|
مقولة الأم .. نحو تحديدٍ فلسفي
سامي عبد العال
الحوار المتمدن-العدد: 6651 - 2020 / 8 / 19 - 00:47
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
" الأم هي الحياة حين يختفي كلُّ شيء.." " كانت الفلسفةُ أُمّاً للعلوم ورغم ذلك تجاهلت وضع الأم كسؤالٍّ بلا إجابةٍ"
ماذا لو طرحنا سؤال الأم بصراحةٍ فلسفيةٍ؟ هل تكشف الأم عن شيء جديد للتفلسف؟ كيف يتم التفكير فيها وما أهم القضايا التي تفرزها؟.. لم يناقش الفلاسفة " مقولة الأم" بشكلٍّ بارزٍ رغم الاهتمام الفلسفي بقضايا أخرى. وهذا الغياب يفسر غَمْط مكانة المرأة كقضية فلسفية جديرة بالمناقشة والحوار. ربما لكونِّ الأم علامة استفهامٍ أكثر من كونِّها موضوعاً. وربما لأنَّها ذات حضور بدهي يسكننا من الداخل دون تفكير فيه. ورغم أنَّ البداهة تلقائية ولا تحتاج تأملاً معقداً، إلاَّ أنَّ تسليماً بحضورها الحميم لا يخلوا من دلالة فلسفية عميقةٍ.
ولماذا نذهب بعيداً، فلم يكن ليوجد أي فيلسوف دون أمٍ بطبيعة الحال، لكن الأكثر أهمية أن وجودها في أفكاره لا تخطئه العين. وكم شكلت الخلفية الإنسانية والكونية من واقع التربية والمجتمع، لأنَّ لحظات تربية الابن لا تفصل الثقافة عن الأم الرؤوم التي توفر رحماً رمزياً لتكوينه وانضاج توجهاته. فلئن تخلَّق الابن جنيناً داخل رحم بيولوجي حمله شُهوراً، فقد نزل إلى حاضنة عامة لا يجانب تأثيرها العميق عليه. كما هو الحال لدى إيمانويل كانط عندما تأثر بأمه ريجينا رويتر(1697-1737) تأثراً كبيراً، ولا سيما من جهة نزعتها اللاهوتية التقوية Pietism التي عايشها منذ الطفولة.
التقوية حركة بروتستانتية تؤكد على الورع والزهد والبساطة وقبول المرء لحاله في الحياة. وفي الوقت نفسه عدم الاكتراث بالطقوس والشعائر وعدم التعصب لها والتواضع مع الناس. مما أورث كانط مقتاً لشكليات السلوك والمعتقدات. لدرجة أنَّه امتنع - حينما نضجَ شاباً- عن حضور الصلوات العامة في الكنيسة. حيث اعتبرها تُرسخ التدين المزيف في حضور الناس. وأنَّ هناك شيئاً أعمق من ذلك ليس أقله من أن يتدين الشخص بأخلاق كونيه لا تميز بين فردٍ وآخر. هذا الخيط الذي ظل ممتداً في كتابات كانط وصولاً إلى جميع أفكاره التالية.
من ثمَّ ظل كانط يبغضُ غلبة الجانب الديني الظاهري على الجانب العقلي في تعليمه. فهو يكره التعليم بأساليب الجدل الذى لا يتوقف، والمراسم الشكلية، والساعات الطوال في تعليم الشعائر والطقوس المتصلة بها. لدرجة أنه مال إلى التأمل العميق وأن يعيش كونياً أكثر من وجوده في سياق ما. وبهذا دفعته أمه مبكراً لطرح أسئلة حول الاخلاق والمسؤولية والتعقل الحر. لأنَّ الأخلاق هي الصدى البعيد للشعور الأمومي في شخصيتنا الإنسانية. وهي ما أولاها كانط جُلَّ اهتمامه في شكل الواجب المبذول لأي إنسان مهما يكُّن. فالواجب هنا- من جهة كليته وبذله- به جانب أمومي لا يخفى على القارئ .
