جعفر المظفر
الحوار المتمدن-العدد: 6688 - 2020 / 9 / 26 - 19:12
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
أحدهم إدعي أن موقف الشيعة لدعم العثمانيين في أثناء حربهم مع الحلفاء الغربيين هو دليل على أخلاقيتهم العالية التي لم تكن تقبل الغدر في حين أن السنة العراقيين الذين كانوا في في إسطنبول والذين شاركوا بعدها في ثورة الشريف حسين ضد العثمانيين قد تصرفوا عكس ذلك حينما تحالفوا مع الإنكليز ضد أخوتهم في الدين والمذهب. هؤلاء ينسون أن السنة العرب ومنهم العراقيون قد ثاروا ضد سياسة التتريك والغطرسة التركية التي جاءت بها جمعية الإتحاد والترقي, وأنهم كانوا حسبوا أن الفرصة قد حانت لتحرير الأراضي العربية من الهيمنة العثمانية, وطمعا في تنفيذ الوعد الذي قدمه الحلفاء للشريف حسين بإقامة دولة عربية واحدة بقيادته, وإن المسألة بذلك لا تتناقض مع عرفٍ أخلاقي وإنما هي تتماشى مع عرف سياسي إنساني يقر بالإستقلال كحق أساسي من حقوق الشعوب.
وما دامت هناك حاجة حالية ل (طيفنة) العراق الملكي من أجل تبرير شرعية الطيفنة العراقية الحالية فقد صارت هناك حاجة لعصر كل المشاهد السياسية السابقة في معصرة طائفية حتى يكاد المرأ يتصور ان الملك فيصل الأول قد حضر إلى بغداد رافعا بيده راية بني أمية وأن ساحة القشلة في حفل التتويج قد زينت بصور أبي حنيفة وأن الفرقة الموسيقية التي شاركت في الإحتفال قد عزفت سلاما ملكيا كتبه الشافعي ولحنه إبن حنبل.
إن ما كتبته في هذه المقالة, وفي سلسلة المقالات التي سبقتها والخاصة بالموضوعة نفسها أو القريبة منها, هو محاولة توصيف المشهد العراقي الملكي عن طريق إعادة تفكيكه وذلك لمتابعة المشهدين الأهم اللذَين جاءا معه وهما (دولة العراق المدني المُعوّق) و(دولة الكيان الشيعي الموازي) وكان مما إنتهيت إليه أن هذه الأخيرة حاولت أن تحافظ على هويتها وإستقلاليتها في زمن هو غير الزمن الذي أنتجها, إضافة إلى الرأي القائل أن التقدمي في مرحلة قد يتحول إلى رجعي في مرحلة أخرى ما لم يراعي معطيات الزمن الذي يعيشه وأتيت مثلا على ذلك كيف أن رجال الدين وشيوخ القبائل الثائرين على الإحتلال الإنكليزي في ثورة العشرين قد تحولوا بعد ذلك من ثوار عجلوا بتأسيس الدولة الملكية عام 1921 إلى إقطاعيين ومنتفعين عجلوا بسقوطها عام 1958 .
وفي المقالات السابقة والخاصة بهذا الشأن قلت أن ليس من الحق تحميل سياسيي (السنة) الملكيين, وفي المقدمة منهم الملك فيصل ورجال آخرون من أمثال نوري السعيد وعبدالمحسن السعدون ورشيد عالي الكيلاني مسؤولية إيجاد هذا (العَوَق), فالدولة العراقية الجديدة التي نتجت من تجميع الولايات العراقية الثلاث كانت قد أدت إلى تأسيس جغرافية واحدة لكن بثلاثة أزمنة, وإن ما نتج من إفتراقات وخصومات بعدها قد نتج من محاولة تجميع الأزمنة الثلاث في جغرافية واحدة مع الوقوف ضد نهج الحالة المدنية لإنتاج زمن عراقي واحد.
إن الإفتراض الذي يقول أن نوري السعيد مثلا كان (سنيا) هو إفتراض خاطئ فالرجل لم تكن له علاقة بالدين أو المذهب (هل عمركم رأيتم نوري السعيد يصلي في جامع أو أنه كان يشيخ). وحتى لو أنه كان سني المذهب فهذا لا يعني بالضرورة أنه كان سنيا في السياسة. كما أن الدولة الجديدة كانت خرجت إلى النور بعد أن طوى العالم صفحة الدولة الدينية (العثمانية) إلى صفحة الدولة المدنية (العراق)
ولنتذكر أن العصر نفسه لم يكن عصرا طائفيا ولم تكن الطائفية نفسها في معرض التفعيل أو التسويق حتى جاءت الدولة الخمينية في إيران وقبلها حزب الدعوة في النجف, وليجمع هذا الأخير مجموعة من اللقطات الطائفية التي كان يجب الرد عليها بمناهج غير طائفية لكي لا تبنى أساسيات بناء الدولة الطائفية. وإن هذا هو الذي حدث بعد عام الإحتلال حيث إعتمد اليمين الأمريكي بقيادة بوش على تبني مفهوم المظلوميتين الشيعية والكردية لإعادة إنتاج الأزمنة المختلفة الثلاث (الشيعي والسني والكردي) وتفعيل خصوماتها وإفتراقاتها ضمن الجغرافية الواحدة.
