عبير خالد يحيي
الحوار المتمدن-العدد: 6615 - 2020 / 7 / 11 - 00:07
المحور:
الادب والفن
ا
مقدمة:
الأدب- برأيي المتواضع- مختبر لغوي كبير, يتمّ فيه إخضاع الكثير من الظواهر الاجتماعيّة والنّفسيّة والسياسية والاقتصادية وغيرها للبحث والاستقصاء, وهو إنجاز إجرائي ومحصّلة لتجارب كثيرة, منها ما تفكّك الظاهرة إلى عناصرها الأوليّة, أي تستقصي عن جذورها وأصولها المخبوءة, وأخرى تدرس النتائج الحاصلة من اجتماع عدّة الظواهر في بيئة واحدة, أي تدرس آثارها الظاهرة, فهناك دراسة تفصيليّة ودراسة شموليّة, بقالب أدبي بليغ, وعلى هذا الاعتبار ينبغي أن يتقمّص الأديب إلى حدّ ما دور الباحث, وأن يمتلك أدواته وبعض مقدراته, وأن يوسّع دائرة معارفه في جميع الأصعدة, من غير أن يكون مجبرًا عن تقديم الحلول. وهذا ما فعلته الأديبة عزّة دياب في هذا العمل الذي ترصد فيه تطوّر ظواهر اجتماعيّة وأخلاقيّة واقتصاديّة فاسدة جدًّا, زُرعتْ بذورَها وجذّرتها عبر حيوات شخصيّاتها, وأطلقتها في محيط بيئي صغير موائم, خلال فترة زمنيّة مواتية وطويلة, ثمّ عرضت علينا النتائج المحتومة, وآثارها التي وصلت حدّ القتل.
الكاتبة في سطور :
عزة مصطفى علي دياب
مواليد مدينة رشيد محافظة البحيرة
عضو اتحاد كتاب مصر, عضو نادي القصة.
_ ( شاطئ الحنين) مجموعة قصصية صادرة عن دار السندباد للعام 2009
_ ( الأجنحة الورقية) مجموعة قصصية من مركز نهر النيل 2008
_ ( مجنون الحي) عن دار غراب 2014, وطبعة ثانية من دار جولد بوك 2018
_ ( لقاء) رواية عن دار الكتب خان 2015
_ ( روزيتا) عن كيان للنشر والتوزيع 2016
_ ( جدران شفافة) مجموعة قصص قصيرة جدًّا عن روافد 2017
_ ( حارسة الموتى) رواية فائزة بالمركز الأول في جائزة راشد بن حمد للإبداع 2019 فئة رواية للكبار
التبئير الفكري:
من يقرأ هذا العمل للأديبة عزة دياب, سيجد أنها أديبة كتبت عن مجتمعها المحلي الصغير, والذي كان جزءًا مكرّرًا من كل مجتمعها الكبير, وهي لم تغفل الإشارة إلى ذلك, بإسقاطات تلقيها لمن يتقن فن المقاربة, هي لم تتوانَ عن الغوص إلى قاع هذا المجتمع, والكشف عمّن يعيشون في مستنقعاته التي أخفت تحت نتانة سطحها صراع أجسادهم المغموسة بالرذائل, وأبقت رؤوسهم خارجها ليكونوا على قيد الظهور, فقامت بعملها كباحثة اجتماعية, تدرس ظاهرة الطفو والغمر, لمجموعة منتقاة من الناس ألقتهم الحياة في مكان واحد ( مقبرة في مدينة صغيرة ذات طابع ريفي), في زمن واحد( عهد الانفتاح في فترة رئاسة السادات), تجمعهم رغائب جامحة ومصالح شخصية, غير مشروعة, رصدت الكاتبة تطورهم وصراعهم ببواطنهم النفسية وظواهرهم السلوكية, درست ظروف تحوّلهم إلى طفرة شاذة, ومن ثمّ إلى ظاهرة اجتماعية ممجوجة, لكنها موجودة ومعترف بها, وتبحث عن مكتسباتها, ولو عن طريق الجريمة, حينما أتيح لها أن تتوسّع في بسط نفوذها,