من غير ألقاب أو مساحيق تأتي الأم ُكياناً مكتملاً. هي لا تنتظر شيئاً من أحدٍ لا خاصاً ولا عاماً. كلُّ إنسانٍ ليست له إلاَّ أمُ واحدةٌ فقط هي التي يعرفها وتملأ عليه حياته. بينما قد يكون له أكثر من أبٍ. حيث يقوم النظام الاجتماعي بتلك المهمة لو غاب الأب المادي. فهنالك الأب البيولوجي( الوالد) والأب الروحي( القدوة) والأب المهني( المعلم) والأب العلمي( الاستاذ) والأب بالمصاهرة( الحمى). وحتى كلمة الأم تصبح مشوشة إذا أُضيفت إليها كلمات أو عبارات سواها. لأنَّ الأم كمعنى دوماً فائقة الوصف ineffable، خارج المقارنة، بعيدة عن التماثل. كما لو كانت كياناً روحياً يصعب على اللغة احتواءه والإحاطة به . وإذا حملت كلمة الأم بعض السمات أيا كانت، فليس أقل من مضمونها الإنساني وحسب.
طبيعة الأم دلالياً تنتمي إلى مستوى آخر من التعبير. ليس هو الكلام الاعتيادي إنما أشبه بنص كوني حياتي. إذ تفتح قوس التطلع نحو آفاق الماضي والمستقبل إلى أقصى إمكانية. لأنَّها تمثل الحنين إلى "الرحم البدئي" لكياننا الجنيني الأول. كذلك تمثل اللقاء الدائم بالسكينة طوال الزمن الآتي. فالعودة هنا تأتي من القادم وإليه وليس إلى الماضي فقط على ما تدل كلمة العودة. فدلالتها ليست مجرد لغة أو اشتقاق ألفاظ، إنما تثير العواطف الحانية ومشاعر الانتماء إلى جذورٍ عميقةٍ ما.
إنَّ صرخة الطفل خروجاً من الرحم هي شق الوجود نحو الحياة. ولكنها بمثابة الصرخة المعبرة عن أمانٍ ما كان ليدركُه حتى يفقده إجمالاً. وإذا كان الإنسانُ قد خرج من "رحم بيولوجي" إلى "رحم ثقافي" مثلما نوهت، فالأخير يقوم على الصراع والعنف. بينما الرحم الأمومي هو الملاذ الأول، الحنين، الحلم، الذاكرة الحميمة، الماضي السعيد، الجنة الموعودة. ولذلك يوجد في الرحم الأمومي شيءٌ من الحياة الأبدية التي يتطلع إليها الإنسان في شكل يوتوبيا مؤجلَّة. قد تكون علاقةً مع معشوقة يراها على صورة أمه أو تتسع لتشمل مدينة فاضلة يعيش فيها الحملان بجوار الذئاب ولا خوف. وقد تبدو على صورة الجنة التي ينعم الإنسان فيها بكل الملذات المنتظرة.
الرحم الأمومي هو تجرية الحياة الأصلية. فهذا التكوين الجنيني له علاقة بالنوم الهانئ السعيد، كنوع من التوحد الكامل مع مصدر الاشباع المتواصل لدى الإنسان. حيث كان يغتذي الطفل من الحبل السري دونما عناء. وحيث لن يجد مكاناً سواه يحمله برعاية مطلقة. وهو المدد الذي سيطلبه تباعاً من الإله والقوى فوق الطبيعية. إذ هناك خلال بعض الحضارات القديمة، وجدت عمليات دفن كانت تتم بتكوير جسد الميت على هيئة الأجنة البشرية. في دلالة بكون الارض يجب (أو هكذا أمل) أن تكون أماً حانية على ابنها الميت، وقد تكون إشارة إلى كونه سيخرج إلى حياة أخرى كما تخرج الفسائل من جوف الأرض.
