|
-موريس كورنفورث والبراغماتية والفلسفة العلمية- (3-7)
سلام ابراهيم عطوف كبة
الحوار المتمدن-العدد: 6655 - 2020 / 8 / 23 - 00:18
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
النظرة الطبيعية للفكر ان رأي ديوي البراغماتي عن الفكر،اطلق عليه اسم(الطبيعي).ومن وجهة النظر المادية ايضا،يتعين على الانسان ان يتخذ رأيا(طبيعيا)في الفكر،بمعنى اعتباره(طبيعيا بصورة كلية)(كما تفعل بعض الموجودات القائمة)،وليس كوظيفة(معجزة)(للعقل الذي تنحصر مهمته في المعرفة). الا ان المادية لا تعتبر التفكير كمجرد نشاط للعضويات البشرية المعينة،ناشئة(بصورة طبيعية)عن التفاعل مع المحيط كأداة للسيطرة عليه..الخ.ان التفكير،بالنسبة للمادية،هو انعكاس للواقع،للعالم المادي الموجود بالفعل،مهما اتخذ هذا الانعكاس من الاشكال الوهمية.ان المادة بالنسبة للمادية هي العنصر الاول،اما الفكر فهو عنصر ثانوي،مشتق.ان الفكر هو اعلى اشكال حركة المادة،ينتج عندما تكون المادة قد بلغت الشكل الاعلى لتنظيم الدماغ البشري...كما ان العالم المادي الموضوعي هو مصدر الفكر الذي ما هو الا انعكاس للمادة،وللحقيقة الموضوعية الموجودة بشكل مستقل عن انعكاسها في الفكر. ان تفسير ديوي(الطبيعي)للتفكير،يناقض صراحة ويرفض الموقف المادي لانه يجمع بين رأيه(الطبيعي)الذي يرى بأن الفكر هو نشاط العضوية البشرية،وبين انكار كون الحقيقة الموضوعية هي مصدر ومنشأ الافكار،وانكار كون الفكر يعكس العالم المادي الموضوعي. ان ديوي يستعمل كواجهة،انكار ان(العقل)او(الوعي)يمكن ان يوجد كشئ(بذاته)،انه يحاول اظهار ان الفكر(طبيعي بصورة كاملة)وان(المنطقي)يسير مع(البيولوجي)على الدوام،وان الفكر هو نوع من النشاط العملي يستخدم كأداة للسيطرة على المحيط..الخ.على انه يظهر بأنه يوجه بكل ذلك ضربة مميتة ضد اخطاء المثالية،الا ان هجومه في الحقيقة ليس موجها ضد المثالية بل ضد المادية،ضد الرأي القائل بأن جميع الفكر هو انعكاس للحقيقة المادية،الذي يكون جوهر المادية بالذات.وتحت ستار مهاجمة مذاهب بعض المدارس المثالية،يوجه هجومه الحقيقي الى قلب المادية. وعليه فانه بالرغم من جميع(طبيعيتها)،تكون فلسفة ديوي نفسها مثالية،لانه بانكاره كون الافكار تعكس الحقيقة الموضوعية وان هذه الحقيقة هي مصدر افكارنا،انما يؤكد على العكس بأن كل شئ يفترض وجوده في العالم الموضوعي،انما هو يتكون ويتقرر بعملية الفكر.انه بانكاره كون صحة افكارنا انما يكمن في انطباقها على الحقيقة الموضوعية،انما يؤكد على العكس عدم انطباق اية حقيقة موضوعية على افكارنا. وهكذا فان فلسفة ديوي،التي يعرفها باعتبارها(طبيعية)معارضا بها المثالية،ماهي في الواقع الا شكل دقيق ومبرقع للمثالية الذاتية.انها مثالية ذاتية في لباس جديد(للطبيعية)محاك من مختلف المبادئ حول العضوية ومحيطها،وحول الدافع والاستجابة،وحول استمرار المنطقي مع البيولوجي،وحول الافكار كأدوات للعمل،وحول الحقيقة باعتبارها ما يعود عمليا بالنفع. ان جميع هذه المبادئ البراغماتية،التي بدت للكثيرين وكأنها تدشن طريقا جديدا في الفلسفة لا تؤدي في الواقع الا لسلوك طريق المثالية المطروق جيدا،ولا تؤدي لاي طريق جديد،بل لنفس الطريق القديم.ووراء جميع هذا الخلط اللفظي لطبيعة ديوي،يبرز بوضوح شئ واحد هو المثالية.وبين جميع تناقضات البراغماتية يبرز شئ واحد متماسك كل التماسك هو معارضتها للمادية.
