هكذا تحتضر الأنظمة الفاشية إلى الموت وهكذا تكون الساعة الأخيرة للأنظمة الدكتاتورية، متشابهة تماماً وان لونتها التفاصيل. تماماً، كما حدث بالنسبة لسقوط نظام صدام حسين.
لقد سقط نظام هذا الرجل المستبد بطريقة غامضة، تعكس الغموض الذي يحيط بالأنظمة العربية جميعها وعنف الدول التي صنعتها من جهة أخرى. السقوط أيضا يثير المخاوف والشكوك من إمكانية تغيير المجتمع ذلك لأنه لم يأت هذا التغيير بالتدريج أو من ثقافات الناس وموروثهم الثقافي وان جاء نتيجة الهجمة الأمريكية والصهيونية الشرسة على الأمة العربية واستغلال الظروف الصعبة وتشحين العالم بما أسمته بتحرير العراق.
الساعات الأخيرة لصدام حسين اختصرت الأعوام التي مرت وكأنها تختصر الوقت الذي ضيعه هذا الرجل. ذهبت شجاعته المزيفة وبقت عارية أمام الريح. فلم يتذكر شعبه وحزبه وفدائييه ولا حتى عائلته وأولاده. لأنهم لم يكونوا يوماً، ما، من صلب معركته الذاتية، معركة بقائه كشخص له الأمر والطاعة ويتمثل في شخصه الشعب، والوطن. لم يتذكر بان هناك دبابات ربما تدوس بطون النساء والأطفال. فالطغاة لا يفكرون إلا في سلامة أنفسهم فهي خيارهم الأخير. اخذ يتذكر، بعد فوات الأوان، بأنه كم خدم الولايات المتحدة عندما قام بقتل الشيوعيين والدينيين والبعثيين الذين انشقوا عنه وكذلك القوميين والناصريين. ثم دفعوا به لضرب إيران ولإخماد ثورتها الشعبية الفتية وحاربها 8 سنوات. وعندما استنفدت طاقته وانتهت فائدته بالنسبة لهم اخذوا يطالبونه بتسديد ديونه. فخفضوا عملته وخفضوا سعر برميل النفط فقام باحتلال الكويت، لكن أمريكا، أخذت من الاحتلال سبباً مباشراً للقضاء عليه فحاصرته واحتلت شمال بلاده وفرضت عليه حصاراً جوياً اضعف كل توجه عنده. فلماذا عملت به كل ذلك؟
لماذا قامت ببيع إيران أسلحة (إيران جات) في الوقت الذي كان ينفذ خططها؟ كانت هذه الذكريات تمر عليه بألم، كالشريط السينمائي الأسود وترعد فرائصه. حينئذ أدرك، مثلما أدرك غيره من الدكتاتوريين الذين سبقوه، بان ساعة الجد قد بدأت تنذر بالرحيل. الرحيل الأخير عن مواجهة اللحظات الأخيرة. حينئذ فقط أحس بأنه لا يصلح للتضحية ولا للحب، لأي حب، بما في ذلك حب الوطن والدفاع عنه. ولهذا عليه أن ينسحب من المعركة الفاصلة. لأنها المعركة الحقيقية التي تتطلب التضحية بالنفس ومواجهة الموت.. حيث لا يقدر هو شخصياً عليها، ولم يعد نفسه قط لهذه المعركة الفاصلة، معركة الأبطال.
المتتبع للزعيم في ذلك اليوم، يدرك بأنه لم يتعلم شيئاً من سنوات حكمه، فيما عدا كيف يحافظ على سلامته وأمنه الشخصي، لكنها كانت طريقة مكلفة جداً. فقد كان لا يعرف مثلاً في أي ساعة سيفطر في الصباح، ولا في أي مكان بالضبط. مما يضطر الخدم بان يعدوا له خمسة أماكن للإفطار يختار منها ما يليق له بحسب خطط الأمن الرئاسي في ذلك اليوم. وإذا حضر لتناول الطعام فانه يعرض أول لقمة على خادمه لتناولها فإذا سرت اللقمة في دمه أمن من شر الخادم واكل الإفطار، وهكذا يتكرر المنظر مع الغداء والعشاء حيث الخوف من الأكل المدسوس بميكروب الموت. قضى الزعيم أيام حكمه على هذه الشاكلة فلم يتسنَّ له من الوقت أن يتعلم كيف يحارب وينتصر. انتهت أيامه وهو مشغول بمعيشته كذات فقط. فلم ينظر إلى الحياة إلا من قفاها. ولم يتمكن ولو متأخراً من اكتشاف حقيقة الحياة الجميلة التي تقع على الضفة المعاكسة لتفكيره، هي ضفة الفقراء والمعدمين وضفة حياة الناس العاديين، وضحكة أطفال الشوارع الحفاة. لم يفكر ولا دقيقة واحدة بحياة الجماعة وكيف أنها جميلة وهادئة وبسيطة (..) يكثفها الحب والأمان الأبدي الذي ساعد حكاماً كثيرين، أن يناموا حتى بدون حارس. الأمان الذي يجلبه الحب والقناعة وتقاسم الحياة بكل منغصاتها وملذاتها. الأمان الذي تزرعه السياسة الرشيدة فيقاوم المدافع بدون مدافع وينتصر على العدو مهما بلغت قوته.
