|
الجمهورية وأنا
فلسطين اسماعيل رحيم
كاتبة وصحفية مستقلة
(Falasteen Rahem)
الحوار المتمدن-العدد: 6648 - 2020 / 8 / 16 - 03:13
المحور:
سيرة ذاتية
مرتبطة مفردة الجمهورية بماكنة الخياطة والشبابيك الزرق التي تعبر إلينا منها تفاصيل حياة هادئة، تدور عجلتها أرجل ناعمة لسيدة تحب الشاي المهيل بدون سكر هكذا افضله على الاقل ، وبكثير من الغناء ،الجمهورية وماكنة الخياطة تهب عقلي تصورا بأن الجمهوريات لا تقوم إلا بتنشيط العمل وأن اليد التي تصنع خير من اليد التي تشتري بالمال ما تريده ،ولما كانت معرفتي بالخياطة بسيطة جدا ، لكني شخص يستمتع بطقطقة المقص وبوخزات الابرة في كل غرزة خطأ ، ولا أنكر أني بجلوسي إلى ماكنة الخياطة أشعر بما يشعره العالم والمبتكر وحتى رئيس الجمهورية ، والجمهورية حيّ قديم مواجه لاعدادية الكوفة للبنات ، بيوته صغيرة ، وبنائها تقريبا متشابه، ومبني على طريقة اذا اشتكى عضو ، تداعت جميع البيوت من حوله، وبه حميمية الاحياء التقليدية في المسلسلات القديمة ، ابواب تنط من جوف الارض ، شبابيك غير مرتفعة، وبالوان جميلة اغلبها من مشتقات الاخضر الكالح بفعل عوامل الطقس ، وكنا في الايام المطيرة شتاءا والمشمسة صيفا نختصر طريق الاعدادية عبره ، فتحمينا سقيفات الشبابيك من اشعة الشمس الحارقة ومن المطر ايضا ، وفي يوم شديد المطر وكعادتنا ونحن نقصد الاعدادية قادمين من فلكة حبيب الرعاش ، حيث تضعنا سيارات النقل القادمة من قرانا ، اقطع شارع الجسر ، واختصره عبر حي الجمهورية الذي صار يعرف معظمنا ، نحن بنات الثانوية المجاورة ، جعلنا نقفز بين برك المياه المتجمعة في الطريق ، والتصق بجدران البيوت الصغيرة المتجمعة في الحي القديم ، مختصرة الطريق الى المدرسة ، باغتتني عاصفة مطرية ، صارت عبائتي تقطر بالماء ، فلذت بسقيفة شباك فيروزية اللون ، في انتقال إلى مشهد مواز ربما مع حياة تتقاطع تفاصيلها بطريق سلكته يوما ، واحسب ذاك الطريق كان منها ، خالط صوت المطر صوت أم كلثوم ووصفة صبرها وهي تصرح بأنها كلام يتقال ، وكان عطر شاي مهيل يخترق عطر الارض المبللة فيصعد من التراب سر الحياة الآمنة متناغما مع صوت ماكنة خياطة تقليدية ، تدور عجلتها اقدام متمرسة ، في صورة موجزة ألقت الطمئنينة مفتاحها إلي، تلك اللوحة السمعية البصرية المشمومة، جعلت من كل خياطة قصدتها فيما بعد ، أشبه بجنية أسطورية يجتمع فيها السحر والعطر والمطر ، وظل صوت ماكنة الخياطة التقليدية خير من يترجم لاذني فلسفة الحياة بشكل عميق ومبسط ، كأس شاي وأغنية وعمل تحبه ، وصبية في السابعة عشر تحتمي بشباكي وهي تحتضن بين كتبها، أيامها التي ستكون ذكرياتها القادمة، وربما كنت جزء منها ، كما ذاك الشباك الذي شكل جزء مهم من فلسفتي وطريقة عيشي. المقص مغر جدا ، للحد الذي جعلني اتوسل شقيقاتي الصغيرات ليطلقن ليدي العنان في قص شعورهن الجميلة ، وللاسف احتاجوا فيما بعد حلاقة ماهرة لتخفي فعلتي تلك ، وربما حقدن علي يومها بشدة ، غير أني اذكر حكاية عن أخي