الفكر"كاستجابة""لدافع ما" يرى ديوي باننا لو اخذنا بمفهوم طبيعي عن الفكر ورفضنا اعتباره كشئ(بذاته)(فلا يبقى امامنا اي خيار عدا..ادراك الفكر كاستجابة لدافع خاص..)(25)ثم يطور ديوي فيما بعد رأيه عن الفكر(كاستجابة لدافع)بصورة اكثر تفصيلا.ان ديوي يصر على ان التفكير ليس(حالة من حالات الوعي)،ولا(عملا وظيفيا)(لكائن خاص)يسمى(الوعي)(26).ان(حالات الوعي)كما يقول ديوي،سابقا بذلك وجهة نظر علم النفس السلوكي فيما بعد،يجب استبدالها(بالسلوك).ويجب اعتبار التفكير كحدث(عضوي داخلي)يسير على الدوام مع(الحوادث خارج العضويات).كما انه يستمر قائلا بأن الفكر يجب ان يخدم(كوسيلة لتطوير استجابة متأخرة ولكنها اكثر ملائمة)(27).ان هذا يعني بأنه اذا كانت خصائص المحيط تثير عملية التفكير(الداخلية)،فان الاستجابة للدوافع موضوعة البحث تتأخر فيما يستمر(الحدث العضوي الداخلي).وهذه العملية الفكرية تنتج وتطور(استجابة اكثر ملائمة). مثال ذلك انني بينما اسير في الطريق افاجأ بوجود مفترق للطرق.ان هذا يثير في عملية تفكيرية اقف خلالها ساكنا.وبنتيجة هذه العملية التفكيرية استجيب في النهاية للموقف الذي احدثه المفترق بسلوك احد الطرق القائمة.وهكذا فانني استطيع بذلك القيام (باستجابة اكثر ملائمة)للموقف من وجهة نظر بلوغي الوجهة المقصودة.ومن الطبيعي ان عملية التفكير ليست مجرد عملية (داخلية)،انها ليست حسب تعبير ديوي مجرد عملية(دماغية)،بل انها تتضمن اشكالا مختلفة للسلوك المكشوف الهادف للحصول على (معطيات)تساعد عملية التفكير.مثال ذلك انني احاول البحث في لوحة العلامات القائمة،او استشير خريطتي،او اميز طريقي بعلائم متميزة..الخ.ان التفكير يجب اعتباره من حيث الجوهر(كحدث عضوي داخلي)ينشأ كاستجابة(لدافع خاص).ولكن هذا لا يتضمن بأن عملية التفكير لا تنطوي في سيرها على مختلف اشكال السلوك المكشوف.ومع ذلك فان مهمة عملية التفكير،هي انها بنشوئها كاستجابة(لدافع معين)تخدم(كوسيلة لتطوير اجابة متأخرة ولكنها اكثر ملائمة)للدافع. ما هو اذن نوع الموقف او (الدافع الخاص)الذي يثير التفكير؟لان من الواضح ان ليس كل دافع مثيرا للتفكير. يقول ديوي بأن التفكير(ينشأ لظهور عوامل غير منسجمة مع بعضها في داخل الموقف التجريبي)،اي انه ينشأ(عندما يكون في القضية امر خطير بسبب عدم الانسجام الفعال..عندما يصبح الموقف توتريا)(28). ان الفكر ينشأ(من الجهد للتغلب على صعوبة ما حقيقة او مهددة)(29).ان التفكير الناجح ينتهي بالمعرفة،و(لوضع المعرفة حال نشوئها في التطبيق،يجب معرفة انها حالما تنشأ بسبب صعوبات الانسان،انما تتوطد وتتعزز في اعادتها لبناء الشروط التي انتجت الصعوبات)(30). ان مغزى هذه الملاحظات سوف يتضح،اذا استشهد الانسان بالمثل الذي ضربناه سابقا حول عملية التفكير التي اثارها بلوغ مفترق الطرق اثناء السير في الطريق.