كما أن رجال الدين الشيعة الذين كانوا شاركوا أو قادوا ثورة العشرين ضد الإنكليز فعلوها ضد الأخيرين بوصفهم حالة إحتلال ولكونهم أعداء للإسلام, وهم الذين كانوا قد دعوا وقتها, في أثناء الحرب العالمية الأولى, للإصطفاف مع الدولة العثمانية (الإسلامية الهوية) ضد (الإنكليز الكفار).
والأكثر أهمية أن الرجال (العراقيين السنة), ومن منطلق قومي, هم الذين كانوا قد ثاروا ضد (العثمانيين السنة), في حين أن (العراقيين الشيعة), ومن منطلق ديني, هم الذين آزروا (العثمانيين السنة) الذين هيمنوا على العراق لفترة قاربت الأربعة قرون, أما السبب فلم يكن صعبا إدراكه : إن الكيان الشيعي الموازي كان نتاجا من نتاجات الدولة العثمانية وصار مهددا بالزوال بزوالها.
وبعد أن تأسست الدولة العراقية الجديدة برئاسة الملك فيصل وكادر الحكم الجديد, وبحدود علمي, فإن لا أحد من المرجعيات الدينية الشيعية كان قد أصدر فتوى أو بيان يدين النظام الجديد بوصفه نظاما سنيا طائفيا, وإنما كانت الإتهامات من بعضهم تنصب على النظام لجهة تبعية النظاك للإنكليز.
وبكل تأكيد فإن علينا أن لا ننسى دور (أبو ناجي), فهو الذي أسس (مشكورا) لقاعدة حكم الدولة المدنية, وقد صادف أن العراقيين الذين تحالفوا معه برفقة الشريف كانوا من السنة المتواجدين قبلها في إسطنبول والتي غاب عنها العنصر الشيعي ولم يكن له تواجد فعال حينما إختار الإنكليز رجالات الحكم الجديد.
بل أن هذا العنصر الشيعي كان ضد الإنكليز ومع العثمانيين, لذلك لم يكن متوقعا أن يعتمد الإنكليز على رجال وقفوا ضدهم ويتركوا الرجال الذين تحالفوا معهم. ومعروفة هي قصة (الثورة العربية الكبرى) التي قادها الشريف الهاشمي. ورغم ذلك تؤكد بعض الأدبيات السياسية أن الإنكليز كانوا عرضوا منصب رئاسة الوزارة على الشيعة الذين رفضوها.
ولن يكون مستغربا أن نصدق بذلك مع وجود معطيات تؤكد على قيام بعض علماء الشيعة على تحريم العمل في وظائف الدولة أو الإنتماء للجيش وخاصة في السنوات التي تلت مباشرة تأسيس الدولة العراقية الجديدة, ولن يعني هذا أن الإنكليز كانوا ميالين إلى إصلاح الوضع الإجتماعي العراقي الداخلي سواء على صعيد طائفي أو أثني وعرقي بل يعني أنهم كانوا ميالين لتسهيل قيام دولتهم العراقية الجديدة من خلال إزالة بعض العقبات التي قد تعترض طريق التأسيس.
وسنرى أن قصتنا ستكون معكوسة مع دخول الأميركان بعد الإطاحة بصدام, فالأمريكان كانوا قد إعتمدوا بشكل رئيسي على الشيعة والأكراد بوصفهم شيعة وأكراد وليس بوصفهم عراقيين, ولم تكن إيران بعيدة عن بناء المشهد العراقي الجديد وعن تأسيسه.
وهنا فليس ظلما أن نقول أن السنة مع الإنكليز قد أقاموا دولة, في حين أن الشيعة مع الأمريكان قد أطاحوا بها, وأن المشروع الإنكليزي مع السنة كان مشروع بناء, في حين أن المشروع الأمريكي مع (الشيعة) كان مشروع هدم¸ وهذا سيجعلنا في ساحة المقارنة إن شئنا بين مشروع الدولة الملكية, اللاطائفية النهج, والتي لم تكن خالية من الطائفيين, وبين مشروع دولة المظلومية الطائفية ألنهج والمليئة حد التخمة بالطائفيين.
