عندما قام الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي بنقل ملحمة (( مم وزين )) للشاعر الكردي الكبير أحمد خاني من اللغة الكردية إلى اللغة العربية , تفاءلنا خيراً بالرغم من ملاحظاتنا على عدم الدقة والأمانة في نقلها , حيث أغفل نقل الجزء الذي يعبر عن رؤية الشاعر لأوضاع شعبه في عصره , ودعوته أمراء الكرد إلى التوحد , وتجاوز الخلافات الثانوية من أجل مصلحة الشعب الكردي .
نعم , مع ذلك تفاءلنا خيراً , وقلنا أن هذه بادرة خير , وبداية شعور للدكتور البوطي بالمسؤولية تجاه شعبه المكافح من أجل حقوقه العادلة وفق كافة الأديان المواثيق الدولية .
بعد ذلك تفاءلنا أكثر عندما قام الدكتور البوطي بصياغة قصصية باللغة العربية للملحمة الشــــــــــــعبية الكردية ( سيامند وخجه ) , ولفت نظرنا إلى ظاهرة سلبية لدى الكرد , ألا وهي ظاهرة تقطيع أوصاله بنفسه , وذلك في تقديمه القصة للقراء بقوله : ( قد يطيب لبعض من يقرأ هذه القصة , أن يتصور أنها رمز لحالة شعب يكافح منذ عهد بعيد لنيل حقوقه , والتمتع بالحياة الكريمة التي يتمتع بها الآخرون .إن لهم أن يتصوروا ذلك , على أن لا ينسوا أن هذا الشعب الذي يعنون , وأنا واحد من أفراده , كان و لا يزال مغرما بتقطيع أوصال نفسه والتألب على ذاته ) .
نعم أيها الأخوة تفاءلنا أكثر , وتوقعنا أن يكون البوطي تجاوز مرحلة الشعور بالمسؤولية , وبدأ مرحلة تحمل جزء من استحقاقات هذه المسؤولية الملقاة على كل فرد من أفراد الشعب الكردي , وذلك عندما تابع تقديمه للقصة قائلاً : ( وعندما يبدأ , الشعب الكردي , فيكون أول راحم لذاته ويعكف بجد على جمع شمل نفسه , سيجد من حوله كثرة كبرى تتسابق إلى احترامه , ومد يد العون له )
لكننا تفاجأنا مفاجئة كبرى , عندما قرأنا للبوطي خطبته الملقاة يوم الجمعة , 2/2/1422هـ الموافق 4/4/2003 المنشورة في موقعه على الأنترنت والتي يقول فيها : ( أنا كردي أيها الأخوة , ولكني أضع نسبتي هذه تحت قدمي , عندما أنظر فأجد أناساً من أبناء جلدتي يخونون الله سبحانه وتعالى , ويمارسون العبودية المهينة الذليلة لهذا العدو الآتي من أقصى العالم بهدف يخدم الصهيونية العالمية , أجل . أنا أتشرف بأن أضع نسبتي هذه تحت قدمي عندما أجد هؤلاء الناس يمثلون الخيانة القذرة في شمالنا العراقي ) .
أجل تفاجأنا بخروج مثل هذه الكلمات المسمومة من فم يطالب الشعب الكردي بعدم تقطيع أوصال نفسه وضرورة جمع شمل نفسه , وفي الوقت الذي يعكف هذا الشعب على جمع شمل نفسه , يقوم من طالب بذلك , بتقطيع أوصال نفسه ونعت هذا الشعب بشتى الاتهامات الباطلة بدلاً من المساهمة بنصيبه في جمع هذا الشمل انسجاماً مع ذاته في أقواله , وتعبيراً عن صدقه بما يريده من الآخرين .
فلماذا يقع البوطي في هذا التناقض الصارخ ؟
سنترك الجواب للبوطي .
أما نحن فسوف نناقشه في اتهاماته الباطلة التي وجهها لشعبنا الكردي .
بداية ما الحقائق الدينية التي يستند إليها البوطي في اتهامه للكرد بخيانة الله ؟
هل لأن الكرد تعاونوا مع المسيحيين الأمريكيين والإنكليز في مواجه الدكتاتور العراقي صدام حسين الغني عن التعريف بجرائمه ضد المسلمين من الكرد والعرب والفرس ؟
وإذا كان كذلك , ألم تتعاون معظم الدول العربية والإسلامية بهذا الشكل أو ذاك مع هؤلاء المسيحيين أنفسهم لتحرير الكويت من بين براثن ذاك المجرم نفسه ؟
فهل تعتبر كل الدول العربية والإسلامية خائنة لله في نظر البوطي ؟. من ناحية أخرى نتساءل : كيف سمح البوطي لنفسه أن يضع آباءه وأجداده ونسبته الكردية تحت قدمه , وأي مسلم حقيقي , حتى وإن لم يكن كردياً يرضى لنفسه أن يضع أبو الأنبياء إبراهيم الخليل عليه السلام وأبو مسلم الخراساني وصلاح الدين الأيوبي وكثيرين غيرهم ممن ينتسبون إلى تلك النسبة الكردية تحت قدمه .
