|
تحويل البيئة التعليمية إلى وطن (مَوطَنَةُ المدرسة)
راوند دلعو
(مفكر _ ناقد للدين _ ناقد أدبي _ باحث في تاريخ المحمدية المبكر _ شاعر) من دمشق.
(Rawand Dalao)
الحوار المتمدن-العدد: 6660 - 2020 / 8 / 28 - 09:58
المحور:
التربية والتعليم والبحث العلمي
الوَطَن :
الوطنُ ذلكَ الحَنين الذي ينتابُهُ الخَفَقَان ، ذلك العِشق الذي لا يزال يَحفِر التَّوقَ على جُدران القلب في الإنسان ، هو البيت و الحيُّ و الحارات و الزّوايا و الأركان ... ريعان الصِّبَا و العُنفُوَان ، زهر الصَّبابة و الرّبيع من ناضِرِ الألوان ... هو الشّذى و الورود و النّدى و العبير مُمَسَّكَاً بالزَّعفران ... بُقعة من النُّور تهفو إليها الذّاكرة و النِّسيان ... هو دمعةُ الماضي المُزدان ... بجماله الحاضر في حَنايا الآن.
الوطن ذلك الانتماء حيث تفتّحت باكورة الإنسان ، و غرَسَ ذكرياتَه و صبابته و مُهجة قلبه ...
في الوطن حيث الجُّدران التي وزّعنا عليها بصمات أناملنا ، و قبلات مواضينا ، هناك حيث طيوف الأحباب تتراقص في أعيننا ، خُطراناً و شجوناً و رياحيناً ...
هو ذلك التجذُّر في الإنسان حيث أنشأ علاقاته الاجتماعية و روابطه الأُسَرِيّة ... هو أَوجُ حُبّه و كُنهُ كينُونَتِه و الجزء الأهم من ذاته ....
تعميق الانتمائيّة للبيئة التعليمية :
فغريزة الانتماء إلى الوطن و الجماعة من أهم الغرائز البشريّة التي يُضحِّي الإنسانُ من أجلها بأثمن ما لديه ، بل بحياته كلها !
فكم ستكون فكرةً عبقريّة أن نوظِّفَ هذه الغريزة لخدمة العمليّة التعليميّة ، كم ستكون فكرة خلَّاقة أن يذهب الطّالب كلّ يوم صباحاً إلى وطنه !
و أرى ذلك ممكناً من خلال تأجيج و ترقية مشاعر الانتماء و التجذُّر تجاه البيئة التعليميّة في اللّاوعي عند الطّالب ، و تحويل المدرسة و الجامعة و المعهد من مجرد مكان عام و ممارسة روتينية إلى انتماء إلى وطن ، إلى أهل ... إلى مكان ينتمي للطالب و ينتمي الطالب إليه !
فلو تم توظيف هذه الغريزة بشكل ناجح لتمّت ( مَوطَنَةُ البيئة التعليمية ) أي تحويلها إلى وطن يعيش بالطّالب ، و يضحّي من أجله .... ينتمي إليه و يفتخر ... يعلو بعليائه و يشتهر ... يتغنى باسمه و يعتز به ثم يطوره و يبتكر !
من خلال (مَوطَنَة ) البيئة التعليمية نخلق عند الطّالب نزعة رهيبة تجاه التعلُّم لا يمكن أن تخلقها أي نزعة تحفِيزيّة أخرى !!
لو استثمرنا ( غريزة الانتماء) تربويّاً لحصلنا على طالب لا يدرس من أجل التعلُّم فقط ، بل يدرس بحبٍّ و شغف ليُشبع غريزة الانتماء و الإخلاص للوطن المُنْتَمَى إليه ، و ليعمِّق جذوره ، و ليُعَمِّر بيئته التعليمية ( مدرسته) التي باتت تخُصُّه كالوطن ، فهي وطن لمشاعره و كينونته ، فهو يدرس و يبحث استجابة لِلَواعِج اللّهفة للذّات و كينونتها و كل ما يخصّها ...
كما أنّ الوطن محلّ مُلكٍ لأهله ، بل أخصّ ملكيّاتهم التي يبذلون أرواحهم دفاعاً عنها ... فمَوْطَنَةُ البيئة التّعليمية بمثابة استثمار غريزة التملّك في خدمة التّعليم ككل ، و عندها تندمج المدرسة و الجامعة بالأنا فيصبح الاعتناء بها و بمتطلباتها كالاعتناء بمتطلبات الأنا الشّخصيّة .
