدئ الشاعر خطوة اكثر صعوبة ، فقد لا تكون القصائد الآتية مشبعة بالتحديق بعدما استعار لها التأمل ، عندئذ سيكثر عدنان من التحديق في الحرية ، حرية "الأنا " لا حرية الشكل .
وعندئذ سيعود ثانية ليكتب المشابهات ولكن من موقع الحفر على أبواب الحرية بمعناها الواسع : المحتوى والشكل . لعل هذا ما تأمله دعوة سعدي يوسف لعدنان الصائغ . أي التحديق حتى ولو كنا في المنفى اختيارا.
أن قارئ قصائد ديوانه " تحت سماء غريبة " يكتشف أن الشاعر قد وقع تحت هيمنة معاني الألفاظ القارة مثل : الوطن ، الدم ، المطر ، البلاد ، المنفى ، الحرب ، القصيدة . . الخ . وهي كما يبدو ألفاظ مرحلة محددة ، لعل تواريخ قصائده المتقاربة بين بغداد وعمان تفصح عن واحديه التجربة ، مما يعني أن قاموسه الشعري يقع ضمن تأثير هذه الألفاظ ، فالشعر لا يقيس مرحلة ، وإنما يقاس بالمرحلة خاصة إذا كانت مثل المرحلة التي مر العراق بها .
ألا إننا نلاحظ ، خاصة في القصائد القصار ، أن الشاعر يستعير الألفاظ تلك كمسمى له ، مما يعني توحدا بين أنا الشاعر واللفظ ، وهذه طريقة جديدة في تحولات الرمز .
• من يغسل للمطر ثيابه اللازوردية ؟
إذا اتسخت بثياب المدينة .
أنا الشاعر/ المطر ، معا في مناخ المدينة كلاهما يهبط من موقع ، الشاعر يأتيها نقي اللسان ، والمطر ينزلها نقي المياه . .
• حين يموت المطر
ستشيع جنازته الحقول
• أيها المطر – يا صديقي المغفل –
حذار من التسكع على ارصفه المدن المعلبة . .
فالشاعر يقف باستمرار أمام المرآة ، لا يرى أحدا ألا وحدته ، وفي داخل هذه الوحدة ينمو الإحساس بالانتشار ، بالكثرة
• كلما تعانقت كلمتان
صرخ الشاعر – على الورقة –
آه ، كم أنت وحيد أيها القلب .
• كلما كتب رسالة
إلى الوطن
أعادها إليه ساعي البريد
لخطأ في العنوان .
المطر ، الشعر ، الوطن ، ليست إلا أنا الشاعر
إلا أن القارئ يجد أحيانا ثمة مفارقة بين مناخ الألفاظ ، والمناخ الشعري العام الذي يسود الديوان . . فالألفاظ استعيرت كلها من موقع الانتهاك – بما فيها أنا الشاعر – في حين أن المناخ العام للشعر ينشد النهوض . حيث نجد الشاعر يستنهض الحال النفسية ومثيولوجيا الحياة اليومية ، واللغة التفاؤلية ، وأن تجسيده للحال المأساوية لا يعني الانتماء أليها ، أو الاكتفاء برصدها ، وإنما هناك حس تفاؤلي يقدم على أنقاض الركام والانتهاك
النجوم التي بتأملها العابد ، رذاذ ماء الوضوء
على سجادة الكون
النجوم
دموعنا المعلقة
- بالدبابيس –
في ياقة السماء
ترى أين تختفي
عندما تفتحين نافذتك
في الصباح
وتتعمق المفارقة أيضا بالسخرية المرة والأليمة ، وكأنها تقترب من النكتة . . لعل المناخ الشبابي للشاعر ، ومعايشته الأحداث اليومية للحرب جعلته ينتقص مواقع ساخرة ليست بالعمق المطلوب لمثل هذا النوع من الشعر :
• الجندي الذي غدا متنزها للمدينة
ماذا لو كان قد حلق ذقنه ، ذلك الصباح .
في البعد الفني لتجربة هذه القصائد نجد الشاعر أكثر قلقا فيما يخص الشكل ، فهو لم يعتمد نمطا محددا من الكتابة ، وهذا يعني أن الشعر يتأثر بحجم التجربة وكثافتها ، فيروح الشاعر ملتقطا أبعادها بحالات تتفاوت بنيتها ، وهذه القصائد تؤكد مبدأ دلالة الشكل .
ثمة قصائد تجاور في شكلها بين المنطق العقلي شبة الرياضي ، والمنطق العاطفي ، وهي عندي الأكثر تدقيقا في التماسك الداخلي ، مثل قصائد " أفق ، محاولة النسيان ، صورة جانبية ، جنوح ، أجا ممنون ، حبل الغسيل . . الخ " فالشاعر في هذا النمط من القصائد أكثر تأنيا وخبرة ، ومراثيه ،لم يتسرب أليها لفظ غريب ، ولا صورة نشاز ، بل أن السياق العام يتولد من توافق داخلي بين المفردات . . فتشعر أن حجم الشعر فيها اكثر .
وثمة قصائد تتعامل مع حال مفردة ، معزولة ، فرزتها الحرب ، وعمقها الحس ، المأساوي بالفاجعة إلى الحد الذي أصبحت فيها مقولات يمكن تعميمها ، بل ودراستها ، حال يتداخل اليومي بالإنساني العام ليؤلف تركيبة شبة شعبية مألوفة منها قصائد " تحت سماء غريبة ، بيان أول للحرب ، مرئية مبكرة ، خسارات ،ارتباك . . والكثير من القصائد القصار .
وثمة قصائد يتداخل فيها حس ما خفى المثيولوجيا ، وحس ما بالفاجعة بحيث يطغى الزمن الخارجي على مفرداتها ، مثل قصائد ، شاعر ، طلقة ، تضيف البلاد ، ودبابيس ، . . الخ .
وثمة قصائد يتسرب أليها الكوميدي الناجع ، معتمدا السخرية المبطنة أسلوبا للردية ، قصيده " في حديقة الجندي المجهول " وطلقة . . . الخ .
وهناك قصائد ذاتية صرف ، ذات نهج ستيني ، توحي بالغربة والكفاية اللغوية ، تقترب من اليومي ، مثل قصائد " ثمالة " و" غربة " والكثير من القصائد القصار . أما على مستوى دلالة المعنى ، فنجد الديوان يجمع نمطين من المعنى ، قصائد غنائية شبة طويلة ، وقصائد غنائية قصيرة . . وهذه القصائد الأخيرة ليست قصائد الجملة ، كما يكتبها عدنان وسواه ، وإنما هي قصائد طوال جرى تكثيفها ، وعندي ثمة فهم خاص لمثل هذا النمط لدى عدنان ، بحيث أصبح نمط القصيدة الغربة ، أو القصيدة الجملة ، هنا أشبه بأقصوصة ، أي إن مبدأ الحكاية ما يزال فاعلا في النص ، وقصائد الجملة ، تبتعد عن التكثيف المقصود والاختزال في المعنى والمفردات ، وتعمد إلى اختيار الألفاظ الدالة المكتفية بذاتها كما لو كانت لا تحبل إلى مفردة او صورة أخرى . . لعل قصيدة "ثمالة " افضل نموذج على ذلك .
وفي النماذج التي أدرجها ضمن " تكوينات " وجدته انه يميل إلى تقطيع جسد القصيدة ومن ثم يوزعه إلى مقاطع . . قصيدة " تنويعات " و" قصائد المطر " وقصائد البحر .. الخ .
لعلها تنويعات أكثرهن استقرارا لإحساس كل مقطع منها بالفرده .
وبعد .. في جعبة عدنان الصائغ مشاريع ومشاريع ، لعل ميله إلى الدراما ، يعد أهم إنجاز شعري له .. فهو يجيد توسيع اللحظة الشعرية المشحونة بالتأويل والتأمل – شاهدت له عرضا مسرحيا حول المسافة التي تستغرقها طلقة قناص من بندقيته إلى رأس الجندي ….. .الأنثيالات والهذيانات كانت للجندي وهو يتأمل طريق الطلقة إليه .. يمثل هذه الكثافة الموسعة ، يعمل الصائغ مع الحداثة .







‌‌‌‍











القصيدة العراقية المغتربة






1
يقودنا المقال إلى محور جديد داخل القصيدة التي يكتبها عدد من الشعراء العراقيين في المهاجر والمنافي. وهي ثيمة طالما تلمسنا خيوطها الفنية عن بعد واستشعرنا مفردتها بطريقة المقارنة بين ما كنا نقرأه من نتاج أدباء غربيين اغتربوا، ونتاج عراقيين اغتربوا، فلم يجد برشت الفرق بين الثقافة في ألمانيا التي هاجر منها، و الثقافة في النمسا أو أميركا التي لجأ إليها. فالثقافة في بلدان أوربا وأميركا متقاربة جدا،وأن اختلفت بالخصائص المحلية، وفيها يجد المثقف كل الكتب مترجمة من لغات أخرى، لذا بقي برشت يجدد ويكتب وفق سياقات معاصرة. في حين أن المهاجر العراقي الآتي من بلد متخلف ثقافيا وواقعيا، لبلدان متقدمة ثقافيا وواقعا يجد فرقا كبيرا بين ما كان يكتب عنه هناك، وعما يعيشه الآن هنا. هذه المشكلة الاجتماعية؛ ثقافية بالدرجة الأولى. لأنها تتصل بكيفية الإبداع الذي يعتمد على سياقات متشابه وإن انتقل المبدع عن مواقعها المكانية،لا على كيفية المعايشة وإن عاش فيها. والقصيدة التي يكتبها عدد من الشعراء العراقيين في المهاجر، وبعد خروجهم بزمن طويل من العراق، نجدها تحمل هذه المفارقة: شاعر لم تنضجه تجربة شعرية وثقافية لقصر معايشته لها، ويعيش مفارقة اللا وطن بحكم تنقلاته وارتباطه بمشكلات واقع قديم، فتصبح تجربته الشعرية، وكأنها بحث وجودي يلامس باللغة المبهمة والاستعارات المفارقة، جوانب لم تكن مهيأة لنقلة في القصيدة الحديثة. ويبقى مسعاه هو أن يجد له بقعة شعرية خاصة به تحمل كل احتمالات التجديد في القصيدة. والذي أراه أن الشعراء العراقيين المتميزين في المهاجر يبحثون عن مفردات لتجديد القصيدة الحديثة ونقلها نقلة نوعية متميزة من خارج أطر التحديث التي كانت موجودة في سياقاتها السابقة تلك السياقات التي نقلت القصيدة من حداثتها الأولى : السياب ونازك والبياتي والبريكان وغيرهم إلى حداثتها الثانية أدونيس وسعدي وصلاح عبد الصبور والماغوط ونزار ، فهم قد واجهوا واقعا مغتربا وشرسا لم يترك لهم خيار البحث في التجديد لتجيء مغادرتهم أرض العراق بمثابة الشرخ الكبير في وعي مفردة جديدة للتحديث ولما لم يجدوها في الغربة عادوا إلى ذواتهم مع شيء من غطاء المجتمع وأحداثه الكبار .
2
بالطبع أتحدث هنا عن تجربة الشاعر هاتف الجنابي، وهي تجربة مفردة لها من الشعرية حصة في الإبداع العربي، وفيها من النموذجية ما يجعلها مثالا حيا حينما نستشهد بالشعر العراقي. فهاتف أحد الشعراء الشباب الذين لم تكتمل تجربتهم الشعرية هناك، فهاجر وفي داخله هم شعري بدا تتضح خيوطه وهو في المهجر، ثم لما تمكن من قول القصيدة بأحجامها وتنوعها تحولت غنائيته العمودية التي قرأناها في العراق إلى قصيدة مركبة ودرامية، تمزج بين الإيقاعية الشعرية والإيقاعية النثرية. مما يعني أن غناء شعريا يطرق مفردة الأمس فيلامس منها التجريب ويصيرها إلى فعل وقول متميز. وبإمكان القارئ أن يقرأ المقدمة التي كتبها الناقد الشاعر محمد حسين الأعرجي عن الديوان ليجد فيها الكثير من خيوط هذه التجريبية.
النغمة المتوحدة هي المفردة المهيمنة على نصوصه الشعرية ونجدها في كثير من الحالات لفظة المنادى في قصائد عدة " يا هباء، يا هذا، يا شاهدا، يا أنت، يا رجاء..أبانا ..ليت …الخ وهي نغمة موحدة، بمعنى أنها مكتفية الدلالة والصوت ويمكنها أن تحمل رسالة وان تبلغها دون الاستعانة بمفردات إضافية أو شارحة. ويأتي اختيار المفردة الدالة جزء من التعامل مع الكثافة اللغوية التي تفرضها الحياة الغربية على الإنسان المعاصر. من أنه ليس بحاجة إلى شروح كثيرة لقول موجز. وعندي أن المفردة القاموسية الخاصة فيما لو سيطرت على مناخ قصائد، هي بحث جديد عن استقرار الشعرية في اللغة المشحونة بالواقع المعاش.
في ثقافتنا العربية ثمت ميل إلى الشرح والتطويل ، عدا في بعض قصائد الحداثة الأولى خاصة عند السياب والبياتي، في حين أنها لدى شعراء الحداثة الآخرين تستعير طبيعة الرؤية الشعرية العربية القديمة.


3
لهاتف الجنابي أسلوبية متداولة شعريا في بناء الصورة الشعرية فهو يمزج في بنيتها بين الذهنية والحسية العيانية. ولهذه الطريقة في بناء الصورة مزايا ونواقص عدة: منها أن الحداثة الجديدة قد غادرت منذ أن التصق الشعر بالواقع وأحداثه اليومية وتعامل مع مفردات اليومي والمألوف الذهنية، تلك التي كانت نافذة الحداثة الأولى على الاستعارة الثقافية والتراثية وخاصة الأسطورة. وهذا يعني أن العودة لها ما تزال مناخ القصيدة الحديثة تستل من تلك الأبعاد نماذجها. ويعني كذلك أن الذهنية لا تغادر الشعر لمجرد الانتقال بالإيقاع أو اختيار المفردة بل هي بناء عقلي كامن في المخيلة النشطة.
ومنها أن المزج بين حقلين في الصورة الواحد، حقل يعتمد اللغة وحقل يعتمد التجربة المولدة للغتها، دالة على مراوحة فكرية بين أن ينقل الشاعر تجربة ما لم يعشها، وبين أن يجسد تجربة عاشها، وهذه مفارقة مادتها هو التداخل الحرب بين -الأنا والآخر- حينما يصبح الآخر أنا في التجارب المتشابهة. وعندي أن هذه مفارقة شعرية غادية في الالتباس، إذ لا يمكن أن يصبح " أنا الآخر" أني أنا حتى لو تشابهت تجاربنا. وبالتالي فالحسية المتولدة لا تصبح حسيتي ولا تجربتي. وقد حسمت القصة والرواية هذه المشكلة عندما فصلت بين الشخصية والراوي .
ومنها أيضا أن فاعلية الصورة الذهنية تبقى ضمن إطار القراءة فقط، إذ لا يمكنك أن تحيلها على موقع آخر ففيها من الخصوصية ما يجعلها موضعية وآنية. وبالتالي لا زمنية لها ولامكانية. ومنها أن هذه البنية المزاوجة تضيع عن قصد هوية المكان والزمان حتى سميت لها مكانا وعينت لها زمنا.إذ لا يمكنك أن تستدل بها على هوية محلية أو تاريخ ما.
وهناك أيضا أن الذهنية والعيانية الحسية لها في الفلسفة أبعاد، ربما ثمت من يوحي أن الحياة في الغرب لا توحي ببساطتها أنها بلا تعقيد، وهذا يعني أن الشاعر الذي تشبع بمثل هذه الحياة عندما يتعامل معها بلغة أخرى غير لغتها شعريا يجد نفسه مفلسفا للأشياء بحكم أن ما تحت البساطة تاريخ من العمل والجهد البشري العملي والنظري، ولعقود لاحقة لا يستطيع الشعراء العراقيين التخلص من تأثيرات المناخ الغربي على مفردات الصورة الشعرية المكتوبة بالعربية،.فثمت فاصل بين أن تكتب بلغة في حين أنك تفكر بلغة أخرى.
الكلمات معلقة على كتف الشاعر
واللسان في الأزقة
بحثا عن إناء واقعي.
لا يقول المقطع إلا طرفة شعرية مفارقة بين حاجة الكلمات إلى واقع، في حين أن لسانة معلق في الفراغ. الصورة المتولدة جمع بين ذهنية طافحة بالسخرية وواقعية مغتربة عن الشعر.
في التجربة المتسعة التي شملها الديوان الكثير الكثير من الشعر الحديث الذي يجمع بين مفردات قديمة وحديثة. والصور المأساوية التي تقال بلغة مهذبة مشذبة نقية من الالتباس والتعمية، فالكثير الذي يستل من أمكنته ليودع في صرار النقد للأيام المقبلة، قابل للنقاش المنهجي. والكثير الذي لم يقل مثله من قبل حمل شحنات شاعر مقترب جدا من ماسي بلده لينثرها في الطرقات وعلى الأفواه ليغني ويترنم بها كما لو كانت أناشيدنا منثورة في مدن الغربة. والكثير في هذه المجموعة التي احتوت دواوين شعر عدة، بعضها يغاير إيقاع بعض، وبعضها قديم آت من عراق ما قبل الهجرة، وبعضها حصاد مدن غربية مرتحلة في الشعر ومرتحل الشعر بها، كفيل بأن يرسم لنا صورة عن عذاب الشعراء العراقيين الذين لا يشبهون أحدا في قول الشعر. هذه التجربة المشحونة بعواطف إنسان لم تغب عنه قضايا بلده، وما لقيه رفاقه وأصدقاؤه من ظلم، وحدها تجعل تجربة شعر المنافي واحدة من مدامك الحداثة الشعرية التي على النقد أن يفتح لها دفاتره.