والبؤرة الفكرية للنص كانت حول الحيثية ( الانحدار الأخلاقي) حينما يتوفر له بيئة سياسية واقتصادية حاضنة, وهي النتيجة التي انتهت إليها كلّ الظواهر المتمثّلة بالجهل والأمية والدجل والظلم والقهر والحرمان, الانحطاط الأخلاقي الذي يجعل من الاعتداء على الآخر منهجًا وموردًا للعيش حتى ولو كان هذا الآخر ميتًا أو ابنًا, حمدية حارسة القبور لم تتوانى عن هتك حرمة الموت بالدجل والجهل بدسّ الأحجبة الشيطانية في الأكفان والقبور, والاعتداء على الموتى بسرقة مقتنياتهم حتى ولو كانت تاجًا ذهبيًّا لسن من أسنانهم, أو خاتمًا بإصبع طفل رضيع ميت, تعجز عن إخراجه فتقلع الإصبع بما فيه, وبنفس الانحدار الأخلاقي تمارس الجنس مع الأستاذ عبده, ومع العفريت مسعود, وتشجّع ابنها على تعاطي المخدرات, وتسكت حينما تراه يمارس اللواط .
الانهيار الأخلاقي الذي يلغي الشعور الوطني, ويجعل تراث الوطن وآثاره نهبة بيد أبنائه الذين أفادوا على الظروف الاقتصادية والسياسية التي أتاحت لهم الوصول إلى مراكز حساسة استغلوها أبشع استغلال ليجنوا ثروات طائلة من بيع الوطن, وآخرون أغرقوا أبناء الوطن بالمخدرات تعاطيًا واتجارًا.
ومن خلال ذلك رصدت الكاتبة أيضًا ظروف التحوّل السياسي والاقتصادي للمجتمع المصري من النظام الاشتراكي في عهد جمال عبد الناصر الذي تحالف مع الاتحاد السوفييتي إلى النظام الرأسمالي عبر تحالف السادات مع الولايات المتحدة الأمريكية, وما رافق ذلك من إزالة لكل رموز العهد السابق, وأشعل الحرب العربية الاسرائيلية الرابعة ( أكتوبر) وحرب الاستنزاف التي لحقت بها حتى قيام السادات بزيارة اسرائيل وعقد الصلح معها, وكان لهذا الاتفاق ( كامب ديفيد) تحديدًا الكثير من التغيرات على المجتمع المصري, ساهمت بتغيير هويته ومعالمه.
والبؤرة الفكرية للنص كانت حول النتائج الكارثية لسياسة الانفتاح في عهد السادات وما بعده.
وقد نجحت الكاتبة في تأسيس ديباجة العمل CITATION)), ووازنت بين التماسكCOHESION والترابط COHERENCE بين أجزاء النص, فولد العمل متكاملًا في بنائه الفني, ولم تعر اهتمامًا كبيرًا للبناء الجمالي مرتكزة في أسلوبهاعلى المباشرة والإخبار.
تجنيس العمل : رواية واقعيّة مجتمعيّة تتبع مدرسة الفن للمجتمع.
المستوى البصري:
الغلاف كعتبة بصرية أولى:
مجموعة من الأذرع والأيديالهزيلة, جلودها مختلفة الألوان, كأنها شجيرات مزروعة, مرفوعة باتجاه عَتَمة سماء يجلّيها قمر في طور بدر, يكشف ضوءه تحليق عدد من الخفافيش, مكوّن صوري يكشف الستارة عن ديكور مسرح أحداث الرواية, أي مكانها بكلّ متعلقاته, من بقايا أشخاص, وأزمان ( القمر البدر هو وقت السحر والشعوذة), وملحقاته ( الخفافيش سكّان الخرائب). طبعًا الغلاف من تصميم دار راشد للنشر وهي دار تابعة لجائزة راشد بن حمد الشرقي للإبداع, والتي طبعت هذه الرواية الفائزة بالمركز الأول للعام 2019, وهو مناسب لموضوع العمل.
