حول توحيد " اليسار الديمقراطي العراقي " في حزب واحد ؟
نزار خالـد
مدخل .
تناول الأستاذ كاظم حبيب ، في مقال نشرته صفحة الطريق ،[1] قضية توحيد قوى اليسار الديمقراطي في العراق ، مقترحاً مناقشة إمكانية تشكيل " حزب " كتنظيم موحد لها . ويرى الكاتب أن خطوةً كهذه ستؤدي إلى تصعيد دور جميع قوى اليسار الديمقراطي وتعزيزه في مستقبل الحياة السياسية والاجتماعية وغيرها بعد سقوط النظام الديكتاتوري . وبهذا الشأن يقول :
" ويهمني هنا البحث في موضوع التيار اليساري الديمقراطي العراقي, الذي يتشكل عموماً من مجموعة من الأحزاب والقوى أو الجماعات السياسية ذات الاتجاهات أو النزعات الماركسية أو ذات الوجهة اليسارية العامة, ابتداءاً من الحزب الشيوعي وانتهاءاً بالتجمع الديمقراطي العراقي والاتحاد الديمقراطي العراقي ... الخ .
إن المرحلة الجديدة ستتميز بتشابك مجموعة كبيرة من العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعسكرية ذات الطبيعة الوطنية والديمقراطية وستستوجب البحث في مدى إمكانية قيام حزب يساري ديمقراطي عراقي تتوحد فيه جميع أو أغلب فصائل اليسار الديمقراطي العراقي. إلا أن البدء بمثل هذه الخطوة يستوجب طرح مبادرة عملية ناضجة يمكن أن يقوم بها الحزب الشيوعي العراقي أو أي حزب يساري ديمقراطي عراقي آخر على جميع فصائل اليسار الديمقراطي العراقي للتشاور والبحث حول هذا الموضوع. وتعتبر هذه المبادرة محاولة للتحريك بهذا الاتجاه. إن قيام مثل هذا الحزب ستسمح له بلعب دور أكبر في الحياة السياسية العراقية وهو المرجو في هذه المرحلة والمرحلة التالية. ويمكن لهذا الحزب أن يتبنى منهاجاً سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً ديمقراطياً يتضمن القضايا الأساسية التالية .. "
بعدها يدرج " المهام " في عشرين نقطة كدليل أو برنامج عمل مقترح للحزب الجديد .
بدءاً إن طرح موضوع توحيد نضال وعمل القوى السياسية الوطنية ككل واليسار منها خاصةً هو مبادرة إيجابية نابعة عن إدراك لطبيعة المهام ومستجدات الأحداث واحتمالات تطوراتها في المستقبل والتي ستساهم في صنعها كافة القوى الوطنية في المقام الأول مما يتطلب التوصل إلى أفضل وأرقى أشكال التنظيم والعلاقات فيما بينها لمضاعفة دورها في صنع الأحداث والتأثير فيها في الوقت الحاضر وفي المستقبل بما يحقق مصالح الشعب العراقي بالدرجة الأولى . والقوى الوطنية بمختلف أحزابها وتنظيماتها هي طليعة الشعب الواعية واليسار الديمقراطي نبضها الأكثر صلابةً ووعياً وجذريةً كما يُفترض فيه . وتتزايد أهمية هذا الموضوع عندما يكون الواقع قد أفرز ، خلافاً لرغباتنا ، دوراً مؤثراً للقوى الخارجية في صنع القادم من الأحداث في العراق بحكم الانتداب . ولهذا فإن المبادرة تستحق التقدير والاهتمام ومناقشتها ذات جدوى وفائدة دون شك .
ولكن هل أن تشكيل " حزب سياسي واحد " يجمع مكونات اليسار الديمقراطي ، بما فيه الحزب الشيوعي حسبما يقترح الكاتب ، شئ ممكن ؟ وهل سيكون السعي لتشكيل مثل هذا الحزب الواحد هو جهد صائب ومفيد في الظرف الراهن ؟
ودون أن أناقش البرنامج المقترح للحزب الموحد ، أرى أن أبدأ مداخلتي من التعرض إلى المفردات أو المفاهيم الأساسية التي تعرف " الحزب " وكذا بما يطلق عليه بـ " اليسار الديمقراطي " .
الحزب .. أداة طبقية .
