24/ April/2003
كان الذي تحقق, نجاحاً عسكرياً ساحقاً و خطة عسكرية ذكية و سريعة جنبت الجيش الامريكي الخسائر بالارواح و جنبته الانزلاق الى ماكان يبني عليه عباقرة العوجة من آمال! في حرب شوارع. كما ان هذا الانجاز قد تم بأقل الخسائر من الجانب العراقي. فالبنية التحتية لم تتضرر كثيرا كما لم نرى النزوح المليوني للاجئين العراقيين و كذا الحال مع الخسائر البشرية ( رغم ان كل ضحية هي غالية علينا ) لكنها لا تعادل وجبة اعدامات واحدة من وجبات قصي. و انتهت الحرب على ما انتهت عليه و بالشكل الذي يعرفه الجميع.
سقوط صدام كان امنية جميع العراقيين, و عمل لأجل تحقيق هذه الامنية أحزاب كثيرة و قدمت آلاف الشهداء. لكن الامنية بقيت امنية و الحلم بقي حلماً بعيداً. و لا يعود ذلك الى سعة القاعدة الشعبية للنظام و بل لسعة القاعدة المخابراتية و تعدد التنظيمات العسكرية المختلفة التي اغدق عليها اموال و امكانيات العراق و سلط ارهاباً على الشعب لم يرى نظيراً له اي شعب في العالم في التأريخ الحديث على الاقل.
لقد و صلت معظم الاطراف الداخلية المعارضة لصدام الى قناعة بصعوبة سقوط صدام بالطرق المتاحة , سواء بالمظاهرات الشعبية أو الانقلابات العسكرية. و قد اعلنت بعض القوى صراحة قناعتها تلك , بينما الاخرين عبروا عنها بطرق مختلفة او بالتلميح غير المباشر. ووقفوا جميعاً عاجزين امام ميزان القوى غير المتكافيء بينهم و بين نظام لا يرحم و لا يحكمه منطق.
من هنا أصبح العامل الخارجي عاملاً أساسياً في معادلة التغيير. و اتجهت الانظار الى الولايات المتحدة. و بعد اعوام طوال من الشد و الجذب و حدوث متغيرات كثيرة على الساحة الدولية, و انتقل النظام خلالها من الخطأ الى الخطأ الافدح. و رغم ان المعارضة كانت طرفاً منفعلاً و ليس فاعلاً في المعادلة السياسية القائمة, فأن الحظ!! هذه المرة جعل المعارضة تلتقي مع الولايات المتحدة على هدف واحد وهو اسقاط النظام. كل طرف له اجندته و مصالحه. و ليس بالضرورة ان تكون مصالح الطرفين متعارضة على الدوام على الاقل في لسنوات طوال مقبلة.
مشكلة الولايات المتحدة مع العراق هي انعدام الثقة. و لم تتأسس هذه القناعة لدى العراقيين من فراغ بل تأسست على كم ليس قليل من التجارب المؤلمة بعض الاحيان. هذا ما لمسناه في رد الفعل الشعبي التلقائي الحذر عند دخول قوات التحالف للعراق. ففي كل لحظة يشعر العراقيون بأن قوات التحالف يمكن ان تتركهم في اية لحظة لقدرهم في مواجهة مباشرة غير متكافئة مع النظام كما حدث في عام 1991. وبالمناسبة فأني أعتقد شخصياً بأن هذا الاحتمال مازال قائماً و على نخبنا السياسية ان تكون واعية بالدرجة الكافية لتفادي هذا الاحتمال!! فما زال الحرس الجمهوري و قادته وعناصر المخابرات مختفية بشكل غامض!!!
لقد حاولت الولايات المتحدة و حلفائها التكرار مراراً بأن هذه المرة يجري العمل جدياً على اسقاط النظام في محاولة لكسب ثقة وود الشعب العراقي. و بالفعل فان الشعب قد وصل لحالة من اليأس و الاحباط و المعاناة من ظلم النظام للدرجة التي أصبح مستعداً للقبول بأي بديل , و كان هذا احد اخطاء النظام القاتلة, فلذلك لم يدافع عنه أحد فسقط سقوطاً مخزياً.
هنا توافرت الفرصة التأريخية للولايات المتحدة في ضرب عصفورين بحجر واحد. فمن جانب تستطيع ضمان مصالحها الحيوية و من الجانب الاخر تستطيع كسب ود الشعب العراقي و الذي سيبقى مديناً بالعرفان لمخلصه من حكم صدام حسين. وهو ماحدث سابقاً مع الشعب الكويتي. رغم ان امريكا لم تفعل مافعلت من أجل سواد عيون الكويتيين أو العراقيين.
لقد لاحظ الجميع في هذا السياق رد الفعل العفوي لاحقاً للشعب العراقي المبتهج بمجيء المخلص الامريكي. سيحفظ التأريخ مشاهد سخريات القدر تلك حيث يستقبل الشعب الغزاة بالاهازيج و الفرح و الاحتضان, بينما يهرب مرتعباً من الجيش الوطني. كان على الامريكان حينها الامساك بالفرصة و تعزيزها و البناء عليها. لكن يبدو ان الغرور سيظل معادياً للحكمة.فوقع اصحاب التفكير المنظم بأخطاء قاتلة ستتزايد تداعياتها بمرور الايام ككرة الثلج, وتجعل من المحرر عدواً واجب التصدي له, رغم الانجاز الهائل الذي كان الأمريكان بشكل خاص وراءه. من تلك الاخطاء التي لاحظها الجميع:
1- اصرار الولايات المتحدة على رفض دعم فكرة تأسيس حكومة عراقية مؤقتة في المنفى لأسباب غير واضحة!! وكانت حينها تمتلك الوقت الكافي لحل كل الاشكاليات المتعلقة بالموضوع و كسب الاعتراف الدولي لها. و كان لمثل هذا الكيان ان يسد فراغ السلطة بعد التحرير و السيطرة على الانفلات الامني الذي حدث.