من العنوان ( حارسة الموتى) لعبت الأديبة على وتر التشويق, هل يحتاح الموتى إلى حراسة؟ وإن احتاجوا فلماذا حارسة وليس حارس؟ تحرسهم من ماذا؟ ومن هي حارسة الموتى؟ وما هي قصتها؟
في الميثولوجيا المصرية يُعتبر ( أنوبيس-Anubis) إله الموتى والمقبرة والتحنيط, يتم تصويره على شكل رجل برأس ابن آوى الأفريقي, يتولّى أدوارًا مختلفة من ضمها ( حامي المقابر) إضافة لكونه مسؤولًا عن التحنيط, ومرشد الأرواح في الحياة الآخرة. إلى الدور الأول تشير الكاتبة, لكنها لا تغفل الإشارة إلى الأساطير والميثولوجيا المصرية عبر الحديث عن سرقة الآثار المصرية وعبر بعض طقوس الدفن التي مازالت موجودة إلى الآن في بعض البيئات المصرية, والتي يُدفن فيها الميت مع بعض مقتنياته الثمينة, لذلك كان الموتى بحاجة إلى حراسة من لصوص المقابر, والأحرى أن يكون حارسًا وليس حارسة, لكن الكاتبة اختارتها حارسة لبثّ عنصر التشويق.
العمل مقسّم إلى ستّة فصول, الفصل الأوّل والثّاني سرد بلسان الراوي العليم, لا يتجاوز الفصل منهما الأربع صفحات, بعنوانين مثيرَين ومترابطَين ( الموتى خارج القبور- الليلة السابقة لخروج الموتى ) والأربع فصول الباقية سرد بلسان شخصيات مشاركة في الرواية ( حمدية – الداهش- سعيد – أبو اسماعيل)
تعرضت الكاتبة لمواضيع عدّة منضوية تحت لواء الموضوع الأساسي, وهي الأميّة والتسرّب من التعليم, والدجل والشعوذة, والشذوذ الجنسي, وسرقة القبور, وسرقة وتهريب الآثار, والتزييف, وبيع أراضي الدولة, والترويج والاتجار بالمخدرات, والقتل, والمحسوبيّات, والآراء السياسية حول عبد الناصر والسادات.
المستوى المتحرّك:
من العنوان التهكّمي, والذي ينتمي للمثل المعروف ( حاميها حراميها) تنطلق الكاتبة إلى مسمار أخر تعلّق عليه خيطًا من خيوط التشويق, وهو:
الاستهلال: الذي جاء على فقرة سردية نستنتج أنه حلم, وبعد الانتهاء من قراءة الرواية سنجد أنه حلم في حالة غيبوبة أو احتضار, وفيه تلخيص ذكي لحياة ( حمدية) بطلة الرواية, وبعض ضحاياها:
..... يجرفني التيار, أتشبّث بجلباب يبدو لغريق, تلتفت إلى من ترتديه, امرأة جميلة أشعر أني رأيتها من قبل, تقول : أخذتِ خاتمي, نزعتيه من أصبعي في ليلة دفني الأولى.
الزمكانية:
الزمان: على مدى فترة زمنية طويلة امتدت من بعد نكسة 1967 إلى ما بعد مقتل السادات بقليل, وخصوصًا فترة الانفتاح التي أعقبت معاهدة كامب ديفيد.
المكان: مقبرة في مدينة صغيرة في محافظة البحيرة يغلب عليها الطابع الريفي, غالبًا هي مدينة رشيد حيث يلتقي أحد فروع النيل بالبحر المتوسط. وهناك أماكن أخرى تجوّلت فيها أحداث الرواية, منها تل المندور. ...
