|
قراءة في نتائج التشريح الاجتماعي للشخصية العراقية ح20
عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني
(Abbas Ali Al Ali)
الحوار المتمدن-العدد: 6641 - 2020 / 8 / 9 - 10:19
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
الوردي ومفهوم الثقافة الثقافة كمفهوم حضاري هو جوهر المعرفة الأجتماعية وعند الوردي من الموجبات الأساسية للإصلاح الأجتماعي، ويعتقد أنها حالة منعزلة وغير متصلة بالتعليم إلا من جهة الموارد ولا من جهة النتائج، المثقف عن الدكتور الوردي هو المتفاعل والمشارك والمنتج لمجموعة أفكار وأنماط فكرية لا يلتزم بها إلا بقدر ما تمثل له بذاتها مقبولية عامة، عكس المتعلم أو العالم الذي كلما أبحر في علمه ضاقت عليه الفرصة في التحرر من سطوة ذلك العلم ومفاهيمه، الطبيب مثلا متعلم وكلما أستغرقه الطب وغاص في تخصصه كلما أبتعد عن بقية العلوم والأفكار والنظريات الأخرى، مما يجعله ألة باحثة أو أسير لعلم الطب وقد يغيب أجتماعيا عن محيطة لهذا السبب . المثقف عند الوردي مشروع تنوير وأرتباط شرط أن يكون قائدا ومدربا للمجتمع وليس عنصرا فوقيا فيه، فهو لا يؤمن بالنخبة والنخبوية التي تطيح بالمثقف كما تطيح بالمعلم وترمي به في زوايا الإنعزال والأبتعاد، عندما لا تغيير فيه الكثير من المفاهيم والأفكار التي تحتاج ربما إلى تحديث وأما لتعديل أو تصحيح أو حتى إلغاء، وبدون هذا الأرتباط بين المثقف والوظيفة يسقط في وحل الخيانة الأجتماعية لهويته الفرعية كمثقف، وحتى السلطة كما يقول (عليها أن تدرب الرعية لفهم الحرية والثورة السلمية حتى لا تتفاجأ في يوم من الأيام بثورة دموية تعيد حركة التنوير للمهد وتبرز مساؤي السلطة الغاشمة)، إذا مع الخيانة هذه لا أثر حقيقي لوجود المثقف ولا وصف حقيقي لدوره الأجتماعي في المجتمع . أذن المثقف صاحب وظيفة أجتماعية يتبناها من خلال القدرة على التعامل الحر مع كل الأفكار جديدها وقديمها وافدها ومحليها، لكن هذه الوظيفة لا يمكن أن تراعى حقيقة ما لم ترفد دوما بالتعلم والتعليم مضافا لها موهبة التفكر والتدبر، حتى يكون شاغل هذه الوظيفة صاحب ميل إيجابي قادر على العطاء الطبيعي وليس العطاء المأجور، المثقف عند الوردي عنصر متحرك بمنظومة أجتماعية متحركة لا تتوقف في حدود العمل الوظيفي أو مستوجبات العلم والتعلم فقط، عكس المتعلم المتقوقع داخل علمه ويمارس وجوده بروح مهنية تستهدف الأجر أولا وأخيرا، وبالرغم من أن كلاهما المثقف والمتعلم من ضروريات المجتمع المدني لكن تبقى قيمة المثقف أسمى لأنه عنصر محرك . إن إيمان الوردي ودعوته للتحرر والتجديد والتثقيف لم تأت كأمنية أو نظرية ساقها بالتأمل، ولكن أيضا من خلال تجربته المعاشة سواء أكانت الذاتية أو ممن سبقوه من مثقفي المجتمع العراقي بكل أطيافه النوعية، فهو يؤمن بحقيقة من أن (إدراك الناس أخيرا أن المعرفة البشرية لا تنمو إلا إذا احترمت الآراء جميعاً وبهذا يمكن أن تتفاعل الآراء وتتلاقح وبغير هذا التلاقح والتفاعل لا يولد الفكر الجديد) ، فهو هنا يعبر عن حقيقة الثقافة التي تنتج معرفة خارج أطار أنتماء أيديولوجي أو ديني لتكون البذرة أولا وتنمو لتولد من سيرورتها