|
لم يبق في غزة سوى الهواء
أحمد الخميسي
الحوار المتمدن-العدد: 1607 - 2006 / 7 / 10 - 11:21
المحور:
القضية الفلسطينية
أرسلت إلي زميلة - شاعرة فلسطينية من غزة - رسالة قصيرة على المحمول تقول فيها : " لا ماء ولا كهرباء ولا تلفونات ، كمان شوي ويقطعوا الهواء " . وقد فعل النازيون من قبل شيئا كهذا عندما حاصروا ليننجراد في الحرب العالمية الثانية ستة شهور كاملة ، ظلت المدينة تقاوم خلالها إلي أن خرجت أسطورة من بين الأنقاض والموت. ويأتي حصار غزة وقصفها الآن ، استكمالا عسكريا للحصار السياسي والاقتصادي لحكومة حماس الذي نظمته أمريكا وشاركت فيه الدول العربية والأوروبية والمنظمات الدولية كافة ، حتى أصبح " تهريب مليون دولار إلي الشعب الفلسطيني " مشكلة عجزت جامعة الدول العربية عن حلها ، بينما يعد تهريب المليارات من الأمور المألوفة كل يوم . الحصار السياسي والاقتصادي لحكومة حماس ، ثم التذرع بقصة الجندي الإسرائيلي الأسير ، جاء لكي تستكمل القنابل ما بدأته السياسة ، بهدف التنحية النهائية لمبدأ المقاومة . هذا بعد أن ظنت إسرائيل أن اتفاقية كامب ديفيد المشئومة المذلة ، واتفاقية الأردن ، واتفاقيات أوسلو ، قد قضت جميعها على آمال الشعب الفلسطيني في أرضه ودولته ، ورسخت عبر ثلاثين عاما روح الهزيمة ، فإذا بمنظمة حماس وحكومتها تغير كل الحسابات وتعيد للأذهان قدرة الشعب الفلسطيني على مواصلة القتال ورفض الاحتلال وانتخاب حكومة تدعو إلي المقاومة وتعلن أن طريق السلام مسدود ، وأنه لم يفضي في الواقع الفعلي إلا لمزيد من الاحتلال ، والتوطين ، والمذابح ، والعربدة الإسرائيلية العسكرية بحرية تامة في سماء دمشق ، ولبنان ، وأي عاصمة عربية، والتهديد بقصف السد العالي في مصر على لسان شارون . أما الشعب المصري فقد ذاق مرارة " الرخاء " الذي وعدوه به إذا جنح للسلم ، وذاق مرارة حالة الطوارئ ، وتعميق التبعية السياسية والتخلف الاقتصادي . وليست المسألة ، هي اعتراف حماس بإسرائيل من عدمه ، فقد اعترفت منظمة فتح بإسرائيل ، واعترفت بها مصر والأردن وبطرق أو بأخرى اعترفت بها غالبية النظم العربية . فما الذي حصده الشعب الفلسطيني من ذلك الاعتراف ؟ وما الذي جنته الشعوب العربية من ذلك ؟ . النتيجة بعد ثلاثين عاما واضحة : المزيد من الغطرسة والعدوان وتكريس احتلال الأرض الفلسطينية وعدم الانسحاب من شبر واحد ، واستمرار الأسرى الفلسطينيين بالآلاف في المعتقلات ، وقتل الجنود المصريين من وقت لآخر عند الحدود في رفح ، والتهديد الإسرائيلي لدمشق وطهران وبيروت والمساهمة في احتلال العراق . أما أوهام الدولة الفلسطينية ، فلم يبق منها سوى غزة ، بينما تم إخراج الضفة الغربية فعليا من خارطة فلسطين بتوطين ربع المليون إسرائيلي فيها . فما الذي تبقى من أحلام الشعب الفلسطيني ؟ وما الذي قدمته إسرائيل لمن اعترف بها على الصعيد الفلسطيني أو العربي ؟ . لا شئ . سوى مشاهد من نوع مشهد شاطئ غزة الذي يغتال فيه الطيران الإسرائيلي أسرة فلسطينية بأكملها كانت تتنزه متخيلة أنها تتنشق هواء بلادها عند بحرها . فما الذي يعنيه الاعتراف بإسرائيل في ظل هذه الظروف المحددة ؟ هل حصلت فتح على شئ مقابل اعترافها لكي تكون نموذجا يشجع حماس على تلك الخطوة ؟ إن الاعتراف بإسرائيل الآن ، بهذه الشروط ، لا يعني سوى الاعتراف بحقها في احتلال الأرض دون مقابل . لقد تم الاعتراف بإسرائيل من قبل دون مقابل ، واعتراف حماس بها الآن يعني المزيد من تكريس الاعتراف بواقع " احتلال بلا مقاومة " . اعتقدت إسرائيل بعد ثلاثين عاما ، في ظل الهمود السياسي العام أنها صارت أقرب ما تكون إلي أحلامها ، أي تلخيص كل حقوق الشعب الفلسطيني في مجرد مقاطعة ملحقة بإسرائيل يرفرف منها علم في الهواء وإذا دعت الحاجة تم اجتياحها في دقائق جوا وبرا وبحرا ؟ . وفجأة إذا بحماس تقفز عبر انتخابات شرعية وديمقراطية إلي الحكم ، وفجأة تتجدد فكرة المقاومة ، وهو أخطر ما تخشاه إسرائيل . وما هو " الجندي الإسرائيلي الأسير " الأسطورة ؟ وهل تأبه إسرائيل حقا بمصيره إلي هذه الدرجة ؟ فإذا كانت معنية بمصيره فلماذا لم تفرج عن عدد من الأسرى الفلسطينيين وبينهم نحو أربعمائة طفل فتنقذ بذلك الجندي الأسطورة ؟ أم أن الجندي الأسير رمز يتصارع الطرفان عليه ، ويختفي من خلفه صراع حقيقي حول استمرار المقاومة أو استمرار الاحتلال ؟ بعث المقاومة ، أو تكريس القوة الإسرائيلية ، إلي درجة تساوي معها حياة جندي واحد حياة شعب بأكمله ، وتساوى معها حياة شعب بأكمله الاحتفاظ بالجندي أسيرا ؟ . تسعى إسرائيل بالقوة البربرية والقصف الوحشي لكي تؤكد للشعب الفلسطيني أن " المقاومة " خطر عليه ، وأنه سيلقى أشد أنواع العقاب الجماعي إذا فكر في العودة لذلك الطريق ، وأن عليه أن يقبل فقط بالاحتلال . أما الأطراف العربية التي أظهرت قدرتها دائما على إسداء النصح للفلسطينيين ، وتوجيههم إلي طريق التسوية والسلام الموهوم ، فإنها – ما أن يتعلق الأمر بالوحشية الإسرائيلية – حتى تقف كالعادة عاجزة عن تقديم أي شئ لذلك السلام ، عندما يتم اختطاف أحمد سعدات ، وعندما تقوم إسرائيل بدك غزة على مرأى من العالم ، وهدم محطة الكهرباء الوحيدة فيها ، واختطاف الوزراء ، وقصف مبنى الحكومة ، وقتل الأطفال الذين يتساقطون كل يوم ولا يبلغون أبدا سن الشباب . وبالرغم من كل شئ فإن التحدي الذي أظهرته حكومة حماس لإسرائيل برفضها التسوية السياسية بنتائجها وشكلها الراهن ، هو الذي حرك موجات التأييد الشعبي الواسعة لقضية فلسطين بين الشعوب العربية ، وبفضل هذا التحدي تتسع القطاعات المؤيدة للحق الفلسطيني داخل أوروبا ، وبفضل هذا التحدي الباسل تتعرى إسرائيل أمام العالم كدولة نازية ترتكب على كافة جرائم الحرب ، وبفضل هذا التحدي تعري عجز الأنظمة العربية أمام شعوبها ، وتجد تلك الأنظمة نفسها في تناقض مباشر وصريح مع شعوبها ، وبفضل هذا التحدي تتعرى السياسة الأمريكية المؤيدة على طول الخط لإسرائيل ، وتتكشف للناس الحقيقة البسيطة المذهلة وهي أننا نسعى للسلام منذ ثلاثين عاما ، فلم نحصد سوى الحرب علينا وعلى مستقبل بلادنا . إن غزة المحاصرة ، والتي لم يبق فيها شئ يعمل سوى الهواء ، غزة التي تعيش تحت الأنقاض وبين أشلاء أبنائها ، هي ذاتها غزة التي تلوح للعالم من فوق قمة دمائها بالحقيقة وبأن الشعب الفلسطيني لم يفقد أمله في تحرير أرضه ولا قدرته على ذلك . أما ردود الأفعال الإسرائيلية فتؤكد – رغم عنفها – شيئا واحدا : أن صواب إسرائيل قد طاش ، ليس بسبب جندي أسير ، ولكن لأن التسويات والهزائم والخداع الطويل والمؤتمرات السياسية والمبادرات، لم تفقد ذلك الشعب أمله، ولا وعيه، ولا بطولته ، إذ لم يعد لديه ما يخسره سوى الهواء .
