|
تأملات في الانحراف من الطرائقية الى الدين
كمال جيلاني
الحوار المتمدن-العدد: 6659 - 2020 / 8 / 27 - 22:51
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
مقدمة أحاول هنا ان اضع مقدمة تمهد لتحليل اوسع للبنية المدمجة لما يسمى بالدين (1) من خلال السعي لتفكيك وتجذير عناصره المدغمة المعالم، والاجتهاد لرسم تصور لخطوط صيرورة اندغامها. فالدين بمفهومه الساري ولد وترعرع ابتداء في مجرى تيار عظيم آخر هو التيار الطرائقي، ثم الطرائقي-الأخلاقي لاحقا، بعد تحقق وضوح الارتباط بين الطرائقية والأخلاقية، والذي قد نتفاجأ، عند تأمل مراحل تطوره اللاحق، بأن فكرة الدينونة (2)، والتي رشحت منها كلمة "دين"، قد سيطرت على هذا التيار بتأثير التدخل السلطوي وما يختفي وراءه من دوافع نفسية بشكل غلبت به صبغتها على معالم التيار الأصلي. لقد تمكنت فكرة الدينونة هذه من التماهي الظاهري مع هذا التيار الأصيل واضعافه من خلال عملية انقلاب تمت عبر مراحل طويلة تسلم بها "الدين"، الذي يمثل التجسد الأكثر تطورا لهذه الفكرة، والتي تم دعمها بقوة من قبل السلطات بأنواعها لدورها العظيم في تسهيل السيطرة على الجموع وسياستها بعد ان اخذت زخارفها وتمثلاتها وتنظيراتها مأخذها من النضج، ليحكم هذا الكائن الطاغي الجديد التيار بطريقة شمولية مسطحا ومفرغا الطرائقية والأخلاقية المرافقة لها من محتواهما ومقاصدهما الاصلية. لقد تمكنت فكرة الدينونة، التي تمثل محورا لعقائد الكثير من الديانات (3)، خاصة الإبراهيمية منها، من تهميش الطرائقيات الروحية (4) من خلال التماهي معها بطريقة مزيفة وقاهرة تماما. لم يعد الان بإمكان الانسان التمييز بين الدين الذي يمثل حقيقة اختراق السلطة للمناهج الطرائقية-الاخلاقية، وبين الطرائقية-الاخلاقية من حيث انها، من منظور معين، نشاط ملهم اصيل يعبر عن تجل لإبداع العقل الإنساني المتطلع للآفاق الاخرى. الطرائقية آمل ان احدد باقتضاب شديد، ولكنه ضروري مع ذلك، ماهية الطرائقية. الطرائقية كلمة مفردها الطريقة. طريقة لماذا؟ وماذا تريد ان تحقق؟ الطريقة مجموعة من التقنيات التي تعمل على تنشيط الملكات الروحية (5) المفترض وجودها لدى الانسان وتعمل على فك عقالها لتحقق مستويات من الترقي الروحي: ادناها الإحرازات الروحانية وأوسطها الإحرازات الروحية واعلاها الإحرازات الربانية. وهناك ثلاث تيارات داخل الطرائقية. اولها التيار الروحاني (6) الذي يتعلق بالاتصال بالذوات الروحية الإنسانية وغالبا الغير انسانية وتسخيرها. وارتباط هذا التيار وثيق بالسحر، وربما يكونان وجهان لعملة واحدة. وتبدو المحرزات الروحانية متجهة أكثر الى "خارج الذات" فهي أكثر موضوعية واقل ذاتية في توجهاتها. اما التيار الروحي (7) فهو أعظم ارتباطا بالتجربة الفردية للإنسان ويتجه الى القوى الروحية الذاتية. فهو يصبو نحو الداخل الروحي، ان صح التعبير، ويرتبط بالملكات الروحية الأكثر تهذيبا كالطرح الروحي (8) ورحلاته والتنبؤ والاستشفاء وغيرها. ويشتمل التيار الروحي على تجارب التبدلات جودية (9) وخبرات اتصالية غالبا، ولا يسعى في الأساس الى تسخير ذوات روحية إنسانية او غير انسانية. فهذا التيار أعظم صفاء وأكثر منطقية واقل تعقيدا في اجراءاته من الروحانيات وطقوسها الغامضة وخطواتها المعقدة اللامنطقية. وربما تمثل الثيوصوفية (10) الحديثة التطور الأنضج للتيار الروحي خاصة من حيث تفوقها في التنظير القائم على التجربة الروحية وتنظيم ووصف عوالمها وطبقاتها واشباعها بقدر كبير من عينات التجربة الصوفية الشرقية ومحاولة دمج كل ذلك لتحقيق رصف منظومة متكاملة تفسر كل ذلك. ومع ذلك فان الثيوصوفية تحاول ان تنحى الى الرقي الروحي الرباني في بعض اندفاعاتها. وبنظرة تطورية سنلاحظ انه يبدو على الارجح ان التيار الروحي قد تطور عن التيار الروحاني من جهة، كما ان التيار الرباني يمثل الانتحاء الأكثر تطورا للتيار الروحي من جهة أخرى. اما التيار الرباني فهو اعقد من ان يشرح هنا. مع ذلك فخلاصته انه لا يتعلق بتجربة او علاقة مع المخلوقات بل جهوده وسعيه نحو تجربة او علاقة فوق-خَلقية. مع ذلك ما يهمنا ان نعرفه ان الاتصال بين الروحانيين والروحيين والربانيين من جهة والمجتمع من جهة اخرى يزداد ضعفا إذا ما اتجهنا من الروحانيين مرورا بالروحيين ويكون أضعف ما يكون عند الربانيين. هناك مصلحية واضحة بين الروحانيين والمجتمع حيث يستعان بهم في تحقيق مرامات الناس المختلفة بسبل فوق-طبيعية. ولكن الامر ليس كذلك فيما يخص نشاط الروحيين فهو أكثر ارتباطا بالشوق المعرفي والتوق الشديد لمعرفة المجهول. اما الربانيين فشأنهم اعلى وأكثر سموا، وإذا ما عاد الربانيون للاتصال بالمجتمع فلشأن الإصلاح ودفع الانسان للتسامي والنقاء والترقي الروحيين والدعوة الى سلوك الاخلاق القويمة والتحذير من اتباع الاخلاق الخسيسة، وهذه هي اهداف ومساع سامية وهي بعيدة بالطبع عن المصالح والسلطة. على اية حال ما نبتغيه هنا من خلال هذا المقتضب ان نصل الى استنتاج معين وهو: ان الطرائقية عامة، ومستوياتها الأعلى شأنا خاصة، ذات طابع فردي لا أواصر قصدية لها في الاصل مع السلطة بل وحتى المجتمع في غالب الاحيان لان عناصر منهجها ذات خصوصية عالية ومجراها الأكثر عزلة عن المجتمع لا ينشط بهذا الاتجاه. الاخلاق العالية، للربانيين خاصة، وقواهم الفوق-طبيعية المفترضة دفعت الجموع والحكام الى احترامهم وتقديسهم ورفعهم فوق شبهات السلطات والمصالح وأصبح خطابهم وكل ما يُنصص منه مسموعا، بل و واصبح في ظن الجموع ان اتباع ارشاداتهم وتنبيهاتهم ونصائحهم واجبا، بل وواجبٌ مقدس، لان مخرجاتهم المفترضة أصبحت في تأثيرها اكثر تفاعلا مع الدوافع الوجودية العليا للإنسان التي يستميت لمحاولة اشباعها، و التي سنعرج اليها بعد قليل، لأن هذه المخرجات يعتقد انها صادرة عن عالم اكثر خيرية وسموا وصوابا وتأثيرا في مقاليد هذا الوجود وهذه الحياة. وهذا الاعتقاد بالذات هو ما سيفتح الباب للسلطات والسلطويين لاستثمار هذه الطاعة والاحترام والتقديس الذي تظهره الجموع عن طريق اللعب على أوتار هذه الدوافع العميقة من اجل خداع الناس لتحقيق مآربهم. لتبدأ بذلك أكبر واعقد واطول عمليات خداع في التاريخ لعقل وضمير النسان وأشدها نتائج سلبا وايجابا. وتمثل ذلك في تزايد كل من تدخل السلطة في التيار الطرائقي من جهة، وتفاقم انحراف مجاميع من الطرائقيين أنفسهم. أما كيف حصل ذلك التدخل للسلطة وكيف بدأ الانحراف لرجال الطرائقية وكيف أدى ذلك الى الانحراف من الطرائقية الى ما يسمى بالدين، فان هذا الامر هو ما سيُسهب فيه شيئا ما فيما يلي من بقية صفحات هذا النص.
سعي الانسان لإشباع الدوافع الوجودية العليا بزغ الإحساس العميق الموروث للجنس البشري بالغربة عن العالم والاستغراب منه والقلق المصاحب لذلك، وكذلك التسائل عن المصير، والحاجة الملحة الى الأمان والامل، والى المعايشات الباهرة، وذلك عندما تجاوز الوعي والعقل الإنساني مستوى كاف من التطور. هذه الدوافع الوجودية ذات الطابع الفلسفي حقيقية وغريزية وتختزن في داخلها طاقة دافعية عالية، حتى ان جميع الدوافع الحيوية الحسية البسيطة الأخرى تأتي بدرجة لاحقة عليها. لا يملك الانسان في الأصل سلبية نحو وجوده او الوجود عموما ولكنه يريد ان يفهم اولا ليعرف ثانيا ماذا يتوجب عليه ان يفعل ليشعر بتحقق الحاجات الوجودية الأساسية الملحة وعلى رأسها الأمان والامل وتحقيق الاطمئنان على المصير. وهو لذلك مستعد ان يفعل ويعطي الكثير، حتى أكثر مما تتطلبه الدوافع الحيوية المباشرة المعروفة الأخرى لأجل تحقيق ذلك: أي تكوين علاقة ناجحة مع وجوده الذاتي ومع الوجود الموضوعي. وكما قلنا فان هذه الدوافع الوجودية(11) اقوى بكثير من الدوافع الحيوية الأخرى البسيطة كالدافع للغذاء والجنس والتكاثر.. الخ، وان كانت اقل ظهورا للعيان. انها لا تظهر الا في مناسبات معينة من بينها عند حصول امر غير مألوف. ان هذه العلاقة الغامضة بين تجلي نشاط الدوافع الوجودية معروف عند الخطر والموت والشدائد مثلا. وكذلك عند حصول الغرائب وخوارق العادات التي تستفز من بين ما تستفز القلق او الرهبة الوجوديين وكذلك الفضول المعرفي الوجودي التواق. فخرق العادة انما هو من اهم المناسبات التي تأسر لب الانسان وتبهره وتستفز دوافع وجودية عليا لتنشط من عقالها كالفضول الشديد والسعي لمعرفة تفسيرات وجودية وتقصي عواقب المصير وتحقيق الأمان وإنعاش الامل ووقاية الحياة ودوامها. فاذا كان الإنسان يمتلك الاستعداد ليدفع الكثير من اجل الطعام والجنس والتكاثر والراحة، فان لديه الاستعداد ليدفع أكثر من اجل اشباع الغرائز الوجودية العليا التي تخص قيم دافعية أكثر رقيا تتعلق بالأمان والمصير والامل والمعرفة، وكانت هذه من أكبر نقاط ضعفه وعرضته للابتزاز والاستغلال الأعظم من السلطات عبر الدين. تدور عمليات الاحتيال العادية من اجل خداع الدوافع الحيوية التي تحقق اشباع لغرائز أساسية من بينها الغذاء والجنس وكل ما يوفر رفاها. وهكذا فان المخادع اما ان يستخدم التشكيك او الاغراء بمواضيعهما المتنوعة لترهيب او تأميل المخدوع بربح أكبر وفائدة أعظم مقابل عطاء اقل. ومضاء الخداع يعتمد على التباين بين خبرة وذكاء كل من الخادع والمخدوع. ولما كان من بين ما يهم الانسان أكثر هو اشباع الدوافع الوجودية، والتي لاحظ الانسان انه لا يمكن تحقيق نتائج مقنعة بصددها عن طريق القوى العقلية والمادية العادية، فان هذه الدوافع تنشط فجأة عند حصول خارق للعادة. ولهذا فإن تأثير حصول هذه الظواهر غير العادية او فوق الطبيعية على ايدي أناس لهم ملكات روحية اصيلة او تم انضاجها بالتدريب، كان عظيما وخاصا، وذلك لتعامله مع هذه الدوافع العليا. وبطريقة مثيرة أدى ذلك الى احترام عظيم وطاعة وتقديس بل واتباع لمثل هؤلاء الناس المميزين عبر التاريخ. وهكذا نشأت بذور لمرجعية جديدة غير المرجعية الحُكمية المعروفة، والتي نافستها بل وفي كثير من الأحيان بزتها في الأثر والتأثير، وفتح باب للصراع بين السلطتين الجديدة والقديمة لا يبدو ان له نهاية. وعندما تطورت، مع تعاظم سطوة هذه المرجعية الجديدة، خطاب وأدبيات تومئ باتجاه اشباع تلك الدوافع العليا، نشأ عن ذلك حقيقة ان الخداع المتاح في هذا المجال يكون أكثر عمقا ونجاحا وأعظم إثمارا. ولهذا علينا ان نميز تمييزا قويا بين الخداع العادي المتعامل مع الدوافع العادية وثماره، والخداع المتقدم الذي يستهدف نظام الدوافع الوجودية العليا، وان نثبت انه خداع من رتبة اعلى وثماره أعظم وما يصيب الضحية فيه أعمق اثرا بكثير. ان خداع الدوافع الوجودية هو الذي حول الطرائقيات عبر التاريخ الى أديان وعقائد جامدة.
