صحيفة " البعث " التي تصدر بدمشق , هي صحيفة ناطقة باسم حزب البعث العربي الأشتراكي الحاكم في سورية , الذي تنص المادة الثامنة من دستور البلاد , على انه الحزب القائد للمجتمع والدولة , وبالتالي فان المنطقي والبديهي , ان تعبر كل كلمة واردة في الصحيفة عن رأي القيادة السياسية في البلاد , وبالأخص الكلمة الأفتتاحية التي يكتبها المحرر .
فالكلمة الأفتتاحية للصحيفة المذكورة , الصادرة يوم الأحد بتاريخ20 نيسان 2003 , كان لها نكهة خاصة , حيث ظهرت نكهتها , في نسب القيادة السياسية السورية لنفسها صفة , دأبت قوى عديدة وافراد مميزون كثيرون ولفترة طويلة , في البحث عنها , والدعوة للتمسك بها , ولكن دون جدوى , والصفة هذه هي " الحكمة " فلنقرأ ما قال محرر البعث :
(لايقتصر الفرق بين الحرب والسلام على المضمون، بل يتعداه إلى الذهنية المسبّبة أيضاً. فالحرب تصنعها القوة، أما السلام فتصنعه الحكمة. والفرق بين القوة والحكمة كبير...
ولعل أفضل الحالات عندما تقترن القوة بالحكمة، أو وهو الأفضل أن تقترن الحكمة بالقوة باعتبار أن الأولى حامل والثانية محمول..
هذه الحالة تكاد تكون مفقودة في العلاقات الدولية. كل مالدينا استئثار بالقوة مع فقدان للحكمة في جانب، مقابل امتلاك للحكمة مع فقدان للقوة في الجانب الآخر..
هذه أكبر معوقات تقدم الإنسانية في العصر الحديث.. ومن المفارقات المذهلة، والمؤسفة، أن قانون الفراغ والأواني المستطرقة لايعمل عند الجانب الأول البتة. فمالك القوة، أي فاقد الحكمة، لايسعى إلى امتلاك مايفقده... بل العكس تماماً، تراه يتهم الحكمة بالسذاجة واللاواقعية..
لكن القانون يعمل عند فاقدي القوة، فهم تراهم يسعون إلى استكمال الحكمة ولو بقليل من القوة... المعنوية والسياسية إن لم تك المادية.
فرسان الحكمة يصرون على ضرورة سيادة الحكمة والتعقل والعلاقات التي تليق بالإنسان على المستوى الدولي. وهم يبذلون جهوداً مدهشة إيماناً منهم أنه لاطريق أمام العالم سوى طريق السلام... في النهاية.
فرسان القوة صنعوا حرباً في العراق... فهل باستطاعتهم صنع السلام؟... السلام بحاجة ماسة إلى الحكمة لا إلى القوة!!.. )
فبحسب حكمة القيادة السورية تصبح الحرب من صنع القوة , وليست من صنع الخلل في ميزان القوة , بين العرب واعدائهم , هذا الخلل الذي نجم عن استبداد وقهر وظلم لعقود طويلة , مارسته الأنظمة الحاكمة , و اصابت الشعوب العربية كافة , وفي مقدمتها شعب العراق . حولته الى لقمة مشتهاة من قبل قوة جامحة شجعها الخلل في ميزان القوة تلك الى العمل لألتهامها
وبحسب الحكمة السابقة ايضاً , يصبح السلام في ظل موازين القوى القائمة حالياً والمختلة لصالح الأعداء , من صناعة الحكماء , ويتحول بموجبها كل احرار العالم , الساعين لقلب موازين القوى المختلة تلك , لصالح شعوبهم , للوصول الى الأستقلال والسيادة والحرية , الى مجرمي حرب .
وتفسر تلك الحكمة , سلوك الولايات المتحدة الأمريكية في العالم , على انه سلوك ناجم عن فوران للقوة العسكرية الفارغة من اية حكمة ( لعل محرر البعث يؤمن بأن هذه القوة ُوجدت من العدم ) , وليست سياسة استعمارية تهدف الى السيطرة على العالم أجمعه , وعلى الصديق قبل العدو , واعادة تشكيل لهذا العالم من جديد , ليس كعلاقات ومصالح وسيطرة وتبعية وتعاون حكام فحسب , بل اعادة تشكيل لا د مغة البشر من جديد , بطريقة تخدم المصالح الأستراتيجية الأمريكية , باعتبارها السيد الأوحد في هذه المعمورة .
