لا أدري ما هي التحولات النفسية العميقة والسرية التي بدلت موقفي من الجنرال غارنر رئيس ما يسمى بالادارة المدنية في العراق، وهو الاسم المحسن والمخفف والبديل للحاكم العسكري، من النفور إلى الشفقة، ثم الشماتة.
فهذا الجنرال المتقاعد، ولا أدري ما هو سر الإصرار على لقب متقاعد مع أنه العامل الوحيد في العراق في جمهورية العاطلين عن العمل، سبق لي أن حذرته قبل شهور من الحرب من زواج الإكراه من بغداد، لأن هذه العاصمة ترفض زواج المتعة والاحتلال والقوة حتى لو كان العريس من أبناء البلد.
وقلنا له صراحة : إن بغداد لن تتزوج الجنرال.
لكن لا غارنر صدقنا ولا حماة أو حراس أو جنوده السمر صناعة بودابيست صدقونا، بما في ذلك فريق العلم والفهم والاستخارة الذي قدم معه بأمل تقديم النصح والمشورة عن أحوال أهل العراق، فاكتشف هذا الجنرال أن هؤلاء لا يفرقون بين فلوريدا وبين الناصرية، وهم لا يميزون بين الشاعر الحبوبي وبين الشاعر الأمريكي وايتمان، ولا فرق عندهم بين المكسي وهو ثوب قصير يرتفع عن الركبة قليلا بما يفسح المجال لظهور كل وجوه دعاة الحرب وبين ثوب أسود لفلاحة جنوبية تغسله على حافة الترعة وتختبئ في العشب تحت الشمس حتى يجف وتلبسه مرة ثانية.
إلى أن وقع غارنر في الفخ العراقي دون أن يتأمل، وهو يسكن قصر سلفه طاغية بغداد المحلي، في ظاهرة ثقافة السطو على أوطان الناس، خاصة إذا كان هؤلاء الناس هم من صنف العراقيين، فالعراقي الحقيقي( غير عراقيي غارنر) يتشاجر مع قميصه أو سترته أو عمامته أو سرواله أو لحافه أو سريره إذا صار طويلا أو قصيرا عليه.
لكن كيف تبدل شعور النفور إلى شفقة وشماتة؟
إن غارنر قبل الحرب كان يعيش في فيلا ناعسة، ساحرة، هادئة، وفي شبه غابة، ومزرعة فاتنة، ينام فيها على حفيف طيران السنونو، وأنغام موزارت وبيتهوفن وجايكوفسكي، ويستيقظ فيها على خرير المياه الهادئ، وعلى أغنية تزحف تحت الجلد للمغنية السوداء توني تورنر التي كان صوتها ولا يزال يحولني من وحش إلى فراشة، وكتبت رواية كاملة على ألبوم أغانيها، ومن يريد أن يقرأ روايتي ( سنوات الحريق) ويفهمها جيدا، عليه أن يضع أغنية خلال القراءة لهذه المغنية المجروحة الصوت، أقول أن غارنر الذي كان يعيش في فردوس خلقه بنفسه لأواخر العمر، صار لا ينام هذه الأيام في بغداد إلا على هتافات:
ـ الله وأكبر.
ـ الإسلام هو الحل.
ـ لا سنية ولا شيعية، جمهورية إسلامية.
ـ الحوزة طريقنا.
ـ نعم، نعم، للإسلام.
وصار هذا الجنرال المسكين لا يستيقظ إلا على هتافات:
ـ وطن حر، وشعب سعيد.
ـ وحدة وحدة أسلامية.
ـ لا قومية ولا عنصرية، بس حرق سجلات العقاري والمكتبة الوطنية.
ـ لا حداثة ولا تجريد، تسقط الشيوعية.
كان غارنر يعتقد أن أنهاك بغداد بالقصف والحرق والنهب والسلب والإغواء والعطش والظلام والمرض والأوبئة والتهديد والابتزاز والكحول والغموض والمساومة سيجعلها تلين وتقبل ، أو في الأقل ترضى بالدمى التي أعدت في الخارج أو في الداخل، وهي دمى كانت مستعدة على مر الحقب لبيع الوطن وغير الوطن من أجل الموقع والمنصب والجاه والغنيمة.
لكن بغداد رفضت.
حرك عليها من يسرق منازلها وحولها إلى مقرات لأحزاب من أجل الإيغال بالإذلال، فرفضت.
حزب عنصري قومي فاشي عراقي شكل قبل الحرب لجنة لسرقة وحرق سجلات المدن وحرق المكتبات وسرقة المتاحف وتدمير مؤسسات الدولة كي ينتقم من كل ما يدل على الهوية العراقية والتاريخ العراقي والذاكرة ويساعد، مع حفنة من صحفيين مجرمين معروفين بالأسماء عادوا مع غارنر، هذا الحزب حاول مع بغداد أن يتعامل معاملة الغازي على أساس أنها عاصمة( عدوة) لكنه فشل، واكتشف أن ذاكرة العراق ليست في سجل أو متحف بل في الدم، وتحت الجلد، وفي قيعان الذاكرة، وفي الذاكرة الجماعية.
( من يريد أن يعرف المزيد عن هذه القضية عليه أن يطلع على تقرير نشرته منظمة لحقوق الإنسان أمريكية محايدة كانت في كركوك خلال الحرب، وشهدت بأن الطالباني مجرم حرب ومرتكب جريمة التطهير العرقي، وعمل عن عمد وتخطيط لتدمير سجلات المدينة، وابادة الجنس العربي فيها، وحين سألت قناة (العربية) الطالباني عن ذلك التقرير أجاب بخنته المعروفة التي تنضح عنصرية ودجل أن هذه المنظمة( شوفينية!). يا سلام على الشوفينية!).
