|
زمن موناليزا الحزينة: الفصل التاسع/ 4
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 6692 - 2020 / 10 / 1 - 20:36
المحور:
الادب والفن
في الأشهر السابقة لوضع بيان طفلتها، ظهرت بشكلٍ أوضح عوارضُ الخَرَف على الحماة. لكن العجوز كانت آنذاك ما تفتأ تشارك في أشغال البيت، ولو أنها تفعل ذلك كالسائرة في نومها. وعيها لحالتها المَرَضية، بيّنت عنه بتجرّد ونزاهة في آخر مراحل حبل كنّتها، لما أعلنت سلفاً عدم قدرتها على أداء وظيفة القابلة. وكان هذا آخر عهدها بالمهنة، التي مارستها طوال ستة عقود تقريباً. عقبَ ولادة حفيدتها، داهمها وسواسٌ لن يفارقها لحين رحيلها عن العالم بعد أقل من عام، تمثّل في تأكيدها العنيد بأن الطفلة لا تحصل على ما يكفيها من حليب الأم. شددوا المراقبة عليها بعدئذٍ، كونها حملت الحفيدة أكثر من مرة إلى بيوت الأقارب والجيران بحثاً عن مرضعة. رابعة، وكانت ما تني على ملاحتها مع دخولها سنّ الأربعين، لاحَ أنها برمت سريعاً من ملاحقة الأم وتهدئة نوبات وسواسها. لقد أسهمت في خدمة المنزل مذ أن أصبحت أرملة، وكانت آنئذٍ بعُمر الورود المتفتحة. في قرارة نفسها، كانت تُحمّل جميعَ أفراد الأسرة جريرة منعها من الزواج ثانيةً. ما جعلها امرأة صعبة الطبع، سوداء السريرة. ضافرَ من ذلك، قيامها طيلة أعوام على رعاية ابنتها البكر؛ وهذه كانت مبتلية بالشلل على أثر حادث أليم، ثم فارقت الحياة بعد تجاوزها سنّ العاشرة بقليل. بقيَ لها الابنُ الوحيد، " خَلّو "، المنتسب مؤخراً لسلك الشرطة غبَّ تخرجه من مدرستها. على حين فجأة، وبحجّة وجود مقر خدمة ابنها في القابون، أعلنت رابعة نيّتها الانتقالَ معه إلى تلك الضاحية: " مثلما أنّ من غير اللائق إقامته في منزلٍ، تتجول فيه بحريّة نساءُ أخواله الصبايا! "، أختتمت كلامها بهذه الجملة الفظة.
*** مع عنايتها بطفلتها، علاوة على ثقل بطنها بحمل جديد، دأبت بيان على الاهتمام بصحة السيّدة سارة، التي كانت تتدهور بشكل مضطرد. ثم استسلمت هذه للعجز الكامل في آخر أيامها، ولم تعُد قادرة على مغادرة الفراش حتى إلى الحمّام. في أوقات اهتمام الكنّة بها، متحمّلةً بصبر والبسمة لا تفارق وجهها الجميل، كانت العجوز تحلّق في ذكريات الزمن الآفل. كأن تستعيد طفولتها وصباها في الزبداني، كما لو أنها فارقت البلدة يوم أمس: " أخالُ أنّ أمي شارعة في زواج جديد، وعليّ منذ الآن التهيؤ لسماع عبارات لاذعة من زوجي الزعيم "، تقول للكنّة في أثناء العروج في فضاء الذكريات. المؤلم أكثر لهذه الأخيرة، أنّ الحماة ما عادت تعرفها، فأخذت تخلط بينها وبين امرأة أخرى: " حسنٌ أنك عُدّتِ أخيراً إلى الزبداني، يا حوريّة! سيغفرون لك هروبك مع ذلك المعلّم، النصرانيّ، وسيتعاملون أيضاً بلطف مع ابنتكما ". فيما بعد، استفهمت بيان من ابنة حميها عما لو كانت تعرفُ قريبةً لوالدتها، هربت مع معلّم نصرانيّ. فأجابت رابعة، وهيَ تروز زوجةَ أخيها بنظرة مليّة: " بلى، إنها تُدعى حوريّة؛ تزوجها جدّ والدتي عقبَ ترمله، وأنجبت له صبياً. لما أضحت بدَورها أرملة، كانت ما تني صبيّة، لكنها رفضت العديدَ من طالبي الزواج. أختفت فجأة ذات يوم، فأخذ البعضُ يشيعون حكايةَ هروبها إلى لبنان مع شاب نصرانيّ حتى تقبلها الجميعُ كأنها حقيقة ". ثم أضافت، كما لو أنها تتحدث عن نفسها بنبرة تأنيب الذات: " وإذا صحّت الحكايةُ، حقاً، لا يمكن لوم امرأة صبيّة يُراد لها أن تُدفن في الحياة لمجرد كونها أرملة ".
