|
هل ينتهي إيماننا بالدين؟ ح2
عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني
(Abbas Ali Al Ali)
الحوار المتمدن-العدد: 6651 - 2020 / 8 / 19 - 16:08
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
علينا إذا تحديد مفهوم فريد حقيقي للإنسان وبعدها نعود للربط بينه وبين العقل لمعرفة معنى الإنسان العاقل، ونعود إلى مضمار الفلسفة لنبحث عن أخر التصورات المعرفية عن الإنسان ولا بد لنا من الوقوف على أحد أهم أبرز النظريات التي فصلت بين الإنسان والعقل على ما أعتبر سابقا أن الإنسان كائن حيواني عاقل، فحسب نيتشه الذي يرى في العقل مجرد غريزة طبيعية فطرية وتكوينه عند الإنسان يستخدمها كبقية الغرائز الأخرى ليضمن البقاء بالشكل الذي يتناسب مع مقدا تسخيره لهذه الغريزة 1، وبالتالي فالغرائز هي جزء من تكوين الكائن الحي بما فيه النبات، وهذا ما يخرج العقل من قدرته على تفريد الإنسان وتميزه الوجودي ككائن خاص. الفلسفة الوجودية وخاصة عند هايدجر تذهب أبعد من كون الإنسان كائن له تميز منفرد ضمن مجموعة أو تحت معيار خاص، وأنه لا يجوز اعتباره جزءاً من فئة، وأنه لا أحد يحل محله، وأن لكل إنسان موقف وجودي خاص به، ويقوم مبدأ الوجودية على أن الإنسان له وجود قائم بحد ذاته وهو متفرد برأيه وغير موجه من أحد ويتحمل مسؤولية وجوده، فهايدجر يرى أن الإنسان هو الكائن الذي يحاصره الموت ويشغله القلق منه ويجربه، أما سارتر فيرى فيه ذلك الكائن الذي لا يعرف الراحة ويحيا بمعارضة ذاته، فالفلسفة الوجودية قائمة على كون الإنسان كائن قلق وممزق لأنه يشعر بالمسئولية وبالتالي فهو المسؤول عن وضع كل القيم والمفاهيم بما فيها الأخلاقية والروحية ثم يلتزم بها لمكافحة قلقه وتمزقه الذاتي نتيجة غربته في الوجود2. في النظريتين الاقتصاديتين وفلسفتهما عن الإنسان (الشيوعية والرأسمالية) بالرغم التفاوت الفكري والمعرفي بينهما، فإنهما يتفقان على محدد واحد يكشف عن ماهية الإنسان كونه عنصر في الحركة الوجودية وخادم للمصلحة فيها، فالشيوعية ترى فيه جزء من المادة الخالقة للوجود وعليه أن يتسق مع قانونها ليحافظ على بقاء المادة وتطورها، فهو بالنتيجة جزء من منظومة الحفاظ على العالم المادي وقوانينه وليس منفردا عنها أو له وجود أخر ينبع لا من كونه عاقل فقط أو حتى كونه يحمل أمل بأن يكون سيدا لهذا العالم من خلال قدرته على التميز عنه، أما الرأسمالية فترى فيه كائن مادي مصلحي يبحث عن غاياته ومصالحه بعيدا عن أي أعتبار، فهو ضمن كم هائل يتصارع على المصالح لذا فهو في خوف دائم من تضرر هذه المصالح مما يجعله يستخدم خوفه هذا للدفاع عن مصلحته من خلال قوته الذاتية، وحينما يفقد قوته يكون قد وصل مرحلة النهاية وعليه التنحي من الوجود 3. مع كل الفلسفات والنظريات لو عدنا فيها للمبدأ الأساسي في التقييم والمعيارية نجدها أيضا تشرك الإنسان مع غيره في الأساس المعياري فالوجودية التي تركز على القلق غير قادرة بمفردها أن تمنح الإنسان ميزة فريدة، فالحيوان بطبيعته ككل كائن قلق وحذر وخائف ومترقب، لذا فهو يستخدم هذه الملكات ليبقى حيا، ونادرا ما نجد أن هناك حيوان لا يتمتع بالقلق ولا يعرف الخوف والحذر وبالتالي فهو يشعر بمسئوليته الذاتية عن حياته، وخوفه وقلقه الدائم هو ترجمة لهذه المسئولية وتجسيدا لها، أما عن المفاهيم الأخرى التي جاءت بها الرأسمالية والشيوعية فهي تنبع من تأمل عقلي قد لا يكون بالضرورة حقيقي فكون الإنسان كائن مادي يخدم وجوده أما بطريق الحفاظ على مادية الوجود أو من خلال دفاعه عن مصلحته بعيدا عن القيم الأخلاقية والأعتبارية فهو مفهوم تشترك به المجموعة الحيوانية أيضا إذا ما جردناها من قيمها الخاصة وقد تكون أرقى من هذا في تعاملها مع وجودها، فهي بوجودها تحافظ على التوازن النوعي والكمي في الوجود وإن كان من غير إرادة، لكنها تخضع في ذلك لمبدأ التكيف والتكوين الأول4 . إذا كيف لنا أن نحدد معنى للإنسان طالما أن كل المعايير والقياسات والأعتبارات المتقدمة لا تشكل تحديدا قاطعا له دون أن تشترك معه بقية المكونات الكونية الوجودية كلها أو