|
-شغب- لنبيل صالح والصحافة السورية الساخرة
روزا ياسين حسن
الحوار المتمدن-العدد: 1605 - 2006 / 7 / 8 - 11:17
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
قل سخريتك وامش.. حالما انتهيت من قراءة كتاب "شغب" لنبيل صالح (إصدار خاص)، والذي جمع فيه 68 مقالاً له نشرها في الصحف السورية على مدى الخمسة عشر عاماً الأخيرة، عادت إلى ذهني جملتان، كنت قد دوّنتهما يوماً على دفتر مهمل، الأولى لمارك توين يقول فيها: "حينما نتأمل الجنس البشري، نشعر بأن من المؤسف أن نوح استطاع اللحاق بسفينته، ولم يغرقه الطوفان!". والثانية، لا أعرف من قائلها: "لست متحاملاً على أحد. أنا أكره جميع الناس بالتساوي". أحسست أن الجملتين تعبران عن حال نبيل صالح تماماً. فهو يكره الجميع بالتساوي، لأنه يحبهم للغاية، وبالتساوي أيضاً. كرهه يتجسد بدقة في مقالته "لا": "ما قال لا قط. لهذا تلاشى وجود المواطن في برامج حكومات الـ نعم نعم". المواطن، الذي يكرهه، والذي لم يقل لا، يتصادى في معظم مقالات الكتاب، ويعود بجدارة في مقالته "كان يا ما كان": "شعب يحبّ الأرض وخيراتها أكثر مما يحب السماء وشموخها، وما زال يحب الولوغ في الأرض حتى انحنى وراح يمشي على أربع!". إنه يكره الذين يمشون على أربع. يكره الذين يرزحون تحت السقف الواطئ من دون أن يحاولوا رفعه وإن قليلاً. يكره الدجاجات حتى لو كان ديكهم. يكرهها لأنها تستحق الأفضل. "غدوت ديكاً لأن أغلب من حولي كانوا دجاجاً!"، يقول في مقالته "نحن الديوك لنا الغد". على النسق نفسه يستمر في جملة مكمّلة للحالة: وذاك الذي يعتقد أنه بقليل من الحبر سوف يغسل ضمائر العالم، ثم يغرق في حبره ووهمه وبؤسه. كتبها عام 1997 كنبوءة، لأن يده ستُكَفّ عن العمل عام 2005. ولأنه، ككل صحافي حقيقي، كان همه الأوحد أن يعلّم الناس الشجاعة، فقد اكتشف، بعد كثير من الطعنات، أن الصحافي لن يغير العالم ولا وجه التاريخ، لكنه مع ذلك يكبر بعدد الناس الذين يحمل همومهم على ظهره. أولئك الناس، الذين يكرههم ويحبهم، لن يجعلوه يتخلى عن إيمانه: بأن أفضل طريقة لإصلاح العالم هي السخرية من أخطائه. بدليل أن هذه الجملة تتصدر الكتاب. المفارقة التي اكتشفتها متأخرة: أن الشعب الإنكليزي، وهو من أكثر الشعوب صرامة وتجهماً، يعود إليه الفضل في إنشاء الصحافة الأوروبية الساخرة. العرب، من بعدهم، من أكثر شعوب العالم إقبالاً على إصدار الصحف الساخرة وقراءتها، طبعاً في الأزمان التي يسمح فيها جزر الديكتاتوريات العربية بالمد الإعلامي الحر، أو شبه الحر. هل لأنهم، أي العرب، من أكثر الشعوب تجهماً على الأرض، وخصوصاً أن الاحترام، يتناقض، في رأيه، مع السخرية. ينبغي أن تكون متجهماً كي تكون محترماً وإلا. إنه ذاك الركن الأحمق الذي كتب عنه نبيل صالح في مقالته "شغب": "عليك أن تتجنب الاصطدام بهذا الركن الأحمق في رأس مديرك وزوجتك وخياطك ووزيرك"، الركن الأحمق الموجود حتى في أعظم الرؤوس في العالم. لكن نبيل صالح سيصطدم، على طول حياته الصحافية، بالركن الأحمق ذاك، كأن ليس هناك ركن غيره في رؤوس السوريين. سيتمدد الركن الأحمق في حادثة مشابهة أوردها نبيل صالح في مقالته "الموتى لا يضحكون"، حين كتب في إحدى وخزاته، في الصفحة الأخيرة من جريدة "تشرين": "إني لا أعلم في ما إذا كان برنارد شو قد تلقى تعليمه الابتدائي في مدارس ريف دمشق ولكنني أعرف أنه كتب في مذكراته: كنت صغيراً وكنت أتعلم ثم أدخلوني إلى المدرسة وعندها فقط توقفت عن التعلم". تلقى نبيل صالح جواباً من وزير التربية آنذاك (المقالة منشورة عام 2000) يشرح فيه، بمنتهى الجدية، أن برنارد شو كاتب. وهو من أصل إنكليزي. وأنه لم يتلقَّ تعليمه في ريف دمشق. كنت دائماً أحاول إقناع صديقيّ، يعرب العيسى