هنا نجد اذن(عوامل غير قابلة للانسجام)- طريقين لا يمكن الا ان يكون احدهما هو الصحيح – هناك ايضا (عدم انسجام فعال)و(الموقف يصبح ثوريا) – لا استطيع السير في كلا الطرقين بل يجب ان اسلك احدهما فقط.وعلي تحت ضغط(الدافع الخاص)لهذا الموقف التوتري،ان افكر في اي الطريقين يجب ان اسلك،وما تفكيري الا الجهد المبذول من قبلي لايجاد كيفية(التغلب على الصعوبة)التي اجد نفسي متورطا فيها.ان ديوي نفسه يعطي مثالا مشابها – سوف اشير اليه فيما بعد – لرجل ملزم بأن يفكر تفكيرا شاقا بسبب فقدان طريقه في الغابة(31)وباعتباره التفكير كحدث(عضوي داخلي)يثيره دافع لموقف توتري معين ويؤدي الى استجابة متأخرة ولكنها اكثر ملائمة للموقف،لا يستطيع ديوي ان يعترف بأية ارتباطات بين الافكار كحوادث عضوية داخلية وبين العالم الخارجي خارج العضوية عدا ما يلي:أ- الارتباطات بين الدافع الخاص والاستجابة التي يثيرها. ب – الارتباطات بين الموقف التوتري ونوع السلوك النهائي الذي يطور لحل التوتر. وهذا يعني بأن ديوي تحت ستار الجدل الظاهر ضد المثالية واستعمال عبارات ذات مظهر علمي مزيف حول(الدافع)و(الاستجابة)و(العضوي الداخلي)و(خارج العضوية)تآمر لقطع الطريق على اي رأي مادي علمي حول الطبيعة وتطور الفكر وصلة الافكار بالاشياء،كما حاول ان يضع الاساس لاعادة المثالية.
منشأ التفكير في الانتاج الاجتماعي أ – يؤكد ديوي بتكرار،على ان التفكير ينشأ (عندما يصبح الموقف توتريا)(بسبب ظهور عوامل غير قابلة للانسجام في داخل الموقف التجريبي).ومن الطبيعي اننا يجب فعلا ممارسة التفكير في مثل هذه الظروف،ولكن هل تقدم هذه التأكيدات اي شئ مقارب بصورة ملائمة عن منشأ التفكير؟ان جميع الحيوانات ملزمة على الدوام بالاستجابة(لواقف توترية)نوالقسم الباقي على قيد الحياة منها ينجح في ايجاد نماذج من السلوك تحل التوترات بمقدار متفاوت من النجاح؟ولكن هذه الحيوانات جميعها لا تفكر بالمعنى العلمي للتفكير.ان التفكير او تكوين المفاهيم هو نشاط مميز للبشر وحدهم،وان منشأه وطبيعته مرتبطان بما هو مميز للبشر ايضا. يتكلم ديوي في كتابه(المنطق – نظرية البحث)عن (الرحم البيولوجي)للتفكير،ويقول بأن (المنطقي)اي عمليات التفكير المفاهيمي(مرتبط بالبيولوجي في عملية تطور مستمرة).انه يفكر بطريقة تطور وظيفة التفكير من الارتباطات (الطبيعية)للعضوية البشرية بمحيطها.انه يلح على ان(العضوية لا تعيش في محيط ما بل انها تعيش بواسطة المحيط)(32).وعليه فأن التفكير ينشأ في الطريقة التي نعيش فيها(بواسطة محيطنا)،وتخدمنا في ايجاد طريقة للتغلب على (المصاعب)الناشئة في مثل هذه الحياة. الى هنا والامر حسن.