محدودية سلطة ورقابة القانون البشري إن القوانين الوضعية التي يقوم بتطبيقها الحاكم واجهزته التنفيذية لتحقيق مستوى معين من الانضباط القانوني والأخلاقي يعتمد على مدى امتداد مجال الرقابة القانونية المقيد بالحس البشري العادي المتميز بمحدودية كبيرة في الاصل. ولذلك بقي من الممكن للفرد من الرعية ان يخرق القانون عندما يكون خارج مجال رقابته ونافذ سلطته. وتختفي وراء القوانين القوة الحقيقية التي جعلت هذه القوانين ممكنة الظهور: أولها مصالح الحكام والحكم، وثانيها الاخلاق النسبية المنتخبة غالبا من السلطة والتي تتعزز بها سطوتها. ولكن كثير من الاخلاق الفاضلة لا تُنصر من قبل اهل الحكم، ذلك لان جزءا كبيرا منها يتعارض مع الظلم الذي هو ديدن هذه السلطات عادة وان أخفى او اكسي بحلل أخرى من بينها الحلل الأخلاقية. اذن القانون هو الإطار او الحاوية التي تحفظ الاخلاق النسبية المعدة لضبط سلوك المجتمع وسريان النظام من خلال القوة الداعمة التي تقدمها الجهات السلطوية المتنفذة. ومع ذلك فان الانسان يبقى سائبا خارج حدود الشمول الرقابي القانوني البشري. وربما كان هذا الامر يؤرق الحكام كثيرا، ولكني ارى انه قد ارق أكثر الأخلاقيين والمصلحين الأوائل، خصوصا في مسألة كيفية إيجاد وسيلة لدعم الاخلاق الخيرة ومنها تلك التي لا تتوافق مع مصالح السلطة، اذ ليس فقط ان القانون السلطوي لا يدعمها بل لا يوجد أي داعم لها أصلا، الا اللهم الوعظ والإرشاد الاخلاقي الذي يؤمل منه ان يحفز الرقابة الباطنية للضمير الإنساني (12). ولا شك ان محدودية قدرة القوانين السلطوية، ناهيك عن محدودية مجرد الوعظ والإرشاد الأخلاقي، وطبيعة غائياتها المقيدة بقصديات السلطة المرتبطة بمصالحها ليست كافية لدعم اخلاق نموذجية. هذا القصور أشًر، دون قصد، باتجاه ما ينبغي ان يكون قائما لتحقيق كمال أعظم: الحاجة الى نظام أوسع من الشمول الرقابي القانوني لكي يتجاوز ذلك مجرد تحديدات الدعم الذي تقدمه السلطة للأخلاق المفروضة والزامات نفعيتها حصرا. رضاء الالهة وسخطها ان الرؤية الاحيائية (13) للعالم والتي سادت في الماضي والتي اعتقد الانسان من خلالها ان سلوك الظواهر الطبيعية، والذي بدا وكأنه انعام او انتقام بطريقة تشبه الى حد ملحوظ ما هو موجود عند الانسان حين يكرم وحين يغضب: اذ كلا السلوكين الخيري والشرير بديا وكأنه يقف وراءهما وجود ذاتي يقرر حصولهما من عدمه. ويبدو انه قد جرى ايضا التوقع بانه يشبه الوجود الذاتي الذي يقف وراء السلوك الانساني بجانبيه الخير والشرير. فمثلا سلوك النهر الخيري المنمي للزرع والساق للظمأ وسلوكه الشري المتمثل بالفيضانات المدمرة انما هو عرض للنشاط الذاتي لروح او ذات النهر في حالتي الرضا والغضب، وهكذا بالنسبة للجبال او وبراكينها والارض وزلازلها...الخ. وكما ان الانسان يمكن تجاوز غضبه بالترضيات المادية والتعديلات السلوكية المناسبة من طاعة او إظهار خوف وخنوع واعتذار احيانا، خطر في فكر الأوائل انه ربما يمكن بنفس الطريقة ان يقدموا تعديلات سلوكية واسترضاءات لذوات الظواهر الطبيعية او ارواحها لتجاوز غضبها او تحقيق رضاها على فرض التشابه الذاتي مع الانسان. وكان لابد من وجود من يدير وينسق العلاقة مع القوى الذاتية للطبيعة او ارواحها ليحدد ما الذي ينبغي عمله لجلب النعم ودفع النقم من ذات غير بشرية معينة. الوسائلية والطرائقية وربما كان الاسلاف الاوائل للسحرة والشامانيون (14) هم اول من سنحت له الفرصة لتولى هذه الوساطة الجلل. وكان هؤلاء في الأصل اما ممن يمتلكون ملكات غير عادية موروثة للدخول في حالات وعي استثنائية (15)، وساطيه عادة، او ممن يستخدمون الوسائل والطرق لإحداثها. ومن الوسائل (16) ما هو من تأثير النباتات الروحية او العقاقير والتي تعد لتُتناول بطرق مختلفة مضغا او شربا او شما، لتحصيل تغيرات الوعي هذه، او استخدام الطرق (17) كالعزلة والجوع والسهر والصمت والتركيز لاستحصال هذه التبدلات. والفرق بين الوسائل والطرق ان التبدلات التي تستحصل من الطرق ادوم وأعمق تأثيرا من تلك التي تستحصل من الوسائل، كما انه ليس لها اعراض جانبية تسمميه عادة، وان كان لها اعراض تخصها من نوع اخر. يضاف الى ذلك ان السالك لا يحتاج للبحث عن اعشاب او مواد قد لا تتوفر بسهولة قريبا منه، او عدت من المحرمات لاحقا. وفي عدد غير قليل من الحالات استخدمت الوسائل والطرق معا. وهناك ميول حديثة للاتجاه الى الوسائلية فورية التأثير لتحقيق تبدلات الوعي تلك الامر الذي هو على عكس الطرائقية التي تحتاج الى جهود كبيرة لإحراز احوالها والتمكن منها. ان الملاحظة المهمة هي ان الوسائلية لا تحتاج الى أماكن، او لنقل مؤسسات، ذات طابع دائم مصممة للقيام بالإجراءات الوسائلية حتى لو اقتضت احيانا بعض الأماكن المحددة والاعدادات الطقسية الخاصة، ولكن يكون ذلك ذي طابع مؤقت. قد تكون بعض الإجراءات والطقوس الوسائلية قد أصبحت تؤدى بمنهجية ثابتة ولكنها لم تقتضي غالبا بناء مؤسسات معقدة دائمة. وعلى عكس ذلك نجد ان طبيعة الطرائقية وبسبب طول الفترة اللازمة لتحقيق التبدلات في الوعي قد طورت على مدى ازمنة طويلة مؤسسات ومناهج ونظام تدريبي يتم تنفيذه للسالكين على ايدي معلمي الطريقة. فالأديرة والكنائس والهياكل والمعابد انما هي اشكال مؤسساتية (والتي تطورت عن اشكال ابسط ربما كانت مجرد الغابات والصحاري والخلاءات والكهوف والمغائر) لتحقيق متطلبات الطريقة وهي العزلة والخدمة والإرشاد والتعليم...الخ. ولا شك ان القرابة وثيقة بين الشامان والسحرة، ولكن موضوع السحر قد يكون أكثر تنوعا وتداخلا وتعقيدا وسعة، وربما لا منطقية ايضا، وكذلك اقل تأثيرا في الجوانب السياسية والاقتصادية، ولهذا سيتم تجنبه الا إذا اقتضت الضرورة. ولا شك ان الشامانية باتباعها للوسائلية كمنهج لا يعني ذلك خلوها من الطرائقية، اذ ليس هناك فاصل حاسم يظهر تدرج انتقال بعض التيارات الشامانية والسحرية نحو الطرائقية. ومن المتوقع ان حالات الوعي الخاصة ذاتها والميل لمعايشتها من قبل الشاماني والتغيرات في سلوكه هي التي كانت تدفعه للعزلة، وكان تزايد احواله كثمرة إضافية لهذه العزلة قد أدى الى بداية مرحلة ظهور الاتجاه الرهبوتي في الشامانية الاولى. ومع تنامي بذور الرهبوتية (18) كنمط من الطرائقية في رحم الشامانية، نضجت وترعرعت المناهج الرهبوتية بالتوازي مع تعاظم التفسيرات المتولدة عن تقدم مجالات خبرات تبدلات الوعي وتنوع انماطه الخاصة وبدء ظهور مطالع التنظيرات الميتافيزيقية والاخلاقية. الكاهن والنبي ان الراهب هو تطور لاحق للشاماني، وظهور الأنظمة الرهبوتية قدم لظهور المؤسساتية الرهبوتية الطرائقية. ومعروف مدى نضج المؤسسات الرهبوتية المتمثلة بالأديرة كتلك التي عند البوذية والهندوسية والمسيحية وغيرها. يمارس الرهبان في الاديرة الرهبوتية الانقطاع عن العالم والعزلة، حتى عن بعضهم، الا في أوقات وبكيفيات محددة، وبذلك يتفرغ الراغب لأداء الأنشطة الطرائقية من دوام سهر وجوع من اجل اماتة الجسد، وتبتل وصمت من اجل تحييد النفس، ودوام ترديد ذكر وترتيل صلوات من اجل تحقيق الجمع (19). وكل ذلك يؤدي الى حصول الكشوف والاحوال الروحية (20) التي هي المقاصد الرئيسية للترهب. وعُد الترهب لاحقا وسيلة من وسائل سعي الانسان للبحث عن الحقيقة وكذلك لاستحصال معايشات وتجارب الوعي المتبدلة التي تعتبر هدفا لرغبة الانسان الجامحة لمعايشة انواع أخرى من الحياة والوجود، واستحصال قوى تحقق تقدما الى حدود جديدة من القدرات المختلفة ومنها التنبؤية التي انجبت كلمة نبي، والتكهنية، وهي تحمل ذات المعنى، والتي انجبت كلمة كاهن. اذن كلمة كاهن وكلمة نبي مترادفتان، ولكن التمييز الرُتبي بينهما في الاستعمال جرى لاحقا. اذن الراهب الطرائقي، هو السالك في طريق ترقي روحي معينة وليس مجرد عارض لبعض الظواهر الروحية كالشاماني الوسائلي. وعندما يتطور بقدر كاف روحيا في تدرجات سلوكه وينتقل في كشوفه الروحية من تواصلات مع العوالم الاخرى والذوات التي فيها بطبقاتها المختلفة وتنبؤات على صعيد الطبيعة والفرد والجماعة، من التلوين الى التمكين، عند ذلك فانه يصبح كاهنا او نبيا يمارس التنبؤ والكهانة والاستشفاء وغير ذلك. طغيان التنبؤية اذن لما كانت الحاجة ماسة لتفاهم البشر مع القوى الذاتية للطبيعة فليس من أحد أفضل من الكاهن او النبي يمكن ان يتخصص للقيام بمثل هذه المهمة الخطيرة. ولن اناقش هنا التفسيرات الحديثة الأكثر علمية لطبيعة التجارب والمعارف الروحية وغالبا ما سأتداول المصطلحات والمفاهيم الشائعة دون تدخل كبير. ولا بأس حتى هذه اللحظة، فها هو كاهن الطريقة بدأ يخرج من عزلته ومعايشاته وغبطاته ولتسنح له الفرصة عبر دعوى خارقية عروضه ليتعامل مع حاجات الجموع المعبرة عن الدوافع الوجودية المستثارة بتأثيرها متنبئا ومتوسطا بين البشر والالهة والذوات الروحية الاخرى "لحل" عدد من المشاكل الرئيسية للأفراد والجماعات الانسانية ومن بينها تلك التي تتعلق بالعلاقة مع الذوات الطبيعية والتي أطلق عليها لاحقا بالآلهة. ولكن المشكلة ان مجال اتصال الكاهن تعدى الدير او المعبد الى الجموع، ونشأ عن تداخل عالم الكاهن الروحي مع العالم الدنيوي للجموع مصالح ومنافع جديدة أطلت برأسها على عالم الكهنوت المغلق لتتمكن منه ولتقلبه لاحقا رأسا على عقب. ويفترض ان الراهب كان متعدد الاحوال والملكات فوق-الطبيعية، الا ان القدرات التنبؤية كانت أكبر اثرا من باقي تصانيف الملكات الفوق-طبيعية لما لها من دور عظيم في اشباع فضول الانسان في معرفة ماذا سيحدث وما هو المطلوب لاسترضاء الالهة او غيرها، او ماهية عواقب الأمور، وباختصار الجوانب المصلحية الوجودية الأكثر الحاحا في حياة الانسان. وهكذا برزت هذه الصفة وطغى اسمها حتى صبغت عمليا النشاط الرهبوتي عموما، لتسود بذلك كلمتا كاهن او نبي، والمعبرتان عن القدرة على التنبؤ، على تسميات الظواهر الاستثنائية الأخرى. بل أصبحت كلمة نبي ذاتها مثلا تعني ليس القدرة على التنبؤ فقط بل إطار وكناية عن باقي الظواهر الفوق طبيعية الأخرى التي تم صفها في مراتب أدنى لضعف ارتباطها بالمصالح الوجودية المختلفة للإنسان رغم غرائبيتها الظاهرة. ولما حاز الكاهن الطرائقي الوساطة بين البشر والالهة والقوى الروحية الاخرى بحكم توفر صفة النبوة او الكهانة المفترضة تلك، فقد تحول عند هذه النقطة بالضبط من خبير مكرس بطرق تحقيق امتلاك الاحوال والاذواق الروحية، والتي في أصلها لا علاقة لها بشؤون المجتمع، الى مخبر عن الغيب مفسر لسلوك الأرواح والالهة، ثم، وربما كان هذا هو الأهم، ماهية الاسترضاءات الواجب اداءها من قبل الجموع وحكامها لاستقدام السلوكيات ذات الأثر الانعامي وتجنب السلوكيات ذات الأثر الإنتقامي لتلك الذوات الافتراضية، منسقا بذلك ومسيطرا على اهم محور اتصال: ذلك الذي هو بين البشر والالهة. وكان هذا أحد اهم مداخل الفساد على الكهنوت والذي أدى لاحقا الى افراغه من محتواه الطرائقي تدريجيا. ولا شك ان قادة وزعماء الجموع قد لاحظوا أيضا هذا الامر، فبدأوا هم أيضا بالاستعانة بالكهان للتنبؤ لهم عن نتائج المعارك الحربية والصراعات السياسية ومصير عروشهم وبقية شؤون الحكم الهامة وعن مخططاتهم التي ينوون القيام بها وبالتالي طلب النصيحة من الكهنة في النصح بالإقدام او الإحجام عنها، وامور اقتصادية واجتماعية وشرعية اخرى كثيرة. وهذا مجال مصلحة ومنفعة اخر دخل في حقل مصالح الكهنوت في مرحلة تعاظمت فيها سلطته وصار من الصعب حقا كبح جماحها. تصنيم وتوثين الالهة الطبيعية والبشرية في مرحلة الشامانية الوسائلية كانت هناك مشكلة السيطرة على التقدمات والاسترضاءات المقدمة للذوات الروحية المختلفة. فآلهة الطبيعة هناك في الخارج: آلهة الجبال والبحار والمطر والزرع.. الخ، وكانت التقدمات والقرابين تقدم لها في العراء ولم تكن هناك سيطرة محكمة عليها. وعندما ظهرت أولى الاوثان والاصنام والمذابح الأولى التي تقدم عندها القرابين وتقدم التقدمات تم توفير موضعة أفضل لهذا الاجراء وبالتالي سيطرة أفضل على هذه الموارد. ولكن عندما تطورت المؤسسات الطرائقية لاحقا والتي اقتضت إقامة ابنية معينة ثابتة كالأديرة