وسلمان عز الدين، أن يجمعا مقالاتهما الساخرة، بامتياز، في كتاب. أخاف دوماً على مقالات الصحف من النسيان، في الشوارع وتحت السيارات، يرميها الهواء في شوارع المدينة. سيكون محزناً حقاً نسيان مقالات جميلة لساخرين أثبتوا جدارتهم في الصحافة السورية وغير السورية، فقط لأنها كتبت على صفحات الجرائد، مثل حسن م. يوسف، وليد معماري، وكوليت بهنا. أما حكم البابا، فقد اقتنع بالمسألة قبل نبيل صالح، لينشر "كتاب في الخوف - شاهد عيان على الصحافة السورية"، عام 2005 عن "دار كنعان"، وفيه مقالاته الساخرة الجميلة عن الفساد السوري. وصار معروفاً ما تعرض له حكم البابا من مضايقات وصلت حتى المحاكم، الى أن حُمِل أخيراً، وقبل حوالى الشهرين، على أن "يطفش" من بلده. ولأن الكتابة الساخرة هي الكتابة ضد السلطة، كل سلطة، فهي تستخدم سلاحاً من أعرق الأسلحة وأنبلها: السخرية. باعتبارها ثورة على قواعد اللغة والكليشيهات التقليدية الجوفاء، خارج منطق التحفظات والحسابات. الصحافي الساخر، هو ذاك الذي يسخر من كل شيء، يسخر لأنه ضد الثبات، وكأنه يحمل لافتة حفر عليها قول هيراقليطيس في 540 قبل الميلاد: "الشيء الوحيد الثابت هو التبدل المستمر". إذاً، السخرية ضد الثبات. والساخر غير ثابت إلا على شيء واحد: السخرية. يستمر نبيل صالح في ثباته على سخريته طوال الكتاب، حتى عندما يكون الموضوع منجزاً و"كبيراً"، كالحرية أو التأميم. فالحرية عنده كالأزياء: صيفية شتوية، بحرية وصحراوية (في مقالته "كل هذا الصبر")، حريات كالمايوه، وأخرى تشبه العباءة. وليس ببعيد عنها التأميم: "قبل التأميم كانت عين المدير على الشركة ومؤخرته على الكرسي. بعد التأميم صارت عيون المديرين المتعاقبين على الكرسي ومؤخراتهم على الشركة" (من مقالته "التصحيح"). لكن كيف سيتقبل الشعب "الجاد" تلك السخرية؟ المديرون الجادون، الوزراء الجادون، والمخابرات (الجادة للغاية)، سيصل الأمر إلى حد التهديد، التهديد بالتصفية، على أيدي المتضررين من مقالاته أو الفاسدين أو المسؤولين أو. وهذا ما تعرض له نبيل صالح، كما تعرض له كثير من الصحافيين الثابتين على سخريتهم في سوريا. وصل الأمر إلى حد رفع عشر إلى خمس عشرة دعوى في السنة ضده، رافعت نقابة المحامين عنه في معظمها ومجاناً. إحداها بعدما أعد نبيل تحقيقاً عن فضائح "سيريتل"، شركة الخليوي في سوريا، وقدمها لأمين تحرير جريدة "تشرين"، تحول التحقيق إلى الأمن، ولم ينشر بالطبع، لكنهم انتظروا نبيل صالح لينتقموا منه في قصة أخرى. وهذا ما حصل بالفعل حين كتب إحدى وخزاته، عن المركز الثقافي الجديد ببرزة، الذي افتتح في زمن وزيرة الثقافة مها قنوت، وأكملها عن غسيل سيارتها أمام الوزارة في اليوم الذي بدأ فيه تقنين المياه في دمشق. طُلب نبيل صالح لمقابلة وزير الإعلام، الذي كان وقتها عدنان عمران، الذي اعتبر أن الوخزة تشكّل تجنّياً على الوزيرة، وأن الموضوع الذي تطرّق اليه، موضوع المياه، هو أمر استراتيجي، ويجب ألا يتحدث الصحافي عنه البتة، وخصوصاً أن نصف مفاوضاتنا مع إسرائيل في شأن المياه! وختم الوزير خطبته، التي جلد نبيل صالح بها، بأن أمره أن يكتب عن الأشياء الإيجابية، وليس عن السلبية فحسب والتي يخترعها اختراعاً. كردّ، ولكنه لم يكن رداً مباشراً، كتب نبيل صالح: يجب أن تكتب غالباً عن الأشياء السيئة لكي تصبح كاتباً جيداً (في مقالته "كيفما اتفق"). إثر ذلك كفّت يد نبيل صالح عن العمل مدة ستة أشهر. في قول لشخص لا أعرف عنه شيئاً، ويا للأسف، إلا اسمه، أحمد الزعبي: "كلما ازدادت مساحة الحرية قلّت مساحة السخرية، والعكس صحيح أيضاً". أي أن السخرية لا تعمل إلا اقتناصاً. الكاتب الساخر كالسائر في حقل من الخطوط الحمراء، وغالباً ما تكون هذه الخطوط في بلدان