كما هو معروف .. إن الحزب في المجتمع الطبقي هو تنظيم سياسي يمثل مصالح طبقة اجتماعية أو شريحة منها ويسعى إلى السلطة من أجل تحقيق تلك المصالح بالدرجة الأولى . ولا يوجد حزب واحد فوق الطبقات أو خارجها بإمكانه تمثيل جميع الطبقات الاجتماعية " الشعب " وكذا لا يمكن أن ينجح حزب واحد في تمثيل طبقات أو شرائح اجتماعية تتعارض مصالحها وتتصارع دائماً وقد تتناحر أحياناً حتى الصدام العنيف . وينطبق ذلك على الحزب الشيوعي كما هو الحال بالنسبة لجميع الأحزاب بما فيها الحزب الجديد المقترح .
اليسار الديمقراطي ..قوة متغيرة .
هذا بخصوص مفهوم " الحزب " حسب إدراكي طبعاً .. أما فهمي " لليسار الديمقراطي " فهو مصطلح سياسي واسع يرمز إلى قوى وتيارات وشخصيات وأحزاب سياسية متعددة يتغير انتمائها لهذا " اليسار " وفقاً للظروف والمهام المطروحة أمام المجتمع ، وهي مهام تتغير وتتجدد باستمرار بحكم عامل التطور . ويمكن لهذا اليسار في مرحلة معينة أن يضم قوى وشرائح اجتماعية تتناقص مصالحها الاقتصادية وتتصارع فيما بينها سلمياً ، لكنها تتوحد حول " مهام " آنية ملحة مشتركة تفرضها العوامل الموضوعية السائدة في المجتمع وكذا العوامل الذاتية المحيطة بجميع القوى " موازين القوى على الساحة السياسية " ، فتدفعها إلى انتهاج سبيل " التوافق " أو المساومة المتقابلة فيما بينها دون إلغاء " لصراع المصالح " ، الذي هو صراع حتمي كونه من خصائص ومن طبيعة المجتمع متعدد الطبقات الاجتماعية .
إذن .. إن " التوافق " أو " المساومة " حالة مؤقتة مهما طال زمنها نسبياً . وكذلك يمكن للتوافق أن يتحقق حول بعض " المهام " ، وقد يشمل أكثريتها ، دون أن يلغي الصراع في نفس الوقت حول مهام وقضايا ومصالح أخرى . فهل ينجح " الحزب الواحد " المقترح في التوفيق بين المصالح المتعارضة أم سيكون ميداناً للصراعات الداخلية المتواصلة فينعكس سلباً على نشاط قوى اليسار الديمقراطي وبالتالي على دورها ؟
أعتقد جازماً بحصول الحالة الأخيرة " ميداناً للصراع " وعاملاً من عوامل الشلل والتلكؤ .
إن توحيد نشاط وعمل ، ( أؤكد نشاط وعمل وليس تنظيم ) ، قوى اليسار الديمقراطي العراقي في الظرف الراهن هو ضرورة ملحة وحاجة ماسة غير قابلة للتأجيل في ظل تعقيدات الوضع السياسي الشائكة وتطوراته المتسارعة وما تطرحه من مهام جسيمة أمام الشعب العراقي وقواه الوطنية في ظرف يجتاز الوطن خلاله منعطفاً تاريخياً يتطلب استنفاراً استثنائياً للقوى إلى أقصى مدى .. ولكن ، وفي الأولوية وقبل كل شئ بأعمق وعي وبأعلى يقظة ثورية وبالركون إلى التجارب والعبر المريرة لتلافي أخطاء الماضي القاتلة والمهلكة .
عن المهام المقترحة على اليسار الديمقراطي وحزبه الجديد .
ذكر الكاتب ، كمقترح ، عشرين مهمة يراها أساساً صالحاً لبرنامج عمل الحزب الجديد . ويمكن للقارئ أن يتلمس بوضوح أن غالبية هذه المهام إن لم تكن جمعيها تصلح أن تدخل في برامج عدة أحزاب ( وهي داخلة فعلاً بهذا القدر أو ذاك ) وهي في غالبيتها تمثل مصالح مشتركة لطبقات وفئات وشرائح اجتماعية متعددة تشمل الطبقة العاملة والبرجوازية الصغيرة في المدينة والريف وقسماً هاماً من البرجوازية الوطنية ، ويمكنها أن تستقطب الكثير من الجمعيات والشخصيات والعناصر الوطنية التي لا ترغب في الانضواء إلى أي من التنظيمات أو الأحزاب السياسية .