وهذه إجمالاً دلالة تُماثل وضعيةَ التكوين في الرحم الأول. على أساس أنَّ الإنسان القديم – في مجتمعات الهلال الخصيب( دجلة والفرات وسواحل بلاد الشام) - لدية ميل لاعتبار الدفن أشبه بوضع الإنسان في الارحام البيولوجية. وبذات الوقت سيتم ذلك عند الوفاة بأمل خروج الأموات من الأرض مثلما خرجوا من الرحم الأنثوي. وهو ما يُناظر أيضاً بين الأرض وبين الأم على امتداد المعنى. فالاثنتان تعودان إلى الطبيعة في كمونها الخلاق والمبدع. كما أنَّ مدار العودة يجري بأمل الانبات مرة ثانيةً كما تنبت الأشجار والأزهار. وهذا التصور كان لدى أغلب الحضارات التي تعتقد بالحياة الأخرى بعد الموت. وربما تعلَّم الإنسانُ منه الزراعة والبذر والفلاحة. فالبذور أجنة الأرض التي تنبت من التربة نباتات وارفة الظلال.
والرحم من هنا يشكل جميع مستويات الحياة. وصحيح يخرج الانسانُ مقذوفاً منه إلى الواقع المعيش، لكنه يعتبر نموذجاً يتبلور داخله العالم والكون. فلو تصورنا الأشياء موجودةً عبر رحم كوني، كبير لكانت تعدُ بالمزيد من الامكانيات. فكلَّ جديد يأتي من رحمٍ ما، من مخاضٍ ما في وجوده الإنساني الكوني.
وحدها الأم تنفرد بالمخاض دون سواها وكأنَّها تنفرد بسمة الخلق الأساسي للكون. لأنَّها لا تُسمى بهذا الاسم إلاَّ من خلال تلك العملية العصيبة، إنها نقطة انطلاق لميلاد مختلفٍ. نقطة بداية لتفتح الكائنات البشرية. ولهذا ارتبطت الأم بالمجتمع ارتباطاً وثيقاً لأن المخاض يضعها في أولوية العلاقات الاجتماعية. هناك احتفاء كبير بالأم بدءاً من الزواج والجنس والحمل والولادة وليس انتهاء بالتربية والمستقبل. هذا على الرغم من المكانة المتدنية للمرأة في المجتمعات على اختلافها. فهي المنسية دوماً وسط صخب الأحداث والمطروحة كمقابل صفري في أية معادلة تجمعها بالآخرين.
وفي المرحلة المبكرة- مرحلة المرآة mirror stage عند جاك لاكان - مع انقذاف الطفل يشعر بالاغتراب معوضاً ذلك برحم الأوهام البديلة. فلكي يعوض احساسه بالتشظي والتفكك يعتني بصورته في المرآة. حيث يتماهى مع كيانها المتخيل. فهي تشكل له قوس الوحدة الجسدية المتكاملة مما يعطيه احساساً بالكمال والنرجسية. ونتيجة شعوره الدائم بفقدان الكيان المتماسك، يجعل الصورة نموذجاً مثالياً ساعياً للتماهي معها. مما يحدد أبعاد الهوية والآخر وعلاقاته بالغير، لأن انفصالاً عن الأم يجر معه اغتراباً عن الأصل.
وذلك يتحول الانفصال من مجرد علاقة أولية إلى هوة سحيقة بين الطفل وصورة ذاته. وتوطئةً للإلتحام الرمزي بكيان المجتمع سيظل الانفصام مصاحباً لعلاقاته المستقبلية. حيث سيسعي للانخراط في نظام أكثر شمولاً وتنوعاً. وهو نظام اللغة إذ تتكون لديه أخيلة وأبنية وهمية تجاه الأشياء والواقع الحقيقي. وتبقى اللغة موطناً لكل التداعيات الناتجة عن هذه العملية.
ومع تشكل صورة الإنسان لا تكتمل إلاَّ في وجود الآخر. لكنه اكتمال نحو النقصان الجذري القابع فيها. وبذلك يستحيل للطفل أنْ يعود إلى أناه الكامل، لأنَّ الآخر يخترقه تماماً. ومن هنا يعتبر الطفل الصور دلالات للأنا المفقود. وعليه يدخل الأنا في كافة الأنشطة والعلاقات لردم الهوة دون جدوى. إنَّ سعياً إلى بناء عام لصورة الجسد ربما من بقايا الرحم الأمومي، لأنَّ الموروث البيولوجي يصطدم في الغالب بالموروثات الثقافية.