صورة مستقبل أكثر قدرة على تمثيل الهوية الإيجابية . أنه يريد مثقف وفق ما يصطلح اليوم عليه مثقف عضوي قادر على فهم حركة المجتمع وقادر على التفسير وأيضا قادر على البحث عن حلول، من هنا مثلا نرى دعوته القيمة التي نادى بها بصورة نداء حداثوي في زمن كان الكل يسعى بالسر أو بالعلن إلى التوافق مع معطيات الحداثة الأجتماعية، سواء على صعيد تلبية الحاجات والضروريات أو على سبيل التكامل مع العالم الخارجي لكن بحدود، هذه الحدود تبقى أسيرة الأوهام البالية والتي يختزنها اللا شعور أو الخوف من الخوض في المعمعة، أو ظهور نتائج غير محسوبة ولا مقدرة سابقا، جاءت دعوته لتفك الكثير من العقد وتعطي زخما حقيقيا لأنصار العلمانية والليبرالية . كانت الدعوى حادة وحاسمة وواضحة لا لبس فيها بكل إيجابية أختصر طريق المستقبل للأجيال القادمة دون أن يترك التفرعات والتفريعات للتأويل أو التفسير ( إن زمان السلاطين قد ولى وحل محله زمان الشعوب، وقد آن الأوان لكي نحدث انقلابا في أسلوب تفكيرنا، فليس من الجدير بنا، ونحن نعيش في القرن العشرين، أن نفكر على نمط ما كان يفكر به أسلافنا في القرون المظلمة، إن الزمان الجديد يقدم لنا إنذارا، وعلينا أن نصغي إلى إنذاره قبل فوات الأوان، إنه زاحف علينا بهديره الذي يصم الآذان، وليس من المجدي أن نكون إزاءه كالنعامة التي تخفي رأسها في التراب حين تشاهد الصياد، فهي لا تراه وتحسب أنه لا يراها أيضا، الأفكار كالأسلحة تتبدل بتبدل الأيام، والذي يريد أن يبقى على آرائه العتيقة هو كمن يريد أن يحارب الرشاش بسلاح عنترة بن شداد) . هذه الملاحظات التي دونتها عن فكرة الوردي عن الثقافة هل لها أرتباط بنموذج محدد من نماذج عالمية أو نظريات عالمية درست الثقافة وعرفت معانيها وحدودها ونظرت بتجرد لها، هنا يتحتم علينا أن نقارن بين مجموعة من النماذج التي بين أيدينا من دراسات وأبحاث أعتنت بمفهوم الثقافة والمثقف، ويتبادر لذهننا أولا مشروع الأنثروبولوجيا حول معنى الثقافة للارتباط بين مدار علمهم الخاص بالثقافة بشكل لصيق، وكأن الأنثروبولوجيا هي مفتاح دراسة الثقافة بأعتبارها نتاج جمعي وأجتماعي . من أبرز ما يمكن ذكره هنا أن الثقافة لها أرتباط متعدد ومتشابك بين الطبيعة والزمن والفرد والقيم الناشئة من تجربة العيش بين هذه العناصر الثلاث، وبالتالي مثلا عندما يقول بعض الأنثروبولوجين عن تعريف الثقافة على أنها (إن مفهوم يرتبط بالمجتمع، فهي حسب تعبير (تايلور ) التي يكتسبها الإنسان بوصفه عضواً في المجتمع والاكتساب من المجتمع عملية مستمرة لا نهاية لها ولا توقف، وتحصل بوعي أو دون وعي، برغبة أو دون رغبة، ومن الصغر إلى الكبر، لهذا فقد أصبحت الثقافة تدرس وتعرَّف في نطاق علاقتها بالمجتمع، وفي الدراسات الأنثروبولوجيا أصبحت تُربط بمفهوم التراث الاجتماعي، المفهوم الذي يعني أن علاقة الثقافة بالمجتمع هي علاقة تفاعل قديمة، وتمتد إلى أجيال متعاقبة، ويرى أبو زيد أن من خصائص الثقافة في الدراسات الأنثروبولوجيا هي خاصية الاستمرار، وهذه الخاصية تابعة بالضرورة -كما يقول أبو زيد نقلاً عن لينتون- من تصور الثقافة على أنها التراث الاجتماعي الذي يرثه أعضاء