2-عدم حماية المؤسسات الخدمية الحيوية مثل مؤسسات التزود بالماء و الكهرباء و كذلك المستشفيات, مما حرم الانسان العراقي من الخدمات الحيوية الضرورية اليومية و جعله نهباً للقلق و الخوف ومن ثم دفعة للتذمر من الاوضاع الجديدة.
3-ارتباطاً بأختفاء الكهرباء فقد اختفت وسائل الاعلام و الاتصال (وخاصة البث التلفزيوني) بين قوات التحالف و بين الشعب العراقي , مما أفقد قوات التحالف فرصة التأثير النفسي أو توضيح مجريات الامور, و توجيه النداءات أو استدعاء الفنيين مثلا للالتحاق بأعمالهم...الخ. و الاهم ترسيخ فكرة الحسم العسكري و هزيمة النظام نهائياً لكسر معنويات البعثيين ورفع معنويات الشعب اكثر و دفعه الى تنظيم المبادرات المختلفة. لكن غياب الاعلام و غياب المؤسسات المدنية, جعل من الجامع و اشاعات الشارع مؤثرات اساسية في توجيه الرأي العام.
4-المسارعة في حماية آبار النفط و وزارة النفط وترك المتحف الوطني عرضة للنهب.لقد كان هذا المتحف يضم اندر و أقدم ماجاءت به الحضار الانسانية كما هو معلوم, و هو يمثل العمق الثقافي للشعب العراقي.لقد وجه عدة علماء آثار من الجامعات الامريكية المختلفة قبل شهور من بدء الحرب , رسائل الى البنتاغون معززة بالخرائط للمواقع الاثرية العراقية التي ينبغي عدم التعرض لها و المحافظة عليها*. و قد وعد الجنرالات المعنيين بدراسة الموضوع بشكل جدي و اتخاذ مايلزم. لكن الوعد لم يتم الايفاء به.
كما ان اتفاقية جنيف تفرض على المحتل احترام و حماية ثقافة الشعب الواقع تحت الاحتلال.لقد كانت خسارة المتحف الوطني كارثية بكل المقاييس و يصعب تعويضها و بمرور الايام سيزداد الجدل حولها و يدعم قناعة العراقيين بأن أولويات امريكا هي النفط ليس الا, و قد دعم و سيدعم معسكر القوى المعادية للولايات المتحدة.
5-امتداداً للنقطة السابقة , فقد تعرضت المكتبة الوطنية للنهب و الحرق و هي تضم اندر الكتب و الوثائق تحت سمع و بصر القوات الامريكية دون ان تكلف نفسها تخصيص ولو دبابة واحدة لحماية هذه المؤسسة الثقافية المهمة.
6- اهمال الجانب الامني و عدم منع السرقات و النهب, مما حول فرحة الشعب بسقوط الطاغية الى كابوس ثقيل و هواجس من الخوف و عدم الاطمئنان. و ستبقى مشاهد الجنود الامريكيين و هم يبادلون السراق التحايا و التلويح بالايدي, ماثلا امام العين و موثقة, وسيكون ذلك محرجاً ايضاً لمساندي الوجود الامريكي بمرور الايام.
7- تعرض بعض رجال الدين للتهديد و الاعتداء و القتل , و اشير هنا بشكل خاص الى حادثة مقتل السيد عبد المجيد الخوئي. و من نافلة القول , ان اول التزامات الطرف المحتل هي توفير الامن لسكان و المناطق المتعرضة للاحتلال و حسب ما تنص عليه الاتفاقيات الدولية.
8- مسارعة الولايات المتحدة لاعتماد أسلوب مبالغ فيه للضغط على سوريا بحجة ردعها عن ايواء قادة النظام السابق. مما عزز لدى الرأي العام العراقي خصوصاً بأن وراء العمل أجندة اسرائيلية. و هي تهدف الى توفير أفضل الشروط التفاوضية للجانب الاسرائيلي. و هذا يجعل الرأي العام العراقي اكثر رفضاً للوجود الأمريكي بحكم ما تحتله القضية الفلسطينية في و جدان العراقيين رغم إساءات الفلسطينيين , شعباً و حكومة و أحزاباً الى القضية العراقية و الشعب العراقي.
لذا نرى تداعيات ذلك قد بدأت على شكل توترات بين الشعب العراقي و بين قوات التحالف. و المشكلة المقلقة , ان تحريك هذه التوترات و التحريض يتم غالباً من قبل قوى مدفوعة بخطأ في الحسابات و قلة الخبرة السياسية و العجز عن استقراء و فهم الظروف.**
و الخوف الآن من أن يقع الشعب العراقي هذة المرة ايضاً ضحية لأخطاء الغرور الأمريكي و قلة خبرة هواة اللعبة السياسية العراقية, من القدامى و الجدد.
* في 5 آذار 2003 نشرت في عدة مواقع في الانترنت ترجمة عن الهولندية لمقالة نشرت في احد الصحف الهولندية الرئيسية تحت عنوان(الحرب تهدد أصل الحضارة الغربية). تناولت هذه المقالة بعض تفاصيل الاتصالات بين علماء الاثار الأمريكيين و كبار ضباط البنتاغون حول موضوع الأثار العراقية.
** لنا عودة في الايام القادمة لموضوع يتناول بشكل عام الاخطاء السياسية المحكوم بقصر السياسي للساسة العراقيين.