كلمات -17-
أهمية توثيق الأحداث الراهنة في بلادنا
بين سقوط الطاغية والتهيؤ لبناء المؤسسات الديمقراطية، ثمة مرحلة دقيقة من حياة شعبنا، يلزم توثيقها بالصورة، وتكتسب عملية التوثيق بالصورة في عالم اليوم، أهمية بالغة، في زمن تحسم فيه الشاشات البيضاء حروبا بالصورة، ويؤرخ لسقوط الدكتاتوريات والأنظمة الشمولية، وكذلك مراحل بناء الدول والمجتمعات.
تأرخة الأحداث من إسقاط تمثال الطاغية في ساحة الفردوس وإذلاله وتكسيره، والخطب الحماسية والمظاهرات السلمية المنادية بضرورة مغادرة قوات الإحتلال لوطننا، ومطالبة المحتلين باالحفاظ على أرواح العراقيين وممتلكاتهم وتأريخهم ومتاحفهم، ومن يقف وراء سرقة وتهشيم آثارنا، بل وحتى توثيق عمليات السرقة والسلب والنهب، هل هي الحاجة أم رغبة الإنتقام من النظام الطاغي، وشرح ذلك وإجراء حوارات مع اللصوص إن أمكن، وتحليل أسباب الظاهرة المؤسفة وربطها بظاهرة (الفرهود) التي رافقت عددا من ثورات الشعب العراقي وانتفاضاته ( سرقة ونهب وتدمير للمؤسسات الخدمية من قبل بعض ضعاف النفوس خلال انتفاضة آذار المجيدة)، هذه كلها ملفات لتأريخنا ومستقبلنا ودروس لأجيالنا.
لاتوجد كاميرات عراقية كثيرة سجلت الأحداث، اللهم إلا إذا كانت هنالك كاميرات شخصية (الفيديو)، أما الفضائيات سواء العربية منها أو الأجنبية، فهي مأمورة لمحطاتها، كما أنها ليست اختصاصية بشؤون العراق والعراقيين، والمراسلون من هذا المنطلق لايغطون الأحداث الجارية في بلادنا إلا وفق ماترسمه سياسة محطاتهم.
اظن بأن هناك الكثيرين ممن يتحمسون لتوثيق الأحداث الجارية في بلادنا بأفلام وثائقية، ومن بين الذين أعرفهم المخرج السينمائي هادي ماهود، وتأتي هذه الكتابة بمناسبة استعداده للسفر إلى الوطن لتصوير الأحداث التي ستقع في بلادنا -ويانار كوني بردا وسلاما على بلدنا الحبيب- بحثا عن الحقيقة بعيون عراقية، وكان هادي قبل هذا متحمسا لتصوير مراحل سقوط الطاغية والدخول في دقائق عملية السقوط والمظاهرات المناوئة للإحتلال، لكن أمنيته لم تتحقق للأسف.
منذ وصوله إلى أستراليا لاجئا في العام 1997كتب هادي ماهود إلى أحزاب المعارضة العراقية، لغرض إبداء المساعده في إكمال مشروعه بتوثيق حياة العراقيين في المنافي فلم ينتبه إليه احد، فكان يصرف من جيبه ومن المساعدة التي يحصل عليها، وسافر إلى دول نائية لم نسمع بها تقع في المحيط الهندي (جمهورية نورو!!) مثلا، ملاحقا بكاميرته لاجئين عراقيين في المخيمات هناك، وكان هؤلاء لاقوا من جحود الدولة الأسترالية مالايمكن مقارنته إلا بجحود دول عربية رمت اللاجئين العراقيين في الصحارى!
وكان عدد من المشاريع يعتمل في نفس هادي، منها كما أخبرنا ان المنفى العراقي على اتساعه وتنوع القساوة فيه لم يتوثق بما فيه الكفاية، ففيه شهود على عصر وشخصيات ومراحل تأريخية ووزراء وضحايا وأسرار، ولاتوجد في المنفى مؤسسات عراقية متخصصة في التوثيق، تعالج موضوعة أحد الشعراء في المنفى مثلا، فقد رحل شعراء كبار الجواهري والبياتي،ولم تتوثق حياة أي منهما.