ناضل السيد القائد (كما يسميه الصحاف)، طول حياته، كي يصرف عنه البلاء، ويرسم له مستقبلاً مالياً ضخماً تعيِّشه قرونا ونسى إن المرء لا يحيا طويلاً وإنما يناضل من اجل البقاء، ويتعلم إن كان حكيما وفيلسوفاً، كيف يعيش، هذه الحياة القصيرة ويداريها، قبل أن تفلت منه في لحظة عين.. على هذا الأساس كدَّس الزعيم أموالا تحت 50 اسماً في عدد من البنوك العالمية يتولى أمرها لصوص وجلاوزة. ولم يخطر بباله أن ذلك هو البلاء بعينه، البلاء الذي يولد الجوع من الشبع، والعطش من الارتواء، والخوف من الأمان. ومنذ تسلله إلى السلطة واغتصابه لها، عرف أن رفاقه يتملقون مرضاته، ليعطيهم المنصب والمال، وهو على علم بخدعهم ونفاقهم فسمح لهم بأن يجمعوا الفقراء والعاطلين واليائسين ويحشدونهم على كل الطرقات لاستقباله بقوة السلاح والتهديد والضرب، لإلقاء التحية عليه والهتاف باسمه عند مرور موكبه الرئاسي. يرفعون فيها لافتات الترحيب والتضخيم (بالروح بالدم نفديك يا زعيم). هيأ الزعيم نفسه لهكذا استقبال. فتعود على الكذب والخداع فاخترع نظريته المشهورة إن الكذب والخداع هما طريق أصحاب العظمة. وسمى قانوناً بان الكذب هو الطريق القصير إلى الشموخ والعظمة!!
وان الحب هو سلوك الناس الذين لا طموح لهم. فالحب، كما الحقيقة أسوأ الطرق بالنسبة إليه، وهو سلاح فاشل في الحكم والسيطرة!! فقبل بمظاهر الخنوع وزيف الطاعة دون نفوذ يذكر. فهي الحياة الحقيقية من وجهة نظر (الزعيم الخالد).
حاول تعويض قدره السيئ هذا بعبادة السلطة والتفاني لأجلها، فوقع ضحية اختراعه الصعب، ورأى نفسه في معركة غير متكافئة مع الهواجس والشكوك فامتلأت نفسه بالخداع وروح الإجرام، وترعرع في أحضان القسوة والدناءة، فبلغ حدود الإفراط في الإسراف على قصوره وسراديبه التي أعدها بعناية فائقة وكأنه مستعد لحرب نووية. نسى في اتون هذه المعركة القذرة، إن الحرب القادمة لن يتوقف هديرها إلا مع استسلامه لجبار اكبر منه ولطماع أعطته الحياة أدوارا اقوى وأفتك من أدواره.. فلم تنفعه قصوره ولم تشفع له مخابئه المحصنة.
كان آخر موكب رئاسي (للزعيم) يثير الشفقة والرحمة في موكب يشبه موكب الجنازة. موكب يتكون من عشرين سيارة وهو أحد الركاب فيها واقلهم أمانا وحظاً. أدلى برأسه ويديه في قاع السيارة بعد أن غير ملامح وجهه، وهو الذي اعتاد أن يلوح برأسه ويديه في المواكب الرئاسية في زهو غير محتمل، وكبرياء يصل إلى اكثر من علو السماء!! تمنى في تلك اللحظة العصيبة أن لو كان واحداً من العراقيين الذين مر عليهم، وهو في طريقه، ينتظرون أن تضع الحرب أوزارها. حينئذ انتبه، وبعد فوات الأوان، بأنه كان طاغية للتهريج. بل ومجرد أكذوبة من صنع الخيال، صنعتها السياسة المدمرة العجولة. راح صدام حسين مهزوماً، على رأسه في صخب حرب تعرف بدايتها لكن نهايتها لم تتضح ملامحها بعد. راح صدام حسين متلفعاً بكفن الموت، الخارق للحياة راسماً عبرة بحجم السماء والأرض. راح وهو يصم أذنيه حتى لا يسمع هتاف الجماهير وهي تسقط تماثيله. حيث هرعت في تظاهرة هائجة تغني موته بترانيم الأفراح الوطنية.
غاب صدام حسين إلى الأبد دون أن يسمع معزوفات الحرية ودون أن يرى اللعب النارية وتهليل المآتم والمساجد والتكبير والهتافات التي بشرت العالم بنهاية عصر المجازر والأهوال الإنسانية التي امتدت 35 عاما.