والكنائس والمعابد والهياكل ولم يكن هناك بالطبع مكان يمكن ان تولد وتتطور وتصان به أصنام واوثان الآلهة وتنصب فيها مذابحها أفضل من هذه المؤسسات الأخيرة وتكون أماكن اقامة "شرعية" لها. وتحقق للكهنوت عبر هذه المؤسسات خطوة نحو سيطرة كبرى على الموارد التي تصله. ولا بد ان الفطنين من الكهنة كانوا قد انتبهوا الى ان الظواهر الإنسانية التي هي اما من صميم طبيعة البشر او من صنعه كالحرب والحب والسلام والموت والحياة والخصب، ليست لها الهة وبالتالي ليس لها اصنام واوثان تمثلها. ولما كانت التقدمات والاسترضاءات لا يمكن تقديمها الا الى ذوات او الهة، فقد اصطنعت لذلك الهة الحرب والحب والموت والهة اخرى تغطي تفاصيل معنائية عديدة تخص الانسان لا الطبيعة الخارجية وتم تجسيدها، حيث نحتت لها اصنام لتكون مصورة وملموسة للرائي واحيطت بالتقديس كسابقاتها مما اقتضى تقديم القرابين والتقدمات. وهكذا أصبح بمقدور الكاهن مناجاتها واستنطاقها وان يتنبأ ويتوسط بين البشر وبينها. فصار الكاهن يتنبأ ويتوسط مثلا بين القادة والزعماء والهة الحرب فيما يخص انتصاراتهم وهزائمهم وما يقتضي ذلك من وجوب بذل تقدمات جزيلة لها. وهكذا انضمت هذه الالهة الجديدة الى بقية الطقم الكهنوتي من الالهة، وصار لها هياكل ومذابح للقرابين وتقدمات وعطايا تقدم الى هياكلها التي هي بالطبع جميعا تحت سلطته. وهكذا بدأت تتوسع امبراطورية الالهة وتتنوع تحت سلطة الكهنة وما يعني ذلك من تعاظم الموارد الاقتصادية للكهنوت وتنامي قدرته على التأثير والنفوذ على الحكام والجموع على حد سواء. الكاهن الحكيم ظهور الميثولوجيا (21) الداعمة للأخلاق عندما اصبحت الحكمة البشرية أكثر تطورا وتأثيرا عبر مراحل نمائها المختلفة صار عدد لا يستهان به من الكهان الطرائقيون يميلون نحو مناهج الحكمة والتفكر، وربما زاحمت الميول الى الحكمة حتى ميولهم الطرائقية. وبالتأكيد لاحظ هؤلاء الكهان المتأثرون بالحكمة من بين ما لاحظوا دور الاخلاق الحسنة الكبير في ازدهار الحياة الاقتصادية والاجتماعية ودورها في تحقيق امان أكثر، هذا إضافة الى دورها الأساسي في الترقي الروحي. ويبدوا ان هؤلاء الخيريون قد تخاطر لديهم، في فترة ما، ما انصب أثره في النظام الميثولوجي الترغيبي والترهيبي الاحيائي الموروث بما يدعم السلوك الاخلاقي الحميد ومحاولة تثبيط السلوك الاخلاقي الرديء طالما ان أي من روادع او بنود قانونية حُكمية "بشرية" مهما كان مستوى تطورها تبقى مقيدة التأثير بحدود قدرة البشر. وظهرت امتدادات مجالية جديدة تمهد لملامح ميثولوجيا تدعم ذلك. وهنا ظهر من صلب الكاهن الطرائقي ما يمكن ان نسميه الكاهن الحكيم. وبالاستعانة بمكانته الروحية لدى الجموع، خطب الراهب الحكيم ونصص مستلهما من خلال الميثولوجية لصالح الخير والأخلاق. فبدلا من ان تُفسر استجابات الهة الطبيعة الخارجية او آلهة الطبيعة الإنسانية راضية فمنعمة او غاضبة فناقمة على الناس لتقديمهم او عدم تقديمهم الاسترضاءات كالتقدمات والقرابين الحيوانية والإنسانية وباقي أنواع العطايا، حور جزء من ذلك لتصبح هذه الذوات الروحية او الالهة منعمة او ناقمة على السلوك الانساني الخير والشرير بدءا من الملوك ونزولا الى العامة داعمة "التقدمات" السلوكية الاخلاقية والالتزام بها. وعندما تطور الجانب الفكري والعقائدي الكهنوتي بهذا المعنى، بُدئ بتفسير النعم والنقم التي تصيب الانسان على الصعيد الفردي بنفس الطريقة التي كان تفسر بها النعم والنقم على الصعيد الجماعي في المراحل السابقة باعتبارها تصرح عن رضا او سخط الالهة على أنماط معينة من السلوك وليس على تقصير في تقديم تقدمات او قرابين او استرضاءات. فأصبح التوفيق في الحصول على النعم الفردية والجماعية مرتبطا بالعطايا للناس لا للآلهة، واعمال الخير للآخرين من جهة، وحصول النقم على خطاياهم وذنوبهم الأخلاقية من جهة أخرى. وكان ذلك تطورا هاما حميدا، على أية حال، باتجاه ترسيخ الميول الاخلاقية. وهكذا أصبح دعم الميثولوجيا الكهنوتية، المتولدة من خواطر حكماء الكهنة، للأخلاق أكثر نفاذا وتأثيرا. تنامي سلطوية الميثولوجيا الرقابية عندما انتقل الانعام والانتقام من قبل الهة الطبيعة الى إطار حياة الفرد الخاصة أيضا أصبح التعرض للنعم والنقم الفردية يحتاج الى معالجات تقربيه شكرية واعتذارية او استغفارية الى هذه الذوات من اجل ترجيح انعامها وابعاد عقابها. فغدت القرابين والعطايا تقدم من قبل الفرد أيضا لمعالجة هذه المشكلة الحاصلة على صعيده وصعيد عائلته دون سواهم. ومقارنة بقدرتها الفيزيائية الهائلة التي تتجلى في المظاهر العنيفة في سلوك الطبيعة اعتقد الانسان ان امكاناتها الحسية والعقلية والمعرفية، بالقياس بقدراتها الانفة الذكر، هائلة أيضا. وتكون بذلك قدرتها الإطلاعية تتجاوز قدرات الانسان لتشمل ما خفي أيضا، فلم يعد بمقدورهم بعدئذ كأفراد فعل ما يغضبها خفية دون وجل من سطوة عقابها. وبذلك انتهكت سلطة الرقابة بالمعنى الانف الذكر حرمة حياة الفرد الخفية في بيته اوفي أي مجال لم تكن الرقابة الحكمية البشرية السابقة قادرة على ان تصل اليه، بل وتجاوزت هذه الرقابة الفائقة لاحقا لتصل الى ما خفي في نفسه من نوايا ومقاصد. وأدت الخطوة الأخيرة الى نجاح الغزو الميثولوجي الرقابي لباطن الإنسان لتترسخ بذلك الرقابة الافتراضية كما قلنا حتى على النفس الإنسانية التي هي الجزء الأخفى من طبيعته. بدء انحراف الميثولوجيا الرقابية لقد تم استثمار الميثولوجيا الرقابية من قبل حكماء وسلطويو الكهنة والحكام على حد سواء كل بطريقته ووفقا لغاياته. فالكهان النفعيون والسلطويون دعموا عبر هذه الرقابة الافتراضية منافعهم لتحقيق استحصال القرابين والتقدمات التي تقدم لهم ولمعابدهم وبذلك نازعوا الملك سلطانه الاقتصادي والاتباعي. وقام حكماء الكهان من جهة اخرى بترسيخ فكرة غضب الالهة على السلوكيات الأخلاقية المشينة التي تعرقل تطور الخير البشري من جهة، ورضاها والوعود بإكرامها عن الاخلاق الحميدة من جهة اخرى. وهكذا دخل نظام قانوني جديد غير مادي، ان صح التعبير، وبحدود رقابة وسلطة افتراضيتين فائقتين لا تقارنان بمحدودية رقابة وسلطة النظام القانوني العادي ليدعم من بين ما يدعم النظام الأخلاقي. وأصبحت الالهة، ثم لاحقا الاله الواحد، المجرد او المؤقنم، حاميان للأخلاق التي يدعو اليها حكماء الكهان ولكن معها أيضا كل تداليس كهان السلطة المتمكنين والمتملقين والمزمرين منهم، وكذلك مشرعنات احكام التقديس والقرابين والضحايا والعطايا التي يسعى اليها كهان السلطة.
ظهور فكرة الجزائية الدنيوية فسرت النعم والنقم الدنيوية على انها "جزاء" على الاعمال التي يقوم بها الانسان. فقد ربط الحكماء الخيريون النعم والنقم الدنيوية باعتبارها جزاء يتمثل بالثواب بالنعم على الاعمال الأخلاقية الصالحة من جهة، والعقاب بالنقم على الاعمال الطالحة من جهة أخرى. وهكذا تولد نظام أوسع رقابة وسطوة بكثير مما لدى النظام القانوني "الوضعي" تنفذه الالهة او الاله، كما في الديانات الابراهيمية، مباشرة او عبر وكلاء لها أدني درجة في السلم الروحي. او ينفذ عبر نظام غير مشخصن كنظام الكارما (22) المرتبط بعقيدة دورات الحياة المسمى سمسارا (23) في الديانات الهندية. ظهور فكرة الجزائية الاخروية يبدو ان الناس في الماضي قد راقبوا من خلال تجارب حياتهم وعبر رؤيتهم لتجارب الاخرين ان الجزاء الدنيوي "الإلهي" على الاعمال والاخلاق تأويلي أكثر منه حتمي، وان حصول هذا الجزاء لا يبدو انه يرتبط بمعادلة خطية تحكمها فورية زمنية. وهكذا بدا ان الكثير من الاخيار لا يثابون، على الأقل ظاهرا، على فعلهم الخير واتباعهم الأخلاق الكريمة والذي يتوقع حصوله الناظرون. ولا يبدو كذلك، من جهة أخرى، ان الأشرار يعاقبون في احايين كثيرة على افعالهم كما هو متوقع. ولا نشك ان فكرة الجزاء الاخروي بعد الموت بنعيمه وعذابه يبدو انها لم تولد الا من اجل حل هذه المعضلة. فمن لم يكافأ من الاخيار في هذه الدنيا فله ثواب عظيم في الحياة الأخرى، ومن نجا من الاشرار من الجزاء في الدنيا ستتلقفه الحياة الاخرة بعذابها وجحيمها، ولن يستطيع أحد بالطبع الذهاب للتأكد في الحالين والعودة بالخبر اليقين. ورغم ان فكرة الجزاء الاخروي لم تتمكن من القضاء على التسيب الاخلاقي كليا، الا انها فعلت فعلها من خلال تأثير وعظ الواعظين والتربية الدينية بأشكالها وما تثيره من خوف في النفوس في احتمالية كبيرة لوجود مثل هذا النوع من الجزاء بعد الموت وبالتالي اتقاء اقتراف الاخلاق السيئة والاعمال الشريرة نتيجة ذلك، وقد اثمرت هذه الريبة التي تم زرعها اثمارا لا يستهان به وكان لها تأثيرات إيجابية لدعم الاخلاق كبيرة، وكان هذا إنجازا رائعا. فكرة الحساب ان فكرة الجزاء الدنيوي لا يمكن ان تأخذ شكلا أخر غير الشكل الشائع والذي يتم عن طريق التأويل الجزائي للأحداث التي تجري. فعندما يصاب الانسان بضرر او مصيبة يقال ان ذلك انما من اخلاقه وافعاله غير الخيرة، وان أصابه نفع وفائدة وازدهار يقال ان ذلك اكراما لأخلاقه وافعاله الخيرة. وخارج إطار المحاكم الدنيوية وقضائها وسجونها وغرف تعذيبها، فانه لا توجد محاكم الهية مادية على الأرض يمكن ان تراها بعينيك وتحضر جلساتها وتسمع احكامها. ولكن خواطر الحكماء والكهنة الصالحين احتملت معها صور واوصاف عن المحاكم الميتافيزيقية والاخروية التي تدار من الالهة او الاله الواحد ووكلائه من الذوات الروحية. فعلى عكس المحاكم الدنيوية فان هذه المحاكم الميتافيزيقية الافتراضية، وفقا للعروض النصية الدينية، عادلة ولا يمكن ان تخطئ او ان تتقبل رشوة او تملقا او يخفى عليها شيء كما هو حال المحاكم الدنيوية. كما انها تمتلك طرقا خارقة للتعذيب عبر الجحيم وفصوله الكثيرة وازمانه الطويلة. وهي تختلف كذلك عن المحاكم الدنيوية التي لا تمتلك نظاما للإثابة بان لها القدرة على مكافأة الاخيار من خلال طرق فائقة للإسعاد الابدي تتمثل بالجنان وغبطاتها وعوالمها الرائعة وكما هو مفصل في السرديات الدينية الكبرى. وصيغ الحساب هذه ومحاكمها تولدت عنها فكرة الدينونة ويوم الدينونة والاله الديان وفكرة ترجيح ذنبية الانسان. واختلفت مصادر بناء هذه الميتافيزيقيات فمنها من خواطر الحكماء والمصلحين ومنها من الكهان السلطويين ومنها من الحكام بثت عن طريق متملقي الكهان ومزمريهم لتخدم أغراض السلطة ولتتلبد كنصوص مقدسة تمتزج مع العناصر الطرائقية والأخلاقية مكونة غير متجانس يمتلك قوة تماسكه من القوة الغاشمة لعنصري الخداع والاكراه. طبيعة الصراع الداخلي بين عناصر الدين وأقانيمه ولابد ان هؤلاء الافاضل، كما ذكرنا، كانوا قد لاحظوا ان الحاكم يحاول ان يدعم بقوانينه الاخلاق التي تناسبه فقط ويترك الأخرى التي لا تخدم سلطته وهذه الاخيرة تنقسم الى قسمين: الأول يتمثل في تلك التي تدعم سلطة الكهنوت ومؤسساته، والقسم الثاني هو الذي يهتم بها الخيرون من الحكماء. ومن خلال التأثير على البنية النصية المقدسة للخطاب والنصوص الدينية توجهت الترهيبيات والترغيبيات الميثولوجية المستلهمة من خواطر حكماء الكهان هذه لدعم الاتجاه الأخلاقي فظهرت العروض الكلامية من خطاب وتنصيص مناصرة للأخلاق موسعة البنية الميثولوجية الداعمة للأخلاق في عموم البناء الديني. ولكن هذه الخاطرانية لم تكن حكرا على حكماء الكهان فقط، بل شملت السلطويين أيضا. فبدأت النصوص الحسابية المناصرة لمنافع الكهان السلطويين والحكام بالظهور أيضا. اذن الاتجاهات النصية الرئيسية الثلاثة هي: السلطوي الداعم للحاكم، والسلطوي الداعم للكهنة الساعين للسلطة، وذلك الذي يدعم مناهج الكهنة الحكماء.. وتجدها جميعا ممتزجة سوية في العرض الكلامي الكهنوتي. وهكذا فقد تكونت بذلك اهم أنواع النصوص والخطابات وأكثرها نفعا خطورة في نفس الان على الحياة الانسانية. دور التقديس لقد شملت النصوص الدينية اساطير وخرافات موروثة او مبتدعة واشباه علوم وجميع ذلك من لوازم السيطرة على العقلين الفردي والجمعي لتحقيق المآرب الانفة الذكر. ومع زرع فكرة ان هذا النظام الجديد نافذ الرقابة والسلطة والذي لا يخفى عنه، شيء أصبح الفرد والجماعة تحت اقصى درجات الخشية