الا ان العضوية البشرية التي تفكر هي عضوية طورت بعض خصائص بيولوجية هامة(اي الدماغ البشري والايدي)تطورت من دماغ وايدي القرود العليا التي تقع ادنى منا وبعدنا مباشرة في سلم التطور،ولكنها تعود للانسان فقط.وبدون ايدينا ما كان لادمغتنا ان تكون ذات نفع كبير لنا،وبدون ادمغتنا ما كنا نستطيع التفكير،اذن فان المنطقي تطور من البيولوجي بفضل الدماغ والايدي.الا ان طريقة استعمال الانسان للدماغ والايدي في الانتاج الاجتماعي التعاوني،تؤدي مباشرة الى وضع تكف فيه الحياة البشرية عن ان تكون مجرد حياة(بيولوجية).فالانسان لا يعيش فقط بموجب القوانين البيولوجية وحدها،بل بموجب قوانين اجتماعية،وان التفكير ينشأ ويتطور في حياة الانسان الاجتماعية التي تقوم قاعدتها على عملية الانتاج الاجتماعي.لذلك فمفهوم (الرحم البيولوجي)للفكر،كما لو كان التفكير نشأ وتطور من مجرد صلة العضوية البيولوجية بالمحيط،هو تغاض عن الحقيقة الهامة من ان النشاط البشري للتفكير انما ينشأ بالضبط عندما يخرج الانسان من النطاق البيولوجي ويبدأ وجوده وتطوره الاجتماعيين. وبهذه الطريقة،فان(طبيعية)ديوي،التي تؤدي به الى الكلام عن(الرحم الاجتماعي)للتفكير،تؤدي به ايضا الى القاء الضباب على الرحم الاجتماعي الحقيقي للتفكير،والى معالجة النشاط الاجتماعي والعلائق الاجتماعية كنشاط علائق بيولوجية.وباظهار هذه الظلامية(كطبيعية)يحاول ديوي اعطاءها مظهرا(علميا)و(تقدميا)،ولكنها في الواقع ظلامية وليست علمية ومغرقة في الرجعية بدل ان تكون تقدمية. ان نفس هذا النموذج من(الطبيعية)اي النظرة(البيولوجية)للانسان والنشاطات والعلائق الانسانية،يظهر ايضا في مناسبات اخرى في العنصرية وفي المذاهب الاجتماعية لعلم التناسل(يوجنيك):فهناك حلقة مباشرة – وكونها غير واضحة لا يقلل من طبيعتها المباشرة – بين (طبيعية)ديوي الفلسفية وبين تلك الاشكال الرجعية القائمة على كراهية الانسان والاضطهاد العنصري السائد في الولايات المتحدة،سيادة الفلسفة(الطبيعية)هناك. وبعد ان يعالج ديوي(الرحم البيولوجي)للتفكير،يكرس فصلا كاملا(للرحم الثقافي)ومن الطبيعي انه يعلم جيدا بأن(الانسان حيوان اجتماعي)،وهو يعبر عن ذلك بالقول بأن محيط الانسان ليس مجرد محيط مادي،بل هو محيط ثقافي،اجتماعي،وان النشاطات البشرية تتغير ثقافيا.انه يكتب: (بأن التحويل من السلوك العضوي الى السلوك الذهني المتميز بالخصائص المنطقية،هو نتاج لحقيقة ان الافراد انما يعيشون في محيط ثقافي)(33).ان البشر الذين وهبوا ايدي وادمغة،ولكنهم من جهات مختلفة اخرى اقل استعدادا من الوجهة البيولوجية من كثير من الحيوانات الاخرى،استطاعوا ان يتعلموا كيف يصنعون ويستعملون مختلف الادوات للدفاع ضد الاعداء ولانتزاع الطعام والحصول على الدفء،اي لانتاج وساءل معيشتهم،وما الادوات الا منتجات اجتماعية ينطوي صنعها واستعمالها على تعاون اجتماعي بين الافراد،وتؤدي بدورها الى انواع جديدة خاصة بالانسان من التنظيم والتطور الاجتماعيين.