المجتمع من الأجيال السابقة، فالسمات الثقافية لها قدرة هائلة على الانتقال عبر الزمن) . من خلال هذه الفكرة البسيطة التي تربط الثقافة بالطبيعة بالفرد بالزمن نجد أن الدكتور الوردي يتابع الإيمان بمنطق النظرية الحتمية التي سبق وإن أشرنا لها من خلال تلازم الفرد الإنساني مع الطبيعة، فهو ليس حرا تماما من تأثيرات الواقع ولا منفصل عنها، وهو في حالة إلجاء ضروري لا واعي بالغالب، وهذا ما يفسر تمسكه بالإصرار على تأثير البداوة والصحراء على النمط المعرفي لطرف من أطراف الصراع في المجتمع العراقي، في حين نجد أن بعض النظريات الأجتماعية تناقض هذه المدرسة ومذهبها الإلجائي . فمثلا هناك من يرى أن مجتمع واحد في زمن واحد يمكن أن ينتج نوعين من الثقافة بينهما الكثير من الأختلاف أكثر من الأختلافات الناتجة عن ثقافة مجتمعين مختلفين (والحقيقة التي تفرض نفسها هي أن تنوع الثقافات الإنسانية أكبر بكثير، وأغنى من كل ما نحن مهيَّؤُون لمعرفته على الإطلاق، إن ثقافتين أنتجهما أناس ينتمون إلى العرق نفسه يمكن أن تختلف بقدر ما تختلف ثقافتان تعودان لأناس ينتمون لمجموعات عرقية متباعدة وربما أكثر منها) ، هذا الرد جاء من شترواس في تحد شجاع لمن يؤمن بتنوع الثقافات حسب السلالات الجنسية، وبالتالي تكوين مفهوم للثقافة يشم منه رائحة العنصرية ويعطي انطباعا حتميا أيضا أن الإنسان أسير أصله، وهو بالتالي غير حر عن تكوين ثقافة مخالفة لثقافة السلالة أو الجني أو النوع . حتى محاولات الشاعر الإنكليزي إليوت التي كانت ريادية في دراسة علم الثقافة ومصطلحه، لا تخرج أبدا عن مفهوم الأنثروبولوجيا الأوربي عامة والبريطانية خصوصا، وإن تنوع في طرح المفهوم لكن الجوهر هو ذاته ملتصقا بعلم الأجتماع ومنتميا للمدرسة الحتمية، التي تفارقها وتبتعد عنها المدرسة الأمريكية التي تعتمد على نمط العيش، وليس على المفهوم الأجتماعي للثقافة بل تتعداه إلى أنها نمط من العلاقات مرتبط أساسا بطريقة العيش بوجهها الأقتصادي أكثر من تأثرها بالقيم الأجتماعية . من خلال أستعراض هذه التعريفات والآراء النظرية الموجزة حول الثقافة نرى وبحسب تخصص ومهنية الدكتور علي الوردي أنه يميل للمفهوم الإنكليزي لمعنى الثقافة، بالرغم من دراسته الأكاديمية في أمريكا والتعليل أن تأثيرات المدرسة الحتمية التي صبغت في تفاصيلها معظم أراء ونظريات الدكتور الوردي لا يمكن أن تقنعه أن العوامل الأقتصادية وأحكام نمط الحياة الأجتماعية المتعلقة بسوق العمل وعلاقاته وأحكامه ممكن أن تكون ملائمة للتطبيق في المجتمع العراقي الذي يرزح تحت نير الإقطاعية والعبودية الأقتصادية . هناك أيضا نقطة جديرة بالاهتمام وهي أن فكر علي الوردي والذي أشغل اليسار العراقي ومهد للكثير من الأفكار التحررية والليبرالية والعلمانية، وقياسا للكثير من علماء الأجتماع الغربيين يعتبر الوردي ممثل للجيل المحافظ أو المدرسة الليبرالية المحافظة التي تتزعم منهجها المدرسة البريطانية، وهذا ما يفسر الميل الطبيعي للأخذ بالمفهوم الإنكليزي للثقافة دون المفهوم الأمريكي الأكثر تحررا والأحدث في سلسلة التطور والأوسع في تحديد ما يمكن أن تضمها كلمة ثقافة من فضاء مفتوح .