والحذر وبالتالي الخضوع للسلطات المستفيدة منه بأنواعها وبالتالي امضاء كل ما يقف وراء ذلك من مآرب أخلاقية وابتزازية سلطوية، وكهنوتية اكليروسية (24)، وكهنوتية شعبية، وكما سيظهر لاحقا. ويتم إدامة زخم كل ذلك عبر الوعظ والتفسير الديني الى جانب الترهيب بأشكاله المتعددة: الظاهرة والايمائية والخفية، والتي بدأت تأخذ بالتدريج اشكالا أكثر تنظيما. ورافق ذلك حرص شديد، دافعه النفعية التي تقف وراءه، ضمن نجاح الهيمنة الدينية على العقول بشكل منقطع النظير لتأمين كل تلك الاهداف. وكان من لوازم تحقيق الطاعة ان يصبح كل منتج كهنوتي قولي او نصي او فني او اجرائي مقدسا. ولم يخدم شيء السلطة الدينية والدنيوية كجعل الشؤون التي من هذا النوع مقدسة، فالمقدس هو الاختراع الأقوى للسلطة بأشكالها المختلفة. وهكذا جعلت كل المنتجات الكهنوتية واجبة الاحترام والتبجيل والطاعة التامة وجعل دون ذلك العقاب الأليم او الموت الزؤام. وهكذا بدأت المجتمعات تساق كالقطعان تحت نير تحالف الكهنوت والسلطة وتحت ضربات سوط المقدس. مع ذلك فان الكهنوتيين لم يألوا جهدا لتحقيق الاقناع، هذا السلاح الفعال في حضور الترهيب المناسب تحت تأثير الفذلكات الدينية الثوابية والعقابية الدنيوية والاخروية. وخلال الصراع الطويل عبر التاريخ بين السلطتين بشقيها الحكمية والكهنوتية أسفر التفاهم لاحقا عن اصطناع فتاوي كهنوتية تقول بقدسية السلطة الملكية بل ودعم فكرة طاعتها بنصوص مقدسة أخرى مقابل منافع مناسبة يقدمها الملك للكهنة، او ربما في مراحل ضعف الكهنوت فيكون ذلك خوفا من سطوة السلطة القائمة وعقابها ولكن ليس كليا وليس دائما. ولما كانت المشكلة في الأصل تتعلق برضا او سخط الالهة او الاله، ولما كان الكهنة هم الممثلون والوسطاء تمكن الملوك من استدراج الاكليروس لتقديسهم وظهرت إثر ذلك دعوى مفادها ان الملوك هم ممثلو الالهة وخلفائها بل أبنائها، والنتيجة الحتمية لذلك انهم هم أنفسهم قد تحولوا الى آلهة وليس هناك بعد هذه القدسية قدسية على الأرض، ليسيطروا بذلك في أوقات ما على السلطتين الحكمية والكهنوتية ورافق ذلك بالطبع انعام كبير من قبل الملوك على من يؤيدهم من مزمري الكهنة النفعيين وعقاب من يخالفهم. وبدا الكهان الحكماء والكهان الطرائقيون أكثر احتجابا واوهن تأثيرا. وغزا جنس المتكهنين المزمرين والمتكهنين المتملقين المعابد والهياكل، وتم تحويل كل اجراء او طقس او الهام طرائقي او دعوة اخلاقية من الحيوية الى الشكلية وأصبحت هذه الإجراءات فارغة المحتوى اللهم الا كوسيلة ومقياس لمعرفة خضوع الناس تفيد لبيان مقدار أدائهم لهذه الطقسيات المقدسة الفارغة وتقرير العقاب لمن لا يتبعها من القطيع بتمجيد وخنوع. ولكن الكهنة لم يستسلموا ويرموا بأسلحتهم كليا للملك ذلك انه ما سولت السلطة الملكية بشرية او متألهة لنفسها عدم ارضائهم حاربوها بخفض نسبة تقديسها بالخطاب والتنصيص المضاد الذي يتوعدهم بغضب الاله او الالهة او بالدعوة لإله بشري آخر ليرث الأول، او دعوة الجموع الممغنطة للثورة ولنصرة معارضيهم او اعدائهم. وأنتج الكر والفر بين الطرفين عبر التاريخ الى إنضاج سياسات تفاهمات معقدة بين السلطتين وتماهيات في الشخوص ظهر على إثرها الحاكم الكاهن والكاهن الحاكم او ازدواجيات السلطات: دينية راجحة وحكمية متراجعة او حكمية راجحة ودينية متراجعة. المتكاهنين وهكذا انشغل كثير من الكهنة بالمورد الجديد للنعم الذي مصدره الطبقة الحاكمة والجموع، وبدأت تتنحى من الواجهة النشاطات الرهبوتية وطرائقها المنتجة للملكات الروحية المختلفة التي هي الأساس الذي بني عليه النشاط الكهنوتي وما سعى اليه الرهبان. وأصبح الكثير منهم لاطرائقيين وتم تجنب ما تتطلبه الطريقة من زهد وانقطاع عن الناس والعالم الخارجي مما لا يتلاءم مع معين الثراء الواعد وتحقق الرغبات والنزوات، واكتفى هؤلاء بالنعم المادية وبدأت علاقتهم بالطرائقية وكشوفها وقدراتها بالانحدار وحلت الطرائقية الشكلية والزائفة بدل الطرائقية الاصيلة وانتقلوا من التنبؤ الى ادعائه، وربما ادعوا نبوءات تقوم على التخمين العقلي لا التنبؤ الروحي، وتحول الامر احيانا كثيرة الى نوع من الشعوذة الماكرة. وهكذا بدأ ظهور الكهنة اللاطرائقيون، أي الذين يتكرسون ويعيشون كما يتكرس ويعيش الكهنة ويلبسون ملابسهم ويمارسون طقوسهم ولكن لا يحتازون مزاياهم، فهم متكاهنين يدعون الكهانة ولا يملكونها وبدأت الطرائقية في الافول في مجال هذا المنحى الرئيسي، وحل المتكاهنون مدعي الكهانة بدل الكهنة الحقيقيين. تمادي المتكاهنين لما توسع حقل المصالح الكهنوتية الى جانب تزايد تأثير الكهنة في الجموع بسبب اعتقاد الناس وهما بقدسيتهم الطرائقية، صاروا أكثر نفوذا وتأثيرا في الجموع والحكام على حد سواء. ولا شك انه قد تحفز عند الكهنة دافع جديد أكبر من مجرد الدافع الاقتصادي الا وهو الدافع نحو السلطة. ومن هنا ظهر الكاهن السلطوي او السياسي، وهذا الصنف من الكهنة يمتلك احلاما كبيرة تصل الى حد محاولة الاستحواذ على السلطة الدنيوية برمتها. ولم اقل متكاهن سلطوي ابتداء لأنه على الأرجح ان بعض الكهنة الطرائقيين أنفسهم قد تحفزت لديهم هذه الدوافع بسبب المتاحات البالغة الاغراء، فنالت من نفوس بعض الكهنة الطرائقيين ممن لم ينالوا درجة التمكن، وفقا للمصطلحية الصوفية، في الطريق فغلب عليهم نقصهم، وتلك كانت بداية لانحراف الكاهن الطرائقي عن مجرى خطه الزهدي. وانقسم هؤلاء وفقا لسطوتهم ودهائهم الى كاهن سلطوي مكين يملك الجرأة ليبتز حتى الحاكم والى كاهن ضعيف يمكن ان يسمي بالكاهن المتملق يستجدي النعم من الحاكم ليحصل مقابل ذلك على تسهيلات تخدمه بين ذلك تقديم تقربات تملقيه حتى على مستوى الخطاب بل والنص الديني أيضا، ويكون بذلك اشد خطرا ربما بكثير من مجرد الكاهن السلطوي. وبدأت بذلك مرحلة جديدة من الصراع الخفي أحيانا والظاهر في أحيان أخرى، بين الحكام والكهنة او السلطة والكهنوت. ولكن عندما فقد الكاهن السلطوي والمتملق بعدهما الطرائقي بسبب انصراف اجيالهما عن المسلكية الطرائقية، فانه عند هذه المرحلة تحولا من كهنة الى متكاهنين او مدعي الكهانة. ولذاك أطلقنا مصطلحي متكاهن سلطوي ومتكاهن متملق... الخ بدل كلمة كاهن. وعند هذا، فإن الطرائقية والرهبوت الحقيقيين لم يعودان يجدان مكانا مريحا في المؤسسات التي بنيت من اجلهما في الأصل، وهكذا بدأت الطرائقية تبحث عن مجالات حيوية أخرى أكثر تحررا خارج المؤسساتية الكهنوتية، وبهذا حل المتكاهن السلطوي محل الكاهن الطرائقي ولا تكاد تجد الآن غالبا للأخير اثرا في داخل المؤسسات الكهنوتية خاصة الابراهيمية. من الحساب الى الدينونة: ترجيح الادانة الواقع ان الدينونة هي نظام محاكمة حسابي يتصف بأن الأرجحية فيه هي لصفة الإدانة. فالانطباع الغالب في فهم فكرة الدينونة انها تنظر للإنسان باعتباره مدان حتى تثبت براءته وليس بريئا حتى تثبت ادانته. وهذا ناشئ عن الالحاح الشديد في ترسيخ فكرة الذنبية في الوعظ والعرض الكلامي الدينوني العام. والسبب في ذلك ان الأشياء التي أدخلت الى هذا العرض الكلامي وسعت في عدد وتفاصيل الأمور التي ان فعلها الأنسان يصبح مذنبا. ويقود ذلك الى ترسيخ روح التذلل والخنوع ودوام الاعتذار والتوبة وبالتالي الى الاتباع والطاعة ثم لاحقا المبالغة في ذلك من اجل استحصال العفو او الغفران الإلهي. ولن يجد السلطويون من كهنة وحكام أفضل من هذه الهيئة النفسية التي يولدها التفاقم الطويل الأمد للشعور بالذنب والتي تمهد لهم عبر الأقنعة المقدسة السيطرة التامة على الحشود الذاهلة تحت خوف الإدانة ورهبة المقدس. بل ادخلت ميثولوجيا الخطيئة الأولى (25) لتجعل من الانسان يولد مدانا ادانة ميتافيزيقية ودنيوية كلية حتمية قبل ان يرتكب شيئا. ربما تولدت هذه الفكرة لتحقيق الدعم للتيار الأخلاقي في الأصل ولكن نتائجها كانت معقدة ومن بينها ولادة فكرة التكفير (26)، فتم بذلك تعزيز اتجاهات الخضوع والانقياد. الدينونة وعندما توطدت فكرة الحياة الاخرى والبقاء بعد الموت، كما اسلفنا، والمستدل على وجودها من خلال الرؤى الكهانية، وعموم أحلام البشر، صاغت خواطر الكهنة، كل حسب توجهاته، سيناريوهات ميثولوجيه تهيئ في الجموع ما يخدم اهداف السلطتين الكهنوتية والحكمية، الى جانب الاخلاقية، عبر الترغيب والترهيب الاخروي والمحاكم التي ستقوم بها الالهة وتنفذ احكامها جهات تنفيذية روحية معينة كالملائكة والزبانية وغير ذلك من الكائنات الميثولوجية الميتافيزيقية في حياة ما بعد الموت كما في الكوميديا الإلهية لدانتي، او أنظمة غير مشخصنة في التراتب الوجودي كالنزول والصعود في مستويات مختلفة من العوالم الوجودية ذوات منازل نعيمية او جحيمية يتم وفقا لمعايير سلوكية كما في السامسارا الهندية. وتختلف الشعوب اختلافا كبيرا في السرديات البعد-حياتية وانماط الثواب والعقاب التي فيها اختلافات حادة او تنوعات نصية متباينة. ان فكرة وجود محاكم اخروية ستحاسب لاحقا على أفعال الانسان سواء اديرت من آلهة او إله واحد او نظام غير مشخصن تمثلت في إيجاد ميثولوجيا تعبر عن وجود رقابة صارمة وسلطة نافذة على سلوك الانسان مباشرة من قبل الالهة ووجود مؤسسات ثوابيه عقابية ميتافيزيقية كالجنة وجهنم وايام عظيمة مستقبلية كيوم القيامة حيث يتم احياء الجميع لأجل محاكمتهم، او يوم الدينونة وهو يوم إلهي يجمع اليه الناس ليحاسبوا محاسبة تفصيلية لا تغادر شاردة ولا واردة، هذا ما عدا الدينونات الصغرى التي تتم في حياة الانسان قبل موته. وكل ذلك يعني ضمنيا ديّانية الاله، فظهرت إثر ذلك فكرة الاله الديان واشبعت انضاجا في منتجات الادب الكهنوتي ليصبح ادبا دينونيا. نشأت فكرة الدينونة من فكرة الحسابية والتي تبدو كمسمى اخر لها، ولم يأتي تغلغلها في الخطاب والتنصيص الديني عن عبث ابدا بل جاء نتيجة إنضاج وتعظيم لثقل النصوص الترهيبية والترغيبية التي تدين الانسان حتى قبل ان يذنب، انها أكثر من مجرد حساب عادل. ربما نشأت خواطر الدينونة هذه في مراحل تميزت بأخلاقيات متدنية ولدت لدى الحكماء ميلا قويا الى تعزيز الترهيب الاخروي ورجحان خطاب الإدانة والذي انعكس على النصوص أيضا. ويبدو ان هذه الفكرة قد اثبتت تأثيرا أفضل من الحسابية العادلة التي يكون فيها المتهم بريئا حتى تثبت ادانته. ولا شك ان نوايا الحكماء الحسنة قد القت بيد السلطويين وسيلة فعالة لم يترددوا في استخدامها لصالحهم الى المدى الأقصى لتحقيق اهداف بعيدة عن الأهداف الخيرة التي ولدت من اجلها فكرتي الحساب والدينونة أساسا، وهكذا وقع في يد السلطويون الدينيون والدنيويون اقوى سلاح ميثولوجي، كان يفترض به ان يساعد على تعزيز الاخلاق الحميدة والسلوك الخيري، ولكن أصبح وسيلة تتحكم بالعقل والضمير والإرادة الإنسانية ليصبح كل ذلك خادما للسلطويين يستحلبون به مصالح الناس وحياتهم ويوجهون قدراتهم لخدمتهم وخدمة دوافعهم المختلفة حيثما ارادوا. نعم لقد نشأت بذلك مرحلة من التلاعب بالحقيقة وبعقول الناس من اجل تظليل ضمائرهم، يبدو امامها دجل وخداع الاعلام الحديث طفلا صغيرا. وأدى ذلك الى قدر كبير من التحكم بالضمير الانساني بطريقة حارفة منحرفة. ووصل ذلك الى ذروته في سيطرة الميثولوجيا الدينونية على مسرح العقائد تماما، وأصبحت العمود الفقري للخطابات والنصوص الدينية خاصة الإبراهيمية منها، ونُحيت الطرائقية والحِكموية الاخلاقية الى الصفوف الخلفية. وتحولت ميثولوجيا الدينونة الى حامول (27) ضار لف بأذرعه شجرة الطرائقية-الأخلاقية ونظامها الحسابي وشرع في امتصاص ما فيها من خصب. وتبنته السلطات بأنواعها بالرعاية ويسرت نموه وتغلغله الى ابعد المديات لثبوت انه الأكفأ في التحكم بغريزة الخوف وبالتالي ثبوت جدارته في خداع الجموع وترويضها والسيطرة عليها. ولن يستبعد بعد كل هذا ان يطلق على كل نصوص وخطابات الكهنوت بال "دين" ويصبغها بصبغته، وهو في جذوره اسم اخر "للدينونة"، ليرتد لاحقا فيلف بأذرعه شجرة السلطة ذاتها أيضا ليؤلف مدمجا في اللاوعي الجمعي فلت زمامه وتوسع مداه، فلم يعد يعمل لمصلحة مسمى معينا حصريا، لأنه أصبح كائنا لاشعوريا مؤتمتا متمردا لنفسه خرج عن السيطرة يخدم من يستثمره.
