بعد القضاء على نظام صدام حسين الدموي من قبل قوات التحالف تحت زعامة الولايات المتحدة في أيدينا جملة من الحقائق الملموسة التي لايمكن تجاهلها إلا من قبل من فقد الاتصال بالواقع، والتي من الضروري مراعاتها عند أي تقييم جديد للأوضاع في سورية وفي المنطقة المحيطة بها، ومن هذه الحقائق:
- القوات العسكرية الأمريكية منتشرة على الطرف الآخر من الحدود السورية الشرقية وبوسعها نقل الحرب إلى داخل سورية في أي وقت تشاء الإدارة الأمريكية، أو على الأقل ممارسة ضغوط نفسية قوية على الحكومة السورية، حيث أصبحت سورية بين فكي كماشة من الشرق والشمال، من طرف العراق التي ستكون لأمد بعيد خاضعة للنفوذ الأمريكي المباشر وغير المباشر فيما بعد ومن طرف تركيا التي لها علاقات عسكرية واقتصادية صميمية مع إسرائيل ومن جهة إسرائيل في الجنوب الغربي.
- المنظومة الدفاعية المعادية للولايات المتحدة الأمريكية واسرائيل التي كان يمكن لها أن تتشكل من إيران والعراق وسوريا وحزب الله وحركة حماس والجهاد الإسلامي وبعض المنظمات الفلسطينية المسلحة الأخرى قد اختلت وأصيبت في القلب بسقوط نظام صدام حسين الذي كان يعتبر قوياً بما فيه الكفاية للقيام بدور أساسي إلى جانب إيران في هذه المنظومة بمجرد إزالة الخلافات التي كانت لا تزال عالقة بينه وبين الحكومة الإيرانية، والتي كانت عميقة لدرجة أن تشكيل هذه المنظومة قد تأخر ولم يتحقق على أرض الواقع. وباستطاعة الولايات المتحدة أن تعرقل بهذا الحضور الكثيف في العراق أي تعاون وتنسيق بين إيران وسوريا وتراقب تحركات البلدين عن كثب وتمنع أي اتصال على الأرض بين البلدين عبر العراق.
- العلاقات العربية العربية التي تبدو وكأنها في صحة وعافية لم تعد على مايرام بسبب المواقف المتناقضة للدول العربية تجاه التدخل الأمريكي في العراق وشن الحرب على نظام بغداد بذلك الشكل الرهيب الذي لم يسبق له مثيل في التاريخ في الوقت الذي فتحت فيه بعض الحكومات العربية مطاراتها وموانئها وأراضيها للقوات الأمريكية وحلفائها، ووافق بعضها الآخر على ذلك ضمناً أو سراً، وقمعت المظاهرات الصاخبة الكبيرة للجماهير العربية المعادية للحرب بصورة فظة للغاية، في حين لم تقم بمثل هذا القمع ضد شعوبها دول شاركت في الحرب أو ناصرت الولايات المتحدة سياسياً وديبلوماسياً، ومن أروع الأمثلة هو تعرض حكومة توني بلير للسقوط بسبب مشاركتها في الحرب، ومع ذلك فإن بريطانيا شهدت مظاهرات كبيرة للغاية دون أن يحدث قمع كما حدث في مصر العربية مثلاً. وهذا سيؤثر طبعاً على حجم التأييد والدعم العربي الرسمي لسوريا إذا ما شنت الولايات المتحدة حرباً جديدة في المنطقة.
- التوازن العسكري الإسرائيلي العربي قد تعرض بالحرب في العراق إلى الخلل ، وبالتالي فإن سوريا قد فقدت إلى أمد طويل عمقها الاستراتيجي الذي كان يمكن أن يشكله العراق في أي مواجهة قادمة مع إسرائيل، وعلى هذا سيفكر القادة العسكريون السوريون في كل خططهم المرسومة وسيبحثون عن بدائل للعراق وهي قليلة ويصعب إيجاد من يأخذ مكانه في المرحلة القادمة التي ستكون مرحلة تفوق كبير لصالح إسرائيل والولايات المتحدة، بحيث لاتتمكن سوريا من القيام بأي مبادرة عسكرية في المنطقة دون التفكير طويلا في النتائج السلبية التي ستنجم عنها نتيجة الخلل الحادث في هذا التوازن.