التشابك السردي :
ابتدأت الكاتبة من بعد العنوان روايتها من لحظة انفراج تلت العقدة, وهو مشهد الاحتضار الذي ساقته في الاستهلال, ثم عادت إلى الفصل الأول, الكاتبة اتبعت الطريقة الارتجاع الفني أو الخطف الخلفي , حيث يبدأ الكاتب فيها بعرض الحدث في نهايته أو قبل نهايته بقليل, ثم رجعت للماضي لتسرد القصة كاملة, وهذه الطريقة متبعة في مجالات تعبيرية أخرى كالسينما, قبل أن تنتقل إلى الأدب القصصي, وهي موجودة في الرواية البوليسية أكثر من غيرها من الأجناس الأدبية.
الفصل الأول والمعنون ب الموتى خارج القبور, عنوان فرعي مثير آخر, تثبّته الكاتبة مسمارًا ثالثًا على جدار التشويق, توتّر به المتلقي, وتسرد به حادثة غرائبية, لتكون أول حدث على محور التوليد في مثلث الانفراج العلوي, وليس في مثلث الصراع السفلي, ومنه ستتوالى الأحداث نزولًا إلى مثلث الصراع, وعلى ذات المحور ( محور التوليد) مع بدء ظهور الشخصيات من قمّة المثلث السفلي باتجاه قاعدته, أول تلك الشخصيات كان ( الداهش) الحوذي أو العربجي الذي ينقل بعربته الكارو النعش عادة من المقابر إلى بيت الميت, ثم ينقل الميت بعد تكفينه إلى المقبرة لدفنه, والحادثة تبدأ برؤية الداهش لميت شاب مات بأزمة قلبية ودفن بالأمس ( هو أخو سعيد), وجدوه ممدّدًا بكفنه في النعش, بعيدًا عن قبره المفتوح!, ثم يتهيّأ له وللفتى الذي يساعده أنّ القبور كلّها تُفتح والموتى يخرجون بأكفانهم, ومن هذه التهيؤات بنت الكاتبة أول لبنة في البناء الفني للرواية, الخرافة, أصل الحكاية, والتي ستُقدّم الكاتبة عبرها شخصيتها البطلة ( حمدية) من خلال شهادة تعريفية للداهش على لسان الرواي العليم:
.... تنفض عنه جماعة, تلتف أخرى يحكي ويحكي, يسير وحماره يتبعه, تذكّر حمدية حارسة المقابر وهي ليست معيّنة من أي جهة لكنها متواجدة بشكل دائم على الأقل طوال النهار, فهي علامة من علامات المكان, طيّبة في التّعامل مع الناس, وتعرف كلّ شبر في المقابر, ولا بد أنّ عندها أصل الحكاية, أي حكاية الموتى ضاقوا بالقبور.
الفصل الثاني بعنوان: الليلة السّابقة لخروج الموتى
وهو الفصل الذي يحوي العقدة أو لحظة التأزّم التي عادت إليها الكاتبة لترويها على لسان الراوي العليم أيضًا, العقدة التي حصلت في ليلة سبقت النهاية, هي حدث مداهمة بيت حمدية من قبل المخبر طنطاوي, بجريمة حيازة ممنوعات, لم تكشف الكاتبة عن طبيعة هذه الممنوعات في هذا الفصل, لوعيها التام لضرورة ألّا يضع الكاتب كلّ المعلومات في أوّل سلّة من سلال السرد, وهذا يدلّ على مقدرة الكاتبة على شدّ المتلقى بذريعة التشويق, في هذا الفصل تبدأ الكاتبة في إظهار أبعاد الشخصية الرئيسية ( حمدية) عبر حوار طنطاوي معها, حيث يرفع الستر عن بعض أبعادها الاجتماعية:
ضحك الطنطاوي ساخرًا: لسه بتطبخي على وابور جاز!
وأيضًا أبعادها الثّقافية:
.... قال : خرزة زرقه خايفة من الحسد.
لم تكلّف نفسها عناء الرد, فالجميع يعرف أن قرطها الأزرق مضاد للسحر, لكنه سيصنفه من الدجل وقد يلصق بها تهمة غير التي جاء بها فلن تمنحه تهمًا مجانية.
