|
مفهومان للعلمانية: دور الدين في المجتمع الأمريكي المعاصر
غازي مسعود
الحوار المتمدن-العدد: 1598 - 2006 / 7 / 1 - 00:12
المحور:
ملف - 1 تموز 2006 - العلاقة المتبادلة بين العلمانية والدولة والدين والمجتمع
(( هذه ترجمة كاملة لمقالة ولفرد إم. ماكلي Wilfred M. McClay "مفهومان للعلمانية" Two Concepts of Secularism التي نشرت في مجلة Wilson Quarterly الأمريكية، مجلد 24، العدد 3. وولفرد إم. مكلي عضو سابق في مركز ولسون، وأستاذ كرسي الامتياز بقسم سنترست للعلوم الإنسانية بجامعة تينيسي بمدينة تشاتانوغا. من كتبه "اللاسيادة: الذات والمجتمع في أمريكا المعاصرة" (1994). قدّم نسخة معدَّلة من هذه المقالة في مؤتمر دار حول دور الدين في الحياة العامة الأمريكية، عقد في مركز ولسون، وستظهر هذه المقالة في كتاب جديد بعنوان "تجديد الساحة العامة: الدين والسياسة الحكومية في القرن العشرين"، والكتاب من تحريره وتحرير هيو هكلو، وسوف تنشره دار نشر مركز ولسون.))
قد يوافق معظم الأمريكيين على أنهم يعيشون في مجتمع علماني secular. ولكننا نشهد اليوم حرباً مشتعلة بين فكرتين مختلفتين عن معنى كون المرء علمانياً.
فكلما انطلق المرء باحثاً عن البسيط والواضح في التاريخ الأمريكي، وجد نفسه، بعد وقت قصير، وجهاً لوجه أمام كمٍّ هائل من المفارقات. ولا أكبر من هذه المفارقة: إن الدولة الرائدة – عالمياً – في الإبداعين التكنولوجي والاجتماعي، هي، في الوقت نفسه، الحصن الأساس – عالمياً – للإيمان الديني وممارسته. وقد استطاعت الولايات المتحدة الأمريكية الحفاظ على مستويات عالية من الإيمان الديني التقليدي والارتباط به، حتى وهي تتهادى في مياه الحداثة modernity الصافية السريعة.
ولا يُفترض أن يكون هذا الأمر قد وقع. فقد كان ماكس فيبر وبيتر برغر مقتنعين بأن التَّعلمُن أحد وجوه البناء الضخم المسمى "تحديث" modernization، ووثقا بأن التَّعلمن secularization سوف يأتي محزوماً داخل حزمة شاملة تضم قوى مُحَدِّثَة modernizing عديدة: التحضر، التعقلن، الاحتراف، التمايز الفعّال، التبقرط ... إلخ. فإذا كنا نعني بـ"العلمانية" منظوراً يُلغي إمكانية وجود ملكوتٍ متعالٍ، أو نتعامل مع وجود ذاك الملكوت (أو عدم وجوده) كأمر نافل لا علاقة لنا به، لوجب علينا توقع أن تكون المعتقدات الدينية وممارستها قد اضمحلّت الآن. فمن دون شك، يستطيع المرء أن يسلّم جدلاً بأن محرَّمات الديانات الكبرى وخرافاتها لعبت دوراً مهماً في التعاليم الأخلاقية، ولكن مافوقطبيعيّتها ولاعقلانيّتها يجب أن بُعتبرا، من وجهة النظر هذه، أثرين من آثار طفولة البشرية. فتحكّمنا المتنامي بوجودنا المادي يُمكِّننا من فهم هذا العالم والسيطرة عليه بشروطنا وبالعقلية الذرائعية instrumental rationality. وكان لا بد أن تكون العلمنة قد وصلت بشكل طبيعي إلى سنّ بلوغها.
ورغم ذلك، يظل العالم، في فجر القرن الحادي والعشرين، متمسِّكاً بالدين مهووساً به، بسبل كبيرة وصغيرة. وإذا كانت "نظرية" التعلمن التي أيَّدها دارسوا الدين الاشتراكيون العلميون قد تمَّ الانتقاص من مكانتها، فقد يكون رجوع الإيمان الديني غير المتوقع إلى أمريكا القرن العشرين أكثر مظاهر نقص النظرية لفتاً.