من جانب أوسع ترجع أهمية الأم إلى راسب الالوهية الكامن في الأمومة. لقد كانت الأم إلهاً ووطناً ووجوداً وحباً مفقوداً. ومن جذوتها الإنسانية كانت هناك ربات الفنون والجمال والأشعار والأمثال. الأنوثة أصل الطبيعة إدهاشاً بالجديد والمثير والطريف والخصيب والمتناسل. ومازالت بعض جذور المجتمعات تنتسب إلى الأم. حيث تبجل الثقافة الجارية الأمومة فوق مما يُتوقع. وتصبح الأم نبعاً ثقافياً صافياً إليه يرجع الفضلُّ في تماسك الأفراد وعلاقاتهم الاجتماعية.
في صورتها الحية، تشكل الأم كتلة من الأعصاب النابضة بالمشاعر. ليس لها أن تتحدد بل هي في سرها مأخوذة بالعطاء المطلق. يشير أحد الأمثلة الانجليزية: لا تقول الأم هل تريد: بل تعطي!! هي معجونة بالعطاء دونما انتظار. لأنها كائن ليس لنفسه على الخصوص بل لغيره على العموم. وتبدو كما لو كانت " ربة العطاء" هكذا دون أي شيء آخر. إنَّ أماً - سواء لديها أطفالٌّ أم لا- تهب الحياة لسواها بلا حدود. ولو تصورنا الحياة نتاجاً انسانياً، فالأم مركزها الحيوي.
يؤكد كانط المشار إليه سلفاً ضمن رسالته (تأملات في التربية): أنَّ الإنسان بخلاف الحيوانات له إمكانية أن يتكون من هذا المنظور الوالدي. باعتباره المخلوق الوحيد القابل للرعاية والتعهد والتعليم المرتبط بالتكوين bildung. ومن تلك الزاوية يكون: رضيعاً، تلميذا، طالباً.... وفي إطار الانضباط يتحول الإنسان من حالة الطبيعة إلى جانب الانسانية. لأنَّه يخضع في سن مبكرة إلى القوانين داخل الاسرة. ولا يصير كذلك إلاَّ بالتربية. فهو ليس سوى ما تصنع به التربية. والتربية حين تكون سليمة تمثل الينبوع الخالص الذي ينبثق منه كل خير في هذا العالم .
ربما العطاء الأمومي أصدق أنواع العطاء، لأنه يجري دون مقابل وحتى من غير انتظار الاعتراف به. وأي عطاء لا يخضع لهذين( المقابل والانتظار) يصبح مطلقاً. فالثقافة تتسع إلى دلالتها، لأن الثقافة قد تغدو أُماً رمزية هي الأخرى. وبالتالي يحق التساؤل إلى أي مدى تحاكي ثقافة الفرد ثقافة الانسانية عبر اجيالها المختلفة؟ يرى كانط أنه بفضل العطاء الأمومي يكون الطفل صافي القلب وتكون نظراته مشرقة كالشمس. وذلك وعد منذ الطفولة لأن تكون إنسانيتنا على قدر التوقعات المأمولة.
1- عطاء الأم متاحٌ في أي وقت شاء الإنسان. فالأبناء لم يقدموا للأم شيئاً بينما هي تمنحهم الوجود والرعاية والمستقبل. ومع كامل المعاناة التي تلاقيها تصبح مبتهجة بهذا الصنيع. إذن تشاركهم الوجود في نفسها. وتقتسم كيانها معهم جزءاً بجزء وحرفاً بحرف فكرة بفكرة. في الحقيقة هي تفضل – مع جزيل المنح- أبناءها بالمقدمة. يعبر جبران خليل جبران: الأم هي كل شيء في الحياة. هي التعزية في الحزن، الرجاء في اليأس، والقوة في الضعف.