جزء غالب منها، سؤال في قلب سؤال وعلينا الإجابة فالتهوين والتقليل من أراء الأخرين لا يعني أننا غير معنيين بالبديل المناسب حتى لو كان فيه موضع للنقاش أو الأعتراض، فلو رجعنا مثلا للتحديد الوجودي الذي ينصب ويركز على القلق والتمزق والخوف هو الأساس في تفرد الإنسان، وقد قلنا في الرد عليه أن ذلك مشترك شعوري مع جملة كبيرة من الكائنات الحيوانية التي تخاف وتقلق وتحذر من أعدائها أو حتى من تعامل الطبيعة معها، لكن الفرق بين هذا الخوف والقلق البشري أنه في المجموعة الحيوانية لا يدفها للتأمل ومحاولة كسر حاجز الخوف والقلق الدائم، فهي تنتهي به حين تأمن وتلغي هذا الشعور، أما الإنسان فلا يقف عند هذه الحالة في يبحث عن عدم تكرار حالتي الخوف والقلق محاولا إيجاد حصانة أو جدار صد لهما. هذه الميزة الأخيرة هي التي تفرق بين الإنسان والكائنات الأخرى فنقول عنه تعريفا (إنه الكائن الذي يعيش الخوف والقلق ولا يستسلم لهما محاولا ليس فقط الدفاع عنه نفسه في حالة الوقوع بهما، بل يحاول أن ينشئ له نظام صد وأعتصام ضدهما ليعيش مستقبلا بلا خوف ولا قلق)، فهو إذا مبدع لطريقة التحصين أي أنه كائن يسعى للتحصين من خلال أدواته المعرفية التي تبدأ من الحواس وتنتهي بالعقل مع الإقرار بأن هذه المفردات (حواس وعقل) هما جزء من غرائز تكوينية بدية وحتمية تلحقه من التكوين ومن أول الصيرورة الإنسانية، فمثلا حاسة التذوق أو اشم لا تنشأ هكذا مع الولادة لأنه لا يعرف التعبير عنها إلا من خلال التطور المعرفي الذي يمر به عبر التجربة، والعقل أيضا لا يمكن التعبير به ما لم يتطور مع المعرفة والتجربة الحسية، فكلاهما الحواس والغرائز والعقل يمرون بنفس مراحل التطور وإن بنسب متفاوتة حتى الأكتمال النسبي لكل منهما حسب التطور الصحي والفسيولوجي للإنسان. فالتطور في أساليب التحصين عند الإنسان غير محصورة في الحفاظ على الوجود الذاتي كما عند الحيوان مثلا، ولكنها عملية مستمرة تستخدم كل وسائل الأكتشاف والملاحظة والأستنتاج والتأمل من خلال مجموعة الغرائز كلها لتنتهي في نتيجة ما تلبثت أنها لا تكتسب حدا نهائيا يقضي على القلق والخوف فيعيد الكرة مرة أخرى وهكذا يتطور، فالتعريف النهائي للإنسان هو (الكائن الذي يطور بالأكتشاف المتجدد محاولاته للسيطرة على الخوف والقلق دون توقف ولن يتوقف عند حد لأن عوامل الخوف والقلق تتطور أيضا مع وجوده نتيجة التجربة من الحلول السابقة). يبقى موضوع المعالجة وكيفية تجسيد هذا الصد والسيطرة عليه هو محور البحث أخيرا وهو جوهر ردي على الصديق الذي ذكرته في البداية، كل علماء النفس ودارسي سلوك الإنسان ومنظري تاريخ البشر كونه كائن موجود خائف وقلق، يؤكدون على فرضية واحدة وهي (أن الإنسان في محاولاته الأولى لهذا المشروع "الصد والسيطرة" كان يلجأ إلى المجهول الغائب ليتقرب منه ويستعطفه محاولا دفع أذاه ومبررات الخوف والقلق من خلال الإذعان لتصوراته عنه، أي أن أول وأخر محاولاته هي طاعة هذه القوة الخفية والغائبة لعلها ترضى بأي وسيله يمكن أن يعبر عنها لتسكين غضبها أو محاولة تهدئة ذلك. فكانت العبادة أول تلك الخطوات بما يعني تلك القواعد التي تصورها مرضية وكافية للقبول حتى ترضى، عندما أستيقن جزئيا بأن هناك أستجابة من تلك القوة دان بها وحاول تطويرها وتجسيدها بشكل متكرر حتى لا يقع في الخوف والقلق، وكلما ظهر ما يدعو لهما أبتكر شيئا جيدا متطورا حتى أكتملت عنده منظومة الدين والتدين. هنا نؤكد ومن خلال النظرة التاريخية والعلمية ومن الطبيعة البشرية التي نعيشها الآن وفي الماضي ولا نتخلى عنها في المستقبل، أن الدين هو المسيطر والصاد الذي يمنع بتفسيراته وتبريراته من الوقوع بالخوف والقلق الطبيعي، وليس الخوف الطارئ الذي تسببه الحوادث العابرة أو الطارئة المؤقتة، إذا يمكننا القول في نهاية تعريفنا للإنسان هو (ذلك الكائن القلق والخائف الذي يكافح قلقه وخوفه بالتدين)، بمعنى أقصر وأجمل وأشمل إن الإنسان هو (الكائن المتدين بطبعه) دون أن يجبر على ذلك أو يتعلمه بطريق خارجي كما عند الجن مثلا لأنهما الكائنان الذي يتعبدان بحسب الفهم الديني، وأن الأخير قد تعلم الدين من مصدر خارجي وليس من بواعث طبيعية فيه كما أنهما لا يخافان ولا يقلقان5 .