ولكن قد لا يجب على المرء أن يقبل هذا الزعم بتسرُّع. فقد يكون الازدهار الديني الذي نشهده اليوم مجرد ازدهار دفاعي مؤقت. إذ يمكن المحاجَّة، بشكل مُقنِع، بأن الولايات المتحدة الأمريكية لم تقع قطُّ من قبلُ تحت هيمنة الأفكار العلمانية مثلما هي عليه اليوم. فثقافة نخبة الأمة، كما تُمرئيها وسائل الإعلام الجماهيرية والأوساط الأكاديمية، ملتزمة بخطاب علماني صرف، حلَّت فيه لغات العلم والتحليل المحايدة قيميَّاً، بشكل واضح، محلَّ لغات الإيمان والأخلاق الطافحة بالقِيَم. وقد قيَّد فيضٌ من قرارات المحاكم التي صدرت منذ أربعينيات القرن العشرين، بشكل قوي، التجليات العامة للرموز والمشاعر الدينية التقليدية، الأمر الذي ساعد على خلق ما أصبح يُدعى بـ"الساحة العامة العارية" the naked public square. ولربما تكون الولايات المتحدة الأمريكية قد تخلفت عن أوروبا الغربية في استكمال الحركة الهادفة إلى تحقيق شكل أصفى من العلمنة، لكنها، رغم ذلك، تتجه إلى تحقيق ذاك الشكل. صحيح أن التعبير الديني لم يُبْطَل تماماً، ولكنه دُفِع إلى الهوامش، فانحصر، هو وكل تهافتاتنا الأخرى التي نتحمَّل مسؤوليتها قانونياً، في منطقة يمكن تسميتها منطقة الخط الأحمر الثقافي cultural red-light district. والهدف حصر تلك المعتقدات في المجال الخاص، ومنع تجليها العام. ويُقدِّم بعض من يتمسكون بهذا الرأي أنفسهم على أنهم أصدقاء للدين. أما الآخرون، فنقادٌ أو أعداء، لكنهم جميعهم متحدون في إيمانهم بأن "الساحة العامة العارية" هي الثمن الذي يجب دفعه مقابل اللامؤسسة non-establishment ومقابل الحرية التي جسَّدها التعديل الأول للدستور First Amendment.
ورغم ذلك، توجد طريقة أخرى للنظر في الأم,ر. يوجد رأي يقول إن قوة العلمانية، وليست قوة الدين، ما يتعرض للجزر. ووفق هذا الرأي، أصبح الزعم بأن الحرية الدينية لا يمكن حمايتها إلا بقيام الحكومة الفدرالية بفرض الساحة العامة العارية زعماً سخيفاً يوازي سخافة تكتيك مرحلة الحرب الفيتنامية القائل بأن الهدف من تدمير القرى الفيتنامية هو إنقاذها. فلا غرابة إذاً في أن يقوم الدين بالرد على العلمانية بدفاع قوي عن دوره في الحياة العامة، وهو دور، مهما ظنَّ المرء فيه، لا يُظْهِر أية إشارة على انتهائه بصمت.
وبالفعل، يوجد شعور متنامٍ بأن الدين قد يكون قوة حيوية دافعة للكرامة الإنسانية والنظام الأخلاقي في عالم تهيمن عليه بيروقراطيات الدولة الشرهة والشركات العابرة للقارات التي تنتشر باستمرار ولا تخضع خضوعاً فاعلاً للقانون القومي أو تُسأل مسائلة فاعلة أمام سنن السلوك الراسخة. فكما يحاجج عالم الاجتماع هوزيه كازانوفا، تُخاطر الحداثة بإمكانية "أن يلتهمها المنطق غير الإنساني المتصلِّب الذي خلقته بنفسها"، إلا إذا استعادت "حواراً خلاّقاً" مع التقاليد الدينية التي تحدتها بنجاح كبير. ولا يوجد، ربما، أمر وقع خلال ربع القرن الأخير يؤكد هذا الرأي أكثر من تأثير الكنيسة الكاثوليكية الروميَّة العميق في سقوط الشيوعية في أجزاء عديدة من الإمبراطورية السوفيتية: ولا يوجد أي قائد ديني حديث انتبه بحماسة لاستفادة الجمهور من دينه مثلما فعل البابا بولس الثاني. ولكن توجد، حتى في الولايات المتحدة الأمريكية، أدلة وافرة على أن المعتقدات والممارسات الدينية قد صمدت، جماهيرياً وبقوة، أمام كل محاولات طمسها أو تجاوزها وأنها الآن صاعدة.