فلا بُد للبيئة التعليميّة كي تكون عصريّة أن تعتني بهذه النقطة بشكل كبير بأن يقوم طاقمها الإداري بتزويدها بمحفِّزَات الانتماء الطُّلَّابِي لها ... و هناك وسائل عدّة أقترحُها لتعميق المشاعر تجاه المدرسة و الجامعة و من ثَمَّ ترقيتها إلى عمق و نقاوة المشاعر الوطنية _ و سأتحدث عن المدرسة مع إمكانية تعميم الكلام على الجامعة_ :
1_ وضع صور الطلاب في المدرسة على شاشات العرض و الجدران بشكل مستمر طيلة العام ، مع كتابة اسم الطالب و أهم مغامراته و هواياته في المدرسة ، و اختيار نص التّعريف بشكل حداثي جذّاب و مُلفت كاستخدام عبارات صادمة، مثال : ( أحمد العربي ذلك الطالب الذي يتقن لعب الكرة بمهارة و الذي اشتهر بتسجيل الأهداف من زوايا صعبة ... يا له من هداف لطالما أمتعنا بهجماته الرائعة ... كما أنه يجيب بسرعة البرق على مسائل الجبر ، و لكنه بحاجة إلى تحسين خطّه السَّيِّء ، مما يدلّ على أنه مشروع طبيب ! ) .
فرؤية الطالب لصُوَرِهِ و ذِكريَاتِه على جدران المدرسة يخلق حالة نفسيّة من انتماء المكان له و انتمائه للمكان ، مما يُحفِّز الطالب و يخلق لديه دوافعاً جديدة للتعلُّم أكثر و الإخلاص للمدرسة .
و يدخل في إطار ذلك وضع صور الطلاب أثناء ممارسة النشاطات المختلفة و التعليق تحتها بما يُشعِرُ بملكيتهم للمكان و النشاط كقولنا ( الطلاب في ملعبهم يستمتعون بلعب كُرَة السلّة _ الطلاب في فصلهم يتناولون فطورهم اليومي ... العلماء الصغار في مختبرهم يقومون بتجربة المحاليل و الرّواسب ... إلخ )
فنظرة عامة في حرم المدرسة المُعَاصِرَة سنجد مئات الصور الشَّخصيَّة الموضوعة بشكل فنّي مع تصاميم مليئة بضجيج الألوان و الذّكريات و المغامرات.
في الحقيقة إن وضع صور الطلاب على جدران المدرسة بكثافة لا يقل أهمية عن وضع المشاريع و المقولات العلمية و الحكم القيِّمة ، بل أرى أنه أهم بكثير لأن وضع الصور يعزز الانتماء للمدرسة لدى الطلاب و يؤثر بهم نفسيّاً بشكل كبير.
كما أُفَضِّل المبالغة في تقدير إنجازات الطلاب و تصويرهم على أنّهم خبراء و علماء المستقبل !!
2_ وضع صور الطلاب في الصفوف على الجّدران أو الباب الخارجي للفصل لخلق نفس الانتماء السابق باتجاه الفصل.
3_تخصيص خزنة لكل طالب في الفصل يضع عليها صورته و يقفلها ليشعر بملكيّته لجزء من المدرسة.
و من الممكن أن يضع كل طالب في خزنته حاجيّاته المتعلّقة بالدّراسة و لا مانع من وضع بعض الحاجيّات الشخصية و الثياب التي يمكن أن يرتديها بسهولة ، كثياب الرياضة و غيرها....
4_ تنظيم حفلات الأكل و الشرب داخل الفصول في أوقات مُعيَّنة.
5_الاحتفال أو الإعلان عن أسماء مواليد اليوم خلال الإذاعة الصّباحية مع التَّصفيق و التَّكريم المعنوي.
أما في الفصل فقد يتم ذلك من خلال تميِيْز الطّالب صاحب الميلاد و تسليط الضوء عليه اجتماعياً ( كأن يتم تخصيص جزء من إحدى الحصص لتقديم نبذة عن حياة الطالب و أهم ذكرياته و مغامراته في المدرسة من خلال سرد مُصَوّر تفاعلي ) ... ثم توجيه الأسئلة له من الزّملاء بإشراف المعلم.
كما يمكن تسليط الضَّوء عليه أكاديمياً كأن يجعل منه المعلم محور الدروس لهذا اليوم ، و أن يذكر المعلّم أثناء شرح المادة العلمية أمثلة تدور حوله ، أو أن يطلب منه شرح جزء من الدرس للطلاب.