- النتائج السياسية التي ستنجم عن الحرب على نظام حزب البعث العربي الاشتراكي في العراق بهدف تصفيته وإلغائه ستكون وخيمة بالنسبة لحزب البعث في سوريا أيضا، وعلى الرغم من أن نظام صدام حسين قد استخدم سائر أشكال العنف والقهر والاستبداد والتفرد بالحكم فإنه لم يجد من الشعب من يدافع عنه بالشكل المناسب وسقطت مدن العراق الواحدة تلو الأخرى سقوطاً سريعاً دون مقاومات طويلة الأمد ، فالشعب العراقي كان قد سئم سياسة البعث وتسلطه الدكتاتوري ، والدليل الأكبر على عدم وجود التضامن بين النظام والشعب هو اكتشاف عشرات مستودعات السلاح الخفيف في المدارس والمساجد والمراكز المدنية دون أن يستخدمها الشعب ضد الأمريكان وحلفائهم، إضافة إلى الطريقة الغريبة التي قام بها المواطنون في كل مكان في الهجوم على مقرات البعث ودوائر الحكومة وبيوت الحاكمين في أكبر عملية سطو ونهب في العصر الحديث، وكأن الناس كانت تنتظر لحظة سقوط النظام للانتقام من الدولة التي قبعت مثل كابوس على صدر الشعب عقوداً من الزمن. وهذا ما سيفكر فيه البعثيون السوريون بعد الآن ويعيد النظر في حساباتهم فسيجدون أنفسهم بلا وسائد وطاولات عندما تحدث حرب على سوريا، وهنا نجد أنفسنا أمام وضع نفسي قلق ومثير للجدل حقاً. والسؤال المطروح: لماذا عمليات السلب والنهب الكبيرة والواسعة النطاق هذه؟ وهل كان المهاجمون على هذه القصور والمباني والمتاحف والمساجد والمقرات الحكومية لصوصاً ومجرمين فقط، أم قطاعات واسعة من الشعب، حسب ما رأيناه يومياً على شاشات التلفزيون العربية؟ ولماذا يحاول بعضهم تصوير كل أولئك النسوة والأطفال والرجال الذين جاؤوا بسياراتهم وكأنهم في نزهة عائلية ليأخذوا ما يعثرون عليه في دوائر الحكومة تصويراً إجرامياً دون تفهم الوضع بشكل جيد؟ هل كانوا فعلا عصابات أم من أهالي البلد الذين حرمهم النظام من كل شيء واستبد بهم وطغى عليهم فوجدوا في سقوطه فرصة للتعبير بهذا الشكل عن حقدهم وكرههم للحكومة وشرعوا في الانتقام عن طريق السلب والنهب. والأمريكان أرادوا بعدم تدخلهم لوضع حد للسلب والنهب إظهار الوجه الحقيقي الكالح للعلاقة بين الشعب والنظام المنهار في العراق، وخافوا من أن ينقلب الحقد الدفين عليهم بدلاً عن نظام صدام حسين فتركوا الناس يفعلون ما يريدون للتنفيس عن أحقادهم ولو لأيام قلائل ، قبل أن يستفيقوا من هول الحرب المدمرة التي جعلت بلادهم قاعاً صفصفا. إن كل بعثي سوري سيفكر بعد اليوم بما جرى في العراق ويأخذ العبرة مما حدث لرفاقه العراقيين وبيوتهم الجميلة المليئة، وهذا سيؤثر في مجمل السياسة التي سينتهجها حزب البعث السوري في المستقبل.