الاكبر الذي قص ضفائري مقنعا اياي بالذهاب الى كربلاء وان ضفائري تحجب حلقي الذهبي عن الرؤية ، وخرجت من تحت يده بدائرتين لحميتين في جمجمتي ، جعلت من أمي تغطي رأسي الصغير بشال لتستر فعلته تلك، تلك الفعلة التي جعلتني اشعر بالخجل حين ازاحت معلمة الروضة الغطاء عن رأسي لتنغمر بنوبة ضحك هستيري ، في حين كان صمتي يعني احتجاجا صاخبا على ردة فعلها، ومازلت املك ذات ردة الفعل ولكن مع لكمة قوية أن أستدعى الامر 🙂-------- المرة التي غادرنا الاهل لمناسبة عائلية تقتضي تغيبهم عن البيت طوال النهار ، قفزت فرحا ، وفي لمحة من الوقت كانت ستائر البيت ومجموعة من الثياب قد نقص طولها ، بما فيهم الثوب الذي كنت ألبسه، وتكوم عند ماكنة الخياطة الكثير من المشاريع التي خططت لها ذاك النهار ، وقضيت نهارا ممتعا ، لتحتجز بعده الماكنة في خزانة أمي ومن ثم تهدى لأختي الكبرى ، في قتل متعمد لموهبتي كخياطة ناشئة لم تأخذ فرصتها وان كلفتهم في محاولاتها الكثير من الهدر في الثياب والستائر والشراشف ، لكن عمتي كانت تقتنع بمحاولاتي وكانت تأتيني بكل ما تريد اصلاحه ، فأقوم بذلك ، ورغم بعض التشوهات التي احدثها الا انها لم تبخسني حقي يوما ، ولطالما كانت تعطيني مقابلا لما اقوم به ، لكن لم يكن للاسرة ذات الدعم ، اذكر ليلة سهرت على فستان أقص واخيط فيه بيدي على ضوء الفانوس ، وعند طلوع الصباح خرجت بفستان يشبه ما يعرض في مجلات الموضة ، كان بنيا مطعم بالاسود ، لبسته مرة واحدة ووثقتها بصورة ومن ثم لم اعرف مصيره ، أمي لم تر في خياطة ، بل لم يكن يهمها ذلك ، كانت سيدة تعنى بشهاداتنا العلمية ولم تكترث بأن تعلمنا حرفة ، فنحن نعمل في البستان ، ونتعلم ، ربما حرصت على تعليمي كيفية صناعة الجبنة واستخراج الزبدة من اللبن ، وكنت انجح فيه دوما، وربما وقفت على تنورها مرات معدودة ، واظنها كانت موفقة ، في الحقيقة أمي كانت تعلمنا ما تعرفه، وهي لم تكن تعرف الخياطة ، مع ذلك كنت امارس الكثير من الحرف ناقصة المهنية ، كنت نصف ممرضة احقن الابر واضمد بعض الجروح غير الخطيرة للاقارب ، وايضا اقدم بعض اعمال التجميل لنساء القرية ، حتى ان زبائني يكثرون في الاعياد ،لكن المقص كان له السحر الاكثر متعة ، وكنت اعتقد اني سأكون حلاقة ماهرة ، حتى ادركت اني استمتع بقص كل شيء وليس الشعر فحسب ، ولست انسى بائع التفاح الاحمر والملابس الملونة الذي يأتي مرتين في الاسبوع يدور في الحي ، اذ حدث يوما أنه كان يعرض على امي ثيابا للاطفال وسلب عقلي قميصا ابيضا عليه صورة فتاة ،وكنت اعشق هذا النوع من الرسوم الجميلة ،فوافقت امي على مضض وطلبت الي ان اقيسه اولا ، وحين دخلت الدار لاجربه كان واسعا واكمامه طويلة،فعمدت الى المطبخ لأعالجه بسرعة وقمت بجز تلك الأكمام بالسكين ،وجئت راكضة الى امي وانا اصرخ فرحة : انه يناسبني ،امي التي صارت تلطم على وجهها كان لزاما أن تدفع الرجل ثمن القميص الذي شوهته والذي لم يعد صالحا لشيء، كعادتي ، يدي تعرف معالجة كل مشاكلي حتى لو كان