ولغرض استقطاب أكبر وأوسع قوى لتنفيذها لا أرى ضرورةً لتشكيل حزب جديد ، بل أن تتم الدعوة لتكوين ائتلاف للأحزاب والتيارات والشخصيات اليسارية الديمقراطية تشكل نواةً ونموذجاً لجبهة وطنية أكثر شمولاً وسعة ببرنامج أقل طموحاً بهدف استقطاب أقصى الطاقات الوطنية في الظرف الراهن تكون مهمتها المركزية " إنهاء الانتداب " قبل وفوق أي شئ آخر .
محاولات فاشلة لتصفية الحزب الشيوعي العراقي .. تجارب وعبر .
لا أزعم أن الكاتب يستهدف بوعي ، من خلال مقترحه ، الدعوة لتصفية الحزب الشيوعي العراقي ، ولكني أرى من الضروري في الظرف الراهن التذكير بتجارب الشيوعيين والقوى الوطنية من باب الاتعاظ بالعبر والدروس حفاظاً على " الطاقة " والابتعاد عن تبديد جهود سبق وأن بددت في محاولات عديدة قام بها " البعض " بواجهات مختلفة و" بنوايا ودوافع حسنة " أو مغرضة استهدفت تصفية الحزب الشيوعي أو حرفه عن مبادئه الأساسية . أشير إلى أبرزها .
·
_ لقد جرت محاولة لتصفية فرع الحزب الشيوعي العراقي في كوردستان العراق عام 1957 تحت ذريعة ضرورة توحيد القوى الكردية الوطنية الديمقراطية ذات " التوجهات الماركسية " وتشكيل حزب كردي ديمقراطي تقدمي موحد . ووجد هذا التيار الفكري صدىً مؤثراً له داخل لجنة فرع الحزب آنذاك . لقد تصدت قيادة الحزب بحزم مبدئي لتلك المحاولة واستطاعت إفشالها ، ليس بقرار انضباطي منها وإنما من خلال مناقشة علمية ماركسية أقنعت الرفاق أنفسهم بخطأ تأسيس حزب شيوعي على أساس قومي يكون مستقلاً عن الحزب الشيوعي العراقي كون الطبقة العاملة العراقية ، وهو ممثلها السياسي ، هي طبقة واحدة متجانسة وأهدافها واحدة بسبب تطابق مصالحها تطابقاً تاماً بمختلف قومياتها وطوائفها وعرقياتها خلافاً للأحزاب البرجوازية والقومية ، التي قد تتوافق مصالحها ومواقفها السياسة في قضايا معينة وتتناقض وتتصارع في البعض الآخر منها وتتناحر أحياناً حد الاقتتال .
كما أن مصلحة الطبقة العاملة تقتضي امتلاكها أداةً سياسية مستقلة خاصة بها ، حزبها الشيوعي ، المؤهل لقيادتها نحو بناء المجتمع الاشتراكي ، وهو الهدف الذي تتصدى له البرجوازية مستخدمة السلطة وأحزابها السياسية وجميع الإمكانيات المتاحة بما فيها العنف إن تمكنت من استخدامه .
وبرهن تأريخ العراق بجميع أحداثه اللاحقة ، دون أي لبس أو شك ، صحة الموقف المبدئي للحزب ، ليس حفاظاً على مصلحة الحركة الشيوعية فقط ، وإنما على مصلحة الحركة الوطنية ككل بما فيها الأحزاب القومية نفسها . وقد أصبح دور الحزب الشيوعي منذ ذلك الحين حتى يومنا هذا عاملاً رئيسياً في توحيد وتعزيز نضال جميع القوى الوطنية العراقية بمختلف قومياتها . وعزز الموقف المبدئي والصائب في التصدي لمحاولة تصفية فرعه الكردي مكانة الحزب الشيوعي لدى كل الأحزاب بما فيها الأحزاب والقوى القومية الكردية ، على العكس مما تصوره البعض بما فيهم عدد من كوادر الحزب العاملين آنذاك في الفرع الكردي . ومنذ ذلك الحين وضعت لبنة إضافية راسخة في التعاون بين الحزب الشيوعي العراقي والحزب الديمقراطي الكردستاني أساسه احترام استقلالية وخصوصية الآخر . وتشهد الساحة السياسية في الوقت الراهن تعاوناً متيناً وبناءً وتقارباً بين الحزبين بصورة خاصة فيما يخص الوضع في كوردستان وفي العراق عامة .