ثم يتم وضع صور الطالب و زملائه المحتفلين بعيد ميلاده على لوحة خاصة.
6_ دراسة الطفل بمدرسة أبيه من شأنها أن تُغَذِّي و تُنَمِّي مشاعر الانتماء و الحب للمدرسة التي باتت تخص العائلة جيلاً بعد جيل.
لذلك أنصح أن تقوم المدرسة بتوعية أولياء الأمور و الطلاب بمدى أهميّة هذه النّقطة ، و أنّ أفضل مدرسة للابن هي المدرسة التي تخرّجَ منها الأب ، و أفضل مقعد لدراسة الابن هو ذلك المقعد الذي درس عليه الأب و أمضى أيام شبابه و أحلى ذكرياته ، لأن في ذلك تعزيزاً لمشاعر الانتماء للمدرسة و للفصل كبيت يخص العائلة .
كما أن دراسة الابن في مدرسة أبيه من شأنها أن تخلق حوارات أسريّة حول المدرسة و تغيّراتها بين الابن و الأب مما يزيد الرَّوابط العائلية و يعمِّق الانتماء للمدرسة عند العائلة ككل، لاسيما لو صادف الابن معلم أبيه ! مما يبعث على زيادة الاحترام و الإجلال من الطالب لمعلم أبيه بل للمدرسة ككل.
7_ تصميم نشيد خاص بالمدرسة و تلحينه و تأديته خلال المناسبات و الأنشطة المختلفة.
8_ تصميم عَلَم خاص بالمدرسة و رفعه في ساحاتها و توزيعه على الطلاب.
9_ دعم النَّشاطات الدّراسية المسائيّة و إنشاء قسم داخلي للطّلاب الرَّاغبين بالسّكن ضمن حرم المدرسة.
10_ اهتمام المدرسة بطلَّابها بعد التّخرج بشكل جدّي ، من خلال إشعارهم بأنها تقوم بأقصى جهود التواصل مع الجّامعات لتأمين مقاعد الدراسة المناسبة في الكلّيات التي يحلمون بالالتحاق بها.
11_ الاهتمام بجدول أنشطة ما بعد الدوام ، و اختيار الأنشطة بناء على رغبات الطلاب .
فكل منّا حرٌّ في اختيار طريقة حياته في بيته ، و كذلك يجب نقل هذا الشعور إلى المدرسة فيجب أن يُتاح للطالب اختيار النشاط الذي يرغبه بعد الدوام (سباحة _ حاسب _ ذكاء_ روبوتيك_ رياضيات ....) و أن يتم ذلك بحريّة كاملة ، مما يُشعِرهُ بأنَّه يتمتَّع بحق تقرير المصير و هذا من معزِّزَات الشخصيّة الانتمائية.
12_ خلق الانتماء العالمي في المدرسة بعيداً عن الانتماءات العنصرية و الطائفية ، فتلوين المدرسة بلون طائفة معينة أو عرق معين يخلق حاجزاً بين الطالب التابع لعرقية أو طائفة أخرى و المدرسة ، و يؤثر سلبياً على أداء الطالب ....
فبعث العقليّة العالميّة من أهم خطوات موطنة البيئة التعليميّة.
و يساهم البحث العلمي التفاعلي المبني على العقلية العالمية بتعميق هذه الفكرة في نفوس الطلّاب من خلال
أ_ عالمية المراجع ( بُعدُها عن الطائفية و العنصريّة)
ب_ عالميّة التشكيلات ( تقسيمات الصفوف و الفرق النشاطيّة و الرِّياضيّة و فرق المشاريع العلميّة..إلخ)
فالمدرسة وطن للجميع بغضّ النظر عن انتمائهم العرقي و الفكري ....
13_ الشفافيّة بالتعامل مع الطلاب و أولياء أمورهم كي لا يشعر الطالب بالظلم و الغبن و بالتالي الغربة عن الوطن (البيئة التعليمية) ، فالمساواة بين الطلاب في الشؤون الإدارية من شأنها تعميق مشاعر الحب و الانتماء للمدرسة أما سياسات الكيل بمكيالين فتؤدي حتماً للحنق و الغل و الكراهية و بالتالي خلق مسافة شاسعة من الغربة بين الطالب و بيئته التربوية.
نحافظ على هذه النّقطة من خلال توعية الطاقم الإداري بمخاطر سياسات ازدواجيّة المعايير و الكيل بمكيالين.