#أحمد_الخميسي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نبيل الهلالي . سحابة العدل
-
انطفاء أحمد عبد الله .. قمر على جيل السبعينات
-
جينا لندن ترصد أدق الرغبات
-
ساندوا الشاعرة الفلسطينية سارة رشاد
-
سولجينتسين يواجه الحصار الأمريكي
-
شلنات وبرايز
-
لا للتمييز ضد البهائيين المصريين .. نعم لحرية الاعتقاد
-
البهائية والنزعة السحرية
-
ما الذي يريده الشعب المصري ؟
-
تبني مطالب الأقباط .. هو الطريق للخروج من الأزمة
-
الآداب السلطانية . نص متجدد
-
أطوار بهجت .. من الشعر إلي الحرب
-
حكاية هند والفيشاوي
-
الأزمة الدانمركية بين الدين والسياسة
-
ميشيل باشليه واليسار الجديد
-
رحيل فؤاد قاعود .. موال الرفض والحرية
-
الجوائز الأدبية وكرامة الكاتب
-
اعتذار للشعب السوداني ، واستنكار لما جرى
-
بروزاك .. صديق المبدعين
-
ألفريد فرج .. في وداع الخيال
المزيد.....
-
كيف يعصف الذكاء الاصطناعي بالمشهد الفني؟
-
إسرائيل تشن غارات جديدة في ضاحية بيروت وحزب الله يستهدفها بع
...
-
أضرار في حيفا عقب هجمات صاروخية لـ-حزب الله- والشرطة تحذر من
...
-
حميميم: -التحالف الدولي- يواصل انتهاك المجال الجوي السوري وي
...
-
شاهد عيان يروي بعضا من إجرام قوات كييف بحق المدنيين في سيليد
...
-
اللحظات الأولى لاشتعال طائرة روسية من طراز -سوبرجيت 100- في
...
-
القوى السياسية في قبرص تنظم مظاهرة ضد تحويل البلاد إلى قاعدة
...
-
طهران: الغرب يدفع للعمل خارج أطر الوكالة
-
الكرملين: ضربة أوريشنيك في الوقت المناسب
-
الأوروغواي: المنتخبون يصوتون في الجولة الثانية لاختيار رئيسه
...
المزيد.....
-
الحوار الوطني الفلسطيني 2020-2024
/ فهد سليمانفهد سليمان
-
تلخيص مكثف لمخطط -“إسرائيل” في عام 2020-
/ غازي الصوراني
-
(إعادة) تسمية المشهد المكاني: تشكيل الخارطة العبرية لإسرائيل
...
/ محمود الصباغ
-
عن الحرب في الشرق الأوسط
/ الحزب الشيوعي اليوناني
-
حول استراتيجية وتكتيكات النضال التحريري الفلسطيني
/ أحزاب اليسار و الشيوعية في اوروبا
-
الشرق الأوسط الإسرائيلي: وجهة نظر صهيونية
/ محمود الصباغ
-
إستراتيجيات التحرير: جدالاتٌ قديمة وحديثة في اليسار الفلسطين
...
/ رمسيس كيلاني
-
اعمار قطاع غزة خطة وطنية وليست شرعنة للاحتلال
/ غازي الصوراني
-
القضية الفلسطينية بين المسألة اليهودية والحركة الصهيونية ال
...
/ موقع 30 عشت
-
معركة الذاكرة الفلسطينية: تحولات المكان وتأصيل الهويات بمحو
...
/ محمود الصباغ
المزيد.....
|