وتمنع تلك الحكمة أصحابها من ان يروا بان الضربة الأمريكية النوعية في العراق , كانت البداية , باعتبار ان الديكتاتورية الصدامية ( وشقيقاتها ) قد دمرت باستبدادها عبر سنين طويلة , مناعة العراق كوطن و( الوطن العربي بالكامل ) وجعلت منه الحلقة الأضعف في المخطط الأمريكي العالمي , حيث استحق توجيه الضربة الثانية له من ناحية ( بعد افغانستان الداخلة في غيبوبتها , القريبة من نفط قزوين وطريق مرور انابيبه ) , ولأنه البلد الذي يشكل بعض صمامات القلب للجسد العالمي النفطي من الناحية الأخرى . فمن يسيطر على صمامات القلب يتحكم بدرجة تروية الجسد بالدماء . ومن يسيطر على النفط يصبح المقرر الأول لدرجة نمو حتى حلفاؤه وبهذا تضمن امريكا لنفسها السيطرة المطلقة على العالم .
ان " الحكمة " التي يتمتع بها الزعماء العرب أجمعين , تمنعهم من فهم النظرة الجديدة التي تنظر بها امريكا الى حلفائها بالعالم العربي ( حيث يعزوها البعض الى التحريض الأسرائيلي لأمريكا عليها ), - قد نستثني منهم ولي العهد السعودي الذي دعى الى ضرورة توسيع المشاركة الشعبية في ادارة الحكم في البلاد العربية - والتي يقول ملخصها , بأن الأنظمة العربية الحليفة الديكتاتورية الفاسدة , التي أعطي لها هامش حرية كبير في التعاطي مع شعوبها بالماضي من قِبل امريكا , مقابل تأمين المصالح الأستراتيجية الأمريكية ( نفط – حماية اسرائيل – تحجيم دور الأتحاد السوفيتي بالمنطقة قبل وفاته ) قد اثبتت فشلها في ادارة شوؤن شعوبها , بدليل ذاك الحقد الهائل الذي ظهر عند تلك الشعوب تجاه الولايات المتحدة في الحادي عشر من ايلول 2001 , ذاك الحقد الناجم عن تحميل تلك الشعوب للولايات المتحدة مسئولية دعم تلك الديكتاتوريات الفاسدة . ومن هنا فانكم لستم مقبولون في الأستمرار بالجلوس علىعروشكم أكثر من هذا , لأنه لا مصلحة للولايات المتحدة ( من وجهة نظرها طبعاً ) ان تتحمل نتائج فسادكم , ليس حبا وغيرة على شعوبنا ولكن تجنبا ل.11 أيلول أخرى من جهة , ولازالة صورة الأمريكي القبيح من عيون تلك الشعوب المطلوب منها الأقدام برغبة على استهلاك ما تقدمه لهم المعامل الأمريكية من جهة أخرى . ومن هنا التأكيد مرة أخرى بأنها لم تذهب الى العراق لتحريره وبناء الديمقراطية , بل ذهبت للهيمنة من جهة ولتبدأ من العراق الوطن فاقد المناعة , كنتيجة للأستبداد الطويل , باعادة تشكيل العقل العربي من جديد . هذا ما قاله جورج بوش الأبن من ان العراق سيكون نموذجاً يحتذى في الشرق الأوسط , وما أكمله وزير خارجيته من ان التغيير في العراق سيكون البداية لترتيب جديد في الشرق الأوسط لخدمة المصالح الأمريكية .