4
لا بد من الإشارة هنا إلى أن القصائد كلها ترسم جوا من الإحباط والسخرية والمرارة ، وقد لا تكون مثل هذا المناخ جديدا فقد تشبع الشعر العراقي به منذ حداثته الأولى وما زال الحس الكربلائي مهيمنا وقويا، ولكن أرجو أن لا يعتقد أحد من الشعراء أن هذا المناخ لوحده هو من يولد القول الذي نريده في نقلة القصيدة الجديدة، فثمت أقوال جديدة علينا أن نستدل عليها من التجارب المفارقة لا التجارب المتشابهة. فالمتشابه لا يولد إلا التكرار وهذا مفيد في دراسة نقدية لا في قول الشعر.




















الشاعر موفق محمد في تجربة عبديئيل




















1
القصائد لوحدها ليست دليلا على شاعر ما، فما أكثر المدعين شعر بدواوينهم، وما أقل الشعراء الذين لم يطبعوا ديوانا ليدل عليهم. الشاعر موفق محمد واحد من هؤلاء الذين عزفوا عن طبع أي ديوان لهم رغم جودة شعره، ومسؤولية ما يقوله. بعد أن غدا الشعر بضاعة بلا هوية، وقولا بلا تجربة،ورغبة مساومة مع العواطف. موفق محمد منذ أن عرفته شاعر بطباعه ومواقفه، ورؤيته للأشياء وللحياة.إضافة إلى ما يمتلكه من سعة في تنويع مصادر المفردة الشعرية والبحث في قاموسها الشعبي عن ظلالها الخفية، والاندفاع وراء الحقيقة حتى لو كانت في بطون الحكايات القديمة، ولذا فهو منذ الستينات طرق أبواب القصيدة الحديثة مبكرا. واشبع إيقاعاته نثرية شعرية فاتحة للقصيدة الحديثة أبوابا على السابلة دون لافتات ومسميات وهتافات وتعامل مع الصورة الشعرية تعاملا يختلف به عن أقرانه عندما وطنها حسا ما بالفاجعة قبل وأثناء وقوعها،، فهو يشحنها بالحس الشعبي الناقد، ويطعمها حسب الضرورة بالموروث الشعبي من الشعر. لأن الصورة الشعرية عنده مشبعة بشعبيتها ومألوفيتها فلا يجد أحيانا إلا اللهجة الشعبية التي ترتفع إلى مصاف الفصحى كي يعبر بها عن تلك الشحنة الشعرية الممتلئة بهموم الناس ومشكلاتهم. وقصيدته "الكوميديا العراقية" التي نشرت في مجلة الكلمة عام 1967 واحدة من القصائد النبوة التي حملت كل نوى ما سوف يحدث في العراق، لأنها كانت محملة بصدق فني وتاريخي وتجربة مرة وحال لا ترصد إلا بعين وبإحساس شاعر عاشها.التي لو صدرت هذه القصيدة في مصر ولشاعر مغمور، لقيل أن صاحبها يتنبأ بما حدث للعراق بعد ثلاثة عقود.

حين أطبق اليأس على وجوهنا
كانت صفارة إنذار
رجل يخن بهدوء
من على شاشة تلفزيون بغداد

الشمس خيزرانة
والأرض ملصوقة برؤوس الأطفال
والنبي في البطون هتلر
فمن يتبعني؟
إلى أين؟
لا وطن لنا.

2

حداثة القصيدة في الشعر العراقي تمتلك لغة خاصة، وأقول خاصة لما تحمله من شحنة شعبية في مفرداتها الفصيحة، فهي كلام شعري وليست لغة شعرية.واعني بالكلام هذه الشحنة المحملة بطاقة النغمة الشعبية المعلنة في القصيدة والمضمرة.وتحمل كذلك دلالة اليومي والمألوف الذي أسس للحداثة الثانية في القصيدة الحديثة، وتحمل أيضا الروح النثرية في الصورة الشعرية وفي نثرية المعنى عندما يكون دالا على حال عامة مألوفة ومعاشه. الشاعر موفق محمد في تجربة هذا الديوان الذي هو تجربة طويلة تمتد لأربعين عاما يركز شعريته على المزاوجة بين الكلام واللغة بمستوييهما الفصيح والشعبي.فهو يضمن قصيدته أشعار عامية عراقية وأغاني مصرية، وهدفه ليس التضمين بل الصعود بالصورة الشعري إلى حد الإحساس اللغوي بالحال، أنه هنا لا تعنيه المفردة بقدر ما تعنيه بنية الصورة.
اندف في القر وفي الصيف
اندف مبتكرا طرقا أخرى للندف
( أندف برأسي الدفْ
وأركض على ألحانه
وما مش بعد كل رجه
والروح خلصانه).
أندف دمي أندف دماء
موتا جديدا للبقاء
………….
قد صار قلبي الآن أبنا لهذي النار
( عالغايب الماجتي منه أخبار
علي جرى والصار
غاب الابن غاب الحفيد
أكعد يبو يوسف جديد
حتى تهون مصيبتك)
الصورة الشعرية المحملة بنغمة شعبية ناقدة، وعمومية هي من مميزات الحركة الثانية للحداثة في الشعر،تلك التي اختلفت بها عن الصورة الشعبية في قصيدة الحداثة الأولى التي كانت محملة برؤية ذاتية، والتي ما زالت قائمة في القصيدة العراقية الحديثة ،لا لسبب ما جعلت الشاعر يغير من الذاتية إلى الجماعية، إلا لأن الحركة الثانية للحداثة تقوم على فاجعة عامة، وعلى حس كر بلائي مضمر في كل الحياة الشعبية، وعلى نكران السلطة – كل السلطات العراقية الحاكمة حرية التفكير لغير عشيرتها- وعلى بعد أيديولوجي قائم على مفردة مشحونة بوهم الثورة ، وعلى تكوين مدني مشوه قائم على بنية لعسكرة المجتمع ، ثم هذه الحروب التي أماتت اخضر العراق ويابسه. كل هذه الأسباب وغيرها تجعل القصيدة مرتهنة بالمشكلات وليس بالثقافة أو القراءات من آداب أجنبية أو لنزوع فردي بالتحرر من قيود شكل مارس ثقافة القمع منذ بدء دور القصيدة المطبلة في حياتنا .
الشاعر موفق محمد أحد الشعراء الذين تركوا ركام الحياة الثقافي والفكري والإيديولوجي خلف ظهره وتعامل مع الواقع كما هو في جد ليته اليومية: عنف وممارسة قاهرة وإلغاء وبحث عن آمان، وسكر وجوع ورغبه في التقيؤ على الثقافة الرسمية والدعوة إلى الثورة بلا شعارات ميتة، والرغبة الحقيقية في الكشف عما تحت مستوى اللغة من انفعال شعبي بما يحدث في الممارسات العامة ضد الفرد. ثم هذه الصورة الشعبية المشبعة بوهم عن الثورة الآتية وعن العدو الأمريكي وعن الاستعمار متناسين أن كل هذه المفردات نصنعها أحيانا برغبة عارمة كي نرى وجودنا الآخر المفقود.

مدد جثته في حاوية الأزبال
وشتاء كلب
وابرق للعم كلنتن
للسادة أصحاب حقوق الإنسان
هذا الشر النائم بين ذراعي الخير
ولابنة باردو وهي تدافع باكية
عن حيوان الفقمة
ممنوناً ابرق
مشكورا أبرق فهذا السكن السوبر لا يحتاج دليل.


3

في بنية الشكل الفني للقصيدة ثمت ثلاثة تنويعات تتحكم في هيكلية القصيدة، التي هي تنويعات تكوينية، بعض مفرداتها خارجية آتية من الخبرة الحياتية في التلقي والقول المباشر، والبعض الآخر آت من الخبرة المعملية لبنية القصيدة الحديثة.
التنويع الأول هو هيكلية القصيدة نفسها، ونعني بها الحجم، حجم القصيدة،حيث أن المشاعر والمواقف من كثرتها وتعددها تفتح البنية خيمتها لتضم في داخلها كل ما يتعلق بالموضوع. ومنها التقطيع الترقيم، بعنوان وبدون عنوان، وكأن القصيدة نبرات جماعية، وصور متجمعة كقطرات المطر لتشكل سيلاً، ومنها السياق الإيقاعي للمفردات، فقد تبدو لنا ثمت إيقاعية قديمة تتحكم في النبر وفي نهايات الصور. ومنها البنية المكانية للنص. تلك البنية التي لا تتشعب بصريا بل تنساب في اسطر متساوية الكلمات. ففي هذا التنويع نجد القصيدة عند موفق قصائد عدة، ولكنها في موضوع واحد بأحداث عدة. فأنت تقرأ القصيدة فإذا به قصائد، يجمعها ثوب النص الكثيف.
التنويع الثاني هو قصر جمله الشعرية. وكثافة الصورة، والكلمة فيها مشحونة بالدلالة، فالقصيدة عند موفق تدفق متقطع، وتيارات متقاطعة، وصور محتدمة بالمباشرة الشعرية، هيكلية مشحونة بالصور المفارقة. لذا فلا انسيابية ظاهرة في القصيدة، بل تنقلات مدروسة، ولا امتداد يطول بك فتنسى ما ابتدأت به القصيدة لترتحل إلى مفازة أخرى. ولا شعرية محلقة في فضاء اللغة، بل شعرية تقودك وتشدك إلى قاع الحال. وثمت ظلمة دائمة تهيمن على النص، ظلمة الروح وقلقها المشروع بالحرية والتمرد والثورة. وثمت شعور نفسي واحد يمسكك دون أن تغادر موطن النص ومضاربه.
التنويع الثالث، هو الزمنية- المكانية التي بنى الشاعر عليها نصوصه الشعرية. وللوهلة الأولى يبدو أن الشاعر لم يجد منذ عام 1967 لحظة كتابته لقصيدة " الكوميديا العراقية" وحتى اليوم وربما لزمن لم نعرف بعد مداه، أن الفاجعة مفردة مهيمنة تاريخيا، وأنها استمرار لكر بلاء العراق، لذا فهي قاموس لم ينضب. لذا فكل قصائده تعيش في مناخ الفاجعة. كانت خارجية فكتب عنها الكوميديا، ثم تحولت إلى الذات فكتب عنها عبد يئيل، ثم تتحول بفعل الحروب التافهة والانتفاضات الشريفة إلى ثورة باتجاهات غير معروفة فيدفع أبنه ضحية لها. فأي فاجعة مستمر منذ الستينات على العراق ؟ وأي قصيدة لا ترى هذا الذي يحدث وتدعي الحداثة؟
المكانية في أشعاره، مكانيتان . الأولى محلية: بار بيت، شارع، مقهى، مزبلة، حانة، غرف، سوق، دائرة، …الخ وكلها بمناخ مظلم، وفيها يتحرك شبح إنسان معذب.
الثانية، فضاء المدينة، وهو فضاء عراقي، واسع، في أماكن جزئية من تلك التي تجدها في فضاء العراق، ومن هذا الفضاء الذي لا يرى إلا بعين شاعر له لغة مجس، لا يجد فيه نافذة أو ضوء، كل العراق في قصائد الشاعر كوابيس مظلمة، وهو كذلك لمن يراه بعين شاعر يمتلك من مجسات المعرفة التي تمكنه من الغور في بنيته العميقة فلا يجد إلا.


سيكشف عبديئيل عن وجه العالم
أسود اسأم
يرفل بالحقد ويحاصر تنينا عبديئيل
…………….
إثلوار وهوميروس
مايكوفسكي
السياب ورامبو
كلهم يكتبون الآن
قصيدة
عن المطر والجوع في العراق.
…………..
في إحدى ساعات الليل وقد عسعس
وألتف على الروح الإنسان
شجر من صبار اسود يلتف على نافذتي
ودخان يتكدس في الغرفة
وذئاب تعوي
لا أعرف ماذا يجري الآن
شبح يطلع
يتسلل نحوي
لا أعرفه

4
وبعد هذه ليست إلا وقفة صغيرة مع تجربة كبيرة ربما أعاننا الوقت ثانية لرؤيتها، نقديا، ضمن شعر مجايليه، وضمن تطورات قصيدة الحداثة الثانية في الشعر. استهلالات قصائده وتعامله مع المكن يستحقان رؤية نقدية منفصلة.





