|
مسلمو فرنسا وجريمة الشيوخ
سامح عسكر
كاتب ليبرالي حر وباحث تاريخي وفلسفي
الحوار المتمدن-العدد: 6706 - 2020 / 10 / 17 - 11:07
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
منذ 5 سنوات قتل الإرهابيون المسلمون 11 صحفي فرنسي من مجلة "شارلي إيبدو" لمجرد نشرها صورا كاريكاتورية عن النبي محمد في الإسلام اعتبرها المسلمون مسيئة، وبعدها بسنوات قتل شخصين بنفس الطريقة وبذات التهمة، اليوم صحا العالم على جريمة مفجعة وهي ذبح أحد المُعلّمين الفرنسيين على يد إرهابي مسلم بتهمة تصوير النبي في أحد رسوماته بطريقة سيئة..
الملاحظ أن الجرائم الثلاث يجمعهم خيط واحد هو القتل مقابل الرسم، وهذا يدفعنا للسؤال: ما هي المواد المرسومة التي أثارت الإرهابي؟..وهل هي من قبيل الشتم والسب والتجاوز أم من قبيل تصوير ما هو منصوص عليه إسلاميا ؟ أم كلاهما معا؟
الحاصل أن هذه الرسومات كلاهما معا..فهي منصوص عليها تاريخيا وإسلاميا بالفعل ويذكرها الفقهاء على المنابر كصفات رسولية وفي ذات الوقت هي سب وشتم للرسول، وتلك من مفارقات النفس المسلمة أن تفتخر بشئ وتعتبره تهمة في ذات الوقت، ولولا غياب الإدراك العقلي بتعطيله الكلي قبل عدة قرون لفطن المسلمون أن ما رسمه هؤلاء عن الأنبياء هو إعادة تدوير فقط ما نص عليه المسلمون في كتبهم، وبالتالي ينتفي عنصر السب والشتم، لاسيما أن إحدى هذه الرسومات تصور النبي وهو يضاجع طفلة..بينما كتب الصحاح الإسلامية تقول ذلك بوضوح في قصة عائشة..مما يعني حضور عنصر التحريض الأصلي من كتب المسلمين وضرورة تعديله أو إلغاءه..أو على الأقل نفي تقديسه من قَبَل الشيوخ الذين يصرون على القول بأن كل ما في صحيح البخاري صحيح ومساوٍ في قيمته ما ذكر في القرآن ويختلف فقط معه بالدرجة..
حتى الصحفي النزيه والباحث الرائع "إسلام بحيري" عندما خرج قبل 15 عام لينفي زواج الرسول بطفلة تم تكفيره، وكأن هناك إصراراً من الفقهاء على تحميل الإسلام ما لا يحتمل، فالرجل لم ينف زواج النبي بعائشة..ولكن نفى أن تكون عائشة طفلة أصلا، وذكر الأدلة واجتهاده المثير الذي ينم عن وعي تاريخي جيد ونزعة نقدية للسائد، فعائشة لم تتزوج طفلة ولكن بسن 18 عام من كتب التاريخ الأخرى غير الصحاح، لكنه وبتقديس الشيوخ للصحيح وجعله بمنزلة القرآن حكموا على إسلام بالكفر ومن يومها يترصدون له في كل صغيرة وكبيرة حتى سجنوه واغتالوه معنويا، ويدخلون في حرب بلا هوادة لإيقاف مقالاته وبرامجه.
اليوم عندما يرسم أحد الفنانين الفرنسيين هذا المشهد يثورون، والإشكال أين كنتم حينما أقدم "بحيري" على نفي ذلك بالأدلة ولقطع الطريق أمام أي رسومات أخرى؟..ألم يدفعكم لهذا المصير سوى الجهل والكِبر والغرور؟..ألم تقدموا مصالحكم الخاصة على مصلحة الإسلام العامة؟..ألم تعلمون جيدا قُبح هذه السيرة أن يتزوج رجل كبيرة بطفلة صغيرة وكنتم على يقين باستحالة ذلك على شخص طبيعي ولكن فقط تنسبوا هذه الجريمة لنبيكم؟؟
هذا الإرهابي الذي ذبح المُعلّم الفرنسي وتسبب في موجة عدائية أخرى للإسلام هو من صناعتكم أيها المشايخ، أنتم من زرعتم فيه بُغض الآخرين وكراهية كل مختلف ووصف غير المسلمين بالنجاسة، برغم أن مدلول النجاسة في القرآن مختلف عن مدلوله اللغوي الحالي الذي يصف الإنسان بالحيوان القذر، فالشخص النجس الآن هو بمرتبة حيوان قذر، هذا المدلول لم يعرفه القرآن الذي وصف نجاسة المشركين في زمن التنزيل بمدلول آخر يقول فيه أن الشرك هو رجس من عمل الشيطان، وصاحبه أسير للشيطان..لكن في ذات الوقت له كل الحقوق من الملكية للكرامة والحياة..إلخ، بل حين اختلف المسلمين مع غيرهم أيهم يدخل الجنة كان الرد ساحقا " إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة " [الحج : 17]
فهل هذا الخطاب القرآني يعني أن غير المسلم هو حيوان قذر؟..إنه يساوي بين الجميع ويؤجل الفصل بينهم ليوم القيامة، ومناط المساواه هو العمل الصالح الذي ذكر في عشرات الآيات الأخرى كشرط للإيمان والخلاص..