ويمكن للمرء قياس مدى هذا التحوّل، لا باللجوء إلى استطلاعات غالوب أو روبر أو بارنا فحسب، بل وأيضاً بتفحُّص التحولات في الخطاب الحكومي أيضاً. فمنذ انتخاب جيمي كارتر سنة 1976، يبدو أن تحريم قيام القادة السياسيين الأمريكيين بالتعبير عن مشاعرهم الدينية قد تآكل على الدوام، إلى المدى الذي اصبح معه المرشحون للانتخابات الرئاسية قادرين على التضرع إلى الله ويسوع المسيح بخطوات لم تُشهد منذ أيام وليام جننغز بريان. فلقد دعم المرشحون الأساسيون، ومنهم الرئيس بيل كلنتون، بحرارة، جهود ما يدعى المنظمات "القائمة على الإيمان" faith-based في توفير خدمات الرفاه الاجتماعي. (وفعل ذلك لاحقاً الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن). واستخدم كلنتون باستمرار ونجاح اللغة الإنجيلية وشبه الإنجيلية، وبخاصة في الدفاع عن نفسه. قد يشعر المرء بإغراء الضحك حين يسمع إيماءات مجازية دينية أو زمجرة واعظ، ولكنها تظل، في الحقيقة، شكلاً من الاعتراف بأهمية الدين. فالمرء لا يستطيع الاستشهاد بمعيار، حتى وإن فعل ذلك ساخراً أو شعائرياً، إن لم يكن ذاك المعيار مُعترفاً بشرعيته بشكل واسع.
ويجد المرء إشارات عديدة على اللاتعلمُن deseculaiation معكوسة في قائمة طويلة من التطورات في مجالي القانون والحُكم. فالدعم الطاغي الذي مُنح لقانون "استعادة الحرية الدينية" Religious Freedom Restoration Act لسنة 1993- رغم أنه أُبْطِل لاحقاً بقرار من المحكمة العليا – كان مثالاً مهماً جداً على هذه السيرورة. وحظي تشريع "إصلاح الرفاه الاجتماعي" welfare reform legislation لسنة 1996 بدعم كبير؛ تضمَّن ذلك التشريع ما يسمى "الخيار الخيري" charitable choice الذي سمح بتوقيع عقود لخدمات الرفاه الاجتماعي مع منظمات طابعها الديني واضح جداً. وكما هي الحال دائماً، كانت المدارس نقطة خلاف مهمة، فلم يحصل بعض المساواة بين المدارس الدينية واللادينية فحسب، بل وظهرت أيضاً حركة تؤكد ضرورة التعبير عن المشاعر الدينية في المعاهد الحكومية، كما نشهد – على سبيل المثال – في عدد من القضايا المطروحة على المحاكم راهناً، من مثل حرية تعليق "الوصايا العشر" في المدارس الحكومية، وإجازة افتتاح احتفالات التخرُّج ومباريات كرة القدم الأمريكية بالصلاة. وطبعاً، لن تنجح هذه الجهود جميعها، ولا يجب أن تنجح، ولكن الاتجاه لا تخطئه العين.
وبعض الأمور لم تتغير أبداً، رغم نجاحات العلمانية المذهلة في المحاكم والأروقة الحكومية والأكاديمية. فلا يزال النطق بالصلوات مألوفاً عند افتتاح دورات الكونغرس، ويظهر اسم الله على أوراق النقد، ويُنطق في القسم الذي نقسمه في المحاكم. ولا يزال الكونغرس والقوات المسلحة يوظفون القساوسة. ولا تزال المؤسسات الدينية تتمتع بوضع قانوني يعفي المتبرعين لها من الضرائب. ولا يزال الإيمان المُعلن بالله طاغياً بشكل مذهل، كما لا يزال معدَّل ارتياد الكنائس المسيحية والمعابد الدينية اليهودية عالياً، في الأقل نسبة إلى معدَّله في بلدان غربية أخرى. وسواء نظر المرء إلى هذه الظواهر موافقاً أو غير موافق، فإن أمريكا ما زالت بلداً غير علماني كلياً، بلداً خالياً من أي جزاء حكومي على الدين.