الانحراف عن الطرائقية اذن جرى الانحراف عن الطرائقية، التي هي الأصل الحقيقي العميق الذي غطى عليه ما يسمى ب "الدين" تدريجيا عبر مراحل طويلة نتيجة تفاعل بين عدة عناصر: السلطة، الكهنة، الجموع من جهة وما يقف من وراء من ذلك من دوافع وجودية قائمة ورغبات نفسية إنسانية خيرة وشريرة تسعى جميعا للإشباع. هذه النوازع الانسانية المختلفة التي يعمل بعضها بإخلاص من اجل صلاح وفلاح الانسان من جهة، وتلك النوازع التي لا تتورع عن التغرير والتسلط والقتل عبر الخداع الفكري والروحي من جهة أخرى. تاريخ حافل بالعمل على تطوير مهارات هذا الخداع لتحقيق مصالح عدد كبير من الافراد تحت النشاط النفسي المرتبط بتحقيق الغرائز الفجة غير المتسامية للتسلط والجنس والاستحواذ. ورغم ان هناك عناصر وانشطة حميدة في مجرى هذا اللغط الكبير كما قلنا، الا انه من خلال تأمل تاريخ هذا الجريان الحيوي نجد ان اليد الراجحة في مراكز التسلط هي للجانب السيء والشرير، اما الجانب الخير فأيديه أعلى خارج هذه المراكز. ومقارنة هذا الظلم الجديد المتسربل بسرابيل المقدس والقائم على الخداع تماما، والذي مهر المكر واللعب على مخاوف الناس وامالهم إذا ما قورن بالظلم الفج القديم لبدا الاخير أكثر وسذاجة. ومع نشوء وتطور التيار الدينوني الذي بدأ كبؤرة صغيرة داخل التيار الكهنوتي وعقيدة الحساب العادل والذي شرع بالنجاح في التمدد بسبب فعاليته في التأثير على الجموع مقارنة بسواه ليكتسح بأمواجه العاتية الميثولوجيا الدينية ويصبغها بصبغته. وهكذا القت فكرة الدينونة بظلها الثقيل على مراحل تطور الديانة الذي كان يصطبغ بالمعاني المعتقدية للطرائقية، ثم اكتسح المفهوم الدينوني المعتقدات الديانية مم أدى ذلك الى ظهور ال "دين" كانقلابي على الطرائقية الديانية يلفه الغموض والتشابك. وقد طغا هذا النحو التطوري في كثير من المعتقدات الديانية. ونجد ذلك في الديانات الابراهيمية على وجه الخصوص، حيث قهرت فكرة الدينونة كل فكرة أخرى واخضعتها لها وجعلت من هذه الديانات أديانا. سيطرة ميثولوجيا الدينونة الديانة كحافظة للأخلاق ان الديانة بنصوصها وخطاباتها ومؤسساتها النافذة سيطرت على العقل والدوافع البشرية لتضبطها في مناح معينة، جزء منها يعمل كحافظة واقية تمنع من انفراط عدد مهم من القيم الأخلاقية والضوابط والاعتبارات الاجتماعية التي ساعدت على دعم صلاح المجتمعات وانضباط السلوك الفردي والعام بضوابط تساهم في حفظ سلامة الافراد والمجتمعات وتأمر بالأعراف وتنهى عن المنكرات التي تحفظ المجتمع من النكوص الأخلاقي وتحقق نوعا من الامان. وهذا الجزء المهم اثرت وجوده خواطر الكهان الحكماء من الأنبياء والاولياء والقديسين في اطر ميثولوجيه واسطورية إيجابية يدعمها عمق ميتافيزيقي او ما ورائي يُمكِن من تشجيع سريان السلوك الأخلاقي الحميد وردع غير الحميد. وحضور هذا البعد الميتافيزيقي ساعد على طاعة الافراد والمجتمعات بالمبادرات الذاتية وان لم يوجد القاضي او يحضر الشرطي. اهم أسباب تمسك الناس بالديانة ان من اهم أسباب تمسك الناس بالديانات هو هذا الدور الذي يلعبه جانب منها في دعم السلوك الأخلاقي الحميد. ونتيجة للزرع الذكي لطرائقيي الكهنة وحكمائهم أصبح الرابط الوثيق للنجاح في الدنيا والفوز في الحياة الأخرى مرتبطا في جزء مهم منه بالأداء الأخلاقي الذي يتميز بالخيرية التي تنتج عنه. وهذا الرابط وطد الفكرة المركزية في وعي ولاوعي المجتمع على الصعيدين الفردي والجماعي القائلة بان ضعف الديانة يعني الضعف الأخلاقي وبالتالي حصول الانزلاق الى الشرور وتفشي الفساد في المجتمعات ودمارها والخسران المبين في الحياة الروحية بعد الموت، ولهذا دافعت الجموع وتدافع عنه بقوة. ان جانبا قويا من النزوع الفطري لدى الانسان هو نحو الخير، والذي يعتمد في حيويته على الاخلاق الحميدة. هذا الجانب الغريزي المثير للدهشة لدى الانسان، ولدى حتى كثير من الاحياء الأخرى، كان له الدور الفاعل لانتحاء السلوك البشري نحو الأخلاق الداعمة للحياة والازدهار والمحبة والتعاون. ولهذا فقد تمسك الانسان بها مع تنامي العقل المدرك لأهميتها. ولما تمكنت هذه المفاهيم والوصايا الأخلاقية من ان تزدرع من قبل الكهنة الاخلاقيين من الطرائقيين والحكماء على حد سواء وتمسي جانبا متزايد الاهمية الى صف الجوانب الأخرى، كانت الخطوة الحاسمة هو صيرورتها جزءا من الفكر والاعتقادات والميثولوجيا الديانية، الماورائية منها خاصة، والذي تمكن من تحويل عناصره المختلفة الى مقدسات والتي ستدعم من قبل نوع من النظام الترغيبي- الترهيبي الداعم له. ولكننا سنجد ان هذا النظام سيبلغ أوجه في الدين عبر الحساب الدينوني الدنيوي والاخروي. وبذلك تمكن الدين من حفظ تشكيلة عناصره المتناقضة من غثها وسمينها، ومن بين سمينها الاخلاق معشوق العقل الإنساني الحكيم المحب للخير. وقاد هذا الى التمسك العتيد بالوليد الكهنوتي-السلطوي المسمى "دين" والذي يمحور كل شيء حول عقيدة الدينونة. وقد توطد في اعتقاد الناس بقوة منقطعة النظير أن الدين هو الحافظ والحارس الذي لا يلوح في الأفق بديلا له للأخلاق التي هي عماد خير المجتمع وحسن مآله. ولن نستغرب ابدا ان تنمو إثر ذلك ظاهرة التعصب لحماية الدين والذب عنه بالغالي والنفيس اعتقادا بانه الحافظة التي تحمي مقومات الأمان المادي والروحي والأخلاقي. وقد أدرك السلطويون الدينيون والدنيويون هذه المسألة بعمق، ولهذا فقد أمعنوا في دمج المحتوى السلطوي بالمحتويين الأخلاقي والطرائقي، ولما كان المحتوى الطرائقي ذاته قد تم تجريده من محتواه الأسراري وصار اوعية فارغة من صلاة وصيام وقيام، طقوس ممعنة في الشكلية، صُير الاقنوم الطرائقي ذاته مرمزا أخلاقيا وأصبح ملحقا بالأخلاق ضمنيا. ولما أدرك الناس عبر الخبرة المتراكمة في محتوى العقل الجمعي التاريخي الدور الخطير للأخلاق في الخير وحفظ سلامة العلاقات الاجتماعية والأنشطة الحضارية أصبح الدفاع عن الاخلاق وكأنه غريزة من الغرائز. وهكذا صارت الاخلاق مقدسا حقيقيا، وصار الجمع حساسا إزاء كل ما يمسها. ولذلك فقد قام السلطويون، وكل من زاويته وطريقته، بدمج العناصر التابعة له من نصوص والزامات واحكام ودمجها وربطها بقوة مع مثيلاتها الاخلاقية بل والتخفي بينها. وهكذا أصبح أي مس باي عنصر من عناصر الدين السلطوية او الطرائقية او الاخلاقية مس بالأخلاق وبالتالي سلامة المجتمع وكرامته ومما يثير حفيظة الجموع وقد ينتج ذلك ردود فعل عنيفة مضادة. ولما كانت الاخلاق تعتبر من اهم عناصر النجاح في الحياة الأخرى ايضا ومن اهم شروطها، تعاظمت خطورة الامر ولم يعد بالإمكان التحدث حتى عن وجود التناقضات الحادة بين العناصر المتناحرة المندمجة في الدين. وهكذا تمكنت العناصر السلطوية الدخيلة والفاسدة والمبتزة من العيش بأمان في ضل هذه الواقية العظيمة وتظهر بقوة في الأوقات المناسبة والحاسمة. الاقانيم (28) المتعارضة للدين ولكن المشكلة الكبرى ليست في الدين المتخم بفكرة الدينونة ومحاكمها وايامها فقط، طالما ان ذلك، رغم عرضه بطريقة ميثولوجيه، يساهم في حفظ حديقة الاخلاق المنتجة للخير، ولكن المشكلة انه يحفظ الى جانب ذلك عدد كبير من الدغل من النصوص والاوامر والنواهي والأفكار التي تتعلق بمصالح السلطتين الكهنوتية الدينونية من جهة والدنيوية (أي الحكمية) من جهة أخرى. هذه المصالح السلطوية المدغمة في النص والخطاب الدينوني، لا يقصد منها الخير عادة بل ربما استجلبت أسوأ أنواع الشرور وذلك لخدمة مآربهما ولتعزيز الأخلاق السياسية لغرض توجيه قوى الجموع بالضد من معارضيهم واعدائهم. بل تعدى الامر ليشمل الأديان والممالك الأخرى طمعا لما بين ايدي تلك الأمم من نعم وتوسيعا لسلطتهم وملكهم ونشر الدين الى الامم المغزوة لا لغاية سامية بل كوسيلة غسل للأدمغة وإعادة صياغة البرنامج العقيدي برمته لتلك الامم لاستقدام اتباع جدد ليحققوا بذلك قوة أعظم يوسع من خلالها الحكام سلطتهم ويعملون على بسطها بلا حدود في دائرة تغذية راجعة لا نهاية لها مدعومين من دينونيي السلطة من منتفعين ومتملقين ومزمرين. هؤلاء الذين يهيمنون على عقول الناس عن طريق الاستمرار باصطناع أفكار وحجج ونصوص وفتاوي تخدم مآرب الحاكم وتشبع مطامع متكاهني الدينونة من وكلائهم. وجعلوا من قداسة الأوامر والنواهي السياسية الموجهة للجموع بقوة وقدسية تلك التي تحث على الاخلاق الكريمة، واوهموا الناس ان خير الدنيا والاخرة هو في طاعة تلك الأوامر والنواهي "أيضا"، وهكذا تمكنت من التعضي في بنية العقيدة الروحية المهيمنة عل حياة الانسان. اذن الدين، وحتى في الديانة غالبا، يحمل في داخله مجموعة من العناصر المتناقضة التي يفترض بالحتمية حصول صراع بينها يتجلى داخل بنية العرض الكلامي الديني (أي النصي والخطابي). وإذا ما حصل هذا الصراع فعلا فانه يفترض ان نتيجته ستسفر عن منتصر ومهزوم او متقدم ومتنحي كما هو في أي صراع طبيعي. ولكن هذه النتائج، وبشكل غريب، لا تظهر للعيان في الصراع بين عناصر الدين الاخلاقية والسياسية والطرائقية رغم وضوح تناقضها. ولو ان الأخيرة، أي الطرائقية، بدأت فعليا بدرجة ملحوظة من بالنأي بالنفس عن هذا الصراع والذي يبدو جليا في الأديان الابراهيمية ذات الطابع الطاغوتي (29) مقارنة بالديانات الأخرى ذات الطابع الطرائقي او الرهبوتي وأبرزها البوذية. فالطرائقيات الابراهيمية أصبحت شبه منفصلة ونحت نحو الاستقلال الاجرائي ولكن مع الاحتفاظ بالميتافيزيقيات والأخلاق والابتعاد عن الجانب السلطوي. هيمنة الاقنوم الديني السلطوي قلنا ان النتائج الطبيعية للصراع داخل مجرى الدين والتوتر الضمني القائم لم يفرز بوضوح غالبا او مغلوبا بين الاقانيم الرئيسية الثلاثة: الطرائقي والأخلاقي والسلطوي. والحقيقة نحن عندما نشهد أي صراع لأنداد ننتظر متطلعين الى المستقبل، قصر او بعد، الى منتصر او مهزوم. ولكن في صراع الاقانيم الدينية لا يبدو ان أحد ما قد انتصر، فالاقانيم الثلاثة الطرائقية والكهنوتية والسلطوية المدغمة مع بعضها بشكل غريب والخلفيات التي وراءها كل ذلك يبدو وكأنها قد تعايشت متفاهمة في إطار الدين في ظل الاحترام والتقديس طوعا او كرها. ولكن الامر ليس كذلك تماما. فالمعركة قد حسمت في عمقها الخفي لصالح الاقنوم الطاغوتي بمعونة فكرة الدينونة والعناصر النصية والخطابية المدغمة الخادمة للسلطة على مستوى الاهداف النهائية وعواقبها. ولكن هذا الانتصار الطاغوتي لا يمكن ان يضمن فوزه إذا فرط عقد الجموع التابعة بتأثير اي عامل محتمل اخر يدخل على الخط. لان في هذه الجموع من هو ذو عقلية سلطوية قد يوافق على اعلان رسمي يصف الاخلاق في خط ثانوي ذا مستوى أدني، ولكن ذلك لن يرضي آخرين يعطون الأخلاق قيمة عليا. وكذلك قد لا يتورع السلطويين من تنحية الميتافيزيقيا المرفقة جانبا لولا فائدتها البينة في تحقيق الترغيب والترهيب الميتافيزيقي كمعين أساسي للترهيب والترغيب الدنيوي الذي يُمارس اصلا. كما انه لا يمكن للسلطات الانفة الذكر التخلص