الطرف الأخر من وجهة نظر محرر البعث - والمقصود هنا طبعا القيادة السورية – الطرف الحكيم المجرد من القوة والتي ( يسعى لاستكمال حكمته بقليل من القوة المعنوية والسياسية ) وهنا ايضاً تظهر رؤية الحكمة السورية , بأن القوة المعنوية والسياسية ايضاً , مفصولة عن واقعها المادي . فهو لا يوضح لنا , مصادرهما وان كان مفهوما من سياقه بان هاتين القوتين تأتيان من الصفات الخلاقة والملهَمة للقيادة الحكيمة , وليس من الأعتماد على الشعب الحر, الموحد , والمتحد , مع قيادة وسلطة , خالية من الفاسدين والمفسِد ين . حيث اتضح ان ألهام القيادة وعبقريتها وضرورتها التاريخية في العراق , كانت اعجز من ان تحمي بهم اهل بيت الُملهَم نفسه ناهيك عن العراق البلد .
بالأمس رأى الرئيس بشار الأسد في مؤتمر القمة العربية المنعقد في مصر , بأن الدول العربية بموقفها من الأزمة العراقية تقسم الى دول مشاركة بالعدوان عن طريق منح أراضيهم للقوات الأمريكية , ومنهم من لايجرؤ على اعلان موقف معارض لأمريكا ويتعاون معها بالسر . واليوم يصف محرر البعث هؤلاء العرب وغيرهم بالحكمة فيقول :
(قمة دمشق، أمس، جاءت في هذا الإطار بالذات، إنها محطة أساسية في خضم دينامية متسارعة تشهدها المنطقة بعد غزو العراق... لعل الحكمة تسد فراغاً كبيراً، أو جزءاً منه على الأقل. )
والمقصود هنا قمة الرئيسين بشار الأسد وحسني مبارك . ثم يقول :
(يعمل الداعون إلى الحكمة في هذا الظرف الصعب، من أجل تشكيل مناخ ضاغط باتجاه تطبيق المبادىء المعروفة، وقد تضمنتها النقاط التسع الواردة في بيان مؤتمر الرياض مؤخراً. من أهمها: الانسحاب العاجل، وحدة وسلامة أراضي العراق، حق الشعب العراقي في اختيار نظامه دون تدخل، دعم سورية في مواجهة التهديدات والضغوط... الخ. )
فالرئيس حسني مبارك الذي لم يجرؤ على اغلاق قناة السويس بوجه المدمرات الأمريكية الذاهبة لتدمير العراق , يصبح حكيما اليوم بعد ان كان مشاركا بتدمير العراق بالأمس . وحكمته " كبيرة " بحجم العراق , لذلك فبحسب محرر البعث فهي قابلة لسد فراغ ناجم عن احتلال دولة بحجم العراق .
والكويت والسعودية وقطر الذين منحوا اراضيهم للغزاة الأمريكيين , يصبحوا دعاة للحكمة ( وكله بحسب المحرر ) . والأردن التي زرعت الباتريوت بأراضيها لترد عن اسرائيل صاروخا طائشا , تصبح داعية حكمة . وتركيا التي تنتظر الفرصة المناسبة لانزال اكراد العراق في الأقبية أو القبور التي عجز صدام حسين في سنواته الأخيرة عن انزالهم بها , ولضم الموصل الى اراضيها , تصبح داعية حكمة , وتعرض خدماتها للدخول الى العراق لتساعد في الحفاظ على الأمن .
ومع هذه الحكمة لدى البعض , والدعوة لها من البعض الأخر . ومع حكي مؤتمرات القمة الذي تمحوه المقالات الصحفية , ,يُسأل السيد فاروق الشرع عما تغير في سورية حتى عدلت الأدارة الأمريكية من لهجتها تجاه سورية فيقول بأن ( التغيير حصل في امريكا ) , فهل يعني السيد الشرع بأن الحّكمة بدأت بالتسلل الى دوائر صنع القرار في امريكا . وان كان كذلك فلماذا ينفي محرر البعث عليهم ذلك عندما قال ( فمالك القوة، أي فاقد الحكمة، لايسعى إلى امتلاك مايفقده... بل العكس تماماً، تراه يتهم الحكمة بالسذاجة واللاواقعية.. ) .
**************
لقد أعادت افتتاحية " البعث " تلك الى ذاكرتي , صديق المراهقة ذاك , الذي كان يغيظ أحدهم مازحاً بقوله : " العظمة ثلاثة اشكال , عظيم , تولد عظيماً , مثلي أنا . وعظيم , يكتسب العظمة , مثل صديقي هذا . وعظيم , مُدّعي للعظمة , مثلك انت . "
واضح ان السيد محرر " البعث " يعتبر حكمة الزعامة السورية من النوع الأول , اي حكّمة بالولادة . ولكن في الحقيقة فان الاجابة عن الأسئلة المطروحة على الساحة السياسية السورية هي التي تحدد طبيعة تلك الحكّمة .
