علي جواد عبادة
الحوار المتمدن-العدد: 6691 - 2020 / 9 / 29 - 19:08
المحور:
الادب والفن
"الشعرُ يُلدُ في العراق" , أو هكذا خُيِّل إلينا بأنه "يضعُ شفتَيه على ثدي بغداد" ولكن أي شعر؟ وأي وعي يقبع تحت لغة هذا الشقي المولود في العراق , والراضع من ثدي عاصمته ؟ ليست مِمّا تحتاج إلى دليل تلك القطيعةُ التي نعيشها في انصاتنا إلى لغة الشعر الحديث ، إذ لا نتحسسها ، و لا نتذوق النصوص المدونة بها ، نتعاملُ معها نقدياً بتمحلات ، وتقعّرات ، وفذلكات ؛ لنصل إلى دلالةٍ تُرضي غرورَ ثقافتِنا لا غير ، أو بتعبير أكثر دقة : دلالة يكون النصُّ مناسبةً للحديث عنها, فتقدِّمُنا بوصفنا أصحابَ الرؤية الجمالية العميقة التي تسبر أعماقَ النصوص؛ لتتذوّق العلاقة بين الدال والمدلول ، وفي الحقيقة نحن في خواء مطلق ، ولحظة نقدية مُفتعلة.
هذه القطيعةُ حتمتْ علينا النأيَ عن الانصاتِ للشعر ، وفرضتْ على الشاعر الحديث - انتساباً إلى العصر وليس إلى الوعي - الذي يرغب بكسب ودّ الجمهور أن يتحايلَ على هذه اللغة ؛ فيكتبُ ما يريدُهُ الجمهورُ بلغة تحترمُ الحركاتِ الاعرابية، وتنزلُها بمنازلها الصحيحة ، لكن دونما تذوقٍ حقيقي لأواصر الارتباط بين التراكيب؛ ليجعلهم تحت تأثير ما يعرفُونه مسبقاً ، لا ما كشَفَهُ لهم النصُّ ، أو حَثَّهم على تأملِهِ ، ومن ثم تأويلِه .
الحداثةُ ، وما بعدها ، وما بعد ما بعدها لحظاتُ وعي -قبل كلّ شيء- ، وما عدا الوعي قشور . ولو تأملنا شعرنا الحديث , بنماذج كثيرة منه ، ولتجارب كبيرة ومهمة , لألفينا أنفسنا أمام بهرجٍ لغويّ عظيم ، واحتفاء مُطلقٍ بالحركات الاعرابية . وتحت هذا البهرج اللغوي يقبع وعيٌ شعبيٌ فطريٌ بسيطٌ ، وعي يهزُّ حتى مَن لا يحبُّ الشعرَ ، ولا يجد فيه ما ينفع .
هذا الوعي الشعبي لا حدّ لتمثلاته ، إذ يظهر في : السخرية ، والمفارقة ، والتورية ، وتوظيف الحكاية الشعبية ، والمناسبة ، والمثل ، والأغنية ، والمفردة الشعبية ، أو تناص مع آيات قرآنية اكتسبتِ الشعبيةَ بفرطِ الشيوع ، أو في المناخات التي تجنحُ المخيلةُ إلى رصد الطبقاتِ الهامشيَّة من المجتمع ، أو الحنين إلى الريف ، أو شعرنة القضايا الاجتماعية والمناسباتية .... إلخ ، فما من قصيدة يتفاعلُ معها الجمهورُ إلا وتحت بهرجِ ألفاظِها وعيٌ شعبيٌ ؛ لأنّ الذاكرةَ اللغوية التي يمتلكُها الجمهورُ ذاكرةٌ شعبيةٌ ، لا ينطبق لسانُها إلا على لسانٍ من صنوها .
قد يزعجُ هذا الكلامُ الشعراء , وغيرهم , ما لم يُدعَّم بأمثلة من تجارب شعرية لها ثقلُها في الوسط الثقافي والشعري ، لننصت أولاً إلى ( كاظم الحجاج ) الذي يقول :
جنوبيون
مثل خبز الأرياف..
خرجنا من تنانير أمهاتنا ساخنين..
لنليق بفم الحياة.
ليس ثمة من خلل يلحقُ هذه الصورة الشعرية لو أن (كاظم الحجاج) نصب ( جنوبيون ) وقال : ( جنوبيين ) هذا التحديد الإقليمي أو المناطقي لا يعني شيئاً سوى زجّ المتلقي في فضاء شعبوي مُستَمَد من شعبية الجنوب العراقي ، وجملة التشبيه التي تلتِ المبتدأ( جنوبيون) سافرةٌ في شعبيتها ، وصريحة في خيالها الريفي ، والصورة الشعرية برمتها تُعبّر عن وعي شعبي في النظر إلى العالم . ولو أننا التمسنا العذر من فخامة المعيار النحوي ونصبنا ( جنوبيون ) على الرغم من رافع الابتداء ألا يكون المعنى أكثر توهجاً ؟! بالنظر إلى كون الـ(جنوبيون) هم مفعول به معنوي لما يقضمه فمُ الحياة .