جنّ الليل وجاء الصبح
قراءة في مجموعة شعرية لعدنان محسن



قليل الشاعر عدنان محسن كثير، هذا ما تولده القراءة المتأنية لقصائد ديوانه – الى آخره - فالشاعر أعتمد المزج بين تجربة ذاتية واقتناصه لمفارقات حياتية فأنتج قصائد تعتمد على الكثافة أسلوبا شعريا له ، والمنحى ذاته ليس غريبا ، فالمسلك ذاته قد كتب فيه عدد من الشعراء العراقيين ، سواء من كان منهم داخل العراق ، مثل حسين عبد اللطيف ، ورعد عبد القادر، أو من كان منهم خارج العراق ، فسميت هذه القصائد بأسماء عده : قصائد البوستر ، أو قصائد الضربة أو اللمحة ، أو قصائد الجملة . ومسعاهم جميعا يصب في تيار شعري يسعى الى تخليص اللغة الشعرية من القاموسي والنثري معا. يتلاءم هذا الهدف الفني مع هدف ايديولوجي عام، وهو ان القصيدة الحديثة اليوم تتوسل بالغنائية المشبعة بأحزان كونية ، وبذاتية متفردة في الرؤية ، وفي وعي الصورة – الكلمة ، لتصل الى المنطقة الأكثر كثافة وسرية في البناء الشعري ، اعني بها منطقة الوعي باليومي والمألوف ، والعادي، والنادر، والشاذ والثانوي، والمجرور بـ ، والمعطوف على ... وقد حملت هذه المنطقة المكتشفة حديثا كل الإسقاطات الاجتماعية والسياسية والفكرية الكبيرة منها والصغيرة تميزا لها عن المواقع التي كانت القصيدة الحديثة قد سلكتها في بداية حداثتها ، واعني بها الصراعات الاجتماعية والسياسية والطبقية والفكرية الكبيرة . وما يؤكد ذلك ، ان عدنان محسن في (( الى آخره)) يكثر من التعامل مع ضمائره الانا ((ت)) و((ني)) وهي تتراوح بين ان تكون الانا فاعلة ومركزية ، وبين ان تكون مفعولا تتقي تأثير الآخر ، ووقوع الشاعر تحت تأثير أدواته الذاتية ومجساتها ، يبعده عن النثرية اللاشعرية ويفتح المجال أمام حواسه كان تعايش الظاهرة ليخلق بلغته البسيطة أيديولوجية الانا في حال اندماجها الكلي مع أفعالها اليومية.
وعدنان محسن واحد في قصائده القصيرة – والطويلة – نسبة الى كثافة أخرى ، وحتى قصائده الطويلة يجزئها الى مقطعات صغيرة، وأحيانا يعطيها أرقاما كأسماء لها . مثل (( قصائد – اي مكان – شؤون صغيرة – سيرة ليست ناقصة تماما وغيرها . والسبب المنهجي الذي يكمن وراء طريقته الأسلوبية هذه ، هو ان الشاعر محكوم بشحنة أنية تولدها الألفاظ ، ولذلك غالبا ما تكون صورة محملة بالاحتمالات . فمخيلته إذا ما احتشدت بمثل هذه الألفاظ يرسلها متتابعة دونما رابط سببي فتبدو عند القراءة وكأنها صور متقطعة ، جمعها معا بيت القصيدة فبدت وكأنها خيول شعرية منفردة، وقد تكون هذه الطريقة واحدة من أساليب قصيدة النثر التي اعتمدت على كسر التسلسل والمطابقة والمشابهة والمنطقية، وزاحمت داخل بيتها الشعري بما هو منفر، وشاذ ولا منطقي . الا ان لهذه الطريقة معايبها ، وعدنان لم يتخلص منها ، فقد احتوت بعض قصائده – قصائد اخرى – على شحنة تقريرية ، وبرغم الكثافة اللغوية ، نجد صراعا خفيا بين ما هو ذهني وما هو حسي . فالذهني يقود الى التعميم ، بينما يشدنا الحسي الى الكثافة والخاص. وعدنان محسن لم يزل يتعامل مع الاثنين في آن واحد . مثل قصيدة مقتبل العمر - انتظارات . والذهنية واحدة من متعلقات العمود الشعري أو من بقايا التأمل في الأشياء ، فجاءت بعض مقطعاته حاملة الحكمة ، والمقولة الدالة ، والصورة الاستنساخ . وقد تحمل قصائد البوستر أو قصائد الجملة شعرية المثل والحكمة والكناية.
2

يستهل الشاعر قصائده كلها تقريبا ، بلفظ دال ومشحون ، وقوي ويبقى هذا اللفظ ينث بشعريته داخل القصيدة ، ويتردد كصدى أقوى أحيانا من الصورة نفسها ، لاحظ الألفاظ ( أريد) – قصيدة الكلام ، (برد) قصيدة برد ، ( الان ) – قصيدة الآن ، ( لك) قصيدة اصحاح الخوف . ( أعود) قصيدة عودة ( دلتني) قصيدة تفاصيل أخرى ... وفي قصائد أخرى كذلك ، ويمنحنا اللفظ المحمل بالشعرية تركيزا على صورة مركزية واحدة يضعها الشاعر في استهلاك القصيدة ثم يوزع شعريتها على مفاصلها فتبدو وكأنها تلازم كل تشعب تولده ، ليس بلفظها فقط وإنما بدلالتها وشحنتها ، وفي عمق هذا التعامل يكمن مفهوم التكرار لزمنية مضمرة تعيد تركيب الحال الواحد بصور مختلفة وبتداخله . وكأن القصيدة عنده لم تبدأ الآن ، أو في مرحلة قريبة ، وإنما بدأت في لحظة زمنية مجهولة وبقيت تتردد كالصدى، مضمنة شعريتها كلها بلفظ واحد دال . ويسند ما ذهبنا إليه ان معظم استهلالات قصائده لفظ مفرد ، وغالبا ما تكون حرفا . يربط به وبشيء من الغموض غير المكتوب ما قبل القصيدة ، بالمكتوب فيها ، فتصبح القصيدة المقروءة ، حلقة وصل وغالبا ما تكون حلقات الوصل قصيرة ، ومكثفة وسرية وغامضة .
وغموض الاستهلالات – لأنها في الغالب لفظ مفرد وليسن جملا – يقود القصيدة الى اعتماد المفارقات لتي تقع ما بين بداية الحال ونهايتها .لذلك نجده يذهب بقصائدة الى الأطراف القصوى ، أو النهايات ، قصيدة ( برد) مثلا ، عندما جعل من لفظ (برد ) مجسا لكل الأشياء وحالا كائنة فيها . والشعرية لا تكمن في صورة واحدة من صور القصيدة ، وإنما في هذا الكل المترابط بين الأشياء المفتقدة الى رابط مظهري. هل تميل القصيدة الحديثة الى تجميع مفترقات زمانية ومكانية ومتغايرة الخواص ، ثم تشدها جميعا في خيط لغوي واحد ؟ عدنان محسن يفعل ذلك ، لاحظ ((الان)) عندما جعلها رابطا بين صور متفرقة . و((قد)) في اصحاح الخوف ، و((حين)) و((في)) و((وحدة)) في قصائد اخرى ... لان الشاعر لم ينتق صورة من كم المواقع الوسطى التي تزدحم فيها الأشياء، وإنما من المواقع القصية التي لم نتعرف على بدايتها أو نهاياتها ، المواقع الحسم التي تبدو الأشياء فيها واقعة تحت تأثير حمى الرؤية الذاكرة معا ، فنقرأ أحيانا صورا نهائية ، أو منقطعة عن سياقاتها الاجتماعية .

- كل شيء يدل علي.
- هذا الذي لا تراه.
- ما اوحش هذه الان.
- ادخن وحدي.
- انت الذي لاتبحث عن شيء.
- انظر في المرآة اراني.
- ان اجعل منك سواك.
- من دل الايام علي.

فالصورة التي تولدها هذه المقاطع يتداخل فيها الانا المعلقة بالانا المضمرة( انظر في المرآة اراني ). وكأن الخطاب الموجه للذات من قبل الانا المعلنة خطاب يفصل بين واقعتين ، واقعة نعايشها الانا المعلنة ، وهي غالبا ما تكون من اليومي والمألوف ، وواقعة تعايشها الانا المضمرة ، وغالبا ما تكون مراقبة لما يحدث . في حين تجده عندما يوجه خطابه الى ذات اخرى – محمد سعيد الصكار- جان دمو" نجد أنا المضمرة تختفي " وليس ثمة مراقبة. ويستحضر اناه المعلنة لتتوحد مع الآخر فيتحول الآخر إلى حلم أو حقيقية أو واقعة قارة إذ ليس من فواصل مميزة بين الحقيقة والخيال عنده.
لو كان رجلا،
ما كنت رضيت المجيء إليهن
...
يا شيخ هواي
ليتني كنتُ سواي
فالمسافة بين المجيء إليه، و، هواي، وسواي، منعدمة أو تكاد تكون متداخلة وواحدة.فالشاعر لا يرى في الآخر الذي يرتفع إلى درجة الشعر عنده إلا ذاته.
في تعامل عدنان محسن مع الصورة الشعرية، يسلك ثلاث طرق فنية.
الأولى: في تحويل العياني المرئي والمعاش إلى بنية ذهنية.
إن النخيل شبيهي
والنهر آخر القادمين
وآني انتظرت فوات الاوان.
وسبب التعامل هذا يكمن في أن الشاعر يعتمد اللمحة الخاطفة وابرق تحت الذهن في الكشف عما هو سري"ٌ وخفيٌ يتكرر باستمرار كخاطرة، أو مقولة، أو أمثولة. ولذلك قلتْ في قصائده الاعتباطية تلك الحال المنفلتة من الرقابة فلا عفوية. كل قصائده خارجة من مختبر الذات المجربة والمراقبة لتتحول إلى فكرة, يمكن أن تعايش وأن يعاد إنتاجها.وغالبا ما تكون مثل هذه الصور محلقة في فضاء اللغة العادية المشبعة بسحر الخاطرة لغة لا ترسو إلا متى ما كان ثمة مرسلا شعري يستشعره الشاعر، وهذه أرضية فيها من الجماعية الكثير، رغم أنها لا تطابق حالات معلنة.
الآن،
عندما يقيم المساء حفلة للغياب
ويمضي الآخرون،
خطواتهم موشومة بأنتظارات فسيحة،
سأعود إلى نفسي
مشياً على الأقدام
أنصب فخاً لأحلامي.

ليست في هذه الصورة ، سوى أن الشاعر ينهض الغياب ، غياب الأصدقاء أو مغادرتهم ... ولطالما حملت الموائد أثار حديثهم ، وامتلأ الفراغ بأصواتهم وطبع غبار النوادي بصماتهم .. والشعر في هذه الحال يتوالد كما لو كان شجراً ، اعني انه لا بد وان ينمو في مناخ كهذا .
الطريقة الثانية، ان الصورة تبدأ بتجميع جزيئات متفرقة ، وعلى مدى زمني طويل ، هناك ثمة مختبر يومي ولكنه يؤجل النتائج تعتمل فيه أجزاء لصورة شعرية لم تكتمل بعد ، وقد يؤجل ظهورها ، وعندما تكتمل ، وتنضج تكون قد أعلنت لغتها ، هكذا تنمو المشهدية ، فتصبح مركبة من فعل المعايشة وفعل التأمل ، فصوره ليست مفرطة الغرابة ، كما هي ليست استثنائية ، وإنما هي وليدة الحياة اليومية القائمة على المفارقة وشيء من الفنطازيا المعتملة .
لن يصفو طبعي الليلة
فالقصيدة التي لم تفرغ بعد
من تقليم اظافرها
لابد لها ان تستحم بكافور الكلام.

الطريقة الثالثة ، في بناء صوره الشعرية تعتمد على الساخر والمرآة ، فالشاعر يكثر منهما في ديوانه ، إذ لا تخلو قصيدة من الساخر ، كما كان للمرآة حضور فاعل ومؤثر .
قد يفسر حضور الساخر، هو ما امتلأت به حياتنا وارتديناه لغة وممارسة ومشاهد عيانية ، وهو فعل شعري قديم وحديث ، وقلة من الشعراء اقتربوا منه ، في الوقت الذي استوعبه الشعر الشعبي وشعر المناسبات ، أما الحداثة الشعرية فقلما نزعت عنها ثياب الإمبراطور ، واحتذت لغة الناس وأفعالهم ، وصيرت ما هو مألوف وساخر الى شعر ...عدنان محسن يخلع عن قصيدته أردية الماضي ، ويغمرها في وهج الحاضر المليء بالمتناقض والساخر ، فكان ان حملت هموما معاشة ، ولغة مركبة دالة ، وقد كان حظ ((الاخر)) من السخرية الشيء الكثير . هل تعلق عدنان منابت السخرية من تصرفات وسلوك الآخرين ؟ قد يفعل ذلك .

رغم انهم...
لا طعم لهم ولا رائحة
لكنهم لا يشبهون الماء

3
وشعرية عدنان محسن إذ تستخدم السخرية ، كمبدأ أساسي في بنيتها تجعل منها حالا وسطا بين متناهيات وليس مقتربات . وقد تلتبس بالمفارقة . لكنها تتضح عندما تصبح منهجا للتصرف وللتشخيص في بلدي .

يختلط الحامض بالحلو
في وجهين
الحامض
و
الحلو.

أما تعامله مع المرآة ، فيعد تعاملا خاصا ، فهو لم يجعل منها أداة عاكسة لما يحدث أمامها ، ولم يجعلها شاهدة على الطريق تسجل يومياته ، وإنما جعل منها حاجزا تتداخل ، الانا المعلنة والانا المضمرة في تكوين سري يكشف بواسطته سكونية اللحظات الخاصة .

ان تنسى وجهك في المرآة
فيخرج حلمك من طوق الزهرة
...
انشر نفسك فوق المرآة
واكشف عنك مراسيم الهم
جئت لتخفي المرآة ووجهك


والصورة في المرآة .. خلق لواقع اخر، قد لا يكون استقبالها البارد لما يحدث هو الأداة الفاعلة في تكوين الصورة ، وإنما ما تعكسه من الصورة المنعكسة عليها هو ميدانها الشعري ، فتصبح المرآة مفكرة ليس من خلالها وإنما من خلال تكوينها نفسه.

فاذا جن الليل وجاء الصبح
انظر في المرآة اراني.
لا اشبه من صرت.

لم تقف مولدات الصورة عند الطرق الثلاثة : الأولى في بناء المشهد العياني – الذهني والثانية في تجميع الجزئيان في وحدة كلية ، والثالثة في اعتماد السخرية والمرآة ...وإنما هناك مفردات استعملت كأساليب لبناء بعض الصور مثل الضوء والظل الذي يكثر الشاعر منهما لاعتماده على جدلهما العياني وهما يعايشان المكان مكانا مدى لقياس التفاعلات البصرية . وهناك ألفاظ اخرى اقل شأنا ، مثل الأردية ، والطفولة والطبع . الا ان مفردة الأحلام التي تحولت الى فكرة استرجاعية ليعيد بها تكوين ما اندثر وما غبر ، جعلت بعض صورة جديدة وطرية . هناك أيضا مفردات لها خصوصية في شعره مثل : اي مكان – الجهات – الحكمة –الليل – الرأس ... وعندما نجمع دلالات هذه المفردات – الصور في سياق شعري نجد ان قاموس عدنان محسن ما يزال يطور الكلمات التي لها علاقة جذرية مع التراث ، ومع التجربة اليومية – العيانية ، وقاموس هذه مفرداته المعلنة ما يزال محدودا ومقننا وجديدا.

4

وبعد...
فما بين شعراء بغداد في الداخل ، وشعراء العالم في باريس ولندن ومدن الحلم الأخرى من مسافة منعدم . هناك بدأت خطوات الحداثة الشعرية الثالثة ، تشق طريقها في مجالات الخلاص من وهم الايديولوجي المباشر والتقنيين اللا منهجي والقسر. فأستطاع قلة من الشعراء الجدد ان يحولوا مألوف الحياة الى صور كبرى ، وابتعدوا عن السياسي والإعلامي الى الحد الذي رفضوا به ان يكونوا مكروفونا ، وكان قليل هؤلاء الشعراء كثير أيضا.
كما سعى الشعر العراقي في الخارج ، هو الاخر الى ان يعمق منهاج الحداثة الثالثة فاتسع الصوت الشعري لهم وبدأ يمنح من جديد القصيدة الحديثة - قصيدة النثر- التي ابتدأت في لبنان وماتزال تنمو، كما وجد في موروثه الشعبي المستحضر خروجا بالقصيدة الحديثة الى مواقع أكثر غموضا فناضلوا من اجل تخليص قصيدتهم أيضا من وهج الايديولوجي والتقليد فنجح بعضهم – وعدنان منهم – في فتح نوافذ خاصة في العتمة الأوروبية . لقد خطى بفهم لان يكون لهم طعم ورائحة ولون وهوية. فمعايشة الشعر العالمي الجديد لا تنتج شعرا ، في حين ان معايشة المآسي الصغيرة منها والكبيرة ، ومعرفة ألوان السماء المتعددة ، والولوج الى وهج الذاكرة المحملة بعذابات الغربة والوطن ، والبحث في خطوات عجلى في ليل لا هوية له .. كل هذه المواقع ، تولد شعرا .. فاذا كان شعراء الداخل الجدد يحتاجون مئات التمارين اليومية كي يخلصوا قصيدتهم من تراكمات أعلام الحرب ، فان على شعراء الخارج تقع مهمات أصعب في سعيهم لان يجدوا صوتهم وسط المتعلق الغربي الذي يلازم حركاتهم لظل ناطق، وإلا إذا ما احتذى الاثنان التقليد ما أسهل ما تكون الكتابة ... والشعر ليس نوعا من الكتابة على الاطلاق.





