عند هذا الفصل ينتهي دور السارد العليم, وبعدها ستترك الكاتبة لأربع شخصيات مشاركة مهمّة السرد بطريقة تمثيلية, للتتناص الكاتبة عزة دياب مع عملاق الأدب الواقعي نجيب محفوظ بهذه التقنية السردية في الكثير من رواياته, وأهمها أفراح القبة, ثرثرة فوق النيل, والقاهرة الجديدة وغيرها.
بدأ السرد بلسان السارد المشارك بالتسلسل : حمدية – الداهش- سعيد- أبو اسماعيل, ومن خلال ذلك السرد لحبك فرعية للشخصيات المشاركة, ستبني الكاتبة حبكتها الرئيسية:
الحبكة:
لم يكن هناك صراع درامي من بين الشخصيات المشاركة, وإنّما كان الصراع عبر حبك فرعية, بطلها الشخصية المشاركة التي تولّت مهمة السرد, فهناك صراع بين أبو اسماعيل تاجر السمك الصغير, ومن يُدعى عمران تاجر المخدرات الكبير, حول بضاعة حشيش أخذها أبو اسماعيل وخبأها في النهر, بينما خبّأ حصّة تخصّه شخصيًّا عند حمدية, يحاول أبو اسماعيل التخلّص من عمران بمحاولة قتل ويفشل, ما جعل كفّة الصراع تنقلب لصالح عمران الذي يخطف ابن أبو اسماعيل ويهدّده بقتله إلى أن يحضر البضاعة خلال فترة زمنية محدّدة.
وهناك صراع بين سعيد (وهو الشخصية المكافحة الوحيدة التي حافظت على أخلاقياتها والذي قذفت به ظروف الانفتاح التي زادت فقر الفقراء إلى العراق ليعمل سبّاكًا) وأخيه الأصغر, حيث استحل الأخ مال سعيد, يعود لبلده بعد سنين من الكدح, ليجد الأخ الأصغر وقد استأثر بكلّ شيء, حتى بالزواج من البنت الوحيدة التي كان يرغب بالزواج منها, الأخ يتنكر لفضل سعيد ويطرده, ينتهي الصراع بينهما بنهاية قدريّة, وهي موت فجائي للأخ, ودفنه ثم قيامه من قبره, وهو الحدث الذي ابتدأ منه الحكي.
هذه الحبك الفرعية تلتقي بالحبكة الرئيسية, والتي تكون فيها ( حمدية) هي محور التكوين, الذي يجتمع عليه كل الشخصيات المساعدة والمشاركة حتى الأستاذ عبده لم يكن هناك صراع جدّي بين حمدية وبينه, حتى بعد أن انتهت علاقتهما الجنسية, وإن كان حقد عليها واتهمها بال ( المخاوية) واتُهمت بقتله لكن ثبتت براءتها, وتورط أصدقائه( الذين كانوا يسهرون ويحشّشون معه) بمقتله طامعين ب (السبوبة) التي ظنوا أنه يملكها.
وحتى يقوم الصراع لا بدّ من وجود شخصية معارضة تتسيّد محور المعارضة, هذه الشخصية لم تظهرها الكاتبة بوضوح, وإنما أشارت إليها عبر سرد الشّخصيات المشاركة كما أسلفنا, وعلاقتها مع كل الشخصيات وتقاطعها في كل الحبك الفرعية, ثم أشارت إليها بقول الطنطاوي لرجب مجيبًا على سؤاله لماذا قتلتها؟ : صاحبك هو السبب.
