ذكرت صحيفة التايمز البريطانية أن الضغوط الدولية المكثفة على الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات التي تضمنت تهديدات بنفيه أو حتى تصفيته،هي التي أدت إلى موافقته على تشكيلة الحكومة الفلسطينية (العباسية) من محمود عباس،الرئيس الجديد لمجلس الوزراء المرتقب والمعروف بأبي مازن. واعتبرت الصحيفة نفسها أن هذه بداية نهاية عرفات،هذا على الرغم من تصريحات الوزير نبيل شعث الذي سيكون وزيرا لخارجية الحكومة الجديدة، حيث قال شعث في معرض تعليقه على نتيجة الضغوط التي خرج منها الرئيس عرفات مهزوما ورئيس وزرائه ووريثه الغير منتخب أبو مازن منتصرا، قال الوزير أنه لا يوجد منتصر ومهزوم، ولدينا الآن حكم برلماني و رئاسي مشترك. وأكد شعث أن القرارات ستكون مشتركة وبعضها الآخر سيتخذها رئيس الوزراء وقرارات أخرى ستكون من صلاحية الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات. لكن المتابع للشأن الفلسطيني يعرف أن الجولة انتهت عمليا وفعليا لصالح أبو مازن الذي حقق تقريبا كل ما يريد وما تسمي أبو مازن نفسه وزيرا للداخلية وتعيين محمد دحلان وزيرا لشؤون أمن الدولة إلا حفظا لماء وجه الرئيس عرفات، فمن الطبيعي أن يعطي أبو مازن وزير أمنه دحلان كامل الصلاحيات في الشؤون الأمنية، وهنا تتبخر وتذهب عبثا معارضة عرفات لتعيين دحلان وزيرا للداخلية. لكن المشكلة الكبيرة والأكبر من دحلان وتقسيم الحقائب الوزارية تبقى متجسدة في الافتراق التكتيكي والسياسي الذي تعزز بين عرفات ومن معه وأبو مازن والذين يناصرونه من ديناصورات سلام الشجعان. فهذه المجموعة من الذين يعارضون استمرار الانتفاضة ويريدون إنهاء ما يسمونه عسكرتها أي بمعنى آخر أي شكل من أشكال المقاومة المسلحة، ويطالبون بذلك بدون تقديم بديل وطني يحفظ ويصون التضحيات ويلبي حاجة المجتمع الفلسطيني إلى الأمن والسلام والحرية. العالم كله يعرف أن إسرائيل بحاجة للأمن وان المنطقة بحاجة للسلام، لكن هذا العالم نفسه يتجاهل عن قصد أو بدون قصد أن الشعب الفلسطيني بحاجة أيضا للأمن والسلام وقبل كل شيء للحرية المفقودة والاستقلال الغائب بفعل الاحتلال. وطالما بقي الاستقلال الفلسطيني هشا والحرية مغيبة والسلام بعيد والأمن مفقود فأن سلام وأمن الطرف الآخر لن يرى النور طالما بقي فلسطيني واحد موجودا على وجه الأرض الفلسطينية ويحمل بيده الرشاش والحجر والهوية الوطنية الفلسطينية.
على الجميع أن يعي ويعلم ويعرف أن القضية الفلسطيني ليست قضية ياسر عرفات ولا هي زوجته الثانية أو الأولى، إنها قضية ملايين اللاجئين في المنافي ،في مخيمات الشتات وهؤلاء لم ينتخبوا أي شخص من قيادة السلطة الفلسطينية للتحدث باسمهم ولم يفوضوا أحدا كان التنازل عن حقوقهم وأولها حق العودة المصان والمحمي بقرارات دولية غير قابلة للتصرف ولا تخضع للتنازلات السلطوية،فحق العودة قبل كل شيء هو حق شرعي لكل لاجئ فلسطيني تشرد من أرض فلسطين التاريخية والطبيعية ولذريته أيضا،كما أنه لا يحق لأحد غير اللاجئ المذكور وذريته التنازل عن هذا الحق الشرعي والقانوني والمقدس.قد يقول قائل أن هذا الشيء غير مقبول إسرائيليا وغير معقول عالميا، فنقول له كيف إذن يقبل العالم هجرة اليهود الروس والفلاشا من إثيوبيا والاتحاد السوفيتي سابقا وغيرهم من يهود العالم، ومن ثم استيطانهم أرضنا المحتلة في فلسطين 1967 وكذلك استيلائهم بتشجيع من الدولة الإسرائيلية على أراضي فلسطين الطبيعية والتاريخية سنة 1948.