- الضفوط السياسية النفسية التي يمارسها المسؤولون الكبار في الإدارة الأمريكية وعلى رأسهم رئيس الولايات المتحدة جورج دبليو بوش ، وبخاصة اللهجة الحادة التي يستخدمها وزير الدفاع دونالد رامسفيلد في التحدث عن سوريا تذكرنا بالأسابيع الرهيبة التي سبقت الحرب على نظام صدام حسين، ولائحة الاتهامات الموجهة لسوريا طويلة، والاسرائيليون يجيدون سياسة تسخين الأجواء وتحريك الدمى وتأجيج الأزمات لصالحهم، وهذا ما وضع النظام الحاكم في سوريا تحت مطارق ضخمة تجبره على التراجع والتنازل والسعي لارضاء الإدارة الأمريكية والتقليل من حجم الأزمة وعمل كل مايمكن أن يساهم في إبعاد شبح الحرب عن البلاد. وما الترحيب بزيارة وزير الخارجية الأمريكية كولن باول بهذه الصورة المثيرة للشجون إلا لوناً مفضلاً من ألوان السياسة السورية التي تستند إلى مبادىء ثابتة منها التراجع بدل المواجهة والقبول بالواقع رغم مرارته عندما تشتد الأزمات. ويذكرنا هذا بإخراج سوريا لزعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان حين هددت تركيا بغزو البلاد إن لم تطرده الحكومة السورية من سوريا ولبنان، ففعلت الحكومة ما رأته مناسباً وأقامت بعد ذلك علاقات جيدة مع تركيا، بعد عهد طويل من الجفاء بسبب دعمها لأوجلان سنين طويلة.
ومن خلال هذه المستجدات وغيرها يجدر بنا تقييم الوضع ليس في سوريا فحسب وإنما في المنطقة كلها، وكان على العرب أن يحسبوا هذه الحسابات يوم كان صدام حسين يجول ويصول، يضرب هذا الجار وذاك، يحكم البلاد بقبضة من فولاذ ويتحدى الدنيا كلها، دون أن يجد من العرب من يقف في وجهه ويقول له: " لانسمح لك بأن تفسد الأرض وتدمر العراق وتغزو بلاد الجيران وتبني لك عرشاً كعروش الفراعنة." والمعارضة العراقية التي هربت من سطوة صدام واضطرت للبحث عن مكان آمن لها، وجدت في الغرب الأوربي والأمريكي من يقدم لها الملاذ الآمن ويساعدها على نشر فضائح النظام وجرائمه، في حين أغلقت معظم الدول العربية أبوابها أمام هؤلاء العراقيين أو صدتهم أو استهزأت بهم، بدل تقديم العون السياسي والعسكري لهم ليقوموا بتحرير بلادهم من طغيان صدام حسين وزمرته المجرمة، وبالفعل فإن ايران قامت بواجبها تجاه بعض فصائل المعارضة العراقية أكثر من كل الدول العربية مجتمعة، وكانت لها أهداف وأسباب وطموحات، إلا أنها لم تفعل بالمعارضة العراقية ما فعلته بعض الدول العربية.. والإعلام العربي الرسمي - ولم أر حتى الآن أي إعلام عربي غير مرتبط بحكومات وسياسات إلا بعض الصحف والأقلام الجريئة- خدم سياسة الأنظمة العربية تجاه العراق، فكان الخوف من عمليات الاغتيال التي تقوم كانت تقوم بها العصابات الإجرامية التابعة للنظام العراقي خارج البلاد أحد أهم الأسباب وراء سكوت الإعلام العربي عن جرائم النظام، ثم الأموال التي أغدقها النظام العراقي على الأقلام العربية.. وأثناء الحرب التي لم تنته بعد وقبلها بأسابيع إنكشف الستار عن كثير من وجوه الإعلاميين العرب الذين يمكن تسميتهم بجنود صدام حسين، بعد أن ملؤوا الدنيا بالعبارات المنمقة عن حيادهم وديموقراطيتهم وقولهم الحق.. ومن القنوات التلفزيونية العاملة الآن في العراق من لم يترك جريحاً عراقياً إلا وعرضه للعالم، وهذا جيد للضغط على الإدارة الأمريكية والرأي العام العالمي ولكنه ينشر في الوقت نفسه ضباباً كثيفاً حينما يتعلق الأمر بجرائم صدام ومعتقلاته الرهيبة وفظائعه التي لاتحصى، ويحاول ترقيع ما حدث وإخفاء جرائم النظام أو تبريرها، وتحاول إنكار هزيمته الماحقة بزرع أمل الجهاد مستقبلاً ضد المحتل.. وهذا ما يضر بالمشروع العربي الديموقراطي ضرراْ كبيرا، لأن من واجب الإعلام أن يقول الحقيقة.. ولقد رأينا كيف أودى الإعلامييون العرب بالأمة العربية في الستينات من أمثال المذيع المصري الناري الصوت أحمد سعيد والصحافي المصري محمد حسنين هيكل المملوء قلمه بالأكاذيب بدل الحبر.. قبل حرب حزيران 1967 وأثناءها وبعدها..