من طقسيات الطرائقية، وان هي قد افرغت من مضامينها أصلا وتم تسطيحها تماما، لئلا تثير حفيظة الجموع المتعلقة برجالات الطريقة المقدسين من أولياء وقديسين وكراماتهم، وايمان الجموع بدور هذه الطقسيات، رغم انها آلت الى الضحالة على ايدي السلطويين، في رفع الدرجات في المراحل الميتافيزيقية لما بعد الموت، أي بتعلقها بمصالح اخروية مزعومة. وهكذا أبقي على تقنيات الطريقة وطقوسها بطريقة شكلية جدا واستثمرت كمعيار يستدل به الطاغوتيون على مقدار اتباع الأفراد، وكدلالات تظهر مدى خضوعهم او معارضتهم لسلطتها. وبهذا تم حصول حالة توازن ظاهري عجيب لعناصر اقانيم تيار الدين المختلفة التي تصل الى حد التناقض الصريح وان حسمت القيادة الباطنة، كما أسلفنا، لصالح الجانب السلطوي الذي تتلبد في عمقه فجاجة تفوق في كثير من الاحيان الظلم الصريح القديم. تمرد الوعي الدينوني وهيمنته ولابد من اجل استمرار وانتظام مجرى تطور التيار الطاغوتي الدينوني كان لابد ان يتم تطوير مناهج دقيقة تلقن بها التعاليم الدينونية لتخريج الاكليروس بطريقة تتحقق عن طريقها بحذاقة الدوافع السلطوية والنفسية الكامنة وراء تلك التعاليم وتضبط طرق تفكير المكرَّسين الدينونيين بمنهجية موحدة وتضمن ان أي ابتداع او تجديد يصدر منهم لن يتجاوز الخطوط الحمراء المحددة، وان كل ما يمكن ان يفعله المبدع هو اثراء المجرى الطاغوتي نفسه بأفكار وعروض كلامية وبذور جديدة تدور في فلك سابقتها وتوسع من قوتها وسلطتها على عقول الجموع وضمائرهم. لا بد ان التضمين الكيدي والخداعي في العرض الكلامي الذي يشمل التنصيص والخطاب بجانب العروض الطقسية من اجل سوس الجموع كان يتم في مرحلة ما بدرجات متباينة من الوعي الذاتي به، حيث كان يدرك بها الطاغوتي بشكل واع الى حد ما طبيعة نشاطه الذي يشتمل على الكذب على الجموع وخداعها، ولكن يبدو ان ذلك النشاط ما لبث ان نزل الى مستوى اللاوعي وأصبح لا شعوريا. ذكرنا توا بان النشاط الخداعي والتضليلي قد تحول في طور ما الى درجة ما من نشاط لا واع او قريب-واع. ولكن هذا يحتاج لبعض الشرح هنا. في البداية كان هناك جهتين: خادع واع لخداعه، ومخدوع غير واع لمخدوعيته. ولكن الامعان والاستمرار من قبل الخادعين الطاغوتيين في المكر وخداع الجموع المتدينة لأكثر من جيل او عصر أدى الى ان الخادعين هم أنفسهم وقعوا في شباك خداعهم، وربما مقولة اكذب اكذب حتى يصدقك الناس وتصدق نفسك تلقي ضوءا على الجانب النفسي لذلك. وقد أدت عملية تصديق النفس هذه عبر تاريخ طويل ربما الى ولادة اعقد حال نفسعقلي هو مزيج من شبيه عُصاب عقلي وشبيه وسواس قهري متباين الدرجات والنسب عَمَّ الافراد والجموع على الاطلاق. أصبح الخادع ضحية خداعه، ونزل الى صف المخدوعين. فعملية المكر والخداع من قبلهم استمرت، فهم أنفسهم يصطنعون الخداع ويسوقونه على الاخرين وعلى أنفسهم بكيفية مؤللة، وهم أنفسهم يصدقون ما يقولون ويؤمنون به بل يقاتلون ويموتون من اجله. انها أوسع عملية خداع ذاتي في التاريخ، المُنوِّم والمُنوَّم هو الشخص ذاته، تتم في شبه حال غفول مغناطيسي (30). وأصبح تبادل التعليم وتبادل الارشاد عبر ايماءات ذات ابعاد لا واعية دَرَبَ عليها التلقين الطاغوتي بطريقة مدهشة. فتجد تفاهما عجيبا بين الكهنة يضبط اتجاهات العرض الكلامي ليحقق السيطرة والنفعية بالضبط وفقا لما دفن في النصوص من مقاصد خفية على الجموع. والمثير في الامر انه يتم اشباع ذات الدوافع والغرائز، وبعضها شاذ وغير انساني تحت مظلتي الشرعي والمقدس. اذن نحن امام نوع جديد من السلطة ليست هي على وجه الخصوص الاكليروس ولا السلطة الحكمية ولا الجموع او متكاهنيهم، بل كأنها سلطة نفسية ميتافيزيقية او متعالية لها كيان مستقل استقلالا ذاتيا عن كل من ذكروا ويخضع لها وينتفع منها جميع من ذكروا. ان هذه السلطة لم تعد موجودة فقط في قصور الحكام ولا في دور العبادة بالكيفية السابقة بل اخذت لها جسدا جديدا خارج حدود الأطر القديمة يتمثل من خلال لغتها الخاصة، ادبها، خطابها، نصوصها، طقوسها، رموزها، إيماءاتها، تضميناتها، واعلامها.. الخ حيث تنشط عبر كل ذلك ميكانزمات دافعية مُكَمَّنة لها أهدافها الدفينة ولكنها تكاد تكون تحت مستوى الملاحظة الواعية، او يمكن وصفها بانها شبه-واعية، والتي تولدت عن نمط من التلقين والتقييد العقلي المكرر. هذا الاستقلال لهذه القوة "الميتافيزيقية النفسية"، ان صح التشبيه، عبر جسدها الجديد هذا والتي ليست تحت حصرية سيطرة أحد وتعمل بقصور ذاتي لا يفتأ يتجدد، وهذا هو ما يجعل امر الاصلاح عسيرا. أنماط الضحايا ودورهم ان الأشخاص الذين هم من بين أبناء الجموع والذين يتقدمون لتكريس أنفسهم كاكليروسيين يكونون عادة من الشديدي الايمان بالعقيدة الدينونية نتيجة التربية العائلية والمجتمعية الايمانية وطبيعتهم الشخصية. والبرنامج التعليمي، وعلى الادق التلقيني، يشتمل في عمقه على زرع ميكانزمات تم انضاجها وتوارثها تعمل في الخفاء يمكن ان يقرأها العقل الخبير فيلمح أثرها من بين الاسطر ووراء الكلمات وإيماءات الجمل على امتداد المنهج التعليمي الاكليروسي الذي يقوم بطريقة دقيقة على بناء منعكسات شرطية لا شعورية تنفذ ضد النشاطات العقلية التي تتقاطع مع مجرى التيار الاعتقادي الكهنوتي الدينوني العام. هذه الميكانزمات اللاشعورية هي التي تنفذ ببراعة عمليات منها الخداع والتبرير والالتفاف والتجاوز والتعامي على الادلة المضادة او اية محاولات لقطع الطريق على سريان القوى والسلوكيات المحققة للدوافع الاصلية النفعية والمصلحية او المادية تماما والتي تربض كامنة في عمق العرض الكلامي والسلوكي الديني. ويقوم هذا النشاط التفسيري الدعوي او الوعظي بخداع واستقطاب العامة والاكليروس على حد سواء بإحداث حالة شبه الغفول المغناطيسي ذات الطابع المستمر العنيد بسبب التكرار الملح المبالغ فيه والذي يقع تحت طائلته الجميع. بل ان الاكليروس أنفسهم أكثر الناس وقوعا تحت وطأته. وعملية خداع العقل والضمير ليست موجهة للخارج فقط، بل تشمل الشخص نفسه مستهدفا ذاته بذاته، فيصبح عقله وضميره هدفا لخداعه. وتطورت عبر الزمن لهذه الغاية ميكانزمات شرطية تقود وتوجه عمليات التعمية على الباطل ولبسه بالحق او العكس انتجت قدرات تبرير ميكافيللية وسفسطية يبدو الاخيرون عُجم امامها.
العصاب (31) /الوسواس القهري (32) اذن نحن امام حالة غريبة، وهي ان ميكانزمات الخداع الذاتي والغيري والمغالطة والسفسطة الانفة الذكر التي ولدت من رحم الكهنوت السلطوي اللاطرائقي واللا حِكموي (من الحكمة) واللا اخلاقي قد بنت نظاما يلبد في اللاوعي الجمعي وعقله، يحتوي عل الميكانزمات المكرية الطاغوتية الانفة الذكر، وان هذا النظام بميكانزماته التي تم بنائها والذي يعمل بحالة شبه لاواعية او قريب-واعية أصبح هو السلطة الخفية التي تقود عقول الجميع واولهم الاكليروس من عمق طبقات اللاوعي الطاغوتي. انها ميكانزمات تولد باستمرار فايروسات او تروجانات تتخفى في ابدان فكرية طرائقية واخلاقية، تبدو سياقية لأول وهلة ومقبولة في أطر الاعتقاد العام، ولكن لو تأملناها نجدها مثلا اما نصوص محكمة صريحة اعتمدت لها تفاسير طاغوتيه مغايرة عنوة او ا نها نصوص متشابهة تقبل أكثر من تفسير فاسترجحت لها تأويلات طاغوتيه مناسبة واعتمدت اكراها. نظام متطور للتعمية والتغليس الذاتي والغيري لا يبزه نظام آخر في ذلك. وهكذا فان هذا النظام ذو طبيعة تبدو وكأنها منتجة لحالة تشبه في بعضها للعصابات النفسية. ولو افترضنا هذا جدلا فان ذلك يعني ان هذا النظام العصابي سيقتضي جهودا عقلية جبارة قبل ان يمكن ازالته. ولان الامر يتعلق بأعداد ضخمة من متكاهني الاكليروس ومتكاهني الجموع، كما سنشرح لاحقا، إضافة الى نسبة عظيمة من الجموع ذاتها، أصبح من غير الممكن إدخالهم فردا فردا في عيادات التحليل النفسي لتحقيق شفائهم من هذا "العصاب". والذي يزيد من صعوبة الامر، لو ان الامر عصابي، ان الفرد المصاب بهذا الداء قد زرع فيه العصاب زرعا واعيا يأخذ قوته من قوة الامل العارمة لإشباع الدوافع الوجودية والحيوية ولذلك فهولا يملك ذكريات مكبوتة سابقة شخصية كانت السبب في حدوثه، كما في مريض العصاب العادي، لكي يتمكن طبيب التحليل النفسي المعالج من اظهارها الى سطح الوعي فيبرأ إثر ذلك المصاب. وتفصيل ذلك هو ان علينا ان نميز بين العصاب النفسي المرضي والعصاب النفسي الديني المفترض، ان صح التعبير الاخير. يتحرك الأول عن طريق الطاقة اللاواعية الكامنة للمخاوف المكبوتة منسية الأصل، أي ان المريض يقوم بأنماط سلوكية هو لا يعرف لماذا يفعلها ولا يجد تفسيرا لها لأنه قد نسي الذكريات التي تتعلق بها كونها ترجع الى عهد الطفولة مثلا. ويعتقد فرويد ان معالجة هذا العصاب تنجح إذا ما تمكنا، من خلال جلسات التحليل النفسي، وهو منهج ابتكره فرويد لمعالجة العصابات المرضية عبر التداعي الحر للأفكار والذكريات، من جعل المريض يسترجع ذكرى الحادث او الامر الذي أنتج هذا العصاب والذي كان قد دفن ونسي في لاوعي المريض. ويعتقد فرويد ان المريض بمجرد تمكنه من إعادة ربط العصاب بالذكرى المنسية المسببة له فان مجرد اعادة الارتباط هذه كفيلة بشفاء المريض. وهكذا يكون السبب في ذلك هو ذكريات مكبوتة منسية ذات تأثير قاهر، أي لا يقوده اعتقاد واع بخوف محدد واضح المعالم كما في "العصاب الديني". وفيما يخص الاخير تجد ذلك ظاهر مثلا في الالحاح في تأدية الشعائر والفروض الدينية رغم وجود رخص كافية في أحوال معينة تسمح بعدم الأداء. ولما كان ما يميز العصاب الديني هو القهرية الواعية وليست القهرية اللاواعية كما هو في العصاب المرضي، فإنه على الأرجح، اننا امام درجة من شبيه وسواس القهري يتم بناءه بناءً في صميم الوعي السلوكي للمتدينن حتى ولو تأرجح بين الوعي واللاوعي. وهناك بين ذلك وحالة شبه الغفول المغناطيسي او شبه-الوعي التي تغطي على الدوافع التي تقبع بين ثنايا العرض الديني: النص، الخطاب، الرموز، الطقسيات والسلوكيات المختلفة التدينية رابطة معقدة مع ميكانزمات الخداع والتعمية والتغليس التي تتم عبر الميكانزمات المتعلقة بها والتي درب عليها الجاني/الضحية لتنجح في مغافلة العقل والضمير. نحن نعلم ان المكر الكهاني في مرحلته الواعية كان هو الجاني لفوائد هذه الخداعات من تقدمات وقرابين وعطايا بنوعيها الآتي من الحكام والآتي من الجموع. ولا بد ان الكهنوت، كما أسلفنا، كان في وقت ما يعي بدرجة معينة ان هذا الخداع هو لأجل هذه المنافع. ولكن ماذا تغير بعد وقوعه هو نفسه تحت طائلة خداعه لذاته وتصديقه لنفسه؟ الواقع انه من الناحية النفعية الدنيئة استمر بالاستفادة منها بل وربما أكثر من الكهنة الأوائل، لان هؤلاء، لعدم نضج شرعنتها بقدر كاف، ربما تناولوها على استحياء، اما تناول الاخيرون لها فقد تمت شرعنته كليا وربما لذلك افتقد الاستحياء الاول. وكذلك أصبح الاستغلال أيضا لا واعيا لأنه يقع تحت تفسير وتأويل الميكانزم ذاته بمعنى انه لم يعد يسمى تنفعا بل هو لأجل خدمة الدين ومقدساته وهذا التغيير في الفهم يحصل بنوع يشبه الإيحاء حاصل بتأثير حالة الغفول المغناطيسي، فيحصل إثره ان المغفول يرى الأحمر ازرقا والعصى افعى وهكذا بالنسبة للمفاهيم والمعاني والتفسيرات. انها نوع من انتصار المؤَتمَت على المؤتمِت. وهكذا وبتأثير هذا الغفول دائم التعزيز والتغذية، تشابه الاكليروسيين مع الجموع بإيمانهم وشرعية وقدسية بل وجوب كل ما يفعلون وجوبا مقدسا، بل ربما كانوا أحيانا اشد ايمانا وتضحية. وهذا الامر يستحق التأمل والتحليل العميقين. فالاكليروسيين هم بشر أيضا ويمتلكون دوافع وجودية، الى جانب الدوافع الحيوية، وبالتأكيد لن يجدوا مكانا آخر يمكن ان يشبعوها فيه غير المجال الديني الذي هو من صنيعة اسلافهم وصنيعتهم. لا يوجد هذا في مكان آخر مع الأسف، على الأقل الى الماضي القريب جدا بعد ان اخذ العلم يسعى لسد جزء من هذه الثغرة مترامية الأطراف، بمحاولات لا تشفي غليل قليل الصبر في مدى عمر واحد لم يكن او يكون شيئا مذكورا. وهكذا أصبح الاكليروسي في محنة عظيمة: فهو لا يستطيع التخلي عن موقعه كمتكاهن يتنفع بالسياقات آنفة الذكر، والمشروحة في الصفحات السابقة لتحقيق الدوافع الحيوية، ولا هو قادر على التخلي عن دوافعه الوجودية التي يمكن اشباعها افتراضيا عن طريق ذات الطريق الذي اصطنعه الاكليروس. ويمكنكم تخيل مستوى تعقيد ومراوغة الخداع الذاتي المطلوبة لتحقيق "توحيد" للإشباعين: الحيوي والوجودي. وقد نجح هذا التوحيد بفضل ميكانزمات الخداع الذاتي والغيري وأنجب رجل الدين الذي تعرفونه. الدين كسمة فائقة تمكن الدينونيون من إنضاج تحول زمرة العروض الكلامية النصية والخطابية الى عقائد مجبولة بالقدسية. كانت الشعوب والأمم ولازالت تتمايز عن بعضها باللغة والملابس والعادات والتقاليد وتحرص على تعزيز العناصر التي تدعم التمايز بينها. وقد حرص السلطويون السياسيون عبر التاريخ على تعزيز ذلك لما من دور في توحيد أنماط سلوك الجماعة المحكومة وتحقيق سياستها وتحشيدها. وربما بلغت ذروتها في ظاهرة القومية التي لازالت تخدم ذات الاغراض المؤدية الى تسهيل سوس الجموع وحملها على الطاعة. وقد تمكن الطاغوت عبر التاريخ من حشر العقيدة كسمة "قومية" مميزة إضافية معززة للسمات القومية الأخرى، وقد حصل ذلك. ولا نقصد بذلك صهير الدين-القومية الذي يتمثل بالدين اليهودي ولا يخرج أحدهما عن حدود الاخر. فسمة العقيدة الدينية كسمة فائقة نعني بها انها تتجاوز القومية التي ولدت بين ظهرانيها كما هو الحال في عدد من الديانات القائمة. فسمة العقيدة هذه لها خصائص أوسع تفوق حتى سمة اللغة، لتخلق نوع من "السمة العابرة للقوميات" دون الحاجة الى اشتراط سمات أخرى تقريبا. وهكذا تمكن الطاغوتيين من شمول حدود التحشيد ليشمل قوميات ذات سمات متباينة في نفس الوقت من خلال توحيدها في ظل سمة العقيدة الدينية كسمة قائدة للتحشيد والتوحيد للجموع. وهكذا نشأت فكرة الأمة الدينية ونعني بذلك انها الوعاء الذي يشتمل على عدة قوميات توحدها سمة الدين وما يعني ذلك من فتح مجال أوسع لتحقيق المآرب السلطوية. التعليم الديني الذاتي دون وساطة الاكليروس أدى النجاح المنقطع النظير الذي كان قد بذله الكهنة، وأحيانا كثيرة الحكام المنتفعين معهم، في المراحل الاولى لمسيرة تطور ما يسمى ب “الدين" في ترسيخ النصوص والخطابات والطقوس ونفوذ تأثيرها في عقول جموع المتلقين وقلوبهم مما نشأ عن ذلك من ظاهرة التعليم الديني الذاتي بين الجموع دون وساطة اكليروسية مباشرة وبعيدا عن التكريس الاكليروسي النظامي المتبع في المؤسسات الدينية. هذا التعليم المبادر ناشئ عن تولد حالة الاقتناع المسماة "ايمانا" والمتمثلة بالقول بان المصلحة الفردية والجماعية الدنيوية والاخروية تتمثل باتباع وطاعة التلقينات الخطابية والنصية والسلوكية الدينية، وان كل الشر في اغفالها او عدم اتباعها مما اقتضى ولادة "المبادرات" الذاتية الطوعية. تنحي الطرائقية عن التيار الدينوني عندما امتزجت النصوص والخطابات الطرائقية، التي تتعلق في أصولها بكيفية توليد الاحوال الروحية، بالنصوص والخطابات السلطوية النفعية الدخيلة على طرائقية الكهنوت بدأت ولادة "الدين" وشرع نجم الطرائقية بالأفول ولُبس قناعها وتسربل بسرابيلها غير اهلها. وتجد مثلا ان معظم بيوت العبادة من كنائس واديرة وما ماثلها من مؤسسات "طرائقية" قد تحولت الى مؤسسات "دينية". وخلت الصوامع من متبعي الطرق من الرهبان واستبدلت الطرائقية، من حيث اعتبارها وسيلة للتحولات الروحية، ب "الدين" الذي هو وسيلة واداة لسيطرة الحكام والكهان السلطويين على الجموع لتحقيق المنافع "الدنيوية". لقد كانت الطقوس سابقا منهجا لاستجلاب الأحوال الروحية برئاسة شيخ او معلم او كاهن الطريقة او مساعديه او خلفائه، كما يحصل الان في الطرق الصوفية المختلفة والتي أصبحت ذات طابع تمايز عن الدين بقوامه المعروف. وباختفاء الطرائقية وأفول المحتوى الطرائقي وأسراره من التقنيات الروحية المكتومة والطقوس الحقيقية اصبحت الأخيرة قشور فارغة، ولكن مع ذلك استمر السلطويون بترسيخ هذه الطقوس الجوفاء. وكان الدافع وراء ذلك هو الإيحاء زورا وبهتانا بأنهم هم الورثة الشرعيين لروحانيي الطريقة من أولياء وقديسين، أولئك الذين تعظمهم الجموع ايما تعظيم. بل لقد ادعى هؤلاء السلطويون، حكامهم المتكاهنين وكهانهم المتحاكمين، دون حياء انهم هم أنفسهم أولياء وقديسين، فقلدوا الاخيرين بالملابس والسنح والايماءات التذللية من تظاهر بالفقر والزهد والتواضع والايثار المزيفين ولبسوا اقنعتهم وتسربلوا بسرابيلهم. لقد استنبط هؤلاء الدخلاء فائدة جديدة من أداء الطقوس الفارغة باتت طامة على الجموع. فقد جعلوا الغاية من ادائها ان تكون لهم كعلامة او مقياس "استخباري" ليبين لهم معرفة من يتبعهم ممن لا يتبعهم، فأصبحت وسيلة تعين على تمييز المناصرين من المناوئين من خلال أدائهم لهذه الفروض والشعائر الصماء من عدمه. وبدئ بإهمال النصوص الطرائقية، بل أحيانا حتى الأخلاقية غير المتوافقة مع مناهج الخضوع للسلطة. وتم التركيز على ميثولوجيا المحاكمات الاخروية التي تقضي بعقاب او ثواب على السلوك الدنيوي ونشأ عن ذلك، كما قلنا، الافكار الدينونية. الطواغيت الحقيقيون من خلال التحالف الكهنوتي-السلطوي نشأ نوع من الكهان السلطويين والسلاطين المتكهنين كما أسلفنا الذين يستخدمون الدين لتحقيق الدوافع النفسية وعلى رأسها التسلط والجنس. فالحاكم الطاغوت يختلف عن الحاكم الظالم، اذ ان الحاكم الظالم النمطي هو الذي يستخدم أي غطاء غير الدين، كالغطاء القومي او الأيدولوجيا او السياسي الصرف، لتسلطه وظلمه. اما السلطوي الطاغوتي فهو الذي يجري ظلمه تحت مظلة الدين وما يشرعنه. ولهذا فان جميع الطواغيت هم سلطويون-دينيون سواء نشأوا انطلاقا من حقل الدين او شروعا من حقل الحكم. ليست المشكلة الكبرى اذن في الكهنة الحكماء او الكهنة الطرائقيون ولا في الحكام العادلين ولا حتى الظالمين غير الطاغوتيين، بل ان أعظم مشكلة على الاطلاق تواجه الجنس البشري والتي نتج وينتج عنها أبشع الشرور انما سببها طواغيت الكهنة وطواغيت الحكام ذلك لأنها تتم في ضل أعتى خداع للعقل والضمير الإنساني وهو "الدين" حيث يمكن ان يحرم او يبرر أي شيء عن طريق ميثولوجيا تم من خلالها ايهام الانسان ليستدرجوا الى معاملتها معاملة القيم والحقائق. لقد تمكن الطواغيت، بنوعيهما، الانفي الذكر من تسخير جزء كبير من ميثولوجيا الدينونة لدعم النصوص والخطابات التي تشجع اخلاق طاعة الطاغوت وعدم سوء الظن او الشك به. بل تجد في بعض الأحيان ان مثال الاله الديان ليس الا قناعا ميتافيزيقيا ميثولوجيا يُنطقه ويحركه ويتحرك من خلاله الطاغوت البشري عبر تنصيص أوامر ومحرمات ومحللات تخدمه تماما، وهي تفتقد الى القيم الأخلاقية التي اقامها عامة الحكماء ومنهم حكماء الكهان لدعم الخير والأخلاق النبيلة. حيث تم تغيير مصدرية التشريعات القانونية من البشر الى الالهة واحتسبت على المقدسات. فالآلهة "هي" من قام بتشريع هذه القوانين وبالتالي لابد من طاعتها. و"تدخلت" الالهة في صياغة القوانين وعقوباتها الى مستوى التفاصيل. فأصبحت القوانين مقدسة، وتنفيذها مقدس، ومنفذوها مباركون، وملعون من لا ينفذها او تسول له نفسه ان يعترض عليها. وفي الحقيقة ان الطاغوت هو الذي يقف وراء النصوص "المقدسة" التي تعرض في ظاهرها الوجه الإلهي وتخفي من وراءها الوجه الطاغوتي. خاتمة ان مخاوف الفرد على مصيره ومصالحه الدنيوية والاخروية وحاجته لإشباع دوافعه الوجودية العليا قد أدركت بعمق من قبل الكهنوت-السلطة او الطاغوت. وتم انتاج النصوص والخطابات وتعديلها ليحققا ادوم وأعمق تأثير ممكن لا انفكاك له في وعي ولاوعي الفرد والجماعة. ونتيجة لهذه المصلحية العميقة لأفراد المجتمع من حيث انهم بشر تسيطر عليهم دوافعهم الوجودية ومنافعهم النفسية والمادية، أصبحوا هم المبادرين الى تربية الأجيال الجديدة مرسخين في عقول أطفالهم المفاهيم الكهنوتية-السلطوية/الطاغوتية التي صنعت أصلا لتطويعهم هم وتسخيرهم واستعبادهم. ونجح الكهان والحكام في تحويل جزء كبير من الجهد الترويضي والاخضاعي للعائلة والمجتمع الذي كانوا هم يتكلفون القيام به الى الجموع ذاتها. وتكون بذلك قد تكونت سلطة كهنوتية شبه مستقلة للمجتمع نفسه يدعو اليها بنفسه ويأمرون بعضهم بعضا وينصحون بعضهم بعضا ويعترضون هم على المعارضين. يأمرون بالمعروف الذي يناسب الدين، وهذا هو طاقة القصور الذاتي (33) التعليمي للمد الكهنوتي الديني. فلو فصلت أي جزء من المجتمع الديني وتركته يعيش في مكان او جزيرة نائية دون حكم او كهنوت فستجده بعد قليل عن طريق طاقة القصور هذه الكامنة في افراده والتي تربوا عليها ولُقنوا إياها تلقينا، سيبنون معابد لهم ويرددون ذات النصوص التي استعبدتهم نتيجة الاطمئنان اليها على انها ستحقق لهم مصالح الدنيا والاخرة، وسيعتقدون ان الالهة او الاله سيغضب ان لم يفعلوا ذلك، وإِن هم فعلوا فان ذلك سيستجلب النعم ويبعد النقم وسيأمرون بما لقنوا من الكهنوت من معاريف وينهون عن مناكير الكهنوت وسيقيمون الحدود. والأنكى من ذلك ان بعضهم سيفرز نفسه ليتكاهَنَ ويتولى أمور المعبد وإقامة الطقوس وسينفرز منهم متكاهنين وحكام وسيتحالفون لينشأ منهم طواغيت جدد ومجددين. ويستمر ذلك في الارض الجديدة دون أي حاجة لطواغيت الأرض القديمة. دورة لن تنتهي دون علاج جذري، لا شك انه سيكون الأصعب على مر التاريخ. الهوامش (1) الدين: هنا بمعنى الديانة الدينونية حصرا، نسبة الى الدينونة. اذن المقصود الحصري لكلمة دين هو الديانة التي غلبت عليها طابع فكرة الدينونة وصبغت معالمها بصبغتها فكيف ما تأملت فيها تكاد تجدها تطل عليك. وكلمة دين أصلا مشتقة من هذه الكلمة ومعبرة عنها. وصفة الدين بهذا المعنى تنطبق بدرجة ما على كثير من الديانات حتى القديمة منها. ولكنها أكثر غلبة وسطوة في الأديان الابراهيمية. (2) الدينونة: يفترض ان تتم ميتافيزيقيا في ظل