2- العطاء الأمومي مطابق لذاته. كلمة العطاء نفسها تحتاج إلى تعديل جوهري بناء على ما تقدمه الأم. فالعطاء يضمر داخله إمكانية الرد. بينما افعال الأم تنفي ذلك تماماً. تخلخل مفاهيم الحياة الاجتماعية عندما تربط أفعالها باستحالة الرد. ليس لدى الأمهات مقايضة. إنها بطبيعتها ضد اقتصاد الأخذ والرد في شكل المُقابل المادي. والمرأة من جهة العواطف تستطيع الإغداق إلى أقصى مدى. لكنها في الوقت نفسه بإمكانها تدبير الماديات.
3- عطاء الأم لا يحتاج إلى تبرير. أي أنَّها ضد منطق الحِجاج القائم على التبادل بين أطراف. وفلسفياً ستكون الأم صدمة لإمكانية البرهنة على الأصل وحسب. لأنها أكبر من مجرد أصل لشخص آخر ولو كان ابناً. فالأصل ارتباط وانبثاق، لكن الأم تزيد عن ذلك كقدرة وتاريخ وتجاوز أيضاً.
يرى ابراهام لنكولن" أنَّ أعظم كتاب قرأه هو أمه...". ليست تلك مبالغة، لأنَّ الأم تلخص تاريخاً من الحيوات الثرية. كما أنَّها الأبجدية التي يتعرف من خلالها الإنسان على العوالم المختلفة. وربما تعتبر بهذا المضمون أقدم ابجدية في التاريخ الإنساني. فالأم هي السطور التي لا تنتهي. وهي نافذة الأحاسيس والمشاعر التي تختلف عن أية مشاعر سواها تماماً. وهي عيون أبنائها على العالم منها يستمدون رؤيتهم وكيف يتعرفون على الأشياء. 4- يتجاوز العطاء الأمومي فكرة الضيافة. لأن المضيِّف ليس هو من يعطي بل من ينفتح على الآخر. الأم تبدع في هذا، هي قلب بمساحة الحياة . لذلك قال جان جاك روسو" لو كان العالم في كفة وأمي في كفة ... لاخترت أمي".
5- تبطل دلالة الأم معنىَ السلطة. فإذا كانت الأخيرة بأبرز وجوهها قوةً، فالأم حب بلا عنف. إنَّها قوة الحب الذي يجتذب إليه الإنسان تلقائياً. فأساسه الأمان الذي لا يقف وراء أية سلطة بالمفهوم الجاري. وفي هذا يشير سقراط:" لم أكن لأطمئن إلاَّ وأنا في حِجر أمي". وبخاصة أنَّ كل سلطة تقام على الخوف، الرهبة. لكن حضور الأم يحتضن وجودنا بشكل طفولي بريء. لأنَّ سقراطاً وهو الفيلسوف الأكبر( أب الأثينيين كما كان يلقبه افلاطون) يفضل النوم على مهاده الأول في الحياة. الأب المعلم في تاريخ الفلاسفة يعودُ طفلاً بين أحضان أمه. 6- العطاء يتجسد أمومياً في مضمون القلب. ففي بعض المواقف الإنسانية تجاه الأبناء نلتمس الأعذار للام قائلين: إنه " قلب الأم". يقول بلزاك: " قلب الأم هوة عميقة ستجد المغفرةً دائماً في قاعها.. ". الأم كيان حي داخل قلب يتسع للجميع. وليس العكس "قلب داخل هيكل إنسان". فهي تراقب العالم بالعواطف بخلاف الرجل الذي يستحضر طاقة العقل والأدوات والحركة. إن العقل جهاز ذكوري ماكر على الأصالة.
7- العطاء الأمومي مصير مفتوح، لأنه لا غاية تقع بالخارج منه، لا شيء سواه بإمكانه أنْ يملأ فراغه. وأي خارج عنه غير مسموح به في تلك الحالة. يراه مارسيل بروست- صاحب رواية البحث عن الزمن المفقود- كنزاً حقيقياً: " كنزي الحقيقي هو أمي". وبالطبع قد يكون الرصيد الفعلي للطفل مجرد ابتسامة، ولكنها ابتسامة تفعل العجائب وتحيل العالم جنة، إذ ذاك يدرك وجودها الرمزي الغني. على غرار قول فرجيل" يعرف الطفل أمه من ابتسامتها".