وفي هذا التعلم لاستعمال الادوات لانتاج وسائل المعيشة استطاع الانسان خلق الثقافة والمجتمعات البشرية.كما ان التفكير نشأ وتطور خلال نفس العملية.لقد اصبحنا نستعمل ادمغتنا للتفكير كجزء من نفس عملية التطور التي اصبحنا فيها نستعمل ايدينا لصنع الادوات. لقد عالج ماركس وانجلز الموضوع منذ زمن بعيد باستعمال كلمة(العمل)للاشارة الى الصناعة اليدوية واستعمال الادوات من قبل الانسان.مثال ذلك ان انجلز كتب في الفصل المعنون(دور العمل في تحويل القرد الى انسان)من كتابه(ديالكتيك الطبيعة)ما يلي: (ان العمل هو الشرط الاساسي الاولي لمجموع الكيان البشري،الى درجة اننا،وبمعنى من المعاني،يمكننا ان نقول بأن العمل هو الذي خلق الانسان نفسه)(34).ان هذا هو تكرار لما قاله ماركس وانجلز قبل ذلك في كتابهما المشترك(الآيديولوجيا الالمانية): (ان البشر .. يبدأون في تمييز انفسهم عن الحيوانات،حالما يبدأون في انتاج وسائل معيشتهم،وهي خطوة كان يقررها تركيبهم الجسمي،وبانتاج وسائل معيشتهم ينتج البشر بصورة غير مباشرة حياتهم المادية الفعلية)(35). ثم استمر انجلز في الاشارة الى ان العمل – اي صنع واستعمال الادوات اجتماعيا لانتاج وسائل المعيشة – هو الذي (وسع افق الانسان مع كل تقدم جديد.انه كان يكتشف على الدوام خصائص جديدة غير معروفة حتى ذلك الوقت للاشياء الطبيعية.ومن جهة اخرى ساعد تطور العمل بصورة حتمية على تقريب افراد المجتمع من بعضهم،بمضاعفة ظروف العون المتبادل والنشاط المشترك،وباظهار فائدة النشاط المذكور لجميع الافراد.وبالاختصار فان البشر الذين كانوا في حالة تكون،بلغوا نقطة اصبح من اللازم عليهم ان يقولوا شيئا ما لبعضهم البعض..ان هذا التفسير لنشوء اللغة من العمل ومن عملية العمل هو التفسير الوحيد الصحيح)(36).لهذا لاحظ ديوي نفسه بأن التطور(الطبيعي)للتفكير،لا يمكن فصله عن تطور اللغة كوسيلة للتفاهم.الا ان ما يتستر عليه هو ان(رحم)المجتمع البشري والثقافة،حسب تعبيره،ورحم اللغة والتفكير،يجب اكتشافه في حقيقة تعاون البشر لانتاج وسائل المعيشة بالعمل الاجتماعي وصنع واستعمال الادوات. ان ديوي يقول بأننا رفضنا اعتبار التفكير كشئ قائم(بذاته)،(فلا خيار لنا)غير اعتباره(استجابة لدافع خاص)،كنوع من السلوك يثار(عندما يصبح الموقف توتريا).الا ان هذا التعارض خاطئ.فنحن وان لم ننظر الى التفكير(كشئ قائم بذاته)لسنا ملزمين باعتباره(استجابة)لموقف ما مثير للصعوبات،ومهيئ لاتخاذ انواع السلوك الملائمة(للتغلب على الصعوبات).ان اعتبار التفكير(كاستجابة)لشروط معينة في المحيط،هو عجز عن ادراك جوهر التفكير كجزء من النشاط الانساني،لان البشر بسبب العمل الانساني لا يقتصرون على مجرد ردود الفعل لمحيط معين،بل انهم يغيرون المحيط عن وعي،وفي احوال كثيرة،ينتجون عن وعي محيطهم الخاص.