الديكتاتوريات والفساد خطوطاً تحت الحمراء، أي غير مرئية، ولا يعلم متى سينفجر لغم أحد الخطوط في وجهه: في زمن وزير الإعلام محمد سلمان، أوقف نبيل صالح عن العمل ثلاث مرات، كل مرة من شهرين إلى ثلاثة وبأوامر شفهية. وفي زمن الوزير عدنان عمران توقف ستة أشهر، وكان توقيفاً شفهياً أيضاً. وفي زمن الوزير مهدي دخل الله كتب وخزة من وخزاته في صيف 2005، عن عضو في مجلس الشعب السوري، وبعد تشكيل لجنة تحقيق صدر كتاب خطي عن رئيس مجلس الوزراء بتوقيف نبيل صالح عن العمل مدة شهر، ولا يزال المنع سارياً منذ شهور وحتى اللحظة. الصحافة الساخرة هي أكثر أنواع الكتابة حاجة إلى تواطؤ بين الكاتب والقارئ، التواطؤ الذي يجعلنا، نحن القراء، نضحك على الظلام الذي يلفنا، لا على أشيائنا الجميلة. نضحك حتى حين يسألنا أحدهم بمنتهى الجدّية: أخي المواطن: عفواً، هل أنت ممسحة؟ (في مقالة نبيل "بكل مودة"). في كتابه "شمسات شباطية"، الذي جمع فيه بوعلي ياسين مستطرفات من حقول عدة، يورد طرفة من مصدر شخصي جرت في الثمانينات: "في لقاء على الهواء لمذيعة تلفزيونية سورية مع شرطي سير سألته: منذ متى تقوم بهذا العمل؟ فذكر لها الرجل عدداً من السنوات. فكان ردها: العمر كله، إن شاء الله". تنتابني رغبة أن أدعو لنبيل صالح، ولكل صحافي مثله خارج عن السرب، بالدعوة نفسها، وبغباء تلك المذيعة: العمر كله. وأن يعود كي يعمل كشرطي السير السوري تماماً. يعني أن يعمل على خربطة النظام السائد المتعفن، كما يعمل شرطي المرور على خربطة نظام السير الذي تجهد الإشارات المرورية لتنظيمه. إن شاء الله.
#روزا_ياسين_حسن (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أدب السجون في سوريا مسيرة الألف ميل
-
الاحتراق في أتون الكتابة- أثمان تدفعها النساء
-
الحافة التي تنبىء بالسقوط- لوز مر لكوليت بهنا
-
عاريات أو بالزي الرسمي
-
حين يؤسس الخيال مكاناً خارج السلطات
-
فاتح جاموس بشاله الأحمر.. أما آن لك أن تعود
-
قراءة في كتاب لؤي حسين: الفقد
-
صحفي يُغّرم بمائة مليون ليرة بسبب مقال - محاكمة الصحفي راشد
...
المزيد.....
-
-حالة تدمير شامل-.. مشتبه به -يحوّل مركبته إلى سلاح- في محاو
...
-
الداخلية الإماراتية: القبض على الجناة في حادثة مقتل المواطن
...
-
مسؤول إسرائيلي لـCNN: نتنياهو يعقد مشاورات بشأن وقف إطلاق ال
...
-
مشاهد توثق قصف -حزب الله- الضخم لإسرائيل.. هجوم صاروخي غير م
...
-
مصر.. الإعلان عن حصيلة كبرى للمخالفات المرورية في يوم واحد
-
هنغاريا.. مسيرة ضد تصعيد النزاع بأوكرانيا
-
مصر والكويت يطالبان بالوقف الفوري للنار في غزة ولبنان
-
بوشكوف يستنكر تصريحات وزير خارجية فرنسا بشأن دعم باريس المطل
...
-
-التايمز-: الفساد المستشري في أوكرانيا يحول دون بناء تحصينات
...
-
القوات الروسية تلقي القبض على مرتزق بريطاني في كورسك (فيديو)
...
المزيد.....
-
-فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط- استعراض نقدي للمقدمة-2
/ نايف سلوم
-
فلسفة البراكسيس عند أنطونيو غرامشي في مواجهة الاختزالية والا
...
/ زهير الخويلدي
-
الكونية والعدالة وسياسة الهوية
/ زهير الخويلدي
-
فصل من كتاب حرية التعبير...
/ عبدالرزاق دحنون
-
الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية
...
/ محمود الصباغ
-
تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد
/ غازي الصوراني
-
قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل
/ كاظم حبيب
-
قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن
/ محمد الأزرقي
-
آليات توجيه الرأي العام
/ زهير الخويلدي
-
قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج
...
/ محمد الأزرقي
المزيد.....
|