ويمكن أن يستمر المرء بالكلام على هذا المنوال لوقت طويل، لكن أنصار الرأي المُعَلْمِن secularizingقد لا يقتنعون به، وربما ردّوا بأن إيمان الأغلبية المُعلن بالله إيمان أخفُّ من الحليب المقشود. صحيحٌ أن العلمانية المسيطرة الآن قد تنازلت عن كثير من الأرض لصالح الدين، ولكن تنازلها مجرد مرونة في مسائل صغيرة نسبياً وترسيخ لدورها، ويجعل طرح المزيد من التغيرات ذات الشأن سائغاًً، الأمر الذي سيُفرغ، في النهاية، حين يتجذر، اللغة اللاهوتية الأخلاقية من كل معنى. فدراما محاكمة الرئيس كلنتون تشير إلى أن الأخلاقيَّة المتشددة stern moralism التي ارتبطت ذات زمن بالبروتستانتية الأمريكية أصبحت أمراً من أمور الماضي البعيد. وفي هذه الأيام، لا يكاِّف انحناء السياسي الأمريكي أمام "الدين" شيئاً، بخاصة وأن ذاك "الدين" قد أصبح غامضاً تماماً، ولا يتطلب الكثير أخلاقياً. ومن وجهة نظر المُعَلْمِنَة، تعتبر الإشارات إلى الدين مجرد نوبات قصيرة في حياة حضارة تعيش مرحلة تحول كبير.
تحمل وجهة النظر هذه بعض الحقيقة، ولكنها تُقلِّل من أهمية الكلمات والإشارات كعلامات على الشرعية. فمجرد وقوع تلك الانحناءات، حتى وإن كانت انحناءات فقط،، قد يشير، رغم ذلك، إلى مدى تقلقل ذاك التقدم العلماني. فلا أحد يبني نُصُبَاً لإله التعقلن العلمي أو لدين الإنسانية الكُونتي (نسبة إلى كونت)، على العكس من ذلك، توجد تجارة مزدهرة للكريستال والأهرامات والتنجيم والمتنبئين. وحتى موقع العلم بين الجماهير قد تراجع إلى حد ما في يومنا هذا، نتيجة تسييس العلم تسيساً متواصلاً، ونتيجة للعواصف التي تعرضت لها دعاواه المُضخَّمة المتناقضة في مناحٍ كثيرة، من مثل الصحة والريجيم، ونتيجة لما أثاره من مخاوف بين الجماهير في ما يتعلق بالاختراعات التكنولوجية العلمية التي أصبحت قوى ماحقة تفتقر إلى أي حسٍّ بالنسبيَّة الأخلاقية moral proportionality أو الغايات الجوهرية ultimate ends، سواء أكانت تلك المخاوف ذات أساس أو غير ذات أساس،
وهنا، يمكن قول شيء واحد بلا تردد: لا تبعث العلمانية، في أيامنا هذه، رؤية مُحقِّزة أو روحاً ثورية. بدلا عن ذلك، تراها تنتظر إفراطات اليمين الديني، أو عدو مشابه، لتطرح قضيتها وتحيي حماستها الخافتة وتجنِّد قواتها الباقية. إن العلمانية تجلس قلقة على عرشها؛ إنها مَلِكٌ لا يجرؤ على نطق اسمه العَلَم، ولا يجرؤ على طرح أجندته علناً، إن بقي له أجندة بالفعل. فرغم مكاسبها كلها، يبدو أنها الآن تقف موقف الدفاع، فهي راديكالي صعد إلى مقعد الثقافة المكين، ليجد نفسه مضطراً لقضاء أيامه متمسكاً بقواعد سياساته القديمة. ويبدو أن الموضة هذه الأيام أن يكون المرء "روحانياً" أكثر منه علمانياً.