وينشأ التفكير لا من مجرد الظروف الخارجية بوجود(عوامل غير قابلة للانسجام)تستلزم الاستجابة،بل لان العمل الانساني ونمو وتطور التنظيم الاجتماعي،تطرح على البشر مشاكل ذهنية،وهذا ما يقرر نشوء التفكير والاشكال التي يتخذها في تطوره.وعندما يعتبر ديوي التفكير كمجرد(استجابة)(لدوافع)ومؤثرات خاصة تنشأ عن المحيط،فانه ينكر الاساس المادي الحقيقي للتفكير،كما يفعل ذلك تماما(الرأي المثالي)الذي يهاجمه ديوي والذي يعتبر التفكير من عمل(العقل الذي تقتصر مهمته على المعرفة).
الفكر كانعكاس للواقع ب – ان ديوي باعتباره عمليات الفكر تحدث كمجرد استجابة(لدوافع خاصة)،ولتأدية مهمة تطوير نماذج السلوك الملائمة لمعالجة الدوافع المذكورة،ينكر بأن الفكر يعكس ويصور الحقيقة الخارجية.ان(طبيعيته)ترى في الفكر مجرد وسيلة لتطوير نوع من السلوك،نوع من(الاستجابة المتأخرة ولكنها اكثر ملائمة)للدافع الخاص. ان الكلام عن الافكار،حسب هذه النظرة،باعتبارها تقدم صورة عن الواقع،او الكلام عن انعكاس العالم في الفكر،هو سقوط في الخطأ(المثالي)الذي يعتبر الفكر(كشئ قائم في ذاته).ولكن الواقع،على العكس،هو ان هذه النظرة نفسها تتفق مع المثالية في انكار الصلة الحقيقية للفكر بالعالم المادي الموضوعي المنعكس في الفكر المذكور. ان الفكر المفاهيمي(اي عملية خلق المفاهيم – المعرب)ينشأ ويتطور على قاعدة الانتاج البشري الاجتماعي،وهذه الحقيقة تقرر طابع الفكر المفاهيمي،الذي لا يخدم فقط تطوير بعض نماذج السلوك،بل انه ليفعل ذلك باعادة تمثيل العالم الخارجي،اي الاشياء المادية(العلائق البشرية)في اقيسة مفاهيمية،اي بتطوير تمثيل نموذجي او مفاهيمي للحقيقة.ان ديوي يقول بأننا يجب ان نستبدل(الوعي)(بالسلوك)،واننا يجب ان لا نعتبر التفكير مطورا انعكاس العالم الموضوعي في الوعي البشري،بل مطورا فقط لنماذج سلوكية.على ان هذا يتناقض مع الحقيقة الاساسية في السلوك الاجتماعي البشري،اي مع عملية العمل التي تنطوي بطبيعتها على انتاج نوع معين من الوعي،اي تطوير انعكاس العالم في اقيسة الفكر. ان الطابع الواعي لعملية العمل،قد اكد عليه ماركس في العبارة الآتية التي كثيرا ما اقتبست من(الرأسمال): (نحن نفترض العمل بشكل يضفي عليه طابعا انسانيا صرفا.ان الخفاش يقوم بعمليات تشبه عمل الحائك،كما ان النحلة تخجل الكثير من المهندسين في دقة بناء خلاياها،الا ان ما يميز اسوأ المهندسين عن اسوأ النحل،هو ان المهندس يتصور بناءه في خياله قبل ان يرفعه في عالم الواقع.وفي نهاية كل عملية عمل،نحصل على نتيجة سبق وان تمثلها خيال العامل في بداية العملية)(37).