هذه الشّخصيّة المعارضة, والتي دخلت بصراع خفي مع حمديّة, وهي الشّخصيّة الوحيدة التي لم تتح لها الكاتبة حريّة الحكي والتعبير عن نفسها, بل تركت تلك المهمّة لباقي الشّخصيات المرافقة التي جمعتهم بها الطفولة والسفر إلى العراق, حيث جاء ذكرها في العرض التمثيلي للشخصيات بما يمكّن المتلقي من تكوين فكرة كافية عن أبعادها الجسدية والنفسية والاجتماعية, وهي الشخصية الوحيدة التي مكّنها الانفتاح من النمو والاستمرار, حتى وصلت إلى شرفات النفوذ, وأهل السلطة والمال, كلّ تلك الإشارات تتقاطع, ليظهر (ماهر) في كلّ التّقاطعات, مهرّب الآثار, المتزوّج زيجات عديدة فاشلة مثيرة للتساؤل, وحدها حمدية وسعيد كانا يدركان السّبب وهو شذوذه الجنسي ( مثلي).
الكاتبة جعلت المتلقي هو من يقوم برسم الحبكة الرئيسية, يلملم ما تناثر من أحداث مروية على لسان الشخصيات المشاركة, حيث أضافت كل شخصية حدثًا جديدًا خفيَ عن البقية, أو تفسيرًا لحدث, يضمّها المتلقي إلى الأحداث المروية على لسان السارد العليم, ليستنتج الحبكة كاملة.
لجأت الكاتبة لإدخال قصص غرائبية, كقصة الطيف مسعود, لم أجد لها مبرّرًا أو ذريعة إلّا لرغبتها بالتأكيد على أيديولوجيتها الفكرية, وبرصف أرضية أو ديباجة الرواية التي يختلط فيها الواقع الشاذ بالمتخيّل الميتافيزيقي,
النهاية: مفتوحة على تساؤلات يطرحها أبو اسماعيل الذي اضطر لتسليم البضاعة لعمران مقابل الإفراج عن ابنه:
أريد أن آخذ حمامًا ساخنًا وأنعزل عن الناس, وأفكر على رواقة في الصّخرة التي مرّ ماهر بجوارها. وماذا حدث لرجب وكيف ماتت حمدية؟!
الجواب على آخر تساؤلين ممكن أن يكون استنتاجًا سهلًا بعد استعراض حبكة السرد, والتي يرجح فيها أن ماهر هو من أوعز إلى طنطاوي بضرب حمدية حتى الموت, وهو من قام بدهس رجب, لكن الجواب على التساؤل الأول رمزي للغاية, ويعيدنا إلى المحور الفكري الأول الذي ثبّته عند الكاتبة( بعد أن أكّدت في الحبكة أن لا أحد غير حمدية ورجب يمكنهما الوصول إلى الكهف, فعند الصخرة تتخشّب أرجل أي من يحاول الوصول إلى الكهف بفعل السحر), وهو أن السحر لا يطال هؤلاء المتنفّذين, لأن سلطتهم تُخضِع حتى العفاريت.
الأسلوب:
إخباري مباشر خالٍ من الانزياح نحو الجمال, مع انزياح طفيف نحو الرمز إذا أسقطنا بعض الأحداث على دلالات رمزية, كتشبيه ميتة الأستاذ عبده بميتة السادات, وتسلل وتغلغل ماهر رمزيًا لنشوء طبقة اللصوص البرلمانيين وغيرهم من السلطويين, ليكونوا فوق القانون.
الحوارات:
باللّهجة العاميّة, هي نقطة تُسجّل على الكاتبة, ولو أنها استخدمت الألفاظ الفصيحة والبسيطة كما فعلت بسرد الشخصيات المشاركة لكان أفضل, رغم أن ذلك السرد تخلّله بعض الألفاظ العامية, حوارات قصيرة خفّفت من سرعة السرد وتوتره, وكشفت بواطن الشخصيات والأحداث على حدّ سواء.
الوصف: اقتصر على الوصف المكاني بطريقة مباشرة من دون انزياح بلاغي أدبي.
في الختام:
نبارك للكاتبة فوزها بجائزة راشد عن هذا المؤلّف, والذي جمع بين البحث الاجتماعي والعمل الأدبي في إطاره الروائي متمنّين لها المزيد من النجاحات.
#دعبيرخالديحيي
23 مايو 2020 الاسكندرية
#عبير_خالد_يحيي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