ممالك ضائعة

ما للندامى، مضوا كالغيم
وابتعدوا..


شاعرٌ يغسلُهُ الحلمُ،
يغنّي: انحني للعشبِ،
لا للطاغيةْ..





















قراءة تجربة شعرية متفتحة على الجديدة لوحدها تغني المفردة النقدية التي نحافظ عليها في ديار الغربة من الضياع، بعد إن قل ما نقرأه من شعر هنا. شخصيا كونت مفردات نقدية من قراءتي لتجارب الثقافة العراقية والعربية، قبل أن أكونها من قراءاتي المترجمات من كتب النقد.. الآن نحن في جفاف نقدي، والماركسية لا تقرأها في أوربا ولا يوجد واقع مزر يعلمك المقارنة،بين الأدب والواقع. لذا نعول على التجارب الشعرية الجديدة، خاصة ما تفتحه قصيدة النثر ـ وهو ما يشكل حركة ثالثة في الحداثة الشعرية- من آفاق بنيوية وشكلية حرة. في أن ترى في ضوئها الشعر العربي وهو ينتقل بوضوح نحو حداثة أكثر رسوخا. كما كانت حركات تحوله في الستينات والسبعينات من هذا القرن واضحة وكبيرة . هل جف ماء الشعر العربي بعد أن جفت حياة الثوريين النضالية؟ وهل نضب معين التجارب الشخصية، بعد أن جرى احتواء الشعراء من قبل كل الأنظمة والتيارات؟ وهل بقي الشعراء يكتبون ما يقع عليه بصرهم في أرض جوار.؟ وهل أننا لا نتطور شعريا إلا متى ما كانت هناك رياح من الشعر الغربي تهب علينا منداة بمياه الأطلسي؟. أسئلة كثيرة تراها ولا تقف عندها، نجترحها من التجارب الناقصة للشعراء، ولا نبني بيتنا في مضاربها. من الممكن أن تقرأ جزء التجربة الشعرية العربية كلها في تجربة ديوان واحد. هذه مفارقة قالها أحد الشعراء الإنكليز في حديث مقهى مع الزميل الشاعر كريم كاصد. ومن الممكن أن تقرأ تجربة مرحلة شعرية في ديوان واحد. كما حاصل فيما بشعراء العقود. الكل ملخصون في تجربة واحدة، والجمع منضو تحت عباءة المفرد. هذه محنة من يرى أن القصيدة واحدة وإن اختلفت عنواناتها، وأن التجربة واحدة وإن اختلفت بلدانها، وأن الشعراء فتحوا نافذة واحدة على الطريق فمرت امرأة واحدة في الطريق. فإذا به يعريها، فيكتب الإيروتيك الناقص عن علاقة كاذبة. بينما يلبسها الآخر عباءة وحجابا فيرى فيها وجه فاطمة أو ليلى، والثالث يدخلها الجامعة أو الوظيفة، ومن هناك يطل عليها فإذا بها تخيط بذلات لأطفال وهميين. وعندما لا يستوي الواقع العربي مع التجارب المرة، ينكفئ الشعراء إلى النقد والترجمة وكتابة الرواية والاحتذاء بأثواب القديم.
ما أردت قوله في هذه المقدمة يشبه أي استهلال لقارئ يعيش في المتشابه، ولكني عندما أتصفح ديوانا لشريحة من جيل ستيني نضج في السبعينات وكتب قصائد متميزة، وما يزال مسؤولا عن تجربته، تشعر انك ما زلت في واحة الشعر الحقيقية. ومن بينهم الشعراء: عبد الكريم كاصد، وياسين طه حافظ، وفوزي كريم، وموفق محمد، وعلي جعفر العلاق، وسركون بولص، وهاشم شفيق، وهاتف الجنابي، وصلاح فايق وغيرهم كثير من أسماء ترسم للشعر العراقي خارطة أخرى هي غير الخارطة التي رسمها النقد للحداثة في الشعر الربي. وفي الثمانينات تعمق الإحساس بالشعر من خلال تجاور المفردة المأساوية مع المفردة الأسطورية، وكان الزمن في دوران متحرك يعيد صياغة نفسه من خلال المتكرر، إلا إن هذه الحركة كانت تدور في نطاق المفارقات وهي أن تكون الحروب غير مؤهلة لصياغة تجربة عندما تجير لغير الوطن. فأصبحت الحاجة إلى الشعر البعيد عن تجارب ناقصة ضرورة ثقافية .
2
الآن يعيد الشعراء حساباتهم ثانية، بعد أن وجدوا أنفسهم في محيط التكرار المفترق، فبدءوا العودة لموضوعات لم تستنفذ طاقتها التعبيرية بعد، منها المزاوجة بين الحب والقلق، بين التأمل الخيالي والتجربة الواقعية، بين التعامل اللغوي للمفردة المشحونة بالشعرية وبين الجملة الشعرية النثرية. بين أن تعيد صياغة الماضي دون أن يقود تجربتك، وبين أن تعيد تشكيل الماضي وفق جدل الحاضر . وهي من الموضوعات القادرة كلما أبدل الشعراء مواقع رؤيتهم لها أن تمنحهم جديدها. بمثل هذه البنى الجديدة تنفتح القصيدة على عالم من التخيل المنفلت من العقلية. فأصبحت المفردة سيدة الجملة، وتحولت الصورة إلى جزئيات في مرآة الواقع، فبشظى التكوين الواقعي القديم لتتداخل فيه تكوينات حياتية جديدة. كل ذلك والشاعر يسحب خلفة أرثا من صور لحروب مدمرة للغة وللواقع. ومع نحيب أجيال، وانين قوافل لا تكتفي بزيارة العتبات المقدسة كي تفرج عن نفسها، بل أصبحت مرغمة على أن تغير أوطانها حاملة أنينها المستمر.

3
في ديوان " ممالك ضائعة" للشاعر علي جعفر العلاق، نجد هذا وغيره. ثمت عودة للموضوعات القديمة:- الوطن، بابل، الأصدقاء، المواقف، الأحلام المجهضة، الرغبات الضائعة، والفكر المحاصر ..الخ. تلك التي أشرنا لقدرتها على التجديد، وهي الموضوعات نفسها التي لجا إليها قبل فترة الشعراء الذين أشرنا لهم. فكتبوا بما يشبه النقلة نحو حداثة ثالثة للقصيدة، بعد أن وجدوا الشعر مهمة أكبر من كونه توظيفا لقضية أو إيديولوجية أحادية. فالشاعر علي جعفر العلاق، يتخذ من الوطن- بابل، قضية أكبر من كونه العراق المستباح ببنادق حراسه الملثمين بالتاريخ البعيد. قضية هي عماد البحث عن صيرورة قارة في الأرض العراقية. فديوانه يحمل عنوانا دالا على ما نقول" ممالك ضائعة" حيث يغنيها بأنين فاجع بوطن ، أناشيده أنهكها الدمع، وثمت غراب يطارد أحلام الأمة التي تتغنى دائما بأغلالها!!
لوحوا لوفود الظلام
وأفسحوا الدرب للغجر النائحين،
أنغطي هزائمنا بغبار
الكلام؟
أنغطي كوابيسنا
بالأنين؟
فالتجربة لا تبدو هنا أنها ذاتية، أو من تلك التي نعيشها جمعا كالصلاة. بل هي مؤسسة قمع قائمة على تاريخ من العنف السري، وثمت أحلام فكرية عن الأمة كانت مدججة بأسلحة الماضي والتراث تقود الجميع إلى أرض سواد. لكن الغربان دائما تسد منافذ الشمس فتغير مسار الركب إلى الظلام.
دفعنا إلى الريح أطفالنا
وتمائمنا
كم تبعنا نجوما من الطين داميةً
كم رأينا المدى ينحني مثقلاً بانكسار أته:
أفراتان من فضةٍ وعويلْ،
أم هتافُ الطيورِ الشريدة يمتدُّّ
مشتعلاً بين جيل ٍ
وجيلْ؟
ليست الشواهد دليلا دائما على تجربة، فقد لا نستشهد بمقطع أو أكثر للتدليل، يكفينا قراءة التجارب الشعرية للشعراء العراقيين المهاجرين، للقول أن حجم المأساة تكمن في الصياغات الشعرية الجديدة تلك التي نبهّ لها السياب وعنقها البياتي وعاشها سعدي وقرأها البريكان قراءة تراثية وصمت، فهي لغة العراقيين الجديدة التي تنبت مع أغصانها حسك الحاضر، فتدمي العين والذاكرة.

أي غراب يطاردُ
أحلامنا؟
أيّ أمةْ
تتغنى بأغلالها المد لهمة؟
4
يمتاز الشاعر على جعفر العلاق بصفاء المفردة واقتصاد الصورة، فليس في شعره زوائد او تراكمات من القول، وليس في أفكاره ما يحلق دون أسباب ممتدة إلى واقع، وليست لغته من تلك التي تشبعت بموروث وتركت الحاضر، بل كل شعريته تنحصر في الصورة الحياتية اليومية ولكنها المبنية على سياق جدلي،
منذ البارحة وأنا أبحث في روحي عن أطلال ليلي

البارحة والليل، مفردتان زمنيتان مفترقتان بالمعنى وفي الوقت نفسه تشكلان وحدة لحال تتشكل في الصورة الآتية
ليس إلا حجر الذكرى،
وإلا كمأة الفجر،
وريح جارحهْ..


الحجر والكمأة والريح: ثلاث مفردات، متغير المادة: صخر ونبات وغاز/ ثابت ومتحرك ومتنقل/ جوفي وارضي وسمائي- أرضي/. ثمت رغبة للتناقض الداخلي في بنية الصورة/ مادتها المفارقة. و ثمت تعايش مع النقائض ضمن صور واحدة، مما يعني أن يخلق مناخا جدليا لكل النقائض.. فالحجر ذلك الإرث الذي يشكل علامة للتراث. والكمأة تلك التي تولد من البرق السماوي دون بذرة معلنة، والريح ليست إلى مكنسة للتواريخ القديمة. كل هذه المفردات – الصور أطلال ليل جاءت القصيدة بتعمل شعري وببناء غير ذهني فيها من طاقة المخيلة ما يجعل إنسيابها على سطح القراءة سهلا مقبولاً. لعل لغة العلاق الشعرية منذ تجارب له قديمة ليس فيها نتوءات صلبة تمنع من الجري السريع في مياه اللغة. وهذا ما جعله شاعرا غنائيا ورومانسيا حتى في اشد المآسي حياة.

5
من يستقرئ قصائد الديوان هذا يجد أن الشعر لدى العلاق جمع مفترق للأزمنة. فهو أبن للحاضر ، مشكلاته، لغته، يومياته، وفي الوقت نفسه يسند حاذا الحاضر بمرتكزات الماضي، خاصة في مفردة الأمة وما يلحقها، ثم يوشي الصورتان معا في لغتة مفردة تنز عن ذات تعاملت مع أحداث وفيها من خصوصية الفرد ما يوجع القلب. بمثل هذه البنية المركبة تسير صور كل قصائده تقريباً.
هل المكان أمهٌ
من الحصى؟ هل الزمان نجمةٌ
مهترئة؟
يا نجمة الأنين:
كل عشبة شظيّةٌ
من قمر الجوع، وكل امرأةٍ
مكسورةٍ
مثل سماءِ
الضريحْ.
وعندما تفحص مفردات هذا المقطع تجدها مستلة من ثلاثة أزمنة وثلاث حالات. فيها من الماضي الكثير: المكان والأمة والحصى والزمان والنجمة والسماء. وفيها من الحاضر الكثير أيضاً: الاهتراء، الشظايا، الجوع، المكسورة، الضريح. وفيها من الأنا الكثير: السؤال هل؟ والكل في عشبة، وفي امرأة، والعلاقة بين مكان حصى ونجمة مهترئة، وبين عشبة والضريح. ثم هذه اللغة المنطوقة التي نقرأ بها القصيدة فتحيل على مقترب وليس على البعيد. وفي الديوان الكثير من تلك الصور التي تجمع بين المفترقات. لعل القصيدة عند العلاق سياق حال متداخلة فيها من بنية العقل والتعمل الذهني أحيانا بما يفيد اتكائها على مفردات قارة قديمة. هل هو الإنتماء لتاريخ أمة كبيرة وعظيمة يجعل الحداثة الشعرية لا تفارق مفرداتها حتى لو حصدنا من ذلك التراث والتاريخ اشد قسوة في زمن الطغاة؟ بالفعل أن من يتعايش مع تاريخه القديم وينتمي إليه يجد المفارقات تقوم من وعي ناقص لذلك التراث وعندئذ تحدث المفارقة الشعرية في أن تكون حديثا وفي الوقت نفسه تريد لقصيدتك أن تنطلق خارج مكبلاتها القديمة!!
















برادة الحديد

1

ست تجارب شعرية مجتمعة في ديوان واحد هي محصلة رحلة للشاعر كريم ناصر تمتد بين العراق وكردستان ولبنان وسوريا وهولندا، وتحمل تجارب تمتد بين عشر سنوات، وفيه يلتمس القارئ تعاملا حذرا مع المفردة والصورة، الأمر الذي يفرد لهذا الديوان في تجربة الشاعر موقعا ينقله من قائل القصيدة والقصيدتين إلى قائل تجارب، فقد تكلم فيه عن الوطن والمجتمع، عن الذات والجماعة ، عن الغربة والهجرة وعن البحث عن مأوى، عن ذلك الهاجس الذي يغذي البحث عن الشعرية في العادي، وعن الهاجس الذي يجعل من الشعر صياغة لموقف غير محسوم. تجربة يخاطب القارئ بما يوحي أن الشعر لم يفقد صوته الإنساني – الغنائي بعد.
ميزة قصائد هذا الديوان أن التجربة الشعرية فيه توزعت على عنوانات فرعية عدة لتركب مشهداً كبيرا مؤثرا ومتكاملاً. ولأن تجارب الشعراء العراقيين في المنفى لم تسعفها الظروف، لأن تقف على أرضية واحدة، ولا أن تتعامل مع مناخ شعري متشابه، فقد حمل الديوان تأثير رحلة طويلة يلتمس القارئ فيها، أبعاد ومناخ الشعر العربي الحديث والقديم، وتأثيرات لشعراء آخرين. الأمر الذي دفع بالشاعر لأن يعطي لديوانه اسم " برادة الحديد" وهو استعارة للعذاب الذي تمر به التجربة الشعرية في رحلتها الداخلية قبل أن تتحول إلى قصائد وصور وأقوال.