*** ليست رابعة حَسْب، مَن تهرّبت من خدمة العجوز المريضة. مزيّن، وكانت تُعامَل سابقاً مثل الخادمة على أيدي نساء أخوتها، تحولت في منزل الزوج إلى سيّدة أنوفة، تترفّع عن القيام بأسهل المهمات. لم يكن في وسعها فعل ذلك، إلا وقتما تخلّصت من رقابة حماتها، التي صارت من العجز ألا تستطيع رفعَ الرأس عن الوسادة. لم تكتفِ بإهمال العناية بالعجوز، بل وكانت تصرخ غاضبةً حينَ ترى وعاء التغوّط، الخاص بهذه الأخيرة، قد ترك في الحمّام: " ما هذا القرف، رباه! أكل مرةٍ عليّ تنبيهكِ إلى الوعاء، المملوء بالأقذار؟ "، تخاطب بيانَ وهيَ تركل الوعاء بقدمها. من ناحيتها، كانت هَدي تراقبُ من خلال نافذة حجرتها ما يجري خارجاً، لتعلّق عليه ساخرةً حينَ تلتقي مع أقاربها. هيَ أيضاً، لم تفتح مرةً بابَ حجرة الحماة كي تطمئن عليها. ولأن ذكر المرض كان يزعج شعورها المرهف، فيظلم وجهها عندئذٍ، فإن سلو كفّ تماماً عن سؤالها عن وضع والدته. وكان من جهته يُبرر عدمَ قيامه بنفسه على الاطمئنان على الأم، التي تبعد حجرته عن حجرتها خطوات قليلة، بالقول لمن حوله: " ما عادت تعرفني، وهذا شيءٌ مؤلم جداً بالنسبة لي ". جمّو، كان يعلّق على كلام شقيقه آنَ يجتمع مع بيان: " كل يوم تقريباً يولم لأقارب زوجته، ولم يدعُ مرةً قط والدته حتى لفنجان قهوة ". وكان على بيان في يوم آخر أن تأتي إلى رجلها، باكيةً، لتشكو من المرأة نفسها. كانت في أبهى زينتها، متهيئة لحضور عرس في الحارة: " قلتُ لهَدي أن تهتم بوالدتك بضعَ ساعاتٍ، وأنني جهزتُ لها العشاء. لكنها رفضت، وقالت لي بوقاحة أن ابنتها أولى بخدمتها ". فمكث هوَ تلك العشية إلى جانب الأم، مع أنه كان مدعواً أيضاً إلى العرس.
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
زمن موناليزا الحزينة: الفصل التاسع/ 3
-
زمن موناليزا الحزينة: الفصل التاسع/ 2
-
زمن موناليزا الحزينة: الفصل التاسع/ 1
-
زمن موناليزا الحزينة: الفصل الثامن/ 5
-
زمن موناليزا الحزينة: الفصل الثامن/ 4
-
زمن موناليزا الحزينة: الفصل الثامن/ 3
-
زمن موناليزا الحزينة: الفصل الثامن/ 2
-
زمن موناليزا الحزينة: الفصل الثامن/ 1
-
زمن موناليزا الحزينة: الفصل السابع/ 5
-
زمن موناليزا الحزينة: الفصل السابع/ 4
-
زمن موناليزا الحزينة: الفصل السابع/ 3
-
زمن موناليزا الحزينة: الفصل السابع/ 2
-
زمن موناليزا الحزينة: الفصل السابع/ 1
-
زمن موناليزا الحزينة: الفصل السادس/ 5
-
زمن موناليزا الحزينة: الفصل السادس/ 4
-
زمن موناليزا الحزينة: الفصل السادس/ 3
-
زمن موناليزا الحزينة: الفصل السادس/ 2
-
زمن موناليزا الحزينة: الفصل السادس/ 1
-
زمن موناليزا الحزينة: الفصل الخامس/ 5
-
زمن موناليزا الحزينة: الفصل الخامس/ 4
المزيد.....
-
الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
-
يفوز بيرسيفال إيفرت بجائزة الكتاب الوطني للرواية
-
معروف الدواليبي.. الشيخ الأحمر الذي لا يحب العسكر ولا يحبه ا
...
-
نائب أوكراني يكشف مسرحية زيلينسكي الفاشلة أمام البرلمان بعد
...
-
مايكروسوفت تطلق تطبيقا جديدا للترجمة الفورية
-
مصر.. اقتحام مكتب المخرج الشهير خالد يوسف ومطالبته بفيلم عن
...
-
محامي -الطلياني- يؤكد القبض عليه في مصر بسبب أفلام إباحية
-
فنان مصري ينفعل على منظمي مهرجان -القاهرة السينمائي- لمنعه م
...
-
ختام فعاليات مهرجان القاهرة السينمائي بتكريم الأفلام الفلسطي
...
-
القاهرة السينمائي يختتم دورته الـ45.. إليكم الأفلام المتوجة
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|