لنفترض جدلاً , أن أحد الزعماء الكرد خان الله , فهل يجوز لعالم ديني مثل البوطي , أن يضع نسبته الكردية تحت قدمه نكاية بذاك الزعيم ؟
وإذا كان كذلك فكم من زعيم تركي وفارسي وعربي خانوا الله ؟
فلماذا لم يقم أي عالم ديني عربي أو تركي أو فارسي بوضع نسبته تحت قدميه ؟ وهل تخلى الرســـــــــول محمد ( ص ) عن نسبته على الرغم من جاهلية تلك النسبة ؟ لماذا لم يضع البوطي نسبته الإسلامية أيضا تحت قدمه رغم كثرة القادة المسلمين الخونة في التاريخ الإسلامي ؟
لماذا لم يكن البوطي إنسانياً على الأقل مع شعبنا كبعض الإنسانيين من الشعوب الأخرى مثل المناضل التركي إسماعيل بيشكجي والمناضل العربي الراحل هادي العلوي وصديقة الشعب الكردي دانييل ميتران وكثيرين غيرهم ؟.
وإذا كان البوطي غير راض عن الزعماء الذين يقودون الشعب الكردي , فلماذا لم يشحذ هو همته ويقد هذا الشعب إلى بر الأمان ؟
مع كل هذا نريد أن نلفت نظر البوطي إلى حقيقة هامة , وهي أن الإنسان لا يمكن أن يحافظ على دينه وكرامته عندما يدوس على نسبته , لأن جذور الانسان هي التي تجعله يسمو ويعلو شأنه , فها هو الشاعر المعروف بابلو نيرودا يؤكد ذلك قائلاً : ( أنا لا أستطيع النمو دون أن أشعر بجذوري وهي تبعث فيّ الحمأة عن الذات الأم , عن الجوهر الأصل ) .
ولا يتحقق نسب الإنسان بانتمائه إلى هوية قومية معينة أو إلى شعب ما , إلا بما يقدم من خدمات لهذه الهوية , وما يتحمله من مسؤوليات تجاه هذا الانتماء وبمدى معايشته لآلام وآمال هذا الشعب .
يروى أن أحد القضاة اتهم المناضل الكردي الكبير عثمان صبري بالشوفينية أثناء محاكمته بسبب دفاعه عن القضية الكردية , وعندما أوضح له المناضل عثمان صبري أن الشوفينية صفة الحاكم وليس المحكوم , أشار القاضي إلى كاتبه وقال أنه كردي ليبرأ نفسه من الشوفينية , فرد عليه عمنا المناضل بأن الكاتب ليس بكردي , فطلب القاضي من كاتبه أن يتكلم مع عمنا باللغة الكردية ففعل , ثم وجه القاضي كلامه إلى عمنا عثمان قائلا : هل صدقت يا عثمان أن كاتبي الجالس إلى جانبي كردي ؟
فأحابه المناضل عثمان صبري أن الكاتب مع ذلك ليس بكردي , لأنه لو كان كردياً حقاً لجلس إلى جانب من يدافع عن الكرد وليس إلى جانب من يحاكم مدافعاً عن القضية الكردية .
هذا هو المفهوم الحقيقي للانتماء إلى الهوية القومية كما عبر عنه المناضل عثمان صبري بوضوح , فأين البوطي من هذا المفهوم ؟ .
يقول المفكر (بم ) : ( لأن ينالني الضرر من جراء جهري بالحق , خير من أن ينال الحق ضرراً من جراء إحجامي عن الجهر به ) .
وكنا نتمنى من البوطي , إن لم يجهر بالحق , ألا يزور الحقائق على الأقل , ويقذف الاتهامات يميناً وشمالاً , فيترك القاتل ويجلد الضحية باسم الدين .
في الحقيقة إذا دققنا النظر في تاريخ شعبنا الكردي سنجد أن ظاهرة انخداع البعض من أبناء شعبنا باسم الدين , ليست جديدة , وأن هذا التاريخ لا يخلو من أمثال البوطي , فقبل نشوب معركة تشالديران , استطاع السلطان العثماني سليم أن يثير المشاعر الدينية لدى الأكراد السنة , فيحرضهم ضد الصفويين ويزج بهم في تلك المعركة التي نشبت في 23 آب 1514م إلى جانب الأتراك , ويقهر بهم قوات الشاه إسماعيل الصفوي , ونتيجة لهذه المعركة تم تقسيم كردستان بين إيران والإمبراطورية العثمانية , وأقر ذلك التقسيم في الاتفاقية التي عقدت في عام 1639 بين الشاه عباس والسلطان العثماني مراد الرابع , وكما يقول الدكتور عبد الرحمن قاسملو : ( كانت تلك نقطة حاسمة أثرت في كل ما أعقبها من أحداث في التاريخ الكردي ) .