8- اسم الأم مزيج من المعاني والأحاسيس والوجود. ليس مدلولاً لكنه فعل مرغوب لدرجة الهوية. استعمل محمود درويش عبارة مهمة واصفاً الأم والكون: "لن أسميكِ امرأةً، سأسميك كل شيء..". الاسم هنا معجم مفهرس بحاشية الأشياء جميعاً. هكذا يكون اسم الأم كلياً رغم إفراده في سياق ما. 9- الأم ترتبط بالمستقبل. لأنها ترعى أبناءها، ليس لنفسها بل لما هو قادم. إذ تضعهم على طريق الأمل في الغد. لذلك يؤكد شكسبير: " الأم شمعة مقدسة تضيء ليل الحياة بتواضع ورقةٍ...".
والقداسة لدى الأم هو كل شيء، فكرتها وتكوينها وكذلك ارتباطها بمفاهيم الحياة أكثر من أي كائن آخر. ولو لم تكن الأم مقدسة ما كانت لتوجد جميع الكائنات، لأنها تضمن ظهور العالم في صمت الزمن. ومن هنا كانت أشبه بالشمعة التي تذوب لأجل الإضاءة. لن تربح شيئاً، بل كيانها يقول ذلك. وفوق هذا وذاك هي تحتمي في رأي شكسبير بالرقة التي لا نهاية لها.
إذا أرادت الفلسفة إفساح مجال للأم، فهناك جوانب عدة دائماً في وجودها، ويبدو أن التفلسف وقع في فخ الذكورية( فلسفة القوة). ورغم نقد النزعة الذكورية على يد بيير بورديو وجون ستيوارت مل وسيمون دي بوفوار وجوديث بتلر غير أنها استدارت لتقصي الأم عن مائدة الفلاسفة. ولكن الأم في المقابل حظيت بحفاوة الشعراء والروائيين وأصحابي المذاهب الدينية. وإذا كانت للفلسفة أن تحيي تراثها الأمومي( الفلسفة كأم للمعارف)، فهي أكثر من يعرف عقوق الأبناء بخلاف سواها، لأن الفلسفة كانت يوماً ما أمَّ العلوم! وليس يعرف لوعة انحراف الأبناء غير الأم بالنسبة للأم. فهل بعاطفة أمومية سيكون للفلسفة أن تعيد الاعتبار لأمهات الفلاسفة في شخصية الأم إجمالاً؟!!
#سامي_عبد_العال (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
المرتزقة .. رقيق الحروب
-
الأنا واللغـة: مقدمةٌ فلسفيةٌ لنبذ الوهم
-
الأثرُ الجمالي والفن
-
الخطيئة والوباء!!
-
القَصْعَةُ .. فنُ المستحيلِ
-
فلسفياً: لماذا نكره الإرهاب؟!
-
كتاب السلطان
-
مسْرح جديد للإرهاب
-
الدينُ بِلاَ رجال دين
-
المثقفُ كظاهرةٍ تليفزيونيةٍ
-
اللغة ... كيف نفكر؟!
-
الإرهاب والجهل المقدس
-
الفكر: قَرْعُ طبولِ الأسئلةِ(2)
-
الفِكْر: قَرْعُ طُبولِ الأسئلةِ(1)
-
عُنف الخيالِ الديني
-
صناعةُ الرَّعاع: جسد الثقافة العاري(3)
-
صناعةُ الرَّعَاع: اللغةُ وجسدِ الثقافة(2)
-
صناعةُ الرَّعَاع: اللغةُ وجسد الثقافة(1)
-
ماذا لو تساءلَّت الفلسفةُ حول المرضِ؟
-
أين الفيروس الكافر؟!
المزيد.....
-
رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن
...
-
وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني
...
-
الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
-
وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله-
...
-
كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ
...
-
فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
-
نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
-
طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
-
أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|