2

الشعراء الذين يهتمون بتفاصيل المفردة لغويا، يغلقون أما م ذاكرتهم وألسنتهم إمكانية لشعرية الكلام، والشعر كلام، قبل أن يكون الشعر لغة. نقول كلام، لأن الشعر يتصل بتلك النغمة الشعبية الدفينة المشتركة التي تؤلف الصور بين الناس مهما اختلفت ثقافتهم وقدرتهم على القول. وأدب الجاحظ شاهد على شعرية الكلام، ودقة اللغة. دون أن يكون الجاحظ شاعراً.
تجربة الشاعر كريم ناصر الشعرية فيها شيء من الانتقال من المفردة الشعبية التي انغمر فيها فترة من الزمن، إلى المفردة الفصحى المحملة بذهنية.والتي تبدو هنا وقد حملت فكرة شاعر لا يرى التجربة الشعرية إلا تعاملا لغويا. وعندي أن – الشاعر وهو الذي ابتدأ كتابة القصائد الشعبية –العامية - وحتى الأغاني- يمكنه أن يوظف حس العامة في إطار الصورة الحديثة، بل وهو ما نحتاجه في مسيرة القصيدة، خاصة تلك التي يبدو أن موضوعها أكبر من مفرداتها، لخاصية الممارسة لها وصدق النوايا وتحديد مساحة الفعل. والطريقة الذهنية في القصيدة الحديثة، هي بقايا التعامل الخارجي مع المفردة الشعرية، ذلك التعامل الذي فرضته طبيعة العلاقة بين الوزن والكلمة والإيقاع والعلاقة في ما بين الكلمات من ربط وسبب و ضبط وتدقيق واختيار المفردة. الأمر الذي يدل على بنية عقلية صارمة تمارس ثقلها على المفردة الشعرية، وتجعل الصورة الشعرية تابعة لها وليس حاملة لها. وهو ما لا يتلاءم والتجربة الحسية للشاعر. وقد لا يكون البعض من الشعراء، موفقا عندما لا يحول تجربته المريرة، وخاصة السياسية، إلى كلام شعري متداول. كل الشعراء العقليين يميلون إلى تفسير تجاربهم، وليس إلى تجسيدها صوراً. الشاعر كريم ناصر في ديوانيه، اللذين هما تجربة مستمرة، لم يغرق في الذهنية والعقلية كثيرا، كما أنه لم ينج منهما، فهو لم يأخذ مسألة بناء الصورة بجدية تتناسب وتجربة حياة رافضة ومعاندة وشخصية.
3

وابتداء من العنوانات لقصائده نتلمس هيمنة هذه الذهنية على تجاربه الشعرية: نقرأ من العنوانات: أطلق قمرك لأتنفس، الروائح العطنة، حمرة أكثر اتساعا، دانيلا أنا محط أنظار الصقّارين، زنار الموت، الخشبة والهواجس حولها، الزعيق الأحمر، برادة الحديد، الرعود تبعثر المنظر …الخ.
في إطار هيمنة مثل هذه اللغة على القصائد، يتضح مدى التعمل في اختيار المدخل الاستهلالي للقصائد. فالشاعر يريد أن يختفي وراء شيء غامض، مبهم، وسري، هو العنوان،أو أنه يريد أن يجعل من العنوان أرجحة على ما تقوله القصيدة، في حين أن القصيدة تختار عنوانها لاحقا، بل ويمكن أن تكون بلا عنوان، فالشعر وليد تجربة لا يحدها عنوان ولا تستوعبها كلمات. ومن هنا نجده يميل إلى حشد من الكلمات ليست على علاقة مباشرة مع العنوان. شيء ما قليل ربما ورد في النص كمفردة يشير إلى عنوان النص. والصورة التي توحي بأن ما وراء الغموض وضوحا تحتاج إلى لغة فيها بعض مباشرة . وهذه الطريقة، لجأت إليها قصيدة النثر في أول عهدها، قصائد الماغوط، مثلا، ثم قصص زكريا تامر، القصيرة، إلا أن الماغوط وتامر، حاولا أن يقولا قولا مفهوما ومباشرا، في موضوعات، تاريخية، سياسية عند الماغوط، وشعبية يومية عند زكريا. في حين أنها في القصائد الملتزمة بالوزن والإيقاع، عند كريم ناصر، بقيت أقل من الملامسة الحقيقة لتجربة القصيدة. لنقرأ هذه القصيدة التي تعتمد على المفارقة بين عنوانها ومحتواها .
الرعود تبعثر المطر
نذر
أه..
متى تسبقني أيها الأزرق إلى النهر الحميم؟
في الليل أُسّرجُ النجمَ
وأتأمّل المنفى،
فكأنما أرصفُ الشموعَ
على
سطح
الماء.
تستحضر القصيدة أمثولة شعبية، هي إرسال الشموع من قبل المقيمين في المكان على سطح الماء بانتظار الغائب، المسافر، المهاجر، المنفي..الخ ، وهذا عمق شعبي. بدأته القصيدة بـ "نذر". لكن الشاعر عندما يجعل هذه الصورة متعلقة بـ" كأنما"، يفصلها بحال ذهنية وعقلية غير منسجمة وسياق الاستهلال والنهاية، عندما يوجه خطابه إلى مبهم : الأزرق، والنهر الحميم. ثم لا نجد ثمة رابط سببي وشعري بين محتوى النص المتناقض، وبين العنوان.


4

الشاعر أبن ريف ومدينة معا، أبن لتلك النغمة الرومانسية التي تولد الشعر من خلال المعايشة، وأبن لمدينة متنقلة لا تستقر صورها على راحة يد وعمل. لذا فقد هيمنت على تجربته مفردات الطبيعة الريفية من قبيل: ليل وقمر وماء ونهر وسراب وجبل وكهف ، المسافر ، النهار،الفضاء وإلى جوارها: الصقيع والسلالم والمدن المضروبة والأجراس والأسلحة والإعصار وغيرها كثير. وهي أسلوبية المباشرة العينية مع المحيط، . مما يعني أن تجربة الشاعر غير مستقرة على بيئة او مناخ، وأن التنقل سمة تلازم التجارب الشعرية، وإذا لم يدرك الشعراء العراقيين مثل هذه المخاطر على لغتهم وصورهم سوف يبقون في إطار التجربة الناقصة، وفي مناخ المفردة غير المستقرة، وفي أسلوبية البوح والتذكر والأمنيات المحبطة. وهذا ما سوف يطبع تجارب الشعراء العراقيين في المنافي لا حقا. و.. قد يؤسس أرضية شعرية جديدة، كما أسس شعراء المهجر. إلا تعامل الشاعر في هذا الديوان لم يستقر بعد على توجه مقصود، وهو مالا نريده، بل جاء عفوا، وتحصيل حاصل معايشة متنقلة، بني تجربته فيها على هيمنة ومركزية –الأنا- ليجعلها محورا وقطب رحى تدور عليها القصائد.

5
في إطار البنية العقلية للقصيدة، يميل الشاعر إلى التعامل مع ثلاث مفردات أسلوبية هي: الاستهلال المفرد، حرفا أو فعلاً أو اسما. والنهاية السؤال أو التساؤل، والمفارقة بالصورة داخل القصيدة. وهذه المفردات، هي ما يشكل وحدة أسلوبية تشمل معظم قصائد الديوان.
فاستهلاله لا يتعدى المفردة الأولى إلى بنية الجملة، بل يبقى محدودا بما تعطيه المفردة الابتداء. لأنه يحملّها بقية المفردات التي تشكل معه الجملة: نقرأ:
تلوح لنا الأفاعي في الممرات.
فقد حددت مفردة" تلوح" بقية الجملة. فلا قيمة للبقية بعد.
أو نقرا: استرح إلى طعنة تلتذُ بها الحواس.
فمفردة" أسترح" تكفي للتعبير عن البقية. وهكذا نجد مثل هذا في الكثير من القصائد. فالاستهلال في الشعر، مفردة أو جملة، لا يفسر بعضه بعضا، ولا يصبح جملة مكتفية بذاتها، بل جملة ناقصة، مبهمة، حاملة لنوى النص كلها." ما من شيء يحدث في النص، إلا وله نواة في الاستهلال". والاستهلال المكتفي بذاته قد يكون جملة شعرية، معزولة، وهو ما يسمى بقصائد الجملة.في حين يكون التساؤل باعثا عن الحاجة إلى تركيبة أخرى تصنع له أجوبة، ويبدو أن السؤال المضمر هو الطريقة التي يعبر بها عن الخيبة التي تشمل معظم تجارب الشعراء العراقيين في المنفى: من، متى،أين، لمَ، ماذا، كيفَ؟ وعندما لا يكون ثمة نتائج،- والشعر لا يبحث عن نتائج، بل عن مشاركة،- يكون متن القصيدة مراوحة بين استهلال مفرد، ونهاية شاكة بما حصل.


















صوت كلمات المارة


- 1 –

لم يكن الشعر عند صاداق الصائغ حرفة لذاتها ، لذلك كانت ممارسته جزءً من بناء شعري يشترك في تشييده : الرسم والخط ، والتصميم والنقد الفني . وأحياناً المقالة القصيرة . فلذا كان حاصل تجربه جزئيه منه ديوان شعر ، فأنت تقرأ فيه الفنون الأخرى ولنا في الفنان والشاعر محمد سعيد الصكار مثال ، وقد يكون الأمر أشمل عندما نرى الفنون اليوم وقد ضاقت فروق الأنواع فيها ، وعد ما هو خاص تخلطه الشعرية بما هو عام . فكيف بشاعر ابتدأ في فترة الحداثة الثانية يكتب القصيدة ، ولم تستو سلالمه إلا في السبعينات عندما قرر ان الطريق إلى الشعر يمر عبر تداخل الفنون البصرية بالقوليه وكانت حصيلة تجربة تلك ان أصبح احد الأصوات الخارجة على منطق شعر الحداثة الثانية ،تنتمي الرافضين والمتمردين والذين يرون في اللامنطق الحياتي منطقاً فنياً يمكن محاورته والاستشهاد به . وعندما غادر العراق في أواخر السبعينات . كان يعمل في العام ذاته ( نشيد الكركدن ) : شعر متمرد وغير مألوف يحمل في داخلة شعرية الفنون الأخرى . ومعه والى جواره تسير بقية اهتماماته الفنية.

لا شك ان عدداً كبيراً من فناني وشعراء العراق قد اندمجوا بما هو ايديولوجي وبما هو فني ، وكانت محنتنا جميعاً ان كررنا نشيداً أيديولوجيا الكثير من مفرداته لم نعايشها ن وكان من نتيجة ذلك ان اختلط الموهم بالنظري والواقعي بالاحتمالي فأصبح الفن يحاذي الوقائع ولا يتداخل فيها .. صادق الصائغ عرف ومنذ فترة مبكرة كيف يعزل بين ما هو فني ، وما هو ايديولوجي ، فكان احد الأصوات الشعرية التي غنت خارج الأسراب ، وبقيت كذلك ، حتما في ديوانه الأخير " حيث هو القلب " لا أجد له جذراً إلا ما عايشه هو وما اختبره بنفسه ، كما لا أجد له ظلالاً . لان تجربة مستخلصة من فنون مختبرة ذاتياً تصنع ظلالها بنفسها .

قد يبدو مثل هذا الاستنتاج متسرعاً مادمنا لم ندخل بعد بيوت قصائده ولكني أتحدث عن معايشه لما كان عليه الشاعر ، وعن معرفة تجعلني أقول القول المستبق .

فالشاعر اختار ومنذ أول قصيدة أمكنة أقبية وثقوباً ، وأمكنة كهذه ممتلئة بزمنها الكثيف وبمجالاتها المترسبة في الوعي الاجتماعي ، لذلك كان إحساسه بها إحساس الفول . كل أمكنته آفلة وكأنها خرائب الزمن فالديوان ليس كل ما لدى الصائغ ، وقصائده لم تعلن جانب من اهتماماته . وما سيأتي منه ، شعراً أو رسماً يفوق ما تقدم ، فالشاعر ما يزال مختزناً بالمطر .


-2-
ثمة خيط واحد ينظم قصائده " حيث هو القلب " ذلك هو الكون في الكوة ، أو الثقب ، أو الحفرة ، أو البئر .. في شيء دائري غائر في الزمان وفي المكان .. في بقعة غادرها الآخرون وفي موقع يحتمي به ضربات الزمن والأصدقاء ، في تجويف لم يلمسه احد ، وفي ثقب لم تتعرف عليه المجسات .. هل ينشد طفل الخمسين أمانا في عالم تعرت كل سبله ... فيحول هذا التجويف إلى كيان يخاطبه :

• كدت أقول لثقب في حائط
وأخيرا سدوك .

أو يجعل منه ذكرى مؤلمه ، وحادثه مرت عليها الأيام
• كم ثقباً في حلم الأمس
كم صدعاً في هذا الرأس
كم رققاُ
في هذا الجورب .
في المقطع الأول يصبح الثقب . أملا في حين يتحول في المقطع الثاني إلى الم أصاب أحلام الأمس وآمالها .. إلى وجع والى خلل كان بتسرب مع الأناشيد الصباحية إلى اللغة والدرس والاجتماع الحزبي .. فيصبح الثقب ثوباً وقد وشم بالرتق
• والثقب أعين مغلقة ، ورداء مهلهل .
...........................
• تغلق أعينهم عادة
ويرد عليهم فضل رداء .
أو ان يصبح الثقب دهراً قديماً ، وزمناً شائخاً ، فيستعير له المرايا كي تعيده ، أو تلملم أطرافة المتشظية.. فأي حزن هذا الذي يسعى الشاعر إليه كي يقول من خلاله أننا كنا .....
• مرة يستفيق
ليرى نفسه في المرايا
مثل دهر قديم ..
الاستفاقة من ... والرؤية إلى ... وما حوله ليس إلا دهراً وقد انعكس في المرآة .

• صح
الماضي " تابو "
والحافر أحدب .
هكذا يقرر الشاعر ان الماضي ، ثقب أيضا ، وأما المستقبل ليس إلا خط متعرج .. فالزمن عند الشاعر ليس إلا نصاً مغلقاً ، هو الآخر بئر كله ماض .