ولا يوجد مؤشر على مدى التحدي الذي تواجهه سلطة العلمانية – واهتزاز تلك السلطة – أقوى من التحدي الذي تطرحه ثقافة دينية محافظة مضادة، مركّبة فكرياً، وتغدو مسكونيَّة ecumenical أكثر فأكثر. وهذه الثقافة المضادة، التي تجمَّع المدافعون عنها بعد قرار المحكمة العليا لسنة 1973 في ما عُرف بقضية "رو ضد ويد" Roe v. Wade في المحكمة العليا، وبعد لبرلة قوانين الإجهاض اللاحقة لذلك القرار، مكونة أساساً من محافظين لاهوتيين وأخلاقيين تجمعوا من انتماءات منظَّمَة عديدة: المحافظون والبروتستانتيون الإنجيليون والكاثوليك واليهود. ومثل هذا الكيان، وبخاصة كما تجسَّد في فصلية رتشارد جون نيوهاوس المؤثرة "الأشياء الأولى" First Things، ما كان يمكن التفكير به لو لم يكن عدو علماني قوي مُمأسس موجوداً، فيجعل ذلك التحالف صلباً. في الماضي، كان أقل الاحتمالات أن يبحث أكثر البروتستانتيين والكاثوليك واليهود محافظةً عن أرضية مشتركة. أما كونهم الآن مستعدين أن يفعلوا ذلك، بحماسة متنامية والتزام، فذلك لأنهم يواجهون عدواً علمانياً مشتركاً. ذات زمنٍ، كان على المرء إن أراد أن يكون مسكونيَّاً أن يكون لبرالياً. ولكن ذلك لم يعد صحيحاً. فالآن، إذ يوجد خطر أكبر من اختلافات الأديان، يوجد ما أصبحنا نسمية "الحروب الثقافية" cultural wars.
ولم ينحصر رد الفعل على العلمانية، بأي شكل من الأشكال، بالمحافظين. فقد كتب لبراليون مشاهير، من مثل الصحفي إي. جِي. ديون، وأستاذ القانون ستيفن كارتر، واللاهوتي هارفي كوكس، وعالم النفس روبرت كولز، والمُنظِّر السياسي وليام كونلي حول عدم كفاية وجهة النظر العلمانية الصرفة عن العالم. وقد يكونون أكثر من وفَّر أقوى البراهين على انتهاء العلاقة بين العلمانية والتحديث modernization، لأنهم يقفون موقفاً مفاده أن الأجندة "التقدمية"، أو المُحَدِّثَة، لا تحتاج أن تكون أجندة مُعلمِنة.
إضافة إلى ذلك، ظهر نقد يتنامى أثره باستمرار، قادم من الأوساط الأكاديمية ما بعد الحداثيَّة postmodernism وما بعد الكولونيالية postcolonialism، يقول أصحابه إن دعاوى العلمانية بأنها تحمل الحقيقة المطلقة والعقلنة الموضوعية impersonal rationality شكل من أشكال الإمبريالية المعرفية cognitive imperialism . ونتيجة لذلك، لم تعد دعاوى الدين تُصنَّف من بعد بأنها خاصةً وذاتيةً. ففي النظام ما بعد الحديث postmodern، حيث تُعتبر المعرفة غير منفصلة عن خطاب جماعات خاصة، يُعتبر الجزم الديني بأنه حامل للحقيقة دعوى صالحة مثلها مثل أية دعوى أخرى، بل أفضل من كثيرات غيرها. وفي الممارسة، تميل مثل هذه المُحاجَّات إلى تفضيل دين السكان الأصليين، وكثيراً ما تترك الديانتين السائدتين، المسيحية واليهودية، خارج الصورة، وربما اعتبرتهما، إلى حد بعيد، جزءاً من "الهيمنة العالمية الغربية" لا تستحقان الالتفات. في أية حال، قد يكون لهذه المحاجَّات قدرة على البقاء خارج بيت المؤسسة الأكاديمية الدافئ. لكن ظهورها يؤشر، بالتأكيد، على تململها من نظام العلمانية، وتأتي من موقع يصعب وصفه "محافظاً" بأي معنى عادي للكلمة.
إذاً، ليس كل ما نراه من تحديات للعلمانية يمكن أن يأخذ شكل حرب ثقافية. ولكن جزءاً كبيراً منه يفعل ذلك. فالمدافعون عن الدين يرون علمانية عدوانية، تسيطر على المؤسسة الأكاديمية ووسائل الإعلام والمحاكم الفدرالية، ولذا تسيطر بشكل كبير على الخطاب العام. والعلمانيون وحلفاؤهم يرون في معاريضيهم ردَّ فعل ديني جنينياً ، وتراجعاً ثقافياً خطيراً، و"عودة للكابح" الذي يتجاهل البحث العلمي ويدمر حرية الفرد، ويعيدنا إلى العصور الوسطى. ليس ثمَّ خيال في هذه الصراعات، ولكن ليس ثمً ما يُحتِّم أن تكون متطرفة.