لكن من سمع شهادة الشاعرة أمل الجبوري وهي تقول أن الذين أحرقوا المكتبة الوطنية وسرقوا المتحف كانوا يتكلمون بلغة عربية مكسرة، ومن سمع شهادة الرسام والنحات نهاد كاظم على قناة الجزيرة وهو يقول أن الذين أحرقوا صالة لعرض لوحات جواد سليم وفائق حسن وشاكر حسن آل سعيد وغيرهم كانوا يتكلمون بلغة عربية غير سليمة، ومن رآى على شاشات التلفزة يوم دخول الجيش الأمريكي تكريت، وكنت منهم، كيف أن الجيش ضبط سيارة (رانج روفر) حكومية بيضاء كتب على لوحتها رقم واسم بغداد، وفي داخلها أربعة ركاب في ثياب أنيقة، ظهر عند التفتيش أنهم جميعا من الإتحاد الوطني، وأنهم فرقة حرق وتخريب بلوحة أرقام مزورة كانوا في انتظار حدوث فوضى لم تقع، أن من يعرف ذلك يعرف جيدا من حاول ارتكاب جريمة حرق العراق، وكيف أن هذه الجريمة لن تنسى ولن تغفر مهما طال الزمن.
قال لي صديق أفغاني هو المشرف على موقعي أن ما فعله الجنرال دوستم في أفغانستان من حرق وقتل وابادة هو نفسه ما فعله الطالباني وغيره في بلدكم، تحت سمع وبصر الجيش الأمريكي، كي تكون هذه الجرائم ورقة تهديد دائمة من أجل عبودية أبدية.
غارنر في ورطة حقيقية رغم ملف الجرائم والإغواءات الواسع لديه. فهذا الرجل الذي كان زواره من أصحاب الشركات أو خبراء في حرب النجوم( وهو نفسه خبير في الأسلحة الصاروخية) أو زبائن شركات نفط أو سلاح أو علماء في النظرية النسبية لأنشتاين، يجد نفسه هذه الأيام أمام زوار غريبي الأطوار.
بعض الزوار يحدثه عن مخاطر النوم على البطن لأن هذا الوضع يغري إبليس كثيرا خاصة وأن غارنر في مرحلة تقترب من مرحلة أرذل العمر، حيث السهو والنسيان والتشابه والتداخل والخلط والخبط وغير ذلك، ممكن.
نوع آخر من الزوار يحدثه عن فوائد ارتداء العمامة في الصيف ، ويقترح عليه تجربتها كي يكون أقرب إلى قلوب العراقيين من بنادق قنصهم القادمة.
فريق يحدثه عن فوائد ضرب السلاسل على الظهر حتى انبثاق الدم( أن هذا يساعد على التخلص من الدم الفاسد ويقرب إلى الله).
وكل الفرق تشكك في إخلاص الرجل رغم خطاب الغرام الذي ألقاه على العراقيين وكان يستعمل يده اليمنى ذات السوار الذهبي، في هفوة جديدة من الجنرال العجوز في فهم ذهنية العراقيين وعاداتهم.
فالعراقي لا يضع سوارا ذهبيا في يده أبدا. فكيف إذا كان هذا هو الحاكم العسكري لشعب من الجياع والمنهكين والمرضى؟
وفي كل مرة يطلب خلوة غرامية مع هذا الفريق أو ذاك لكنه يفاجأ خلف قاعة الاجتماع بهتافات تخلع القلب عن جمهورية إسلامية، ولا شرقية ولا غربية، وحوزة، حوزة إسلامية.
وللترفيه عن النفس، أو لخداع النفس، يستدعي بين يوم وآخر.. آخر فلول الليبراليين والافلاطونيين والرومانسيين العراقيين الذين جلبهم معه لمقابلتهم بين قضاء حاجة وأخرى، فوجد مدهوشا أن بعض هؤلاء:
ـ اختفى.
ـ عاد إلى أمريكا.
ـ ذهب إلى النجف لدراسة الإسلام الشيعي.
ـ أو أن بعضهم خلع القبعة التاكساسية ووضع بدلها العمامة( دون تفريق بين سوداء وبيضاء).
لماذا لا نمنح الرجل فرصة ونختبر غرامه بالعراقيين؟
ويبقى السؤال: كيف؟
هناك حل واحد.
ليس من المعقول ولا من الحكمة ولا من الدين أو الإرث ولا من التقاليد أن من يحكم العراق، تحت أي اسم أو عنوان أو صفة، غير مختون على الطريقة الإسلامية.
في هذه الحالة يضاف إلى تهمة غارنر، أي اغتصاب وطن، تهمة الكفر بالتقاليد، ولذلك فإن أفضل طريقة لاختبار نوايا الجنرال، ومعرفة مقدار غرامه وحبه وهيامه بنا ورغبته في مساعدتنا على العيش ولو بقرف، هو أن يقبل اختبار الختان.
أن يختن غارنر بدون مخدر لأن الثواب على قدر المشقة في أقرب فرصة وفي أقرب جامع بغدادي.
وسيكون مشهدا تاريخيا يدل على صدق الرجل وحسن نواياه وطيبة قلبه، حين يجلس مفتوح الفخذين بين رجلين معممين من أخيار المدينة أمام مقص الختان وعلى هتافات:
ـ نصر من الله وفتح قريب.
ـ أن ينصركم الله لا غالب لكم.
ـ الحوزة طريقنا.
ـ لا إله إلا الله، غارنر حبيب الله!