مثلَ هذا الوعي الشعبي نلمحُ في بيت الشاعر (حسين القاصد) الذي يقول :
أُمّي على التنورِ ماتَ رغيفُها
فأتتْ بمهجتِها إليّ مدورةْ
المعنى الشعري في هذا البيت يبقى هو هو لو أننا نصبنا المرفوع ورفعنا المنصوب ؛ لأننا - ببساطة - لا نتلقاه بناءً على احساسنا بالعلاقات النحوية التي تشد التراكيب إلى بعضها , إنما وعينا الشعبي الذي يختزن صورةً مضحيةً للأم هو من يُحفَّز ويُثار ، فالأم مضحيةٌ في الحداثة وما قبلها ، وما بعدها ، وما بعد ما بعدها إلى يوم يبعثون ، وحين يُعاد تشكيل هذه التضحية الغافية في لا وعينا بألفاظ مُزخرَفة بالحركات الاعرابية فأننا ننتشي ، ونصفق ، ونهتف بـــ : (اعدْ ).
ومثال آخر عن الوعي شعبي ما نقرأه في نص الشاعر (حمد محمود الدوخي) المعنون بــ( كاظم غيلان ) ، إذ يقول :
جاء للشعر
من خضرة في ( العمارة )
فامتد ريفياً بصوت ( عبادي العماري )
وكان جليلاً
كخمرته
إنه كاظم القهر والحب والحزن
والهم والوجع المستديم بجيب
الرمال
لولا الاستعارة الأخيرة ( بجيب الرمال ) لما تنفس المقطع الشعري برمته وعياً شعرياً غير الوعي الشعبي السافِر المُستَمَدّ من شعبية محافظة (العمارة) ، ورمزية المطرب الشعبي (عبادي العماري) . ولو سكت الشاعر قليلاً بعد اسم الفاعل : (كاظم) في التركيب (إنه كاظم القهر والحب والحزن) ، لصاح الجمهور : الغيظ ؛ لأن هذا التركيب معهود في المخيلة الشعبية الجنوبية العراقية ، وبشكل مقدس أيضاً ، وهذه الاستعارة الصحراوية في مرجعياتها لا يمكن لها أن تحدث أثراً في مقطعٍ شعري سبعةٌ من أسطرِهِ شعبية في وعيها , وهي السطر الثامن والأخير .
وللقارئ الكريم حرية تأمل قصيدة النثر للشاعر (علاوي كاظم كشيش) , إذ يقول : (لم تزلْ في لندن فالاتنا، في الصباحاتِ البريةِ كانت خيولُنا تخبُّ في غبارِ الغضبِ , تقفُ الصقورُ على شواربِنا ولا تكسرنا أنثى. ومنذ ارتعدتِ الأرض هجرنا مضاجعنا ... بيوتُنا من طينٍ , وبراءة أقمار، في باحاتها العصافيرُ تلعبُ وأطفال يتطاولون مع البنادق والمساحي ...على شواربنا تقف الصقور) !, إنه الوعي الشعبي بأبهى تجلياته : فالات , وخيول , وبنادق , وشوراب , ومساحي , أليس كذلك؟
ضيق المقام يحتم الاكتفاء بهذه الأمثلة ، ويدفعنا للقول : إن الوعي الشعبي ليس تقليلاً من شاعرية أحد ، أو سحب بساط الحداثة والتحديث من تحت تجربته الشعرية ، إنما هو حقيقةٌ تجبرنا المكابرةُ على الاعتراف بها ، حقيقةٌ فرضتها القطيعةُ التامة بين اللغة الفُصحى والعاميَّة حتى عند الشعراء نفسهم ، فقد ماتت الأولى ، وظلت محنطة في متاحف القواميس والمعاجم ، وما نحتفظُ به الآن هو المعيار النحوي فقط ، نُركِّبَهُ على لغةٍ مشتركة تحتها وعي شعبي ، يُذكِّرُنا بالغافي في تضاعيف ذاكرتنا ؛ لنخرج بنصّ عسى أن يستحقّ جدارة منصة المربد .
الكلمة التي لا بُدّ من قولها : إن هذه المقالة الموجزة لا تبتغي التعميم، وليس من حقها ذلك , ولا تنسب شعراء كبار إلى وعي شعبي قد يترفَّع عنه كثيرون ، إنما هي محاولةٌ بسيطةٌ , أو خطوطُ عريضةُ لدراسةٍ- لي قيد الانجاز – تتبَّعُ ظاهرةَ الوعي الشعبي في القصيدة الحديثة ، والأمثلة التي وقفنا عندها لا تُتعمّم على تجربة الشاعر كلها إنما هي تمثلات تدعمُ ظاهرةَ الوعي الشعبي في القصيدة الحديثة ، يتفاوت وجودُها بين شاعر وآخر ، بحسب مرجعياته الشعرية , ورؤيته إلى الكون والأشياء والإنسان.
أكاديمي عراقي
#علي_جواد_عبادة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