ثم إذا كان المسيحي أو اليهودي حيوان قذر كما تصفوه بمدلول النجاسة..فهل هذا يعني أن أبويّ الرسول كذلك؟..هل آمنة بنت وهب تستحق مدلول النجاسة الآن والذي تأنف من سيرته الطبائع؟..هل عبدالمطلب وأبو طالب هم حيوانات قذرة؟..أجيبوا على الأقل لتُرضوا أنفسكم وتعلموا حجم الجريمة التي ترتكب يوميا بتضليل المسلمين وإخراجهم من دينهم ليدخلوا في أديان البشر الأرضية، فلم يرضيكم خطاب الله في قرآنكم بالتحذير من مصير من سبقوكم فاتخذتم عهدا لتسلكن سبيل السابقين في كل صغيرة وكبيرة، لاسيما أن الله حذر من عقيدة "شعب الله المختار" وأنتم بهذا التفسير للنجاسة اعتقدتم أن الطاهر الوحيد في العالم هو المسلم أو بالأحرى الذي على مذهبكم ورأيكم، أما كل مختلف معكم هو حيوان قذر..ولا حول ولا قوة إلا بالله..!
أما آن لكم الكف عن تقديس فقهاء الدم الذي صنعوا ذلك الإرهاب؟..ألم يحن الوقت لمراجعة فكر ابن تيمية مثلا؟ الذي قال في مجموع فتاويه " أما لعن دين اليهود فلا بأس به، فهم ملعونون هم ودينهم" (35/121) وفي موضع آخر وصف دين النصارى بالملعون في نفس الكتاب (25/ 171)، وكرر لعن الدين المسيحي في كتاب اقتضاء الصراط المستقيم (1/ 534) وكذلك زرع فقه الكراهية والبُغض فقال: "المؤمن تجب موالاته وإن ظلمك واعتدى عليك، والكافر تجب معاداته وإن أعطاك وأحسن إليك" (28/118)
تأمل هذا القُبح في نفس الفقيه، فالكافر مكروه وإن أحسن فما جدوى الأخلاق إذن؟ فضلا عن فتواه بكفر جميع من خالفه وبالتالي يجب كراهيتهم، ولو تتذكروا العمليات الإرهابية للتكفيريين منذ السبعينات ضد أقباط مصر وهجوم دواعش سيناء على أقباط العريش وتهجير مسيحيين الموصل في العراق..وغيرها من الهجمات الطائفية..هنا مصدرها، فلم نتحدث بعد عن فتاوى القتل ومتلازمته الشهيرة "يستتاب وإلا قتل" بل هنا يؤسس فقط لفقه البٌغض القلبي واستعداء الآخر شعوريا..ورغم وضوح النص يخرج من لم يدرس كتب الرجل أو يقرأ له صفحة على بعضها ويقول أن (الإرهابيين فهموه غلط)..!
أي خطأ والنصوص واضحة ومكررة لا تترك أي مساحة تأويل؟!..أي خطأ والتجربة أثبتت خلاف ما نعتقد أن النصوص بالفعل صنعت إرهابيين وعقول توّاقة لممارسة العنف والقتل باسم الإله؟..أي خطأ ونحن منذ 50 عاما نُجهد أنفسنا لكي نثبت للعالم حُسن الإسلام وجوهره الطيب في حال التجربة وسلوكيات المسلمين تقول عكس ذلك؟..ألم يأن الأوان بعد لثورة معرفية وفكرية تنشلنا من الوحي الذي وقعنا فيه برضا وطيب خاطر؟..ألن نعترف مرة واحدة في حياتنا أننا بشر نخطئ وأن هذا الخطـأ لا يقدح في إنسانيتنا في شئ بل يرفعها عاليا لنتعلم؟..ألن نكف عن صناعة إرهابيين جدد كل يوم في الإعلام والمساجد والتعليم ونحن نعتقد بكل غباء وعنجهية أننا "نُحسِن صنعا" ؟
الأسرة المسلمة أيضا عليها ذنب في التقصير بتربية أبنائهم، لكن العذر لديهم أنهم أسرى لفقه الشيوخ الذي يحكم كل صغيرة وكبيرة ويتدخل في ما يعنيه ولا يعنيه، ويضع نفسه وصيا على أنفس وأملاك البشرية منذ خلق آدم إلى قيام الساعة، ولم يكتفوا بتلك الوصاية بل فرضوا لأنفسهم حقا اعتباريا بعقاب كل مختلف في الرأي، هنا تصبح الوصاية ليست مجرد سلوك معنوي أو استشارة في الرأي بل سجن كبير لديه سجان وشرطة يعاقبون من يتعدى حدود هذا المعتقل، ثم يستغربون لماذا أعداد الملحدين في ازدياد وكيف يخسر المسلمون عباقرة في العلم والعقل والتاريخ وشتى الجوانب المفيدة، ويصرخون أن الاستبداد السياسي فقط هو المسئول، بل هم من رسخوا ثقافة الاستبداد في المجتمع وأعطوا الفسحة لأنفسهم في قول ما يشاءون دون رقيب أو حسيب..