ويؤكد المؤرخ الكردي المعروف محمد أمين زكي انخداع الكرد بالمشاركة إلى جانب العثمانيين في تلك المعركة عندما يقول : ( ولما لم يعد للحكومة العثمانية بعد ذلك , أي بعد اتفاقية 1639 , كبير اهتمام ومبالاة بالحكومة الإيرانية , فقد أخذت تطبق في كردستان السياسة المركزية بكل شدة وحرص , تلك السياسة التي كانت ولا شك ترمي إلى كسر نفوذ الإمارات الوطنية , والقضاء عليها بالتدريج لإحلال النفوذ التركي و تثبيت الإدارة المباشرة . فكان من أهم أركان هذه السياسة التركية والمتحمسين لها , ملك أحمد باشا, صهر السلطان مراد الرابع , وقد نصب هذا الوزير بعد فتح بغداد والياً على ديار بكر , فكانت لا تفوته الفرصة في تطبيق السياسة التركية القاضية بكسر نفوذ الإدارات الوطنية والإمارات الكردية ) .
ليس في معركة تشالديران فقط , انخدع بعض الكرد باسم الدين , وإنما أحداث كثيرة تظهر لجوء أعدائنا إلى استخدام هذه الخديعة ضد شعبنا , ومن أبرزها لجوء الأتراك العسكريين إلى هذه الحيلة في خداع مقاتلي الأمير الكردي محمد باشا الراوندوزي الذي قاتل الأتراك , وأنشأ في راوندوز صناعة للأسلحة كالخناجر والبنادق بل وحتى المدافع , واستطاع أن يحرر جزءاً كبيراً من كردستان , ويعلن استقلال المناطق المحررة عن الدولة العثمانية , وهذا ما جعل الأتراك يلجأون إلى الملا الكردي ( خاطي ) ويجعلونه يصدر فتوى : ( من يقاتل ضد قوات السلطان فهو كافر , وزوجته بلا شرف ) .
فجردت هذه الفتوى عمليا جنود مير محمد الراوندوزي من سلاحهم وظهر الكثير من حوادث الامتناع عن القتال ضد الأتراك , وحوصر المير محمد المقاوم في قلعته طويلاً , لكنه أرغم على الاستسلام في نهاية آب 1936 , بعد نفاذ المياه والمواد الغذائية لدى قواته المتبقية معه .
ولكن في النهاية نريد أن نهمس في أذن " الخاطي " الجديد " البوطي " إن شعبنا تجاوز مرحلة الجهل التي كان ينخدع فيها بمثل هذه الفتاوي المزيفة التي تطلق عليه كالسموم التي أطلقت عليه في حلبجة وخورمال من قبل أعداء الكرد والمخدوعين من أبناء جلدته .
ونؤكد للبوطي أن شعبنا قد تعلم من تجاربه الشيء الكثير , لأنه كما يقول المفكر الفرنسي غوســـــتاف لوبون : ( إن الشعوب لا يثقفها غير التجارب ) .
لذلك نتمنى , ولو أن أملنا ضعيف بذلك , أن يتعلم البوطي أيضاً من هذه التجارب وأن يراجع نفسه كي لا ينال لعنة الله ولعنة الشعب الكردي , ولا يندم عندما لا ينفع الندم .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* كاتب كردي , سوريا
ـ تقديم البوطي لقصة سيامند ابن الأدغال للقراء على الغلاف الخارجي تحت عنوان هذا الكتاب وهي بقلم الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي , مكتبة الفارابي , 1998
ـ المصدر السابق
ـ خطبة البوطي يوم الجمعة 4/4/2003 المنشورة في موقعه على الانترنت htt://www.bouti.com .
ـ بابلو نيرودا , اعترف أنني عشت (مذكرات) , ترجمة وشرح الدكتور محمد صبح , المؤسسة العربية للدراسات والنشر , ط2 , 1978, ص248 .
ـ صمويل سميلز, الأخلاق ,ترجمة محمد صادق حسين , مطبعة الاعتماد بمصر , 1924 . ص182.
ـ الدكتور عبد الرحمن قاسملو , كردستان والأكراد , المؤسسة اللبنانية للنشر , ط1 , 1970 , بيروت , ص44 .
ـ محمد أمين زكي , خلاصة تاريخ الكرد وكردستان , ترجمة محمد على عوني , مطابع زين الدين , القرية لبنان , 1985, ص204
ـ جليلي جليل , من تاريخ الإمارات الكردية في الإمبراطورية العثمانية في النصف الأول من القرن التاسع عشر , ترجمة د. محمد عبدو النجاري , الأهالي للطباعة والنشر , دمشق , ط1 , 1987, ص105 .
ـ د. غوستاف لوبون , روح السياسة , ترجمة محمد عادل الزعيتر , المطبعة العصرية بمصر, ص96