|
تشكّلُ مفهوم الفرد والحقُّ في الخطأ
عبدالجبار الرفاعي
الحوار المتمدن-العدد: 6672 - 2020 / 9 / 9 - 14:45
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
"ألينا" بنت إبنتي تلميذةٌ في الأول ابتدائي، في مدرسة بمدينة ملبورن الاسترالية، تخبرني أمُّها "أبرار" عن صعوبات تفاعلها معها لحظةَ توجيهها في الكتابة. أمُّها تصرّ على محو أخطائها وتحذّرها من تكرارها، "ألينا" لم تتعلم في المدرسة محوَ أخطائها، بل لا تكترث بالخطأ ولا ترتاب منه، كما تربّت أمُّها على ذلك في بلادنا من الابتدائية حتى تخرجت في الماجستير. معلمة "ألينا" الأسترالية من أصلٍ إيطالي اكتشفت آثارَ الكلمات الممحوة في تمارينها على الكتابة، فاستنكرت ذلك، وحذّرت أمَّها مما يتركه هذا السلوكُ من آثار سلبية في تكوينها النفسي والذهني. سألتني "أبرار" وهي مندهشةٌ عن رفض المعلمة واستهجانها لمحوها أخطاء ابنتها. فقلتُ لها: أعظمُ الأخطاء في التربية الحديثة منعُ الأبناء من الوقوع في الخطأ، وإشعارُهم وهم بهذا العمر أن الخطأ عاهة، وتخويفُهم من آثاره الوخيمة عليهم. هذا التخويفُ يتراكم ويترسب بالتدريج في اللاشعور، فيكبّل تفكيرَهم، ويجعلهم حذرين متردّدين قلقين في الإعلان عن أيّ سؤالٍ أو رأي مهما كان. تنشد العمليةُ التربوية إيقاظَ عقل التلميذ، وتحريرَ وعيه من الأغلال المبكرة، وتحفيزَه على ابتكارِ الأسئلة، وطرحِها من دون وجلٍ مهما كانت، وتنميةَ قدرته على التفكير بكلِّ شيء. من الخطأ أن ننبّه "ألينا" على الخطأ، أو نمحوه ونكتب لها الصواب، ومن أسوأ الأخطاء توبيخُها على خطأها. تدجينُ الطفلِ على تحصيلِ اليقين السريع والوثوقية، يقيّدُ عقلَه ويغلقُ تفكيرَه، ويُضعِف قدرةَ ذهنه على توليد الأسئلة الخلّاقة، ويجعله مولعًا بمحاكاة غيره، كلُّ محاكاةٍ استنساخٌ وتكرار، وكلُّ تفكيرٍ اختلافٌ لا تكرار. الطفلُ مكتشفٌ يقظ للعالَم، يتطلع لاكتشافِ كلِّ شيء، ينمو ويتسع وعيُه بنموِّ واتساعِ اكتشافاته. عندما تكتشف "ألينا" الخطأَ تتحول بالتدريج إلى مكتشفة لحياتها ولما حولها، تبدأ اكتشافاتِها برصد أخطائها الصغيرة وتتطور خبرتُها بالتدريج لرصد الأخطاء الكبيرة. الكائنُ البشري يتعلم بفعله هو وممارساته هو، ولا يتعلم هذا الكائنُ عندما ينوب عنه غيرُه بالفعل والممارسة. مهمةُ المعلّم إيقاظُ العقل وتنميتُه،كي يكتشف التلميذُ الأخطاء، ويهتدي إلى الصواب بنفسه، لا أن يقتاده كأعمى، لأن ذلك ينتهي إلى سباتِ عقله، وعجزِه عن التفكير النقدي وتعطيلِ ملكة الإبداع لديه. المعلّمُ الناجح هو من يكتشف نوعَ موهبة تلميذه، ويحفّز الطاقاتِ العقليةَ والنفسيةَ المختبئةَ داخله، ويمكّنه من بنائها وتنميتها واستثمارها. كلُّ من يفكر يخطئ، من لا يفكر لا يخطئ. لا يتحرّر التفكيرُ من الخطأ إلا بعد وقوع الإنسان فيه. نرجسيةُ الإنسان وتوهمه بكماله تدعوه للتنكّر لأخطائه. ولم تكفل ثقافتُنا حقَّ وقوع الكائن البشري في الخطأ، والأسوأ من ذلك نرى بعضَ الناس يتعامل مع الخطأ الذي يرتكبه شخصٌ وكأنه فضيحة، وربما يتعرض من يقع في الخطأ أحيانًا للسخرية والتهكّم والازدراء، لذلك يرتبك أكثرُ الناس في مجتمعنا ويغمره الخجلُ والشعورُ بالعجز لو اعترف بخطئه. تربيةُ الناشئة على عدم الوقوع في الخطأ خطيئة، وهي أسوأُ أشكال تنميط الشخصية الذي يميت منابعَ الإبداع، ويصيّر الكائنَ البشري كأنه ممثلٌ على مسرح، تختفي ملامحُ شخصيته الحقيقية. المعلّمُ الناجح يوقظ إرادةَ التلميذ وثقته بنفسه كي يتصرف كما هو، ويحميه من ممارسة الخداع وإخفاء شخصيته بأقنعةٍ جاهزةٍ زائفة. من يمتلكُ شجاعةَ الاعتراف بالخطأ يمتلكُ القدرةَ على