وإذ يبدأ القرن الحادي والعشرون ، نجدنا بحاجة إلى وسيلة نفهم بها صراعنا الثقافي وتواجه حقائق الانقسام الاجتماعي، دون أن تصبح نبوءة ذاتية عن حرب أهلية. والعقبات أمام الوصول إلى هذه الوسيلة هائلة. فكما أشار عالم الاجتماع جيمز ديفسون هنتر، تجري جدالاتنا القومية الآن في إطار يميل إلى بلورة الحجج، وتصليب المواقف الإنقسامية، وتأكيد أكثر المواقف تطرفاً لكل معسكر، كي يتم تجنيد المتبرعين والقوات.
فإذا كان مفهوم "الحروب الثقافية" يعزز النزعات التي يصفها، فإنه يساعد أيضاً في توضيح كثير من الأمور..فحين يساوي مساواة تقريبية بين طرفين متصارعين، فإنه يساعدنا على رؤية أن الصراع بين التحديث والساخطين عليه ليس مجرد معركة النور ضد الظلام، والتقدم ضد التخلف، بل وصراع فيه عديد صفات صراع مذهبي، حيث تتصارع آراء أصيلة عميقة ضد بعضها بعضاً – صراع فيه كثير من النور والظلمة، الفضيلة والرذيلة، ليدور حولها.
ويعني نموذج الحرب الثقافية أن الصراعات التي تم وصفها ليست مجرد وهم وقلق يمكن تسكينهما بعلاجهما نفسياً. على العكس من ذلك، يعني الحديث عن "الحرب الثقافية" أن نُصر على أننا نعيش صراعات أصيلة تدور حول مسائل حقيقية. فقد يكون الجهد الداعي، بتبسيط، إلى فصل الخلافات بالنصح بالاعتدال والحرص، وباتباع المبدأ العملي القائل إن على المرء أن يُبدي أقل قدر ممكن من الاستياء أمام أكثر قدر من الخلاف، جهداً ينكر ما يعتبر خطراً عند أقليات "متصلبة" من كلا طرفي الصراع. وقد تكون الأغلبيات مخطئة. وفي هذا الصراع المحدد، المخاطر كبيرة. فالمعركة تُخاض حول من سيشغل المرتفعات القيادية للحياة الأمريكية، ولذا يحدد طبيعة الثقافة.
والحديث عن "المرتفعات القيادية" يطرح السؤال الآتي: هل كانت الولايات المتحدة الأمريكية، أو يجب أن تكون، دولة علمانية رسمياً؟ ولذا، وبمعنى ما، يطرح ذلك الحديث سؤالاً آخر: هل توجد في أمريكا مؤسسة دينية أم لا؟ كان هذا الموضوع دائماً شائكاً معقداً. وطبعاً، لم توجد أبداً، من ناحية رسمية، مؤسسة دينية أمريكية. وكما يعرف كل امرئ، توجد فقرتان تعبران عن رأي "التعديل الأول" للدستور في الدين: فقرة عن حرية الممارسة الدينية وفقرة عن اللامؤسسة. والفقرتان جزء من رؤية واحدة، لأنهما تكملان وتدعمان بعضهما بعضاً، لكون اللامؤسسة شرطاً مسبقاً ضرورياً للممارسة الحرة، ولكون الممارسة الحرة الطريقة الأكيدة لضمان بقاء اللامؤسسة.
ومن بين الاثنين، من المؤكد أن اللامؤسسة هي الأصعب على التَّقَيُّد والمسائلة. وليس صعباً فهم لماذا سيكون الأمر كذلك. فكما تكره الطبيعة الفراغ، كذلك تبحث الدولة عن مبادئ موحِّدة مُلزِمة. فدائماً، بجب أن توجد "كلمة نهائية" في أي نظام سياسي متين، ومن الصعب الحفاظ على "كلمة نهائية" قوية بأي شيء أقل من "إجرائيَّة" proceduralism محايدة راسخة. في الاتجاه المعاكس: كل شيء نعرفه عن عمل كيان سياسي صحي، يشير إلى الحاجة إلى فرضيات مركزية وأساطير تقليدية وسرود أوليَّة. فقد ملنا دائماً أن يكون لدينا مؤسسات غير رسمية تلعب ذاك الدور لنا. ومن المؤكد أن تلك المؤسسات كانت موجودة بكثرة دائماً.