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1. فقد رأى نيتشه أن العقل هو غريزة كالغرائز الأخرى التي من شأنها أن تُبقي الإنسان على قيد الحياة، وهذه هي وظيفته فقط لا غير، وتم اعتبار الأبعاد الغريزية المكون الأساسي والمركزي للذات الإنسانية، وأن ما حصل في الثقافة الإنسانية من اضطرابات يرجع إلى تبديل وظيفة العقل، وتحميله مسؤولية كبيرة مثل الحقيقة والأخلاق، وهذا ما جاء في كتابه العلم المرح، كما أنه قلل من القيم الأخلاقية التي يتسم بها العقل مثل الرحمة والتسامح، ووصفها في بحثه الذي حمل عنوان (جنيالوجيا الأخلاق) على أنها أخلاق ضعف وعبودية ولا تدل على القوة والسيادة. الإنسان بوصفه حيوانا!", http://www.aljazeera.net, 2.محمد عطا أبو سمعان، منزلة الإنسان ووجوده في المذاهب الفكرية المعاصرة دراسة نقدية في ضوء الإسلام، (أطروحة ماجستير). الجامعة الإسلامية, فلسطين (قطاع غزة) 2011. 3.محمد عطا أبو سمعان مصدر سابق. 4. من المعروف بأنّ العلاقة تكامليّة بين جميع العناصر البيئيّة المكونة لهذه المعمورة، حيث تشمل هذه العناصر أشعة الشمس، والنباتات بأشكالها وألوانها وأنواعها المتعددة، والحيوانات بأنواعها، والإنسان، بالإضافة إلى بعض مكونات الغلاف الجوي، وللحفاظ على التوازن البيئيّ لا بدّ من استمرار حدوث الدورات الحياتية الطبيعية لمختلف العناصر البيئيّة بشكلٍ طبيعي، وللمحافظة على توازن النظام البيئيّ يجب المحافظة على العلاقة الطبيعيّة بين مكوّنات وعناصر النظام البيئيّ من خلال التفاعل المنظّم لكلّ من هذه العناصر.[ Andrea Becker (23/4/2018), "Four Basic Components of an Ecosystem" sciencing.com, Retrieved 13/7/2018. Edited. 5. بسم الله الرحمن الرحيم (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا* يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا* وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا* وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا* وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن تَقُولَ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا* وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا* وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا).
#عباس_علي_العلي (هاشتاغ)
Abbas_Ali_Al_Ali#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هل ينتهي إيماننا بالدين؟ ح1
-
اصل الدين ح 2
-
أصل الدين ح1
-
ختام الرسل أم ختام الأنبياء؟
-
جدوى الأطروحة
-
النظرية المستحيلة
-
دين بلا عذاب
-
لماذا خلق الله آدم؟
-
الإنسان بين الملائكة والشياطين
-
السؤال الأول
-
الأل والألية في النص الديني
-
عقدة الزوجة في قصص الأنبياء
-
السادية السلطوية والمجتمع البدائي
-
كوميديا الديانات
-
سيكولوجيا النبي
-
في البدء كانت الخطيئة
-
أسرار الاديان
-
غزاة الدين والعلم والفضيلة
-
العرب والعراق مصير مشكوك فيه وأداء متناقض
-
قراءة في نتائج التشريح الاجتماعي للشخصية العراقية ح20
المزيد.....
-
المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية: مذكرة اعتقال نتنياهو بارقة
...
-
ثبتها الآن.. تردد قناة طيور الجنة الجديد 2025 علي كافة الأقم
...
-
عبد الإله بنكيران: الحركة الإسلامية تطلب مُلْكَ أبيها!
-
المقاومة الإسلامية العراقية تهاجم هدفا حيويا في جنوب الأراضي
...
-
المقاومة الإسلامية العراقية تهاجم هدفا حيويا في جنوب الاراضي
...
-
المقاومة الاسلامية العراقية تهاجم هدفا حيويا في جنوب الاراضي
...
-
ماذا نعرف عن الحاخام اليهودي الذي عُثر على جثته في الإمارات
...
-
الاتحاد المسيحي الديمقراطي: لن نؤيد القرار حول تقديم صواريخ
...
-
بن كيران: دور الإسلاميين ليس طلب السلطة وطوفان الأقصى هدية م
...
-
مواقفه من الإسلام تثير الجدل.. من هو مسؤول مكافحة الإرهاب بإ
...
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|