في السنة الأولى لوصوله إلى استراليا صور هادي أول فيلم وثائقي حول حياة أحد الشعراء العراقيين (تراتيل السومري)، وكان هادي يتمنى الإستمرار في مشروعه فلم يحصل على أي دعم، وخلال سفره إلى أوروبا في العام الماضي حزن كثيرا لإمكانياته المتواضعة، لكنه وبكاميرا بسيطة استطاع خلال زيارته إلى فنلندا تصوير فيلم عن الفنان التشكيلي الكردي الفطري عزيز سليم (وزير ثقافة في حكومة مهاباد الكردية)، لكن الفيلم بقي في ماحله الأولى، ولم يكتمل لعدم توفر إمكانيات كبيرة لإنتاجه، فاالسينما كما هو معروف فن وإنتاج ورأس مال ودعاية وتسويق وغير ذلك.
استفز هادي ماهود حادث غرق السفينة المليئة بالعراقيين في اكتوبر 2001قبل وصولها إلى الشواطئ الاسترالية، مأساة عراقية لايمكن إلا أن توثق بفيلم، فاتصل بأطراف من المعارضة العراقية لمساعدته في تصوير هذا الحادث الرهيب وإنتاج فيلم عنه، لكنه للأسف يلق أذنا صاغية وتم تجاهل المشروع، وكان ضحية سرقة قامت بها قناة الجزيرة بعدما سطت على جهده في تصوير مشاهد للناجين مؤلمة.
ولم يتوقف هادي فحمل كاميرته إلى إندونوسيا لتصوير عاثري الحظ من العراقيين هناك، من الذين تقطعت بهم السبل، وصور وجوههم العراقية الحزينة المنتظرة على الشواطىء مراكب مهلهلة قد تنجو وقد تغرق، صور في أندونوسيا ثلاثين ساعة على أمل أن تدعم المشروع جهة ما لإتمامه، واكتشف أثناء حواراته مع العراقيين هناك وتصويره لحياتهم التعيسة والمافيا الإندنوسية، أن هنالك الكثير من المراكب غرقت قبل (تايتانيك العراقيين) ولم يُكتب عنها ولم تصور!!
يعتقد هادي بأن تايتانيك العراقيين أغرقت عمدا وهو عمل خططت له الحكومة الأسترالية، مبقية على عدد من الناجين للتحدث أمام الكاميرات، ماأدى فعلا إلى انخفاض عدد رحلات اللاجئين العراقيين من أندونوسيا إلى الشواطئ الأسترالية.
سعيا وراء الحقيقة وبالتعاون مع محامي استرالي سافر هادي إلى دول نائية صغيرة في المحيط الهادي (دولة نورو!!)، حيث مجموعة من النساء العراقيات المنفيات عن أزواجهن الموجودين في مدن استراليا!!، وهذه جريمة نعجب كيف تقدم عليها دولة تدعي الديمقراطية وحقوق الإنسان، وطرد هادي من مطار هذه الدولة ولم يسمح له بالتصوير، وبعد فترة استطاعت مخرجة استرالية التسلل إلى المخيم من تحت الأسلاك الشائكة بمساعدة النساء العراقيات اللاجئات، حيث استطعن إكساء المخرجة (جبَّه اسلامية)، ونجت وصورت حياة العراقيين في المخيم النائي، وعرض التلفزيون الأسترالي الفيلم وأحدث ضجة في الراي العام.
يقوم هادي هذه الأيام بتصوير فيلم عن تهريب اللاجئين في العالم تدور أحداثه في أوروبا والصي،ن وجزء من الفيلم يتناول مشاكل لجوء العراقيين والإيرانيين لحساب شركة أسترالية ويخرج الفيلم المخرج الإسترالي الشهير كرس هيلتون.
اخيرا يرى هادي نفسه في العراق بعد هذا التغيير العظيم الذي حصل بزوال الطاغية، ويحلم بشركة صغيرة، ولديه أفكار كثيرة، وساعات طويلة صورها عن العذاب العراقي قي تضاريس المنفى، يتمنى إكمال مونتاجها ووضع اللمسات الأخيرة عليها وعرضها في صالات العرض السينمائي في العراق.