ان عملية العمل تتضمن انتاج الافكار التي تعكس الاشياء والعمليات التطورية التي يعالجها الناس في نشاطهم الانتاجي الاجتماعي،والنتائج التي يقصدون اليها والعلائق التي يدخلون فيها مع بعضهم البعض في عملية الانتاج. ان هذا لا يعني بأن الناس وهبوا(بشكل معجز)(كما يعبر ديوي)وعيا يمثل شيئا ما (بحد ذاته).ان الوعي المفاهيمي ينشأ بصورة (طبيعية)من النشاط الاجتماعي لعضويات حية كالبشر مجهزين بأدمغة وايدي،ومتعاونين سوية في استعمال الادوات لانتاج وسائل معيشتهم.ومن استعمال الايدي في الانتاج الاجتماعي،طور دماغ الانسان ما سماه بافلوف(بنظام اللغة القائم على الاشارات)والذي يستطيع فيه الانسان بممارسة ليس فقط العلم بالاشياء وبعلائقها بواسطة الحواس،كسائر الحيوانات الاخرى،بل تطوير مفاهيم معينة عن الاشياء والعمليات التطورية(خواصها وعلائقها ببعضها)التي يعنى بها الانسان في مختلف نشاطاته العملية.وهنا يبدأ تطوير المفاهيم والتصوير المفاهيمي للعالم.ان البشر يبدأون في التفكير.وتفكيرهم لا يمثل بالمرة مجرد آلية لتطوير الاستجابات المتأخرة والاكثر ملائمة للدوافع الخاصة،بل هو يمثل نوعا من الوعي للعلائق المعقدة بين الانسان والعالم الخارجي – يمثل انعكاسا او اعادة تصوير او تمثيلا للعالم تقوم به الادمغة العاملة تحت ظروف الانتاج البشري الاجتماعي.ان الناس لا يخترعون الافكار بمجرد الاستجابة لسلسلة من الدوافع الخاصة الناشئة عن الظروف الخارجية.ان التفكير المفاهيمي له جذوره في العمل الاجتماعي،وان صياغة المفاهيم هي بدورها مشروطة ومحددة بمجموع العلائق الاجتماعية التي يدخل فيها البشر فيما بينهم في عملية الانتاج.وهكذا تتكون ليس بضعة مفاهيم منعزلة عن هذا الشئ او ذاك،بل طرائق للتفكير ونظم للافكار،اي آيديولوجيات تتفق مع المراحل المختلفة لتطور علائق الانتاج في المجتمع،والتي تمثل طرق انعكاس العالم المادي في تفكير البشر الذين يتصرفون بقوى انتاج معينة،والذين يدخلون فيما بينهم في علائق انتاج اجتماعية معينة. ان قوانين انتاج وتطور الوعي الاجتماعي معقدة غاية التعقيد.الا ان كامل العملية المذكورة لها اساسها المادي المذكور،واذا نظرت كمجموع،من وجهة نظر الفرد المفكر،ومن وجهة نظر انتاج الافكار والآيديولوجيات فانها تتميز بالطابع الاساسي وهي كونها،(حسب عبارة اخرى يجدر بنا اعادتها هنا من ماركس): (العالم المادي منعكسا في الفكر البشري ومترجما في اشكال التفكير)(38). وعليه فان نظرة ديوي(الطبيعية)،التي تبدأ تحت ستار المهاجمة(العلمية)للآراء المثالية عن التفكير،ما هي في الجوهر الا اعادة للنظرة المثالية التي تنكر ان الفكر يعكس العالم المادي الموجود بصورة مستقلة عن اي فكر كان.ان ديوي اذ يبدأ بانكار كون الفكر هو(شئ في ذاته)،ويعتبره(استجابة لدافع خاص)،يستمر في اعتبار الفكر(كشئ في ذاته)طالما انه يفكر ان افكار الانسان هي انعكاس للعالم الموضوعي ولظروف الحياة المادية الحقيقية للانسان.