قميصا واسعا بأكمام متدلية ، فببساطة كنت اجد حلا لكل شيء ، دون الرجوع إلى أحد ، لا اناقش احدا في قراري ، ولا اسمع لغير ما يحدثني به قلبي ، لذلك نادرا ما اكون على خطأ ، ولما كنت قد ايقنت ان ماكنة الخياطة علاج لنفسي ، ولعقلي من المرض والضجر ، ادخلتها حجرتي ، وان لم تكن بعجلة تدور ، لكنها كانت كافية لتبث في قلبي فرحا طفلا مشعا ، وكلما جلست إليها ، أجدني صبية ملفوفة بعباءة ملتصقة على جسدي ، واقفة تحت سقيفة فيروزية اللون، محاصرة بالمطر ووصفة صبر وعطر شاي ، وصوت ماكنة تقليدية ، فسرت لي معنى الحياة عند امرأة كان يفصلني عنها جدار ، وما احسب تلك التي كانت تخيط خلفه، ما أحسبها أنها كانت سواي. فلسطين الجنابي
#فلسطين_اسماعيل_رحيم (هاشتاغ)
Falasteen_Rahem#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حبل سري طويل -
-
هلج وين يا نجوى - من سيرة الحنين
-
تناص روحي - سيرة الوجوه
-
إذكار الصباح - من سيرة الوحدة
-
زمن مفقود - من سيرة الغياب
-
فقدان - من سيرة الوحدة
-
من سيرة الوحدة
-
إليها في ذكرى رحيلها - سيرة الوحدة
-
إليك في كل مرة - من سيرة الوحدة
-
قراءة في خيانات بنهكة فرنسية لندا خوام
-
قراءة في مجموعة زرقاء عدن لليمنية لارا الضراسي
-
من سيرة الأوطان
-
الحزن لا يليق بي - سيرة عاشقة
-
من أناشيد البلاد
-
الانسحاق الكبير
-
رؤيا
-
حبل سري طويل - سيرة الكتب
-
رغيف أبي - من حكايات الحي القديم
-
أيلول وأنا
-
سيرة أمرأة أسمها فلسطين
المزيد.....
-
أوكرانيا تعلن إسقاط 50 طائرة مسيرة من أصل 73 أطلقتها روسيا ل
...
-
الجيش اللبناني يعلن مقتل جندي في هجوم إسرائيلي على موقع عسكر
...
-
الحرب في يومها الـ415: إسرائيل تكثف هجماتها على لبنان وغزة
...
-
إسرائيل تعلن العثور على جثة الحاخام تسفي كوغان في الإمارات ب
...
-
اتفاق الـ300 مليار للمناخ.. تفاصيله وأسباب الانقسام بشأنه
-
الجيش اللبناني: مقتل جندي وإصابة 18 في ضربة إسرائيلية
-
بوريل يطالب بوقف فوري لإطلاق النار وتطبيق مباشر للقرار 1701
...
-
فائزون بنوبل الآداب يدعون للإفراج الفوري عن الكاتب بوعلام صن
...
-
الجيش الأردني يعلن تصفية متسلل والقبض على 6 آخرين في المنطقة
...
-
مصر تبعد 3 سوريين وتحرم لبنانية من الجنسية لدواع أمنية
المزيد.....
-
سيرة القيد والقلم
/ نبهان خريشة
-
سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن
/ خطاب عمران الضامن
-
على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم
/ سعيد العليمى
-
الجاسوسية بنكهة مغربية
/ جدو جبريل
-
رواية سيدي قنصل بابل
/ نبيل نوري لگزار موحان
-
الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة
/ أيمن زهري
-
يوميات الحرب والحب والخوف
/ حسين علي الحمداني
-
ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية
/ جورج كتن
-
بصراحة.. لا غير..
/ وديع العبيدي
-
تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون
/ سعيد العليمى
المزيد.....
|