وعزز ثبات الحزب الشيوعي على المبادئ مكانته وهيبته لدى الأحزاب الوطنية العربية مكنته من لعب دور رئيسي في إقامة الجبهة الوطنية الموحدة في العام نفسه ، أي في 1957 . وكان هو الحزب الوحيد القادر آنذاك على التنسيق بين جناحي الحركة السياسية الوطنية في القسمين العربي والكردي بقناعة من الجميع عندما تعذر ضم الحزب الديمقراطي الكردستاني إلى الجبهة بسبب من معارضة الأحزاب القومية العربية في ذلك الوقت .
* _ ولدينا تجربة أخرى .. في سنة 1959 حاولت بعض الأحزاب البرجوازية الوطنية ، مستغلة نفوذها داخل السلطة القائمة آنذاك ، حرمان الشيوعيين من حزبهم المستقل تحت ذريعة توحيد الجهود لمواجهة المؤامرات الإمبريالية . وعندما رفض الشيوعيون هذه السياسة لجأت السلطة بتحريض من تلك الأحزاب إلى قمع الشيوعيين وافتعال " حزب شيوعي " زائف ومنحه حق العمل القانوني والعلني . وقد باتت نتيجة تلك المحاولة واضحة للعيان فقد أدت إلى إضعاف الحركة الوطنية بجميع أحزابها ومكوناتها ، بما فيها السلطة نفسها ومن ساندها ، وأسفرت عن كارثة كبرى حلت بالشعب والوطن ، كان لها أن تمتد منذ عام 1963 حتى يومنا هذا .
* _ وتجربة ثالثة مريرة النتائج .. في آب عام 1964 ، أي بعد الكارثة التي حلت بالحزب والحركة الوطنية .
استطاعت الأفكار التحريفية أن تتسلل إلى قيادة الحزب ، وبسببها رُسمت سياسية يمينية تصفوية بحجة توحيد القوى " الاشتراكية " في العراق . وقد تصدى الشيوعيون لتلك السياسة التي ألحقت بالحزب خسائر فادحة عمقت انتكاسته وساهمت في شق صفوفه وإضعاف دوره في الحياة السياسية وانعكست سلباً على وحدة القوى الوطنية جميعها . وخلقت عاملاً سلبياً رئيسياً ، ضمن عوامل أخرى ، في تهيئة المناخ السياسي لاغتصاب السلطة من قبل عملاء الأجهزة الاستخبارية للدول الإمبريالية .. أمريكا وبريطانيا بواجهة قومية زائفة تصدرها الجناح اليميني لحزب البعث العربي الاشتراكي ( جناح عفلق ) . جرى ذلك في انقلاب عسكري في 17 تموز عام 1968 م . شاء القدر لهذه السلطة أن تحكم العراق لمدة 35 عاماً تقريباً بدعم متواصل من تلك الأجهزة نفسها .. دعم متعدد الأشكال والأساليب المستحدثة في الالتفاف والمناورة والخداع حتى استنزافها كاملةً . وقد كان من أبرز عوامل نجاح الزمرة العميلة في البقاء في السلطة ، رغم تفاهة قيادتها ، هو نجاحها في ستر هويتها وطبيعتها الطبقية كزمرة طفيلية خائنة وتسويق نفسها كقوة وطنية ، بل وتقدمية أيضاً معادية للإمبريالية والصهيونية ! .
* _ تجربة أخرى هي الأكثر مرارةً .. لم ينج الشيوعيون من الوقوع في الشرك فتعاونوا مع السلطة الجديدة باعتبارها سلطة وطنية يمكن معالجة " نواقصها وأخطائها " ! من خلال التعاون معها . وقد وصل الأمر بـ " حسن النوايا " أن دفع بالشيوعيين إلى تبني سياسة " وحدة اليسار " أو حتى وحدة " القوى الاشتراكية " ! .