هذا العالم الذي يرى بعين واحدة لأنه ينظر باتجاه واحد وبمنظار مصوب نحو جهة واحدة، يجب عليه الكف عن التلاعب بالكلام كما كان يتلاعب بالحقوق والواجبات اتجاه شعب مشرد يخضع لأبشع أنواع التفرقة العنصرية وعمليات الاستئصال والأجتثات من أرضه ووطنه.أما الذين يقولون بأن إسرائيل لن ترضى بعودة اللاجئين وقد تستعمل من أجل ذلك القنبلة الذرية أو السلاح النووي،فنحن لا نأخذ تلك التخوفات والتوقعات مأخذ الجد ولا نوافقهم الرأي ونؤكد لهم بأن سلاح الحق الفلسطيني المسنود بإرادة سياسية قوية وكوادر تفاوضية أمينة وذات خبرة تفاوضية عملية وسياسية علمية وطنية متينة، مدعومة بنهج مقاومة عقلاني وواقعي يستند بعمله وأساليب ذاك العمل لخلفية سياسية مبرمجة،هذا التناسق السياسي الميداني سينعكس بالإيجاب على الوضع الفلسطيني وسوف يجني شعب فلسطين ثماره مع الأيام. أما أن يسلم البعض الراية ويعلن وفاة القضية الفلسطينية أو موتها موتا بطيئا بعدما أثبت الأمة العربية أنه لا يوجد فيها جبهة مفتوحة فعلا للمقاومة والحرب المباشرة والمثابرة والصمود غير الجبهة الفلسطينية الصامدة منذ زمن طويل على الرغم من التوازن المفقود في العدة والعدد والدعم والمدد. هذا الصمود الفلسطيني الذي تتوج بحصار الرئيس عرفات ومحاولة استئصاله نهائيا من الحياة السياسية الفلسطينية، يجعلنا وعلى الرغم من خلافاتنا مع نهج وطريقة عمل الرئيس الفلسطيني الالتفاف حوله ومناصرته في هذه المعركة التي يبقى الهدف الرئيسي فيها إزاحته نهائيا من ساحة العمل الوطني الفلسطيني برضا وموافقة أطراف فلسطينية وعربية وعالمية. وهذا يؤكد أنه مطلوب الآن من الفلسطينيين أن يستسلموا ويسلموا بما تريده إسرائيل عبر طرحه على شكل مبادرات سلمية تكون عادة مفبركة بين الإدارة الأمريكية والقيادة الإسرائيلية،وخارطة الطرق التي يقولون إنها أمريكية هي بالأصل خارطة مواصلات إسرائيلية تحتاج لشرطة سير فلسطينية من أجل تنظيم سير العربات المجرورة بالحمير والبغال والجحوش التي ستحمل راية العهد الجديد، عهد التسليم بما لا يريده شعب فلسطين وبما تريده إسرائيل المحمية بالفيتو الأمريكي.
يخطأ كثيرا من يعتقد أن ياسر عرفات انتهى عمليا وأن دوره أصبح شكلي، لأن الرجل لازال بموقع قوي نسبيا مع أنه ليس بالقوة السابقة، ويعتبر الآن في موقع أضعف من السابق،لكن عرفات وكما يعرف المتابعون لحياته السياسية أنه يكبر في الأزمات وينتعش في الحصار ووقت يعتقد البعض انه على وشك الانتهاء. وهذه التجربة العصيبة مر بها عرفات في حياته كثيرا، يوم مذابح أيلول الأسود حيث خرج منها وأعاد بناء نفسه من جديد في سوريا ولبنان، ثم خرج بعدها من حصاري بيروت وطرابلس(82-83) ليعيد بناء مجده من خلال الانتفاضة الأولى التي شارك هو نفسه لاحقا مع شركائه في سلام الشجعان بإطفاء شعلتها والقضاء عليها، بعد هزيمة العراق في حرب أم المعارك وتحرير الكويت وانهيار التحالف العربي المشترك، وكذلك مقابل اتفاقية أوسلو التي رفعت أيضا أسهم منافسه الرئيسي هذه الأيام محمود عباس في الجهة العالمية والإسرائيلية،ثم كانت الانتفاضة الثانية وكان التلاعب السياسي والدبلوماسي لعرفات بكل الذين يعنيهم الأمر،لكن التلاعب ذاك انتهى في مقر المقاطعة في رام الله حيث حوصر أبو عمار منذ فترة طويلة ولازال محاصرا، وشاهدنا جميعا كيف استطاع الرجل الصمود والمحافظة على موقف وطني معين كحل وسط بين التزامه بعملية السلام وكذلك بالانتفاضة الفلسطينية.