لقد جرت مؤخراً في ألمانيا دراسة تم نشرها حول دور الإعلام الألماني في تغطية الحرب الأمريكية العراقية وتطرقت فيها الدراسة المدعومة بإحصائيات وأرقام ونسب إلى النقاط التي لقيت إهتمام الإعلام الألماني والنقاط التي لم تلق الاهتمام الكافي ، وكانت النتيجة أن الإعلام الألماني كالإعلام العربي لأسباب سياسية - على الرغم من أنه إعلام خارج عن دائرة الارتباط بالحكومة- لم يهتم إهتماماً كافياً بنقل الحقيقة عن الجانب المظلم للنظام العراقي، مما أعتبر ضعفاً لهذا الإعلام وتم توجيه النقد الكبير إليه لتفادي مثل هذا الضعف وعدم الوقوع في خطأ كهذا مستقبلاً لأن الشعب الألماني له الحق أن يرى ويسمع كل الحقيقة من خلال الإعلام الذي عليه حمل هذه الأمانة.. ولكن لو نظرنا صوب الإعلام العربي لوجدناه أضعف بكثير من الإعلام الألماني، بل فيه من يعمل ليل نهار على إخفاء جرائم الأنظمة السائدة والتقليل من الأخطار ولوي عنق الحقيقة وعدم التعرض للأنظمة القمعية ، بل تلوين العالم العربي بألوان زاهية ، بحيث لا ترى الشعوب العربية سوى حكومات مقدسة من حولها هالات مضيئة عاملة على إزدهار الأمة وتقدمها، وأنظمة أكثر ديموقراطية من نظامي السويد والنرويج، وجيوشاً عظيمة ستقهر الناتو والصين والروس معاً ، زعماء همهم فتح الطرق وشق الترع وبناء الموانىء وصعود القمر.. فإذا بقي العالم العربي جاهلاً بما يفعله هؤلاء الطغاة المستبدون وما يبنونه من قصور خيالية وسراديب ومعتقلات وما يبددونه من ثروات، ويتم خداعه بمرأى جيوش القدس وفدائيي الاستعراضات الضخمة والصواريخ الكارتونية والطائرات التي تدخل في المعارك أبداً، فعلى هذه الأمة السلام...إنها المأساة بعينها...
فلمن تقرع الأجراس ياعرب ؟!! وهل سيتعلم المثقفون ومنهم الإعلاميون الذين يغطون مساحات واسعة من العقل العربي مما حدث في بلاد الرافدين وقد يحدث في بلاد الشام أيضاً؟ أم أنهم سيستمرون في مدح ولائم القصور وتنابلتها الذين تعتبرهم سياسيين عظام يواجهون بهم " العجول " ، كما فعل وزير الإعلام العراقي الذائع الصيت عالمياً محمد سعيد الصحاف قبل أن يختفي كالجني عندما ظهرت الدبابات الأمريكية على جسور بغداد وبالقرب من فندق فلسطين، حيث كان يلتقي بالصحافيين ويبلغهم بانتصارات القائد العظيم وباقتراب موعد المذبحة التي رمى فيها الأمريكان بعلوجهم..