والآن، فَكِّرْ في الطبقة الأمريكية التي تدعى المؤسسة الأكاديمية. لقد حاجج المؤرخ جورج مارسدن بأن المؤسسة الأكاديمية الأمريكية قد قامت بمجرد استبدال أرثوذكسية بأخرى، فمنحت اليوم الفهم العلماني الصرف للوجود البشري نفس الموقع القيادي الذي منحته أمس لأرثوذكسية بروتستانتية. سيكون هذا الأمر رائعاً إن كان صحيحاً. ولكن، هل توجد الآن أرثوذكسية علمانية حاكمة تحكم بتسامح كريم لكنها، في النهاية، لا تتسامح مع الانحرافات المعادية لأنماطها؟ من المؤكد أنه يوجد دليل على هذا الأمر، يتمثل بقمع المؤسسة الأكاديمية لأي خطاب ديني صريح ولأي آراء دينية في الخطاب العلمي، ناهيك عن انحيازها في التعيينات والترفيعات، كما يتمثل في عدائها العنيف لمجرد طرح منظورات دينية حول موضوعات خلافية من مثل أصل الإنسان. هل حتمياً أن تكون العلمانية هيمنيَّة انتصاريَّة مثل المعتقدات الدينية التي عارضتها ذات يوم؟ وهل من الدقيق الحديث عن العلمانية كنوع من الدين البديل، كحافظ للإيمان المطلق بأشياء مطلقة، الأمر الذي يصلها بالمعتقدات الدينية التقليدية؟ أو، هل العلمانية مفهومة باعتبارها متمايزة تماماً من الدين وأكثر تواضعاً منه؟ وهل جعلتنا ديناميكية حرب العلمانية الثقافية ضد اللاتعلمن نفقد رؤيتنا لهذه الصفة المميزة لـ"العلماني"، إن فهمت بشكل صحيح؟
ويأخذ هذا السؤال شكلاً مختلفاً كليَّاً إن نظر المرء للحظة أبعد من العالم الغربي – الغرب الذي هو، كما أشار إلى ذلك بيتر برغر مراراً، الجزء الوحيد من العالم الذي انتصر فيه التعلمن – وإن أخذ بالاعتبار مكاناً تختلف فيه إيحاءات كلمة العلمانية عن إيحاءاتها في الغرب. ومثال على ذلك، يقدمه لنا خبر ظهر في صحيفة النيويورك تايمز، نُشر في 6 كانون أول 1999، وبُثَّ من الهند. في ذلك اليوم، نقلت النيويورك تايمز، أن الشرطة الهندية اعتقلت دزِّينات من النشطاء الذي تجمَّعوا في بلدة هندية شمالية هي بلدة أيودهيا للاحتجاج على، وإحياء ذكرى هدم مسجد إسلامي، يعود تاريخ بنائه إلى القرن السادس عشر، على يد متعصبين هنود، قبل سبعة أعوام. وكان ذاك الحدث قد أشعل فتيل اضطرابات واسعة في البلاد كلِّها، وأدَّى إلى موت عدة آلاف، وظلَّ مسألة ساخنة منذ وقوعه. وقامت المنظمات الهندية والإسلامية بمظاهرات إحياءً لتلك الذكرى. ومنذ هدم المسجد، ضغطت المجموعات الهندية المتطرفة، التي تشير إلى يوم السادس من كانون أول بأنه "يوم النصر"، لبناء معبد هندي في موقع المسجد الذي يعتقدون أنه مكان مولد الملك الإله راما. على العكس من ذلك، أقسم المسلمون على إعادة بناء المسجد، حاملين يافطات كُتب عليها "الجهاد مستمر". وفي تلك الأثناء، على بُعد أميال في دلهي، أحيا نحو 300 ناشط سياسي، ينتمون إلى منظمة تدعى "مواطنون من أجل العلمانية"، ذكرى السادس من كانون أول، بمسيرة احتجَّت على هدم المسجد.
يوضح هذا الخبر بشكل جيد نقطة بسيطة. فما تعنية كلمة العلمانية يعتمد على الإطارين الثقافي والتاريخي اللذين يستخدم المرء فيهما الكلمة. ففي المجتمع الأمريكي المعاصر، تعني كلمة العلمانية أمراً واحداً: وجهة نظر مجتمع ثري ما بعد ديني لا يكتنفها الغموض أو الوهم. ولكنها في اسم منظمة الهنود المتظاهرين، "مواطنون من أجل العلمانية"، تعني شيئاً آخر: ليس رأياً مضاداً للدين فرضته الدولة، بل فهماً للدولة العلمانية مضاداً للثيوقراطية وقادراً على حماية الحرية الدينية.