• هل سنعود ،
لا أراجيح طفولتنا ..
تختفي تحت الأشجار
وفي القصائد الكثير من هذا الثقب الزمني والفكري ن وكأن الشاعر يعايش حالاً محزنه تحول أملها إلى خيبه ، فصيرت حياته كلها سعياً وراء الكشف عن مخلفاته ، انه ....
رجل صامت
يحدث نفسه
ويشرح أوجاعه للرياح
فالشاعر وهو يكشف عن عذابات السنون الماضية ، ليس إلا مجساً فكرياً ، فحينما تحولت ذاكرته إلى اسفنجة وذكرياته إلى عشبه تختزن الميلاد ، تحول العالم من حوله إلى سيرك ن قادته المهرجون والسفلة . أما هو فبقى كما كان سانشو ومهرج الملك لير ، مصرا على قول الحقيقة المرة .. وها هو يتلو كممثل كوميدي تراجيديا
الأيام التي مرت ..
يتنكر أنا بدور فراشه
وأنا يرى كشعاع
وفي كل برعمه له مخبأ
وله مرسح
وقناع
-3-
لا تقف شعرية صادق الصائغ عند مطالع قصائده واستهلالاتها ، لأن القصيدة عنده صوراً متجاورة ومتداخلة يشدها خيط الأنا ويخترق مكوناتها فتجدها ممتلئة تجربة . فتشعر أن اللغة فيها عاجزة عن الإلمام بالمأساة ، وان الصور مجتزأة من مخزون نثري واسع ، وان على القصيدة أن تستطيل وان تتركب وان تتداخل فيها الأزمنة والأمكنة والشخصيات . فالحال التي يرصدها وان كانت موشاة بأثواب الذات تفيض على قدرات الأنا ، وكما يبدو فقد ارتضى الشاعر ان يكون صوته ضمن صوت الجيل الذي اختبر قسرا بالوقوف أمام أبواب الإله أملاً في رؤيته ، لكنهم فوجئوا ان الإله نفسه كان يمنعهم من الدخول إليه . عندما اتخذ صفة الحارس على أبواب جنانه .
فما كان منهم إلا ان افترشوا حصاهم وراحوا يقلبون به أيامهم ومحنهم وأفكارهم .
لكل حياته
فبعض لبعض فخاخ
وبعض كلاب حراسة
وبعض عصافير نار
لأعشاشها راحلة .
ولأن الشعر عنده لا يستطيل وإنما يتكور ويتكمم كنواة عشبه تحتاج القصيدة إلى وقفات زمنيه . كل وقفة فكرة ن وكل وقفة حال ن ليصبح بناؤها تركماً ، وهذه الطريقة مكنته من يكتب القصيدة بعد حدوث الفاجعة ، وليس قبلها لأنه لم يرتد ثوب بني ، ولا معها لأنه أنغمر بالمعايشة ونسي أدواته الذاتية ، وإنما يكتبها ، بعد ان تكون الواقعة اكتملت بمأساتها ن وبعد ان صيرت الذات لها حقل تجربة فريد . كل قصائده تأتي بعد فوات الأنباء واكتمال المأساة ، حداثة الشعرية تندمج مع الحال فتصبح الكلمات حصى ، والحب قتلاً ، والكل مغلوباً ومديناً ، والعالم خرائباً ، ومفقوداً ، ولا شيء أكثر حزناً من نصبح ضاحكين بلا كوميديا ومرتدين أقنعة بلا تمثيل ، وعندما يستيقظ احدنا :
فيرى نفسه
هادئاً كفضاء
رائقاً كالرجاء
فيمد بعنقه
ويسأل :
هل أنا غيمة
أم ترى ليس لي
غير هذا الرداء
شعر ما بعد الحدث يمكن قائله من ان يقلب ألازمنه ، حيث الاختبار نفسه شعراً ، ويمكنه من ان يقف ومعه الخبرة ، حيث التجربة تتعمق بالآخرين وحصيلة كل المعاناة ، تحول في الذاكرة ، فبدلاً من ان يسدل النسيان ستائره على ما مضى ، ينهض الشاعر ما مر بعود ثقاب ليضيء الدرب لمن يبحث " عنا " فنحن أيضا من مخلفات هذا الزم ان ونحن أيضا رماده وعنقاؤه .
فما أكثر التشبيهات التي أوردها الشاعر في قصائده ، وبرغم ان التشبيه يضعف الحداثة . ويركنها إلا ان طريقة صادق في بناء قصيدته تستخدم التشبيه ليس اتكاءً أو تمثلاً أو احتذاءً ، بل هو توسيع لدائرة المعنى
ملتمعون
كخيوط الفضة
كحصى
كحقيقة .
ليس الخيط ، أو الحصى ، أو الحقيقة أشياء فقط ، وإنما هي أفكار ، وصور مختبرة .
قابلة للتغيير والتجديد ، ليست كيانات ثابتة ، وإنما تكتسب دلالاتها من استخدامها الجديد . لذلك لا يعد هذا تشبيهاً عادياً وإنما هو تفعيل لمعنى الصورة ن وتطوير للمشبه به .
لم تقف تجربة الصائغ عند فتحة لدفتر يومياته المليء بخربشات الأيام التي نمت في بغداد وترعرعت في مدن الغربة وتنظيميا شكلها ، وإنما يحاول بها ان يعيد تركيب الصورة الشعبية للآخرين الذين شكلوا مفاوز قارة : الحذّاء سعيد . جعفر .. الحصري .. المدام الصغيرة وغيرهم ، فأصبحت هذه المفردات داله على مفردات اكبر : الميلاد . الوطن ، القضية . فالكل قد احترق بنار الوجد ، والكل قد وقع في الشباك ، والكل قد رحب فيه بعد خروجه من الثقب . والكل يدندن بما وقعته الأيام .. والكل أصبح مرايا للآخر ، حتى أصبحت اللعبة تبادليه .. ليس من الآن وإنما من " عهد عاد " . ترى إلى متى يبقى الممثل لابساً مسوحه وصلبانه مادام الجمهور هو هو ، وما دامت المسرحية نفسها تقدم كل ليله . فالممثلون تعبوا من لعب الدور نفسه ز وها هي النغمة المشتركة بين الاثنين تتردد :
بلاد خائفة ... وطفل يرتجف
في حين يصرخ الكومبارس
مثل فاخته يا بلادي
مثل فاخته تصمتين
تنامين مغلوبة
شغافك لصق شغافي
وقلبك يخفق كالعاصفة

-4-
في قصائد الديوان المكثف ، لا نعثر على انسيابية أسلوبية ، فالشاعر اختار ومنذ أول قصيدة أمكنه أقبية وثقوباً ، وأمكنه كهذه ممتلئة بزمنها الكثيف ومجالاتها المترسبة في الوعي الاجتماعي ، لذلك كان أحساسة بها إحساس الأفول . كل أمكنته آفلة وكأنها خرائب الزمن المعاصر .
فنقرأ :
غرفة الموسات ، حرائق ، خرائب ، جذع يموت ، شجرة ميته ، المنافي ،
ونقرأ في الديوان حاسة الإحباط المتأتية بفعل قوى ضاغطة وكبيرة ، قوى داخلية ، وأخرى خارجية ، والاثنان معاً من صنع تجربتنا . فتولد نوعاً من اليأس والإحباط ، فالذي مر كان لنا فيه بضاعة ، والذي سيأتي سنغادره قبل المجيء ، لذلك كانت الدائرة شبه مغلقة ن وعبثاً نصرخ فيها أو ندور حولها فالمستقيم فينا كانت رغباتنا .
أتراها
وقد حبلت بنشيدك
وجلاجل عشقك
ستفتح درباً
وتسرج قلباً
أهي هاويتك
أم حجاب لزندك .

-5-
سيقف قارئ ديوان صادق الصائغ على ثلاثة ممارسات شعرية ، الأولى ، هي اهتماماته بالجزئيات الدالة على الكليات .. وغالباً ما تكون الأحداث التي عاشها والمواقع التي خبرها هي مادته ، إلا ان هذه الخبرة وهذه الممارسة كلها قد تجمعت ف تقاطيع الوجه وفي خطوط اليد ، وفي ثقوب الروح ، وفي الدموع . وفي الأراجيح ، وفي الكف وفي العشب ، وفي المرايا ، وفي المياه .. .. في مثل هذه البقع الصغيرة اكتشف قارته الشعرية وراح يعب منها ويلوح لنا بلغة مكتفية داله ، وبأسلوبية مركزة ثرة ، فالشاعر يبحث عن فردوسه المفقود في حياته اليومية وأشيائها الصغيرة الثانية . هي اعتماده على الذكرى لا الذاكرة ، وغالباً ما تكون ذكرى مؤلمه ، وحادثة تستوعب أحداثا أخرى .. لذا بدا اهتمامه بالماضي ثقيلاً ، وحاول ان يستخلص من " لكل حياته " خيوط دم مشتركة . وقد مكنته هذه المعالجة ان يفرد لنفسه موقع المشارك لا المراقب ، والمنفعل لا المتفرج ، والشاهد لا العابر ..
الثالثة ن هي اعتماده السخرية التي تحولت لدى عدد من شعراء المنفى إلى طريقة للكشف عن المخفي من المعلن ، إذ غالباً ما يسيطر الإعلان على الشاعر فيروح معبراً عنه بالشعر ، في حين ان المخفي يمتلك جدليته الغائرة في تراكيب المعلن ، ولن تكشف فيه كما يفعل الكثيرون الذين يحيلون القصيدة إلى مباراة تشبيهيه وإنما يخلق موضوعة الخاص ضمن موضوع اكبر ، فتجده هو القصيدة ، واستعماله السخرية في هذا المجال جزءً من هويته وليست طريقة خارجية لكتابة الشعر ..
خبرني الضحك
إني من جنس ضاحك
شكلي شكل العقعق
وجهي مقلوب
....
وقد أمش من النوم بلا قدمين .
محنه شعر المنفى ان يكتب وليست امامه إلا تراكمات أيديولوجية ، في حين ان الشاعر قد تحرر منها قليلاً ، وهذه الفاصلة بين القصيدة وكاتبها غالباً ما توقع الشعراء في التردد ، هل تراه يكسر مألوف الشعر ، أم يكرر ما قد كتب ، والمحنه القلقة هذه تولد نوعاً من الإحساس بالغربة ، غربة المفردة الجديدة وسط ركام المألوف ، وغربة الصورة وهي لا تتكئ على ما سبق .. محاولات شعراء عراقيين عدة : عبد الكريم كاصد ، فوزي كريم ، هاشم شفيق ، فاضل العزاوي ، صادق الصائغ وآخرين ، تصب في تيار المحاولة الرافضة لتقليد مألوفة ، وإذ تبدو محاولتها هذه طبيعية لما يمتلكه الشعراء من ارث خاص إلا انها تفصح عن مدلول فني ، لعله مؤشر إلى بوابات الحداثة الثالثة في الشعر .













المرئي والمألوف
قراءة في قصيدة النصبُ


للشاعر جواد الحطاب

1-التماثيلُ..
في ظلال التماثيل..
..الشمس وقت الظهيرة تأتي بأطفالها.. تنام
في ظلال التماثيل
2-.. والتماثيل
الفضاءات مرعىً لها
والرياح بأسنان محراثها
تقلب الغيم.. صوب التماثيل..
3- .. والتماثيل
يا مرمرا شكل تاريخنا
يا طفولاتنا
باب ألغازها
أنـ..فـ..تح
4- .. والتماثيل
بول الكلاب
التماثيل
نوم السكارى
التماثيل
سوق الثياب القديمة
بيع القناني
النفايات
5- كم سخر الصيف.. من درعها المطري
والشتاء
تهكم من عريها
6- والتماثيل مشغولة
-غير آبهة بالكلام-
العصافير في أذنها تتزاوج
والريح تربط أطفالها في الضفيرة
7- بيضاء
لامعة
ووحيدة
ظنها اللص آماله
فاستعد لها
وأستراب بها العاشقون
ولكنها
-غير آبهة بالظنون-
8- ترى
وتفكر
تراقب. فجر اخضرار النجوم على الماء
9-.. أن الحياة.. تظل النهرية
فالسماوات
تبارك بالطين أقدامها الحافيات
10- في الهدوء
في ظلام الشوارع تمشي التماثيل
مزهوة
11- فالتلاميذ- كل صباح-
يخطون في صخرها
درجات امتحاناتهم

1
يفترض الشاعر دائما أنه على حق فيما يقوله، وافتراضه متأت من كونه صنواً للشيطان، وإلا ما معنى أن يغربل الشاعر قناعات الناس بقصائده؟ أو ما معنى أن يؤكدها؟ أو ما معنى أن يعيد التوازن لأشياء الواقع المختلة؟ وما معنى أن ينشئ كيانا أجمل من الواقع؟ وما معنى تدخل القصائد في مسار الفهم العقلي لقياس خصائص مرحلة أو فكرة أو نموذج؟.. إذن فالشاعر يفترض دائما أنه على حق فيما يقوله، ونحن نفترض أيضا أن افتراضه يحتاج إلى براهين تؤكده أو تنفيه، شريطة أن نحتكم جميعنا إلى القول الجميل.. والجمال الذي نعنيه هنا هو الإحساس بالمتعة الجمالية التي تجسد بشكل حسي موضوعي حرية القوى الإبداعية والمعرفية، وأن هذا الجميل ما كان له أن يكون كذلك إلا عند امتلاكه للممارسة الاجتماعية والتاريخية بشكل فني ولنا في العديد من النماذج الشعرية التي درسناها، الكثير مما نعنيه بالجميل هنا.
"النصب" لجواد الحطاب واحدة من القصائد الجميلة، وجواد الحطاب في هذه القصيدة غيره في العديد من قصائده، فهو شاعر خلقته التجربة، وكونته الملاحظات الحسية اليومية لمعاناة المقاتل، وصقلت موهبته في الكتابة النثرية عن الأخطاء الكبيرة التي يقع فيها، ولذلك فجواد الحطاب شاعر في القليل من القصائد، لكنه في القليل شاعر يعد بالكثير الكثير وفي النصب يقترب من صداقة الشيطان أن لم يكن قد فهم لعبته، ذلك الذي يستنطق الحجر لغته اليومية، ويوظف مشاعر الناس وألفتهم المكانية صورة حسية معاشه، تقرأ بالبصر وتعمق بالذاكرة، وتدمج بالعملية التاريخية من خلال المشاهدة.

2
الاستهلال
يضعك استهلال القصيدة أمام إبهام مقصود، ففي كلمة واحدة هي"التماثيل" يستقرئ الشاعر لغة مكانية متعامدة مع الواقع، وصورة حسية توصي بالمجهولية من خلال معلوم كتلتها، وبنقل مباشر لوقائع ما تراثية- شخصية- فكرية من صيغة الخبر والممارسة إلى تجسيد كتلي يتحرك من قبل الفنان والمشاهد، فالاستهلال يحيلك إلى خارج القصيدة وإلى ماضي الممثل أكثر مما يحيلك إلى بنية لمركبات صور القصيدة. ومثل هذه الاستهلالات تنجح في نقطة واحدة هي لا محدودية الإحالات على الخارج لا على الداخل، وبذلك تغتني ذاكرة المشاهد والقارئ معا بما يمكن أن تؤكده أو تنفيه التماثيل في الثقافة وفي الحياة، ولذلك تحولت القصيدة إلى رصف صور وحالات لا جامع بنائي داخلي بينها سوى أنها جميعها تشترك وجودا بالتماثيل، وقد يضيف أحيانا مثل قصائد معينة إذا كان الشاعر غير مدرك لفاعلية الاستهلالات الاحالية.


3
المبنى الحكائي
تتوزع قصيدة"النصب" على أحد عشر مقطعا يكون وجودها وجود تراتبي، يشدها جميعا خيط ظاهري، هو التماثيل، أما بناء المقطعات الداخلي فلا حكاية فيه، كل مقطع منها له حكايته الصغيرة. وهذه أولى مفارقات المبنى الحكائي المعروف، الذي تعتمده القصيدة الحديثة كعنصر بنائي يتنامى داخل النص، حتى ولو كانت سياقاته غير متساوية. في حين لا تكون الحكاية في هذه القصيدة عنصرا بنائياً بلا إطارا خارجيا يغلق كل المقطعات، وينمو من خلال فعلي البصر والذاكرة. وهكذا نجد الانتقالات في صورة القصيدة انتقالات زمنية خارجية. ليل ونهار، صيف وشتاء، فجر ومساء، هدوء وصخب، تاريخ وتواريخ، عصافير ولصوص،.. ومثل هذا التراصف الزمني- الفكري يتيح المجال لأن يستطيل الشاعر بها وقد يضيف لها شيئا كلما وجد حاجة لذلك، فالقصيدة لا تكتمل بما ظهر منها . ومع ذلك فالقصيدة تحتوي على حكاية ما، حكايتنا نحن القراء عن النصب، وهذه الحكاية الخارجية منفتحة على عدد القراءات وعدد القراء. ونستطيع أن نكون جزءا من صورة مضافة إليها، مادامت الصورة الكلية تتحرك بين فعلي المشاهد والذاكرة.
والتساؤل القائم في مثل هذا النوع من الشعر؟ هل تصبح الحكاية شرطا موضوعيا لكل نص؟ أم بالإمكان تحوير مواقع هذا الشرط، كأن ننتقل به من داخل بنية القصيدة إلى خارجها، أو من الخارج إلى الداخل؟ الحكاية لا تكتمل بموقع واحد خارج أو داخل، وإنما تنبني من خلال التضايف المستمر بين الموقعين: الكاتب والقارئ، أنا والآخر، العام والخاص. ومن خلال هذا التضايف الجدي تصبح القصيدة الحديثة إحدى المجسات الفكرية للثقافة.
واعتمدت البنية الخارجية للحكاية، قارئا من مستوى مقبول فالسيولة اللغوية داخل القصيدة تقتنص العاطفة وتسارع الاستجابة ذلك لأن بناء الصورة فيها مشبع بالمألوف والنادر، وأن الاستجابة البصرية التأمليه وحدها القادرة على تحويل جماد النص إلى لغة شعبية وجواد الحطاب لم يحاول إلا التأويل من خلال مفردات اجتماعية هي أشبه ما تكون بالممارسات اليومية غير المقصودة، فالطبيعة هنا بنت نفسها بغير قصدية مسبقة، فأتى الشاعر ليضع لها شروط خلق جديدة، مستوى القارئ هو مستوى وعي الشاعر ولذلك لم تصبح مفردات هذه القصيدة