نقول للذين يعتقدون أن لعرفات سبعة أرواح مثل القطط أن لهذا الرجل ثمانية أرواح سبعة منها اختطفتها القطط الصغيرة التي كانت تعيش في كنفه والروح الثامنة التي لازال يعيش بها عرفات هي روح الشعب الفلسطيني الذي يرفض عقلية المؤامرة ولا يرضى بالحل الأمريكي الصهيوني، فهنا فلسطين الصمود والمقاومة وليس العراق المحتل حيث يستقبل البعض المبعوث الأمريكي وأزلام وعملاء أمريكا بالورود والزهور، هنا الاستقبال سيكون على الطريقة الفلسطينية المعروفة وهي طريقة يعرفها الجميع وأولهم الذين يعدون العدة لقبر مرحلة ياسر عرفات والإنفراد بالقضية والتصرف بها وكأنها ملكهم الشخصي أو ورثة ورثوها عن أهلهم وأقربائهم. هذه القضية هي ملك لكل فلسطيني ولا يمكن التصرف بها على أساس أنها ورثة أو أملاك شخصية،وقد أثبتت التجارب السابقة وعلى الرغم من أنها كانت في أزمنة أخرى غير زماننا الحالي الذي يكتسي لون واحد ويقبع تحت شمس سلطة واحدة وقوة عظمى وحيدة تتحكم بالناس والأوطان،برغم هذا الفارق الهائل في توازن العلاقات الدولية وحتى العربية العربية،أن الذين يتخطون الشعب يلقون العقاب القاسي وأحيانا ما هو أقسى من العقاب الحياتي بحيث يفقدون حياتهم ودنياهم. ونحن لا نريد لأحد من الفلسطينيين أن يفقد حياته بهذه الطريقة.لكننا نريد للجميع أن يحترموا رأي الشعب الفلسطيني وخياراته الوطنية وقيادته الشرعية المنتخبة متمثلة بالرئيس الفلسطيني عرفات.كما أنه لا يمكن التنازل عن الثوابت الفلسطينية بدون استفتاء هذا الشعب،وعلى الشعب الفلسطيني أن يضع النقاط على الحروف ويقوم بتوجيه رسالة واضحة لكل القيادات الفلسطينية مفادها أن التنازل عن الثوابت محرمات ومن يتخطى تلك الثوابت ويدخل في المحرمات عليه تحمل مسئولية نفسه وعواقب ما أقترفه من تخطي للشعب والمؤسسات.
كيف سيخرج ياسر عرفات من هذه العلقة التي علقها وعلق بها أيضا الذين حاولوا تلبيسه لباسا ليس هو لباسه؟ سيخرج الرجل من هذه العلقة بهمة الشعب الفلسطيني الذي يرفض ويأبى هكذا نهاية لقائد مسيرته الطويلة،وهذه البشائر التي جاءت من مخيمي بلاطة وجنين ليست سوى بداية هزيمة نهج التجاوزات والتسليم بأمريكية وإسرائيلية اللاءات. ونحن وهم والجميع سوف يكون قريبا شاهدا على نهاية حقبة سلام أوسلو ونهج القبول بما تريده إسرائيل بالقوة أو عبر المفاوضات، لأن الزمن الذي جاء بسلام أوسلو و أبرز شخصية عميد المهندسين الأوسلويين لم يعد هو نفسه بل تغير وتبدل وأصبح زمنا للانتفاضة وللمقاومة وللموقف الوطني المعمد بالدماء.فهل يرقي البعض لمستوى تلك التضحيات ويكف عن اللعب بالنار كي لا يحرق أصابعه وكي لا يحرق الوطن كذلك،خاصة إذا ما عدنا بذاكرتنا الطرية للتصريحات غير المجانية التي سرحت بها مستشارة الأمن القومي الأمريكي كونداليسا رايس، يوم قالت أنها ترى في دحلان الرجل المناسب لقيادة الأجهزة الأمنية الفلسطينية و أنها تعتقد أنه الأنسب لخلافة عرفات أيضاً.وهذه التزكية التي عرف رئيس الوزراء المكلف كيف يستغلها لصالح خلافه مع الرئيس عرفات،توضح لنا ماهية وطبيعة المستقبل الذي ينتظر حركات المقاومة الفلسطينية وأهل الأنتفاضة.
* تفضلوا بزيارة موقعي الشخصي بحلته الجديدة:
http://home.chello.no/~hnidalm