وقد جسد تلك السياسة التحريفية الشعار المركزي الذي تبناه المؤتمر الثالث للحزب الشيوعي عام 1976
" معاً لبناء الاشتراكية " ! .
لقد كان السبب الرئيسي وراء جميع الانحرافات والسياسات الخاطئة وخيمة العواقب على الحزب الشيوعي والحركة الوطنية هو التخلي ، وإن مؤقتاً ، عن النهج الماركسي العلمي في اعتماد التحليل الطبقي أو التغاضي عن الطبيعة الطبقية للسلطة والأحزاب السياسية .
إن تجارب الشيوعيين العراقيين وجميع أحزاب الحركة الوطنية دون استثناء هي تجارب غنية وقاسية ومريرة ومن أبرز وأهم عبرها هي .. أن الأعداء يجيدون " حرفة " استخدام وتوظيف " النوايا الحسنة " للمناضلين والثوريين وحرصهم الشديد على مستقبل شعبهم ووطنهم لدفعهم في متاهات سياسية تبدد جهودهم وتستنزف قواهم ..
ويمتلك الأعداء خبرةً طويلة وإمكانيات مادية وإعلامية هائلة ولديهم ركائز وعناصر من المرتدين والانتهازيين يتم استنفارهم بشكل استثنائي من داخل الحركات الثورية في المنعطفات السياسية بالأخص بهدف استنزاف طاقاتها وتشتيتها . وهو ما يتطلب رفع اليقظة الثورية إلى أقصى مدى وشحذها باستمرار ويومياً أثناء تلك المنعطفات بالأخص أيضاً . والعراق يجتاز في الوقت الراهن منعطفاً تاريخياً خطيراً ، تشتبك خلاله جميع القوى السياسية الوطنية في صراع قاس ومرير ومعقد مع أعداء الشعب والوطن وقد عانا من انتكاسات وكوارث مهولة ومخلفات مأساوية ، بات على القوى الوطنية الواعية والمخلصة أن تضع حداً لها .. والى الأبد . ويقظتها الثورية هو سلاحها الرئيسي . وعبرها وتجاربها زادها الأساسي .
بين الرغبة والواقع .
أقدر عالياً رغبة الكاتب في تطوير دور " اليسار الديمقراطي " في حياة العراق السياسية الآن وفي المستقبل وهي رغبة ورائها شعور عالٍ بالمسؤولية تجاه الشعب والوطن . ولكن الرغبات شئ وإمكانيات تحقيقها شئ آخر . وكما يبدو لي إن توحيد قوى اليسار في حزب واحد في الظرف الراهن ، وحتى المنظور ، هو محض خيال أو رغبة طيبة في أحسن الأحوال .
فالحزب الشيوعي العراقي ، الذي يرشحه الكاتب كأحد فصائل اليسار الديمقراطي المدعوة لتشكيل الحزب الجديد ، هو حزب يمثل الطبقة العاملة العراقية اختار نظريتها الماركسية دليلاً ومرشداً لعمله منذ تأسيسه قبل ما يقرب من سبعة عقود ويمتلك نظاماً داخلياً ينظم حياته الداخلية ويرتكز إلى مبادئ أساسية لا يمكن التخلي عنها وفي مقدمتها المركزية الديمقراطية . فهل يراد من التيارات اليسارية المختلفة أن " تنصهر " في الحزب الشيوعي دون قناعة وإيمان تام بمبادئه أم يراد من الحزب الشيوعي التخلي عن تلك المبادئ الأساسية أو " التساهل " ! فيها وبذلك يفقد هوينه الطبقية ؟!
ولهذا فإن إمكانية تأسيس حزب واحد ، في الوقت الراهن والمنظور ، لجميع قوى اليسار الديمقراطي بالشكل المقترح لا يمكن أن يجد له حظاً في التحقق على أرض الواقع ، حسبما أعتقد .