القضاء الإلهي والحكم وفقا لأحكامه اللدنية وتوصف احكامه بانها تامة مطلقة الصوابية والعدل، ويُصرح بان بعض مواده موجودة وموزعة عبر متون الكتب المقدسة. والدينونة حساب تغلب في عروضه فكرة الإدانة على فكرة التبرئة. بمعنى انه لن ينجو من الادانة الا ذو حظ عظيم. وتحول دون نيل هذه النجاة صعوبات جمة الفائزون بعبورها نادرون والهالكون كثر. وذلك ما يدفع الانسان للبقاء في طور الخنوع والطاعة وهي الحال النفسي النموذجي الذي يمكن ان يساق به الفرد من قبل السلطة. (3) الديانة: تعني هنا ال"دين" بالمعنى العام الشائع المتداول والمعمم معناها على الديانات بتنوعاتها المختلفة كثرت او قلت فيها عقيدة الدينونة. (4) الطرائقيات الروحية: ندفع هنا هذا المعنى غالبا باتجاه الطرق التصوفية الاكثر تطورا. والطريقة منهج عملي يراد به تحصيل قوة او عدة قوى روحية. وفي مقصده الأكثر تطورا تحقيق الوصل مع "جناب القدس" وفقا لتعبير ابن سينا: (الاشارات والتنبيهات: النمط التاسع - في مقامات العارفين). (5) الملكات الروحية: مجموعة من القدرات الروحية الفوق-طبيعية المنسوبة الى الاولياء والقديسين في الأصل. وهي كثيرة أبرزها التنبؤ والاستشفاء والجلاءين البصري والسمعي وطي الأرض والمشي فوق الماء.. الخ.. أطلق رودولف شتاينر (1861-1925) على معارفها ومناهج تطيرها انثروبوصوفيا Anthroposophiaولكن هذا الاسم لم يشتهر كثيرا. (6) الروحانية: يٌعنى بها الاعمال التي تستخدم لأجل الاتصال وتسخير الذوات الروحية خاصة الغير إنسانية كالجان والشياطين لإنجاز اعمال سحرية من اجل تحقيق مرادات الطالبين من الجموع. (7) الروحية: نعنى بها ما يتعلق خاصة بالاتصال بالأرواح البشرية وريادة عوالمها وفهم وتدريب الملكات الروحية لتتفتح ويتم انضاجها. (8) الطرح الروحي: astral projection او تجارب الخروج من الجسد OBE (Out of Body Experience) يفترض فيها انفصال الروح وخروجها من الجسد. وفي النماذج النمطية يجد الانسان نفسه وهو ينظر الى جسده المسجى على السرير. وتتكرر هذه الظاهرة في غرف العمليات إثر التخدير او تجارب قرب الموت. ولم يحسم تفسيرها العلمي الى الان. (9) التبدلات الوجودية: أوردها نجم الدين الكبرى (540 - 618 هـ) في كتاب فوائح الجمال ويبدو انه يقصد بها العوالم التي تزورها الروح إثر انفصالها عن الجسد. (" واعلم ان الوجود ليس شيئا واحدا. فما من وجود الا فوقه وجود اخر أخص وأحسن منه، الى ان ينتهي الى وجود الحق" - انظر فصل مراتب الوجود). ويقول ("والذوق سببه تبديل الوجود الأرواح.... ويدخل في هذا التبديل تبديل الحواس؛ فإن الحواس تتبدل بحواس أخر" – انظر فصل في تبديل الذوق) (10) الثيوصوفية Theosophy : تأسست في الولايات المتحدة خلال أواخر القرن التاسع عشر من قبل المهاجرة الروسية هيلينا بلافاتسكي (1831-1891). وتستمد هذه الحركة معتقداتها في الغالب من كتابات بلافاتسكي. وقد تم تصنيفها من قبل علماء الدين كحركة دينية جديدة وكجزء من الباطنية الغربية، وهي تعتمد على كل من الفلسفات الأوروبية القديمة مثل الأفلاطونية الحديثة والديانات الآسيوية مثل الهندوسية والبوذية. (11) الدوافع الوجودية: ا كثر تعقيدا وامتدادا من الدوافع الحيوية المباشرة كالجوع والخوف والغضب. فهي مركبات عقلية -انفعالية أكثر تطورا وعمقا وتأثيرا مثل الامل والقلق واليأس والحب وهي أيضا اعقد وأكثر امتدادا. ولولا هذه المركبات العقل-دافعية او العقل-انفعالية ما كان يمكن للفلسفة والادب والشعر ان يولدان. باختصار المركب العقلي فيها ذو طابع فلسفي. وربما كانت الفلسفة الوجودية أقرب تمثيل لها لأنه يتوازن فيها العنصرين العقلي والانفعالي بشكل ملحوظ. (12) الضمير الإنساني: تلعب الوراثة والتربية دورا مهما في بنائه. يمثل اصلا دوافع خيرة موروثة تحدث امرا او نهيا باطنيا دون وساطة قوية للعقل. (13) الاحيائية: او الارواحية Animism يعتقد الانسان بوجود روح لكل فرد بشري. وأصبح هذا مقبولا على نطاق واسع في الأزمنة السالفة. ويبدو انه قد جرى توسيع لهذه الفكرة لتفترض وجود أرواح للأرض والسماء والغابات والانهار. الخ. وقد ساهم ذلك في بناء أنماط اعتقادية وسلوكية تناسب هذا التبني. (14) الشامانيون: وسطاء روحيون يفترض ان تتوسطهم الأرواح فيتحقق الاتصال بها من اجل استحصال معلومات غائبة زمانيا او مكانيا او كليهما، وكذلك لتحقيق الشفاء من الامراض البدنية والعقلية. (15) حالات وعي استثنائية: وهي عديدة الأنواع كالطرح الروحي وحالات وعي غير مألوفة، وتعتبر حالة الوساطة الانفة الذكر في الشامانية مثالا لها. (16) الوسائل: استقدام تبدلات الوعي عن طريق استخدام نباتات وعقاقير وطقوس تحدثها. (17) الطرق: استقدام تبدلات الوعي عن طريق إجراءات كالجوع والسهر والصمت والعزلة والتركيز والتأمل. (18) الرهبوتية: ما نعنيه أحد المناهج الطرائقية الذي من سماته الاختلاء والاعتزال والانقطاع عن العالم إضافة الى وجود الإجراءات الطرائقية الأخرى بالطبع وهدفها استحصال تبدلات الوعي. وعُني بها أيضا في ابعادها الفلوصوفية باعتبارها منهجا للاتصال ب " الحقيقة" او معرقتها، او لتحصيل "التجليات القدسية". (19) الجمع: تقنيا وفقا لليوغا هو النجاح في التركيز. التركيز يسمى في الاصطلاحيةثسئ1سس دهارانا والنجاح فيه، او تحقيق درجة التمكين في ذلك وتسمى دهيانا. اما في التصوف الإسلامي فقد ذهبوا ابعد من ذلك قاصدين به حالا قدسية معينة. (20) الكشوف والاحوال الروحية: الكشف هو الواردات العلمية، والحال هو الواردات الانفعالية او الوجدانية. الكشف زيادة مستجدة لا سابق لها في حاصل علم السالك، والحال زيادة لم يخبرها سابقا فهي مستجدة في نمط الانفعال والوجدان. (21) الميثولوجيا Mythology: عرض كلامي ذو طابع روائي للتفسير لا يقوم على أساس الدليل العلمي يأخذ قوته واقناعه من عناصر نفسية بعيدا عن مناهج التحقق العلمي. (22) كارما Karma: عواقب العمل ولكن لا تتم عبر دينونة يقيمها إله كما في الديانات الابراهيمية، بل نظام وجودي هو الذي ينجز العملية القضائية والتنفيذية عقابا او ثوابا بطريقة تبدو مؤللة، وان اختلفت طرق العقاب والثواب عن تلك التي في الديانة الابراهيمية. (23) سمسارا Samsara : تعاقب الولادة والموت في استمرارية تحددها الكارما آنفة الذكر، يتم التحرر منها بما يسمى بالانعتاق موكتا Moktaالذي يتحقق عن طريق الفوز بالاستنارة والنقاء الروحيين. (24) اكليروس Clergy : في المسيحية نظام يرتب تدريج الرتب الدينية في المسيحية بشكل رسمي، ونقصد به هنا معنى اعم وهو كل ما يشبه ذلك في اليهودية والإسلام او الأديان الأخرى ولا نقصد به النظام التراتبي الكنسي المسيحي حصرا، مطلقا. (25) الخطيئة الأولى Original Sin: فكرة من ابتكار الاكليروس المسيحي مفادها ان خطيئة ادم تسري في أبناء ادم جميعا سريان الدم في العروق، حتى الطفل يولد حاملا تلك الخطيئة. والأنكى من ذلك انهم يرون ان الانسان منزوع الإرادة الامن فعل الخطايا فهو حر في ذلك. لا مجال هنا لمناقشة عظم خطأها. وكان لهذه الفكرة لتعزيز فكرة ميتافيزيقية جذور الذنبية فأصبح الانسان مدانا مع اول صرخة يطلقها عند ولادته لا بل حتى قبل ذلك. (26) التكفير: عن الخطيئة الأولى وباقي الخطايا. التكفير بفكرته الاصلية اجراء ما لإزالة الخطيئة. مثلا في الإسلام وأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحسنةَ تَمْحُهَا. ولكن في المسيحية الفكرة اعقد بكثير حيث اصطنع الاكليروس فكرة الفداء القائلة بأن المسيح صلب تكفيرا عن خطيئة ادم السارية في ابنائه. (27) حامول: من أخطر النباتات الطفيلية ينتشر كالوباء ويسبب خسائر فادحة في المحاصيل الزراعية تخترق ممصاته ساق واوراق وثمار النباتات لتمتص عصاراتها لأن هذه المتطفلات النباتية غير قادرة على التمثيل الضوئي وتسبب تشوه النبات ثم ضعفه فموته. أن هذا النبات لا يسرق الغذاء فقط بل يسرق حتى الجينات الوراثية ليجعل النبات المستهدف كمستعبد يصنع له الغذاء. (28) أقانيم: هنا أعنى به كيانات الدين الثلاثة المتداخلة: الطرائقي والأخلاقي والسلطوي هذه الكيانات تبدو من زاوية معينه كأنها كيان واحد "متناغم" وإذا بدلنا زاوية الرؤية نجدها في الحقيقة متمايزة ومنفصلة بل حتى متناقضة. (29) طاغوت: في الطبري بثلاث معان: الشيطان، الساحر، الكاهن. هنا المقصود الكاهن عند انحرافه من الطرائقية او الاخلاقية الى السلطوية النفعية. وكذلك الحاكم العامل تحت غطاء الدين. (30) الغفلة المغناطيسية hypnotic trance : حالة شبيهة بالنوم يتمكن فيها المعالجون النفسيون من امرار ايحاءاتهم الى العقل الباطن وتحقيق سلوكيات غير ارادية تمت برمجتها بواسطة الايحاء مسبقا. في الأصل Trance وهي حال نوم او إغفاءة خاصة يصبح فيها الشخص ذو تقبل عال للإيحاء. الحالة التي اقصدها تشبه ذلك ولكن لتتطابق معه تطابقا تاما. اما ما اقصده فهو نوع عميق ومؤلل من التغافل عن أداء ميكانزمات تعمل بشكل مناقض للعقل او الضمير او كليهما وأصبح الإحساس بنشاطها غسقيا بسبب الاستمرار بعملية التعامي والتزييف بشكل متواصل لفترة طويلة. (31) العصاب neurosis : لا تتطابق اعراضه تماما مع بعض المظاهر السلوكية الدينية رغم ان فرويد قد المح الى وجود عصاب ديني ولكنه لم يمعن في بحثه لعدم وجود تطابق كاف مع اعراض العصاب المرضي الحقيقي. (32) الوسواس القهري OCD (Obsessive Compulsive Disorder): اضطراب نفسي مرتبط بالقلق يتميز بوجود أفكار ومخاوف غير منطقية تؤدي ال تصرفات قهرية. كثير من الاعراض تتطابق مع أنماط من الهيئات النفسية التدينية ولكن الاخيرة ليست مرضية وان اشتملت على درجة ملحوظة من الوسوسة والقهرية. (33) القصور الذاتي: في الفيزياء نزوع الاجسام للبقاء ساكنة مالم تعمل قوة مؤثرة على تحريكها من جهة ونزوعها للبقاء متحركة مالم تعمل قوة مؤثرة على ايقافها. وكذلك فان الجموع التي تحركت بقوة التعليم الكهنوتي ستبقى تتحرك من تلقاء ذاتها رغم زوال التأثير مالم توقفها قوة تعليمية أخرى مضادة.
#كمال_جيلاني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
في سايكوآيديولوجيا التنوير
المزيد.....
-
وجهتكم الأولى للترفيه والتعليم للأطفال.. استقبلوا قناة طيور
...
-
بابا الفاتيكان: تعرضت لمحاولة اغتيال في العراق
-
” فرح واغاني طول اليوم ” تردد قناة طيور الجنة الجديد 2025 اس
...
-
قائد الثورة الإسلامية: توهم العدو بانتهاء المقاومة خطأ كامل
...
-
نائب امين عام حركة الجهاد الاسلامي محمد الهندي: هناك تفاؤل ب
...
-
اتصالات أوروبية مع -حكام سوريا الإسلاميين- وقسد تحذر من -هجو
...
-
الرئيس التركي ينعى صاحب -روح الروح- (فيديوهات)
-
صدمة بمواقع التواصل بعد استشهاد صاحب مقولة -روح الروح-
-
بابا الفاتيكان يكشف: تعرضت لمحاولة اغتيال في العراق عام 2021
...
-
كاتدرائية نوتردام في باريس: هل تستعيد زخم السياح بعد انتهاء
...
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|