4
الصيانية والتدمير
ليس شرطا أن تحتوي كل قصيدة مفردات البناء الجدلي، فقد تحيا في مناخ واحدة منها، صيانية أو تدميرية. والقصيدة التي نحن بصددها بنيت على أرض معمولة وليست انعكاسا لحال آفلة أو زائلة حتى تكتمل بها دورة الصيانية من جديد، فإذا شهدنا قصائد تحيا كلها في التدميرية نشهد قصائد تحيا كلها في الصيانية، وهذا الموقف قد يضعف الشعر والشعرية وقد يسهم في جعل الشاعر لا يرى من الحياة إلا سطحها المضيء أو المظلم، وحتى في مثل هذا الوقف على الشاعر أن يبحث في عناصر النفي أو الإيجاب الخفية الكائنة في أي نص، فالقصيدة مهما ادعت ابتعادها عن قوانين الحياة الموضوعية تنهل فيها ولو من طرف خفي.
هذه القصيدة كلها صيانية والتدميرية كامنة في خارجها، في الإطاحات التي تحيلنا أليها القصيدة، وأول مواطن الصيانية هي بنيتها الفنية لقد احاطتها بالسماء والمياه والغيم والمطر والناس والأطفال واللصوص والعشاق وجعلها موطنا لولادات جديدة وأمنا لخائف، وشاهدا لبقعة غير معلنة، وجعلها ترى وتسمع وتفكر وتمشي ليلا كالمسيح حاملة عذابات اليوم الذي مر، وصيرها أيقونة تحفظ خصائص الناس ورسالة لمن يأتي من بعد، سخر لها الليل والظهيرة والمساء والفجر، وكسر من حولها مدة الرياح والمطر، وصيرها لغة حية يمكن أن تهدى لقاص أو لشاعر من الزمن المعاصر مستذكرا به الأيام التي عاشها المبدعون.
القصيدة كلها تحيا في مناخ صياني جمع لها الشاعر إحدى عشرة فكرة واحاطها بها وأقفل الباب عليها جامعا فيها الماضي ممثلا بمرورها والمستقبل ممثلا بقرطاس للتلاميذ: فالحاضر منقول بكل تفاصيله، حاملة على جسدها التماثيل، ومعلنة إياها لغة تتجاور لغة الكتابة .
والشاعر الذي يتعامل مع مألوف الحياة اليومية وعاديتها تغيب عنه الصراعات الاجتماعية الكبيرة، فهو يأخذ من المجتمع بطنه الرخوة وأعني به أما الأسرة ومشكلاتها أو المظهر العادي لمسرى الحياة فيقترب بذلك من النثرية لولا الخيط الفاصل بين ما هو شعري في هذه المألوفية وما هو نثري، وأعني به الإيقاعية واللمحة والحس المشترك، والفاعلية الإيحائية، والصدق الفني، وهذه الخيوط المبدعة هي التي تعزل بين نثر الحياة وشعرها. ولأن مثل هذه المواقع المغيبة للصراع تكون هي الشائعة في الحياة اليومية من خلال تعميم مفرداتها وتكراراتها، ولذلك لا ينجح إلا الشاعر المشبع أما بحس مادة لتأويل نقدي كبير، وإنما تكتفي صورها بما احتوته من مفردات مفسرة لها، فهي إذن قصيدة غنائية، أحادية الإحالة والتعبير، شعبية الصور، مألوفة البناء، ولكنها تحتوي على مادة تطريب خفية آتية من وضوح مفرداتها, وما محاولتنا النقدية لها إلا المعالجة لإنجازات الشباب الشعرية.

5
المكان البؤرة
المكان البؤرة والمولد في النصب هو الحجر المتحول مكانيا إلى كتلة فنية- تعبيرية- والشاعر غير معنى بالفنية في النصب- لم تحو القصيدة أية صورة عن الفنية فيها أو عن التقنية أو المدرسة أو الشكل و اللون، أو المساحات أو النتوء والانخفاض، أو الأبعاد الجمالية- القصيدة معنية بالكتلة الشاخصة أمام البصر والذاكرة، ومادتها عين وملاحظة المشاهد، العابر والمستقر. الموضوع الأساس هو التآلف مع النصب لا الرفض لها، والتآلف لغة في المعايشه لا لغة في الثقافة، الوجود الشاخص المرئي يتطلب تأملا عاما لا تأملا نقديا للفنية. ولذلك بقي الشاعر والقصيدة ملتصقين بما هو حادث خارج الكتلة لا فيها. وكثر بذلك فعل الأستراب والترقب وخطوط الصبية الصغار في الصباح. حتى أن هذه الكتلة الحجرية لم تعرف ما هويتها، وما ماهيتها. هل هي تمثال لإنسان أم أنها نصب من أنصاب التزيين المدينية. لا نعرف بالضبط والإحالات غير المعلنة مرفوضة.. كأن يكون النصب للسياب أو للمتنبي أو لسواهما. فمثل هذه الإحالات غير مؤكدة شعريا، ولذلك تحددت قيمة النصب بهوية إبهاميه فبقيت القصيدة مؤطرة بالأفكار لا بالتجسيدات، المعنى هنا هو نصب في مدينة أو في حي شعبي، وجوده آت من الممارسات اليومية للناس فيه وعليه، وبالتالي فهو قد اخترقهم، وكون فيهم وجودا بصريا أو حسيا، فأصبح جزءا من عاديات الأمكنة، ولذلك مارسوا فيه كل ما يمكن أن يمارس في مكان لا يمتلكه أحد.
والنصب ككتلة مكانية شاخصة، تحاكي الأعالي، بمعنى أنها لا تركن إلى السطحية أو الأفقية، ولكونها كذلك تقاس بها المسافات وبها تتحكم ثقافة المكان المحيط، فيما إذا كان موقعها جميلا أو لا، وفيما إذا أعطت للمنطقة جمالا أو قيمة.. ولأن نصب جواد الحطاب لا أسماء لها، خلت المكانية من قيمة استعارية كان من المفروض توظيفها، وجودها المكاني عياني الحضور ليس لها بعد مكاني- اجتماعي إلا كونها تحيا في الـ"هنا" في المكان القريب من ممارساتنا، من حياتنا وألفتنا اليومية. وحاول الشاعر أن يجعل منها لغة للماضي" يا مرمرا شكل تاريخنا" فلم يوفق إلا في جزء ظاهري من الإحالة إلى الزمن الماضي- القصيدة ليست معنية بالماضي بل بالحاضر- ولم يوفق ثانية في جعله قرطاسا للمستقبل" فالتلاميذ كل صباح- يخطون في حجرها درجات امتحاناتهم" لأن القصيدة لا تحيا في الزمن بل في فعل اللحظة الآتية، ففعل المعاينة المعاشه هو الذي يحدد الوجود المادي للنصب، وهو الذي ولد لغته التصويرية، لذلك لا زمن إلا زمن الحاضر في القصيدة، هو زمن عين السائح للأماكن الأثرية المزينة بنصب تؤكد أثرية الناس في المجتمع. أي فاعلية العين المؤقتة الرؤية حيث الرائي يستجمع كل الإحالات الممكنة الماضية والحاضرة، لذلك فجواد الحطاب لا يكتب إلا التاريخ اليومي للتأمل، وهو تاريخ لحضوي متغير متكاثر، يجمع فيه الذاتيين: الذات الفردية للمشاهد، والذات الاجتماعية للممارسة.
قلنا أن النصب تحدٍ للأعالي، فالكتلة المنتصبة هي تحدٍ للفضاء العمودي، وتؤكد بذلك ذكورة الناس، ثقافتهم المتعامدة، ولأنه كذلك فالنصب تشير ضمنا إلى قيم حضارية، واتصال ما بالماضي، فهي صنو الديمومة- الزمان فيها يتحول إلى مكان- صنو للمنح وللحضوية- النصب علامة سيميولوجية للمعرفة- وتحاول البلدان جعل النصب استحضار للذاكرة من خلال فعلي الخصب والثقافة- لا بالمعنى الفرويدي- وإنما بالمعنى السوسيولوجي، حيث الإحالات أليها قائمة أما من خلال فنية النحات أو من خلال تأويلات الناس لها.
وفي محيطنا الجغرافي، المائي البنية، تكون النصب صلابة متحدية للسيولة، كل حضاراتنا حضارات مائية، لذلك لم يبق منها إلا شواخص ترابية مطعمة بمادة القير، على العكس من الثقافة الفرعونية كل بواقيها كونكريت أو أهرامات. الحضارة المائية تفرض لغتها المكانية على الشواهد، أما في القبور المدفونة وأما في الكتابات المدونة. وجواد الحطاب لم يتحدث عن نصب للمياه ولا نصب للتراب ولا نصب للرياح، بل نصب عامة الناس، بمعنى آخر أن النصب دلالة مكانية أولا، وتاريخية جغرافية ثانيا مما حتم ظهور فكر ميتافيزيقي لا فكر مادي يرتبط بالخيالات والأسفار والانبساطية، وجعل من التركيبة الفكرية العامة آيلة للانهيار بأفعال الماء أو الريح.
وعندما نستقرئ أبعاد القصيدة مكانيا نجدها تعتمد النسق الثلاثي في كل صورها
أ‌- 1- فتحة مكان كلي ابتدأ بالسماء، حيث موطن الأزلية
"الشمس وقت الظهيرة تأتي بأطفالها.. وتنام"
2- الفضاءات المحيطة بالنصب، حيث مرعى الحياة اليومية للناس
"التماثيل.. بول الكلاب
التماثيل.. نوم السكارى
التماثيل.. سوق الثياب القديمة
بيع القناني.. النفايات"
3- الطين حيث المكانية الوجودية والظاهراتية للعين
" تبارك بالطين أقدامها الحافيات"
ب‌- وثمت نسق زماني كلي أيضا، ابتدأ، وهو زمن أزلي أيضا
1- الماضي " يا مرمرا شكل تاريخنا"
2- الحاضر "العصافير في آذانها تتزاوج.."
" أن الحياة.. تظل البهية"
3- المستقبل " فالتلاميذ- كل صباح
يخطون في صخرها، درجات امتحاناتهم".
ج- وهناك نسق اليوم الواحد
1- الظهيرة حيث الشمس هي الفاعلة
2- المساء حيث اللصوص والسكارى والظلام
3- الصباح حيث الطفولة والعاشقين
د- وهناك نسق فصلي
1- الصيف حيث التعري الكامل لأشياء المكان
2- الشتاء حيث المطر المتساقط فوقها
3- الربيع حيث فجر اخضرار النجوم
هـ- وهناك نسق مكاني متحرك
1- الغيوم المتقلبة فوقها
2- الرياح الرابطة أطفالها بالضفيرة
3- المياه حيث انعكاسات الحياة الجميلة
و- وهناك نسق الناس المتعاملين
1- السكارى والباعة.. إحدى صور الحياة اليومية
2- اللصوص والعاشقين.. صور الآخر المستريب
3- الأطفال.. جذور المستقبل
م- وثمت نسق لأحياء ملغية
1- الكلاب.. الحراسة المؤجلة
2- العصافير.. النفي بالولادات
3- النفايات.. نتاج المجتمع الملغي
ن- ويتعمق النسق فنجد تدرجا في الوعي
1- الألغاز.. باب التاريخ المغلق على الطفولة
2- التزاوج.. باب المستقبل المنفتح على الحاضر
3- الهدوء.. استرجاع أفعال اليوم الماضي
س- وثمت نسق يرتبط بحركة التماثيل اليومية
1- ثياب التماثيل مكانيا.. الجمود
2- الانشغال الداخلي.. غير آبهة بالكلام
3- المشي ليلا.. حراسة المخاوف
ص- وثمت نسق فكري هو جوهر القصيدة
1- تصبح النصب دالا للواقع- الشمس والفضاءات والناس يتحلقون حولها
2- ثم تصبح هوية- علامة فارقه- مكان للتزاوج وتجمع للريح والمنح
3- ثم تتحول إلى حارس لمخاوف الناس، صياغة مشروع معاصر للرؤية إلى الماضي وإلى النموذج وذلك من خلال رؤيتها وتفكيرها ومراتبتها للحياة
" ترى. وتفكر
تراقب.. فجر اخضرار النجوم
.. أن الحياة.. تظل البهية.."
وخلاصة المكان الحجر، أن النصب ليست مادة مرمرية، بقدر ما هي مادة اجتماعية صلبة وجدت في الحجر معادلا لها، هكذا أراد جواد الحطاب أن يقول.
































الجسر
للشاعر هادي ياسين علي
يوصلُ الأرضَ بالأرضِ في جذلٍ
ويوصل الناسَ بالناسِ في غفلةِ الماءِ
إذ يخدعُ النهرَ
فالنهر جسم نحيل
وهكذا الجسر يخدعه
ضلعُ ويخدع جسمه
إذ يوصل الناسَ بالناسِ
وهذا النهر منشغلٌ
فقد زيّن الجسرُ أحلامه
فمضى في النعاس

1
تمهيد
ابتداءً يمكن توزيع القصيدة على ثلاثة مقطعات المقطع الأول يبتدئ من البيت الأول وحتى البيت الثالث المقطع الثاني يبتدئ من البيت الرابع وحتى البيت السادس المقطع الثالث يبتدئ من البيت السابع وحتى البيت العاشر، يحمل المقطع الأول الاستهلال، وقد تركز في الفعل" يوصل" والتوصيل لغة تشمل كل المقطعات، لغة فاعلة ومؤكدة مكانيا بالجسر والنهر، وزمانيا بدلالة الحركة الموصلة فربط التوصيل، الأرض بالأرض، والناس بالناس، والماء بالنهر ، والضلع بالجسر، وبينهما وبين لغة الزمن الكامنة فيهما.
وفي المقطع الثاني يؤكد الشاعر على ضآلة النهر في المكان.. والمكان كما نرى هو المدينة، والمدينة لا تقيم وزنا لأنهارها بقدر ما تقيمه لجسورها، والخديعة هنا مزدوجة الجسر يخدع النهر ويُخدع أيضا، ولذلك فهما مكانان مخدوعان، مبعدان عن الفاعلية الذاتية.
ويؤكد المقطع الثالث فاعلية هذه الصورة، حيث المجرى يستمر، الجسر يوصل الناس بالناس، والنهر منشغل بأحلام النعاس، هذان الكيانان الملغيان يجسدان معنى الأفول أو الزوال، وما بقاؤهما شاخصين إلا حال زمنية/ مكانية ملحقان بحركة الناس غير الآبهين بما هو تحت أقدامهم.