#عباس_علي_العلي (هاشتاغ)
Abbas_Ali_Al_Ali#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قراءة في نتائج التشريح الاجتماعي للشخصية العراقية ح19
-
قراءة في نتائج التشريح الاجتماعي للشخصية العراقية ح18
-
قراءة في نتائج التشريح الاجتماعي للشخصية العراقية ح16
-
قراءة في نتائج التشريح الاجتماعي للشخصية العراقية ح17
-
قراءة في نتائج التشريح الاجتماعي للشخصية العراقية ح15
-
قراءة في نتائج التشريح الاجتماعي للشخصية العراقية ح14
-
قراءة في نتائج التشريح الاجتماعي للشخصية العراقية ح13
-
قراءة في نتائج التشريح الاجتماعي للشخصية العراقية ح12
-
قراءة في نتائج التشريح الاجتماعي للشخصية العراقية ح10
-
قراءة في نتائج التشريح الاجتماعي للشخصية العراقية ح11
-
قراءة في نتائج التشريح الاجتماعي للشخصية العراقية ح8
-
قراءة في نتائج التشريح الاجتماعي للشخصية العراقية ح9
-
قراءة في نتائج التشريح الاجتماعي للشخصية العراقية ح7
-
قراءة في نتائج التشريح الاجتماعي للشخصية العراقية ح6
-
قراءة في نتائج التشريح الاجتماعي للشخصية العراقية ح5
-
قراءة في نتائج التشريح الاجتماعي للشخصية العراقية ح3
-
قراءة في نتائج التشريح الاجتماعي للشخصية العراقية ح4
-
قراءة في نتائج التشريح الاجتماعي للشخصية العراقية ح1
-
قراءة في نتائج التشريح الاجتماعي للشخصية العراقية ح2
-
الوردي وقراءة في نتائج التشريح الاجتماعي للشخصية العراقية ح1
المزيد.....
-
وقف إطلاق النار في لبنان.. اتهامات متبادلة بخرق الاتفاق وقلق
...
-
جملة -نور من نور- في تأبين نصرالله تثير جدلا في لبنان
-
فرقاطة روسية تطلق صواريخ -تسيركون- فرط الصوتية في الأبيض الم
...
-
رئيسة جورجيا تدعو إلى إجراء انتخابات برلمانية جديدة
-
وزير خارجية مصر يزور السودان لأول مرة منذ بدء الأزمة.. ماذا
...
-
الجيش الإسرائيلي يعلن تدمير بنى تحتية لحزب الله في منطقة جبل
...
-
برلماني سوري: لا يوجد مسلحون من العراق دخلوا الأراضي السورية
...
-
الكرملين: بوتين يؤكد لأردوغان ضرورة وقف عدوان الإرهابيين في
...
-
الجيش السوري يعلن تدمير مقر عمليات لـ-هيئة تحرير الشام- وعشر
...
-
سيناتور روسي : العقوبات الأمريكية الجديدة على بلادنا -فقاعة
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|