الطفل منذ الصغر يغرسوا فيه معاني الكفر والإيمان والشرك والجهاد..التي هي معانٍ حصرية للكبار لا يفهمها سواهم، إنما قصدوا من تلك التربية الحمقاء أن ينشأ الطفل على البُغض والكراهية للأسماء والأشخاص..ثم ينتقل في مرحلة الكِبَر إلى تطبيق هذه الكراهية لواقع عملي يصبح فيه كل مشرك وكافر أو مختلف في الرأي مستباح الدم والكرامة، وهذا جذر ما حدث في فرنسا أمس بدعوى أن الصحفي أهان الرسول، فالحقيقة أن الإرهابي لو نشأ على السماحة والعفو والعقل لأصبح سفيرا حسنا لدينه، ولاحتوى هذه الأفعال بالحوار والمناقشة وإثبات العكس بالأدلة والحجج، لكن من أين لهم الحُجج وقد ربّاهم شيوخهم على الإقصاء والأحادية الفكرية والاعتقاد بملائكية النفس والدونية وتضخم الذات.
إن المطلوب من المسلمين وشيوخهم أن يفهموا خرافية تآمر الدول والشعوب عليهم، فرنسا لا يهمها إسلام المصريين والخلايجة، هذا الصحفي الذي رسم الرسول – برغم رفضنا لتصرفه – لكنه فعل ذلك من باب الرأي وحرية التعبير المكفولين في دولته، لم يفعل هذا المُعلّم المذبوح ما فعله لأجل أن يرتد المسلمين عن دينهم..إنه فقط يُبدي رأيه ولو بطريقة وقحة، وكمّ من الأخبار في التراث والأحاديث تقول أن من كان يسخر من الإسلام في عصر الرسول لا يختلفون عن هذا المُعلّم..لكن الأخبار قالت بسلوك مختلف وردود أفعال هادئة وتحكيم تام لقواعد الأخلاق والمنطق والعُرف في الحلول، ثم إذا لم ينجح أي طرف في الحل أو قطعت سُبل الحرب فقوله تعالى هو الفيصل " يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم " [المائدة : 105]
لقد نجح الشيوخ في ما فشل فيه خصوم الإسلام وهو إثبات أن الدين الإسلامي هو "دين شرير" وعقيدته لا تصلح لبناء حجر وبشر بل لا تعرف سوى شئ واحد فقط هو الدمار والكراهية والقتل والدم، وضع لا نُحسَد عليه وقعنا فيه جميعا بفضل حماقة من سبقونا في تمكين هؤلاء الفقهاء وتسليطهم على رقاب البلاد والعباد، فالمسلم صار يقبل أي شئ على نفسه الآن من أفعال شريرة مؤذية باسم الرحمن..وهذا لأمر عجيب، كيف يعتقد إنسان أن دينه دين رحمة وعفو وسلام ثم وفي ذات الوقت يسلك سلوكا مضادا ليس مختلفا، فهو أثبت للجميع أن ما يدعيه مجرد كذب في كذب..وهم في وهم، وخيال من عندياتهم صدقوها في لحظة ضعف وغباء..
#سامح_عسكر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
برلمان مصر والشريعة الإسلامية
-
قصة الأشاعرة والماتوريدية
-
الوساطة الروسية في ملف كاراباخ
-
في ذكرى حرب أكتوبر..حقائق فاصلة
-
شرح مشكلة إقليم ناجورنو كاراباخ
-
حقيقة سفر أخنوخ ومعراجه
-
أغزوا تغنموا بنات الأصفر
-
أصول قصة السندباد البحري
-
كيف نفهم الوحي؟
-
في عشق المراهقين والكبار
-
قصتي مع أبي طالب عم رسول الله
-
اليهودية ديانة تبشيرية كغيرها
-
الدليل العقلي في الإيمان
-
أكذوبة وأد العرب للبنات
-
المعالم الحديثة للإرهاب الفكري
-
الدين الوجودي والإيمان الأعمى
-
متلازمة سيفر والسياسة التركية
-
في ظاهرة الشيخ عبدالله رشدي
-
كيف تتحول الدول للحُكم الديني ؟
-
العرب كمشروع تركي إسلامي
المزيد.....
-
دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه
...
-
في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا
...
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
-
نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله
...
-
الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|