إن الحكم الملكي لم يكن (طائفيا) بالنهج, مع أنه كان (طويفيا) بالتركيبة. غير أن حكم عبدالكريم قاسم كان وطنيا بالفعل. كان الرجل دكتاتورا لكنه لم يكن طائفيا ولا طويفيا, ومع ذلك وقف ضده طائفيو الشيعة بوصفه عابرا للطوائف والنهج الديني, وليس بوصفه دكتاتورا (قانون الإصلاح الزراعي وقانون الأحوال الشخصية كأمثلة), وعلى الرغم من أنه إنتصر لعامة الشيعة من خلال منطلقات مدنية وتحولات إجتماعية وطنية.
ويبدو أن الإنتصار لعامة الشيعة كان يصدم بالضرورة مع مقومات حالة الكيان الشيعي الموازي لأنه كان سيؤدي إلى خروج شعب الكيان إلى رحاب الدولة الوطنية الواحدة الذي من شأنه تحقيق وحدة الأزمنة العراقية الثلاث في زمن واحد, ولنتذكر أن العامة من الشيعة كانوا من الفقراء الفلاحين الخاضعين لسلطة الإقطاع المتحالفة مع رجال الدين, حيث كان هؤلاء الفلاحون مهيئين تماما للخروج من زمن الكيان الشيعي الموازي الذي يستغلهم ويتعامل معهم بإمتهان وحتى بإحتقار.
وفي بدايته كان صدام حسين كذلك, أي غير طائفي, غير أنه إنتهى إلى أن يكون كل شيء من أجل البقاء في السلطة, كاتبا القرآن بدمه ومعلنا ثورته الإيمانية التي أرادها أن تضمن ولاء السنة لنظامه بعد أن تيقن بخروج (الشيعة) عليه.
ولو أن السلطة كان مقدرا أن يحميها الشيعة لصار صدام هو نفسه شيعيا.
وفي إعتقادي فإن علينا التمعن مليا بتجربة العامة من الشيعة الذين أحبوا عبدالكريم قاسم رغم أنه كان سنيا وسنخرج بنتيجة تقول/ دعوا دين الحاكم ومذهبه وإنظروا إلى فعله/ ثم يصير من حقنا كعراقيين أن نسأل : ترى من كان قد إضطهد الشيعة أكثر سنة الحكم أم شيعة العمامة (مع الإعتذار لبعض العمائم الوطنية) التي تدعو إلى الإلتحام بالزمن العراقي الوطني والتخلي عن نظام دولة الكيان الشيعي الموازي الذي اصبح أشد وضوحا وتاثيرا.
في الدولة الملكية, نعم كانت أكثرية السلطة بيد السنة, لكن النظام لم يكن سنيا, وهذا سيقودنا بكل تأكيد إلى ضرورة التمييز بين السلطة وبين النظام. فقد تكون أغلبية السلطة سنية أو شيعية أو كردية, وقد يكون الحاكم من أخوتنا التركمان, لكن الدولة لن تكون طائفية إذا كان نظامها ونهجها غير طائفي. الدولة الأمريكية على سبيل المثال حكمها رئيس كاثوليكي واحد ( جون أف كندي) من أصل أربعة وأربعين كلهم من البروتستانت, لكن أي من هؤلاء لم يحاول أن يقدم هويته المذهبية على هويته الوطنية لتصير دولة برئيس بروتستانتي ووزير خارجية كاثوليكي ووزير داخلية مورمني .
وفي دولة كهذه, لن يكون مذهب رجل السلطة هو مذهب النظام الوطني والذي لا مذهب له ولا دين, لأننا نتحدث هنا عن دولة مدنية كانت قد تأسست في عالم ترك تماما عصر الدولة الدينية إلى عصر الدولة المدنية.
ومثل ذلك فقد ترأس هذه الدولة واحدا فقط من الأقلية الأمريكية ذات الأصول الأفريقية الذين يسعون, أي السود, من خلال دستور بلدهم إلى بناء دولة ونظام ومجتمع خالي من العنصرية ولا يهم إذا حكمه رئيس من السود أو من البيض.
وهم رغم مظلوميتهم الكبيرة إلا أنهم لم يسعوا إلى تحويل هذه المظلومية إلى مشروع لبناء دولة. ولن يعني هذا في جميع الأحوال أن الدولة الأمريكية, نظاما وحكومة, خالية من التمييز أو العنصرية لكنه يعني أن المجتمع ليس بحاجة إلى إقامة دول داخل الدولة الواحدة بل يعني إستمرار العمل من أجل التغيير نحو الأفضل.
إن شيعيا طائفيا يدعي بأن الدولة الملكية العراقية كانت دولة سنية إنما يجهل أنه بفعلته هذه إنما يقدم خير العهود العراقيةِ هديةً للسنة, ويُبقي على أسوء العهود ذا صلة أساسية بالشيعة والأكراد .. وسأقول : يا أخوتي في الوطن .. ما هكذا يكتب التاريخ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*حرب السبعينات بين النجف وبغداد القسم الخامس
#جعفر_المظفر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