14_ الاهتمام بالكادر التدريسي بشكل كبير من النواحي الماديّة و المعنوية و تقديم الحلول الجدّيّة المختلفة للمشاكل التي قد تعترض دكتور الجامعة أو المعلّم أو مساعد المعلّم. فالبيئة التعليمية وطن للطالب و المعلم من منظور أن كل معلم هو طالب علم إلى نهاية حياته.
و غيرها الكثير الكثير ، فالباب مفتوح لاقتراحات جديدة تتطوّر بتطوّر وسائل التّعليم كتخصيص حاسوب و جهاز ذكي لكل طالب ..... إلخ
فالمدرسة الوطن ليست مجرَّد مدرسة يرتادُها الطلّاب روتينياً لتلقّي الدّروس ، بل هي البيئة التعليميَّة التي يبحثون عنها في حبهم و انتمائهم و إخلاصهم و فيض مشاعرهم .... يجدون أنفسهم في ممرَّاتِها و أبنيتها و فصولها و كتبها و قراطيسها ... و يتمنَّون تطوّرها و التحاق أبنائهم بها... و يشعرون بأنها موئلاً لهم يساعدهم على إكمال الدراسة و تحصيل فرص العمل.....
#راوند_دلعو
#راوند_دلعو (هاشتاغ)
Rawand_Dalao#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
طفولة على مذبح الطلاق _ قصة قصيرة
-
كوميديا الأغبياء _ من هلوسات الدعاة الجدد و تكريم المرأة
-
لن تجد تنويرياً داعماً لإسرائيل
-
قانون نيوتن الثالث في التعامل مع الديانة المحمدية
-
عيد العبيد
-
مفكرٌ مغمور جداً جداً .... !!
-
قِيثَارِيّات على مذابح الوُرُود
-
قيثارية الطائفية
-
فيه اختلافاً كثيراً _ سجعية الواهبة نفسها للنبي
-
تقاسيم على مقام النيكوتين !!!
-
لماذا نزهد براغبنا و نرغب بزاهدنا ؟
-
وداع الفَيُولا
-
جريمة
-
صرخة سلام على هامش الحروب الطائفية !!
-
أمير أمراء النغم ، كبير ملائكة الموسيقا !
-
علمنة الفلسفة
-
الزوبعة
-
حبيبي أبي
-
القرآنيون الجدد في ميزان العقلانية
-
ظروف و دوافع اعتناق الديانة المحمدية عبر التاريخ
المزيد.....
-
الأنشطة الموازية للخطة التعليمية.. أي مهارات يكتسبها التلامي
...
-
-من سيناديني ماما الآن؟-.. أم فلسطينية تودّع أطفالها الثلاثة
...
-
اختبار سمع عن بُعد للمقيمين في الأراضي الفلسطينية
-
تجدد الغارات على الضاحية الجنوبية لبيروت، ومقتل إسرائيلي بعد
...
-
صواريخ بعيدة المدى.. تصعيد جديد في الحرب الروسية الأوكرانية
...
-
الدفاع المدني بغزة: 412 من عناصرنا بين قتيل ومصاب ومعتقل وتد
...
-
هجوم إسرائيلي على مصر بسبب الحوثيين
-
الدفاع الصينية: على واشنطن الإسراع في تصحيح أخطائها
-
إدارة بايدن -تشطب- ديونا مستحقة على كييف.. وترسل لها ألغاما
...
-
كيف تعرف ما إذا كنت مراقبًا من خلال كاميرا هاتفك؟
المزيد.....
-
اللغة والطبقة والانتماء الاجتماعي: رؤية نقديَّة في طروحات با
...
/ علي أسعد وطفة
-
خطوات البحث العلمى
/ د/ سامح سعيد عبد العزيز
-
إصلاح وتطوير وزارة التربية خطوة للارتقاء بمستوى التعليم في ا
...
/ سوسن شاكر مجيد
-
بصدد مسألة مراحل النمو الذهني للطفل
/ مالك ابوعليا
-
التوثيق فى البحث العلمى
/ د/ سامح سعيد عبد العزيز
-
الصعوبات النمطية التعليمية في استيعاب المواد التاريخية والمو
...
/ مالك ابوعليا
-
وسائل دراسة وتشكيل العلاقات الشخصية بين الطلاب
/ مالك ابوعليا
-
مفهوم النشاط التعليمي لأطفال المدارس
/ مالك ابوعليا
-
خصائص المنهجية التقليدية في تشكيل مفهوم الطفل حول العدد
/ مالك ابوعليا
-
مدخل إلى الديدكتيك
/ محمد الفهري
المزيد.....
|