لقد قطعت الدول والمجتمعات الأوربية شوطاً بعيداً ومتقدماً على طريق التطور الاجتماعي ، بخلاف حال المجتمع العراقي ، دون أن تتمكن قوى اليسار الديمقراطي فيها لحد الآن من تشكيل " حزب واحد " يجمع كل تياراته وينجح في الوصول إلى السلطة لتحقيق الحد الأدنى من برنامج الشيوعيين . ولهذا حافظت الأحزاب الشيوعية على استقلاليتها كونها على قناعة تامة .. أن اليسار الديمقراطي عاجز عن تحقيق كامل أهداف حركتهم . ولا يتعارض ذلك مع ضرورة التعاون ، بل والتحالف أحياناً ، مع مكونات وتيارات اليسار الديمقراطي أو الاشتراكي الديمقراطي للوصول إلى السلطة لإنجاز مهام آنية تدفع المجتمع خطوات متقدمة تقربه أكثر فأكثر نحو بناء المجتمع الاشتراكي ثم الشيوعي وهو الهدف الأسمى للحركة الشيوعية ولأحزابها المكافحة .
ما العمل ؟ .. من تجارب الأشقاء ..
يطرح الكاتب هذا السؤال ويرى في مقترحه الجواب الشافي .. وقد أبديت وجهة نظري المخالفة ، ولكن يبقى السؤال مطروحاً عليَّ وعلى القارئ لتقديم البديل الأفضل .
لا أزعم أن بمقدوري تقديم بديل جاهز أو متكامل ، ولكني وجدت من المفيد أن أستعرض بإيجاز تجربةً مماثلة باشر بتنفيذها رفاقنا في حزب " التقدم والاشتراكية ( الحزب الشيوعي ) " في المملكة المغربية مع رفاقهم من مكونات اليسار " أحزاب وتيارات " تمخضت عن نتائج إيجابية ملموسة على الرغم من حداثتها ( سنتين تقريباً ) .
لقد اتبع الحزب الشقيق مع أحزاب يسارية ، ذات توجهات ماركسية ، تعمل على الساحة السياسية منهجاً للتقارب مدخله الحوار والمناقشات الفكرية الجادة تستهدف الكشف عن نقاط الاتفاق والاختلاف في البرامج والتوجهات أسفرت عن اتفاق على تشكيل هيئة قيادية مشتركة ثنائية لتنسيق النشاطات الفكرية والسياسية بين الحزب الشقيق وأحد الأحزاب اليسارية مع الاحتفاظ باستقلالية كل حزب ، وقد خاضا الانتخابات التشريعية في سبتمبر من العام الماضي بصورة منفردة ، لكنهما اتفقا بعد الانتخابات مباشرة على تشكيل فريق نيابي واحد انضم إليه حزب يساري ثالث . وهكذا تم التقارب بصورة تدريجية ، ولكن بخطوات ثابتة وراسخة . وإحدى أبرز وأهم مؤشرات نجاح التجربة هو استقطابها لحزب ثالث خلال فترة قصيرة مما يعزز الثقة لدى التيارات والأحزاب اليسارية الأخرى المدعوة للالتحاق بالتجربة . ومن هنا يبدو أن الرفاق المغاربة لم يختاروا طريق الاندماج ، بل فضلوا التقارب والتنسيق ثم الاتحاد . ومن خلال النشاط والعمل المشترك والتطبيق ونتائجها الملموسة سيزكي الواقع الأفكار الصائبة وسيفرز الشكل الأمثل للعلاقات التنظيمية بين الأحزاب في المستقبل .
وخلال نفس الفترة عملت أربعة تيارات يسارية ديمقراطية ( لم تكن قد تبلورت بعد في أحزاب ) على التوحد فيما بينها واختارت وشكلت تنظيماً موحداً يمثل تياراً سياسياً حمل اسم " اليسار الاشتراكي الموحد " خاض الانتخابات التشريعية في العام الماضي بصورة موحدة .
والتجربة الثانية قد تصلح ، حسبما أعتقد ، بشكل ما للتطبيق في العراق بين التيارات اليسارية الديمقراطية التي لم تتحول بعد إلى أحزاب سياسية كما هو حال التجمع الوطني الديمقراطي العراقي والاتحاد الديمقراطي وغيرهما من التيارات الأخرى إن وجدت دون أن تتعارض خطوة من هذا القبيل مع خطوات غيرها موازية لها حسب الظروف وطبيعة القوى والتيارات وصولاً إلى الأمثل منها ..
22/نيسان/2003 نزار خالـد
--------------------------------------------------------------------------------
[1] - أنظر - كاظم حبيب - رؤية أولية .. صفحة الطريق 19/4/2003 http://iraqcp.org/0030419habib.htm
صفحة الطريق