الهوامش
(25) جون ديوي: (مقالات في المنطق التجريبي)،ص 93. (26) نفس المرجع،ص 221. (27) نفس المرجع،ص 227. (28) نفس المرجع،ص 10 - 11. (29) نفس المرجع،ص 23. (30) نفس المرجع،ص 73. (31) نفس المرجع، الفصل الثامن. (32) جون ديوي: (المنطق)،ص 25. (33) نفس المرجع،ص 45. (34) انجلز: (دور العمل في تحويل القرد الى انسان). (35) ماركس وانجلز: (الآيديولوجيا الالمانية). (36) انجلز: (دور العمل في تحويل القرد الى انسان). (37) ماركس: (الرأسمال)- الجزء الاول،القسم الثالث،الفصل السابع،المقطع الاول،بالانكليزية. (38) ماركس: (الرأسمال) ،مقدمة الطبعة الثانية،بالانكليزية.
#سلام_ابراهيم_عطوف_كبة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
-موريس كورنفورث والبراغماتية والفلسفة العلمية- (2-7)
-
-موريس كورنفورث والبراغماتية والفلسفة العلمية- (1-7)
-
اختطاف افراح شوقي يرفع الى الواجهة ملف جرائم الميليشيات وافع
...
-
قانون الحشد الشعبي والميليشيات
-
الشبيبة الديمقراطية العراقية وذكرى ميلاد اتحادها المجيد
-
الحط من القيمة التاريخية لثورة 14 تموز في العراق - تعقيبا عل
...
-
ديناميكا الفوضى في الطبيعة والمجتمع والنموذج العراقي
-
وطنيون ام همج ورعاع؟!
-
متى كانت مسابقات ملكات الجمال فعالية ماسونية ؟!
-
العدالة الاجتماعية – المفهوم والكوابح والمعالجات/العراق نموذ
...
-
العدالة الاجتماعية – المفهوم والكوابح والمعالجات/العراق نموذ
...
-
العدالة الاجتماعية – المفهوم والكوابح والمعالجات/العراق نموذ
...
-
العدالة الاجتماعية – المفهوم والكوابح والمعالجات/العراق نموذ
...
-
داعشيات ما قبل الداعشية
-
عقد كامل على رحيل عالم اقتصادي متميز- 24 والأخير
-
عقد كامل على رحيل عالم اقتصادي متميز- 23
-
عقد كامل على رحيل عالم اقتصادي متميز- 22
-
عقد كامل على رحيل عالم اقتصادي متميز- 21
-
عقد كامل على رحيل عالم اقتصادي متميز- 20
-
عقد كامل على رحيل عالم اقتصادي متميز- 19
المزيد.....
-
الأنشطة الموازية للخطة التعليمية.. أي مهارات يكتسبها التلامي
...
-
-من سيناديني ماما الآن؟-.. أم فلسطينية تودّع أطفالها الثلاثة
...
-
اختبار سمع عن بُعد للمقيمين في الأراضي الفلسطينية
-
تجدد الغارات على الضاحية الجنوبية لبيروت، ومقتل إسرائيلي بعد
...
-
صواريخ بعيدة المدى.. تصعيد جديد في الحرب الروسية الأوكرانية
...
-
الدفاع المدني بغزة: 412 من عناصرنا بين قتيل ومصاب ومعتقل وتد
...
-
هجوم إسرائيلي على مصر بسبب الحوثيين
-
الدفاع الصينية: على واشنطن الإسراع في تصحيح أخطائها
-
إدارة بايدن -تشطب- ديونا مستحقة على كييف.. وترسل لها ألغاما
...
-
كيف تعرف ما إذا كنت مراقبًا من خلال كاميرا هاتفك؟
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|