وما يلي بعضٌ لهذه الأسئلة :
1 – ما هي الحكمة من استمرار سريان مفعول قانون الطوارئ والأحكام العرفية منذ عام 1963 حتى يومنا هذا , ان كانت النتائج تؤكد انه استُخدم بغير محله ولغير هدفه , وان استمرار العمل فيه مخالف حتى للقوانين التي تجيز وتنظم اعلانه .
2 – ما هي الحكمة من استمرار احتجاز مئات المواطنين السوريين , بدون محاكمة او بموجب احكام صادرة عن محاكم ليست شرعية , والعديد منهم يعاني من امراض مزمنة ومستفحلة ناجمة عن ظروف اعتقالهم , و تقربهم من قبورهم ولا أمل من ان يعودوا الى حياة طبيعية في حال الأفراج عنهم , ناهيك عن ممارسة اي نشاط سياسي .
3 – ماهي الحكمة من عدم الكشف عن مصير الآلاف من المواطنين الذين اختفت أثارهم داخل السجون , وان كان جواب السلطات حول ذلك بالنفي , اليس من واجبها باعتبارها مسئولة عن حماية المواطنين بالبحث عنهم الى حين العثور على الحقيقة .
4 – ما هي الحكمة من ترك حوالي 30000 مواطن سوري مشردين في دول الشتات من دون اية وثائق رسمية تثبت شخصياتهم , والأبقاء على ألوف أخرى مجردة من حقوقها المدنية على الرغم من انقضاء فترة التجريد قانونياً , لدرجة ان اعداد هؤلاء الناس بلغت من الكبر درجة , تحدث عنها وزير الداخلية اثناء تبريره انخفاض عدد المشاركين بالأنتخابات التشريعية الأخيرة , حيث قال : ان من ضمن العدد الأجمالي للمواطنين الذين هم في السن القانونية للمشاركة في الأنتخابات , هناك من لا يحق له المشاركة , كالعسكريين , ورجال الشرطة , والمجردين من الحقوق المدنية , هل اعدادهم بالفعل وصلت الى حجم تقارن مع اعداد الجيش والشرطة .
5 – ما هي الحكمة من ان " فرسان الحكمة , يبذلون جهوداً مدهشة , ايماناً منهم انه لا طريق امام العالم سوى طريق السلام " في الوقت نفسه الذي لا يؤمنون فيه بأن هذا السلام هو حاجة لشعبهم ايضاً , ويصّمون آذانهم عن كل الدعوات المخلصة , لطي صفحة الماضي اللاسلمية , وفتح صفحة جديدة سلمية في حياة الشعب السوري .
6 – ماهي الحكمة من اصرار " حكماء " النظام على فتح حوار " حضارات " مع الولايات المتحدة - التي تحتل جيوشها بشكل مباشر آسيا العربية عدا سورية ولبنان المهددتان - , وتحديداً مع اولئك المتعصبين الصهاينة الذين هم وراء قانون محاسبة سورية في الكونغرس الأمريكي , في الوقت نفسه الذي يرفضون فيه الحوار مع ابناء حضارتهم , بهدف تعزيز الوحدة الوطنية . والمرة الوحيدة الذي قبلوا فيه هذا الحوار في العهد الجديد كان باعتقال الأفاضل العشرة
7 – ماهي الحكمة من اعتماد سياسة السلام الأستراتيجي على صعيد العلاقة مع الأعداء أكلة حقوقنا , بالوقت نفسه الذي يتم فيه اعتماد سياسة الحرب في الداخل على المعارضة ودعواتها للوحدة والتسامح والتصالح , واعتماد سياسة النهب الأستراتيجي لموارد البلاد والعباد .
أعتقد انه في الاجابة عن هذه الأسئلة , والكثير غيرها , تتحدد طبيعة الحكّمة عند النظام في البلد , أهي حكمة بالولادة , أم انها ادعاء .
فريد حداد 25