تغييرِ ذاته والتكامل. الخوفُ من التغيير خوفٌ من الاعترافِ بالخطأ. لا تنجز التربيةُ والتعليم وعودَها إلا بمنح الحرية في ارتكاب الأخطاء. حريةُ ارتكاب الخطأ ضرورةٌ للتعلّم، ومن لا يرتكب أخطاءَ لا يتعلّم. حقُّ الوقوع في الخطأ ركيزةٌ أساسيةٌ تقوم عليها التعدّديةُ وقبولُ التنوّع والاختلاف، وترسيخُ التفكير الحرّ. عندما نسلب هذا الحقَّ من الكائن البشري يتحول المجتمعُ إلى كائناتٍ متماثلةٍ متطابقةٍ، تفتقر إلى كلِّ ملامحها الشخصية المتنوّعة والمختلفة، وتختفي صورةُ الفرد في مثل هذا المجتمع، ويصير الناسُ كأنهم روبوتاتٌ متشابهة، وهذا ما تفعله وتتأسّس عليه كلُّ الأنظمة الشمولية المستبدّة. لا معنى لمجتمعٍ تعدّدي متنوّع من دون بناءِ مفهومٍ راسخٍ للفرد، ولا معنى لمفهومِ الفردِ من دون ترسيخِ مفهومِ الاختلاف، ولا معنى لمفهومِ الاختلاف من دون حقِّ الفرد في الوقوع في الخطأ. التربيةُ لدينا في العائلة والمدرسة والمجتمع قلّما تتفهم حقَّ الوقوع في الخطأ وتتقبله. وهكذا التربيةُ والتعليمُ في مدارسنا ومعاهدنا وجامعاتنا بمختلف مراحلها وأنواعها.كلُّ فلسفةٍ تربوية وتعليمية لا تعتمد حقَّ الوقوع في الخطأ كأحد ركائزها تولد ميتة. لا يسود الحقُّ في الخطأ تربيتَنا، على الرغم من أن الإسلامَ والأديانَ في بلادنا تشدّد على الغفرانِ والتوبةِ والعفو، وتغتي بمفاهيمَ مماثلةٍ للتسامح مع الخطأ كما نقرأ في القرآن الكريم والكتبُ المقدّسة. يستعرض القصصُ القرآني أخطاءَ الأفراد والمجتمعات المتنوّعة، ولا يهمل حتى الصغيرةَ عندما تتضمن عبرةً وتشي بخبرةٍ هادية. كما يتحدث القرآنُ الكريم عن المغفرة والتوبة والعفو، فقد وردت كلمةُ المغفرة ومشتقاتُها 234 مرةً في القرآن، وكلمةُ التوبة ومشتقاتُها 87 مرة، وكلمةُ العفو ومشتقاتُها 27 مرة.
#عبدالجبار_الرفاعي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تشكّلُ مفهوم الفرد والحقُ في الاختلاف
-
الاستملاك الرمزي للهلال
-
الثناءُ على الجيلِ الجديدِ
-
جودت القزويني الحلقةُ الخاتمة في فنٍّ يوشك على الغروب
-
الكتابة فن الحذف والاختزال
-
#محمد_عمارة في محطاته الاعتقادية
-
محمد إقبال والمفارقات في فكره بوصفها مثالًا للمفارقات في الف
...
-
مدرستا الإسلام الهندي: إسلام تعدّدي وإسلام أُحادي
-
الأشاعرة الجدد و#علم_الكلام_الجديد
-
#الأميّة_الأكاديمية_والثقافية: أسباب ونتائج
-
#وليُّ_الله_الدهلوي والإسلام التعددي الهندي
-
هل أسس شبلي النعماني علم الكلام الجديد؟
-
السؤالُ الميتافيزيقيُّ الجديد يفرضُ علينا بناءَ علمِ كلامٍ ج
...
-
التديّنُ الشكلي
-
التديّن الشعبي والتديّن الشعبوي
-
التديّنُ الرحمانيّ
-
التديّن الأخلاقي
-
الفنُ القصصيّ في القرآن الكريم ثالث عناوين الضجة في النصف ال
...
-
تلوّينُ النصِ
-
أمينُ الخولي والهِرْمِنيوطيقا
المزيد.....
-
1 من كل 5 شبان فرنسيين يودون لو يغادر اليهود فرنسا
-
أول رد من الإمارات على اختفاء رجل دين يهودي على أراضيها
-
غزة.. مستعمرون يقتحمون المقبرة الاسلامية والبلدة القديمة في
...
-
بيان للخارجية الإماراتية بشأن الحاخام اليهودي المختفي
-
بيان إماراتي بشأن اختفاء الحاخام اليهودي
-
قائد الثورة الاسلامية آية اللهخامنئي يصدر منشورا بالعبرية ع
...
-
اختفاء حاخام يهودي في الإمارات.. وإسرائيل تتحرك بعد معلومة ع
...
-
إعلام العدو: اختفاء رجل دين اسرائيلي في الامارات والموساد يش
...
-
مستوطنون يقتحمون مقبرة إسلامية في الضفة الغربية
-
سفير إسرائيل ببرلين: اليهود لا يشعرون بالأمان في ألمانيا
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|