2
العنوان
قد لا يعطينا هذا الاستنتاج الأولي إلا مدخلا آمنا لفهم القصيدة، وعندما نقلب العنوان ومحتوى القصيدة نجد الصورة المركزية للقصيدة هو النهر لا الجسر، وهنا تبدأ أولى إشكاليات الشعر، وأعني به العنوان المراوغ أحيانا يعنون الشاعر قصيدته بعنوان، فإذا القصيدة تؤكد عنوانا آخر، في هذه القصيدة المكان المولد- الذي يصبح عنوانا بالضرورة هو النهر وليس الجسر، جريان النهر هو الذي فرض الجسر ووجوده هو الذي تطلب الجسر والعبور عليه هو الذي أوجد الجسر ولذلك فالقصيدة لا تتحدث عن الجسر وأن كانت صورها توحي بذلك بل عن نهر عين جسره. ولنسلم ابتداءً بهذا الاستنتاج الأولي فالقصيدة تحمل في داخلها بنية مزدوجة هي: بنية النهر/ الجسر، الامتداد/ القطع، فتطلب الموقف أن يوصل الأرض بالأرض" جانبا النهر" والناس بالناس" تيار الحياة اليومية المنساب" ولذلك ظهور الجسر كما لو كان هو المعني بهذا كله وتخلف النهر تحته كما لو كان ملغيا، وهذا شيء يحمل تناقضاته..
إذن لابد من إحالة خارجية تعيننا على تفسير ذلك فالشاعر لا يكتب عن أي جسر أو نهر، وإنما يكتب عن نهر في مدينة وعن جسر ما، والإحالة هذه توسع من معنى البنية المزدوجة التي تؤكدها القصيدة، فالنهر في المدينة ملغى ووجوده وجودا تزيينياً أو جزء من تكوينات الطبيعة الخاصة بالمياه/ التربة، لذلك تعبر النهيرات الصغيرة المدينة دونما وعي بها، وما أن تغادرها حتى تنفتح المزارع لها فالنهر ابتداؤه حقيقي ونهايته حقيقية، أما ما يدخل المدينة منه فملغي لقد ألغيت الأنهر بالمدينة لتناقض الكامن في الطبيعتين طبيعة المياه المنسابة الرخية الهادئة، وطبيعة المدينة الضاجة بكل ما هو معاصر، حديدي وتقني. لنلاحظ انعدام أهمية دجلة في بغداد وأهميته خارجها ولنلاحظ انعدام فاعلية الأنهر في مدينة البصرة وأهميتها خارجها لذلك لا تستخدم الأنهر في المدينة إلا للزينة أو كجزء من تركيبة ديموغرافية- تراثية.
الشاعر يرثي النهر في المدينة، ورثاؤه ندب للأماكن الآفلة أنه الحنين إلى السيولة والأنبساطية والعواطف البدائية، حنين إلى الطبيعة، وقد يسقط مثل هذه الحنين الشعر والشاعر في رومانسية مبتذلة إذن لابد من أحداث تغيير جوهري في العلاقة بين الشعر وأشياء المكان، علاقة تولد أسبابها لا تعتمد على ما هو كائن وقديم علاقة تتصل بتطورات العصر، لا الصراخ وسط ضجة المعامل. لكن النهر لا يوجد بمياهه فقط، ففي الثقافة- والثقافة خلق آخر للطبيعة، النهر يعني: النهرية في الحياة أي الانسيابية المنفتحة على زمن جار، وعلى مكانية معلمة بالحركة، ولأن الجسر فوقي البنية يجسد زمنا متعامدا عياني المفردات، محدود الوجود، لذلك لا يتأكد محتوى القصيدة من جسرها، بل من بنيتها المائية.
ثانية نعود للعنوان فالشاعر يخطئ متعمدا، ويوهم متعمدا، فهو الوحيد الذي عرف كيف يوحد بين مفترقين، وقد لجأ عدد من الشعراء إلى إلغاء عنوانات القصيدة واستبدلوها بقصيدة- قصيدتان وفقا للالتباس وترك الشعري في القصيدة يحدد عنوانها، ولذلك سيكون كل قارئ عنوانا للقصيدة، هل نضع أنفسنا في دائرة العنوانات المبهمة؟ الشعر لوحده يفصح عن الشيء الملغز، وإذا كنا نقرأ الشعر طلبا لمعرفة ما، فالمعرفة تهرب عندما نجد أنفسنا مسيجين بعنوانات مفترضة عندئذ لابد من العودة إلى مجرى الحياة، لما هو مألوف ومعاش لما يمكن أن يكون مختصرا لزمن معقد، ونستل منه ما يؤكد هوية القصيدة عنوانا لها أو تفسيرا لها، أو إضاءة لمغاليقها، مشكلتنا الأساس أننا نفرض الوعي على الأشياء، النهر هنا لا يمكن الإمساك به بجسره، فهو تاريخ جار وزمن معلم، هو الديمومة والذاكرة الممتدة، جريانه تدفق التاريخ ولغته اليومية تداعيات للناس والعاملين فيه، لغته لا تواصل فيها، وعبثا نسيج جريانه بجسر أو سدود أو حواجز، وإذا ما فعل الإنسان ذلك خلال حياته، إنما ليقرن تقاسيم الفصول باستخدامات المكان، ولما عمل ذلك قطع الزمن إلى فصول وأشهر وأيام وساعات ودقائق في حين لم يستطع عمل شيء للنهر إلا بوضع مثل هذه القواطع المائية ليقرن حيثيات الزمن بحيثيات المكان، إذن من يخطئ في فهم القصيدة؟ الشاعر أم القارئ لنر ذلك في الفقرات التالية.

3
المكان البؤرة
في القصيدة لا يكون المكان البؤرة إلا "النهر" والنهر دلاليا تيار الزمن تدفق التاريخ، الحياة المتواصلة الانبثاق الأمومي للأرض فالمياه فيه منسابة ورخية متدفقة أو راكدة، لكنها فاعلة في أنها تغيير من طبيعة الأرض تتشكل مانعا يستوجب تجاوزا له هو"الجسر" والمياه في عرفنا مكان خلاق، اتصاله بجذر تراثي- ديني- خلق الكائن، ووجوده في الأرض، يعمق فاعليتها الاجتماعية ودلالته المعرفية،، دلالة حضارية- حضارات الماء- لذلك يأتي استحضاره في الشعر أو في الرواية بمثابة التأكيد على بنية متأصلة مانحة، فلا النهر مكان مغلق، وعائم، ولا هو مكان مؤول بحيث يمنح المخيلة الخاملة أفقا للتفكير إنما هو جريان الزمن الداخلي للمجتمع وللفرد، وفي القصيدة يصفه لشاعر في موقع الغفلة والتجاوز، ويجعل منه صورة ، بحيث يصبح مكانا مخدوعا متجاوزا عليه الجسر في مثل هذه الحالة هو الفعل الحقير لطبيعة النهر لكنه في القصيدة لا يصح إلا مؤشرا عاما لفاعلية النهر لكن الشاعر يوازن في صورة أخرى يدلل بها على عمق الفكرة النهرية في النهر تلك هي انشغال النهر بأحلامه، تاريخه ومضى ينعس كما لو كان لم ينم طوال تاريخه، هذه الصورة الفوقية البناء ما كان لها إن تأتي بهذه الجودة لولا شعور النهر انه يحيا في زمن يتجاهله فيه أهله وفي زمن لا يرى لجريانه صوتا معلنا، وفي زمن ليس بمقدوره إعادة الحياة للأنهر المانحة، للأنهر الساقية،انه الشيء الذي انقطع عن جذره، وبقي يسير كما لو كان ميتا في الحياة وتأتي (انشغاله ونومه ونعاسه) صورا داله على انسحاقه تحت وطأة المدينة والحضارة، مع إن النهر في حياة المدن تأسيسي، وعندما وظف الشاعر صورة النهر الحزينة هذه بأبيات مركزة قصيرة النفس، كأن يجسد إيقاعيته الآفلة إن الصورة للإيقاع الداخلي للقصيدة تؤكد هذه الحال بل وترخي أعنتها مستسلمة لقدرية مكانية مانحين بما فيهما من قدرة، فالنهرية المتدفقة الحيوية القديمة مهما تسربت إلى الناس، إلى الحياة،إلى العمل، إنهما شيخان يحدان الحاضر بأبوة معلنة- أبوة التوصيل حيث الفعل المركزي الوحيد الذي أدار كل صور القصيدة.

4
الفاعلية
تؤكد القصيدة مبدأ التداخل بين فاعلية النهر-الملغية-وبين فاعلية الجسر-المعلنة- لكنه وهو يؤكد ذلك لا يستخدم إلا فعلا مضارعا مركزيا واحدا،هو الفعل"يوصل" والفعل هذا نهري الدلالة وان جاء ملحقا بالجسر، فهو فعل يؤكد الجريان، والحركة، والزمنية فهو نهري وأن كان على علاقة مع الجسر، ونهري وان كان يؤكد فاعلية الأضلع والمسامير والحديد، إذن لا جسريه للفعل بدون نهريته" الشوارع نهريه أيضا" وتكتسب فكرة الجسور المبنية عليها من نهريتها ولا جسريه بدون دلالة فالعبور دلاله نهريه ولا جسريه للتوصيل إلا من خلال فاعلية الحركة والفاعلية زمنية منسابة متدفقة منشئة للحرية لذلك يولد الفعل"يوصل" فاعلية الإلغاء للنهر الذي الغي بالمدينة، فبدأ النهر"مغفلا" و"منشغلا" و"نحيلا" و"نعسانا" و"ماضيا" و"مخدوعا" والفعل "يوصل" يحرك القصيدة فهو يوصل الأرض بالأرض، الناس بالناس، الجريان المائي بالجريان الحياتي، قدرته على الإيحاء آتية من تفاعل الناس مع التوصيل، فاعلية الذهاب إلى العمل تعني العودة إلى المنازل التجاذب بين مكانين يربطهما جسر فيوصل بينهما، إيحائية الفعل تدلل على اتساع دائرة الجريان لذلك تكون لغة التوصيل اندماجية بين معارف وأمكنة، وتحدد قيمتها من خلال الدأب المستمر والفاعلية المتولدة. ولذلك استعار الجسر خصائص النهر بعدها فرض المكان على النهر إلغاء متعمدا لكن النهرية لم تلغ.العابرون عليه، عابرون فيه كياناتهم لا ترسم ملامح لهم بقدر ما يعطيهم تشخيصا لهذه الكيانات فنهريتهم اليومية هي أعمالهم، وجودهم، تواريخهم، أفعالهم، مخاوفهم، حبهم، رغباتهم وكلهم أفعال مشتقة من التوصيل ورغم أن الشاعر ذهني في تراكيب صوره إلا انه نقل إلينا أحاسيس مراقب لفاعليه مكانية تحيى في الممارسة وتنمو في المراقبة، والمعايشة المستمرة لظواهر الحياة المؤثرة تولد شعريتها.

5
قد تولد بعض صور القصيدة تناقضا ظاهريا، مثل الجسر الذي يخدع النهر ويخدع نفسه باعتباره ضئيلا هو الآخر هذه المخادعة مأساوية حيث الخداع المزدوج يولد حال مضطربة الصورة، والشاعر أراد بذلك جعل الصورة الكلية لواقعة معينة مستلبة لا بفعل الناس فالناس يستخدمون الجسر للعبور وللوصول، ولا بفعل الضفتين، فضفتا النهر ساكنتان لا دلالة مكانية كبيرة لهما وإنما بكونهما موجودين في واقع فرض فعل الضآلة عليهما ذلك هو واقع المدينة، فالمدينة في الشعر مرت بمراحل عديدة منها احتقارها المتزايد للاماكن الآفلة والاحتقار مبني على فعل التباهي بالمنجز وفعل الحركة إلى أمام نحو مستقبل أفضل لها. لذلك وهي تشخص نضرها إلى أمام تدير ظهرها لكل ما كان ملم لهذا التشخيص.
قد يفترض قارئ ما إن المدينة شأنها شأن أي تقدم حضاري يسحق حتى أصحاب المعلمة الفعلية أثناء تقدمها، ومثل هذا الافتراض واقعي بل ويكون الأرضية لهذه القصيدة، لكن الشاعر وهو يرى النهر ملقى والجسر ملغى، خلق حوارا داخليا بينهما، فتجاذبا أطراف محاورة الإهمال في عصر متقدم وتحاورا كما لو كانا يسيران معا في وضع إستلابي مطبق، فزين الجسر للنهر أحلامه، وركن النهر تحت الجسر يسترجع تيار زمنه، وتفاعلا معا في خلق صورة حزينة مأساوية، وعبثا يرفعان بصريهما إلى أعلى حيث حركة الناس الدائبة، فالناس مشغولون بما هم فيه في زمن يوشك أن يلغيهم أيضا أو ينظر إلى طرفي الجسر حيث الأرض تحاور الأرض من خلال ثوابت متماسكة فنجد الحوار عن الاهتزازات الخفية التي تحدث أثناء تقدمهما في العمر ومثل هذه الصور الجديدة رثاء الشعر في المدينة نجده كثيرا لدى عدد من الشعراء الشباب الذين تحولوا من متفرجين على بهرجتها إلى مراقبين لما يحدث على مكوناتهم الأولى للثقافة، والقصيدة التي تبنى بتكويناتها على الأماكن الآفلة تحاور الماضي أكثر مما تحاور الحاضر وعبثا نتشبث بما تقدم علينا أن نسحق تلك النغمة الرومانسية الخفية التي تشدنا إلى الأماكن الآفلة القديمة، وتتطلع رغم الدموع إلى ما هو تحت الشمس.






























ياسين النصيِّر
ولد في مدينة القرنة التابعة لمحافظة البصرة

انتقل إلى بغداد عام 1970
يعيش في هولندا منذ عام 1995
المؤلفات النقدية
1- قصص عراقية معاصرة مشترك مع الناقد فاضل ثامر بغداد 1971
2- القاص والواقع – دراسات في الرواية والقصة بغداد 1975
3- وجهاً لوجه – دراسات في المسرج بغداد 1976
4- الرواية والمكان الجزء الأول – دراسة نظرية – تطبيقية1980 بغداد
5- الرواية والمكان الجزء الثاني – دراسة نظرية –تطبيقية بغداد1980 طبعة ثانية- 1986
6- دلالة المكان في قصص الأطفال دراسة نظرية – تطبيقية بغداد 1985 طبعة ثانية 2000
7- إشكالية المكان في النص الأدبي دراسات في الشعر والرواية بغداد 1985
8- المسرح العراقي –مشترك نشر اليونسكو 1988
9- بقعة ضوء بقعة ظل – دراسات في المسرح بغداد1990
10- الاستهلال – فن البدايات في النص الأدبي- يتناول الشعر والملاحم والحكايات والرواية
ط1 بغداد-1993 طبعة ثانية القاهرة 2000
11- التجربة والوعي دراسة في الأدب الأردني –الفلسطيني- عمان- 1994
12- المساحة المختفية –دراسة في الميثولوجيا الشعبية -بيروت- 1995
13- جماليات المكان في شعر السياب -دمشق-1996
14- في المسرح العراقي المعاصر –دراسات ونقد في المسرح العربي -دمشق- 1997
15- مختارات من القصة العراقية - القاهرة - 1998
16- سعد علي وفن العلاقة دراسة في الفن التشكيلي دمشق – دار المدى عام 1999

المؤلفات الفنية
17- قصة أوبريت بيادر خير " أول أوبريت عراقي " البصرة 1969
18- القضية نص مسرحي البصرة 1969
19- قصة أوبريت السابلة بغداد1974
20- شارع النهر مسرحية بغداد1987
21- الحقيبة مسرحية هولندا 2002
كتب تحت للطبع
1- يوميات الحرب مشاهدات ومعيشة لحرب الخليج الثانية
2- شحنات المكان
3- شارع الرشيد ذاكرة المدينة وعين النص
4- عنف الفرشاة مقالات في الفن التشكيلي
5- الأرجوانة الحمراء مقالات في المسرح الكردي


كلمة الغلاف

كون الماء في الحضارات العراقية المادة الأكثر حضورا في ثقافتها وعمارتها ولسانها، وملاحمها. فالحضارات العراقية القديمة حضارت بنيت على الماء والطين ومن تمازج هذين العنصرين ولدت الكتابة و الملاحم والأشعار والطقوس والمدن والآثار. ولم تكن ثقافة الماء حصرا على القديم فقد عرفت المنطقة الوسطى والجنوبية من العراق منذ القدم أنها المكان المولد لكل ثقافة العراق ومن ثم ثقافة المناطق المحيطة به حتى تأتي الدولة العربية الإسلامية يصبح العراق الجغرافية المولدة لثقافة كل الامصار الإسلامية.
في الثقافة الحديثة نجد مدن العراق السهلية والجنوبية سباقة إلى توليد الحداثة في الشعر وفي الرسم وفي الثقافة العامة، ولا عجب أن نجد أن جل القصائد التي أعتمدت الحداثة كان الماء عنصرا من عناصرها المولدة.
في هذه الدراسة التي تشمل مقالات نظرية وتطبيقية نحاول ان نرصد تاثير الماء على شاعرية السياب وهو واحد من رموز التحديث الشعري والثقافي في الوطن العربي.
ياسين النصير



#ياسين_النصير (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حوار مع الدكتور كاظم الحبيب
- عن المؤتمر الثامن للحزب الشيوعي العراقي
- مكونات الطبقة الوسطى العراق نموذجاً
- قراءة في رواية الضالان
- أدباء عراقيون - الشاعر سعدي يوسف
- أدباء عراقيون -ابو كاطع: شمران الياسري
- أدباء عراقيون- غائب طعمة فرمان


المزيد.....




- فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة ...
- جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس ...
- أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
- طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
- ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف ...
- 24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات ...
- معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
- بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
- بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في ...
- -الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)


المزيد.....

- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري
- ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو ... / السيد حافظ


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ياسين النصير - كتاب شعرية الماء