وليس هذا ما نسميه عادة العلمانية في الغرب. ولكن ذاك بالضبط ما دعاني إلى الاصرار على استخدام كلمة علمانية بأوسع معنى ممكن في ما سيأتي، حتى وإن كان فعل ذلك سيؤدى إلى جعل تلك الكلمة أكثر إشكاليَّة مما هي عليه الآن. فأن يحافظ المرء على إمكانيات الكلمات، يعني أن يحافظ على إمكانياتها في الممارسة – بما في ذلك إمكانية وجود شيء يدعى "الفهم الصحيح للعلمانية". وفي الحقيقة، فإن فهم المتظاهرين الهنود للعلمانية مُفضَّل من قبل معظم الدينيين عميقي التفكير في الغرب، وأداة مهمة لتنقية الالتزامات الدينية وتقييدها، ولحماية المخلصين الدينيين من مشاعرهم الإنسانية المبالغ بها تجاه الأصولية والتهور – تلك الآثار التي تتوقعها معتقداتهم هم أنفسهم. فأن تكون مناهضاً للثيوقراطية لا يعني أبداً معارضة الدين. على العكس من ذلك، يستطيع المرء أن يحاجج – كما فعل توكفيل – بأن التقليد الأمريكي المناهض للثيوقراطية أثبت بالمجمل أنه مفيدٌ جداً للدين، عملياً وأخلاقياً، وجوهري للحفاظ على التزامات دينية صحيَّة.
كيف لنا إذاً أن نعثر على توازن صحيح في هذه الأمور، محافظين على ما هو جيد في العلمانية من دون أن نتنازل لها بأكثر مما هو مطلوب؟ يمكننا البدء بتمييز طريقتين لفهم المفهوم، واحدة منهما فقط معادية للدين. فأولاً، يمكن فهم الفكرة العلمانية كمعارض للإيمان المُمأسس established – بما في ذلك المؤسسة اللادينية nonreligious establishment– وكحامٍ لحق الممارسة الحرة والتوافق الحر. وثانياً، يمكن فهمها كمؤيد للاإيمان المُمأسس وكحامٍ لحقوق التعبير الفردية المحددة بدقة.
من جهة، تُمثِّل وجهة النظر الأولى وجهة نظر الحد الأدنى، وحتى فهماً "سلبياً" للعلمانية، وتحرراً "من" العبء المؤسساتي. فعندها، ليس المصطلح العلماني إلا مجرد لغة مؤقتة تؤدي إلى تسهيل التبادل بين أنواع مختلفة من الإيمان، بدلاً عن تأسيس نوع من اللغة "المطلقة"، أو إسبرانتو للحقيقة ما بعد الدينية postreligious. ومن جهة ثانية، تُمثِّل وجهة النظر الثانية الفهم الأكثر وضوحاً، الأكثر ثقة، الأكثر "إيجابيةً" للعلمانية - إنها وجهة النظر التي تؤكد أن العلمانية عقيدةً مطلقة تتجاوز العماء المأساوي للأديان التاريخية ولا عقلانيتها المدمرة، في الأقل بقدر ما يتعلق الأمر بالنشاط العام. فمن خلال فهمها للحرية الدينية على أنها جزء فرعي من حرية التعبير الفردي، تحصر الدين في مجال خاص محدد، لا تستطيع فيه أن تصيب المجتمع إلا بضرر قليل – وإلا بخير عام قليل.
ويبدو أن المفهوم الأول من هذين المفهومين للعلمانية، "العلمانية السلبية"، مطابق تقريباً للغة "التعديل الأول" للدستور. ويعني هذا بدوره إمكانية وجود نظام علماني غير مُمأسس، نظام محترم بالتساوي من الدينيين واللادينيين. فمثل هذا النظام يحافظ على حرية الضمير الفردي غير المُكْرَه. ويفهم حاجات الإنسان الدينية إلى حد بعيد، ولذا، لا يّفترِض وجوب فهم الشعور الديني على أنه مجرد أمر فردي. على العكس من ذلك، إنه فهم يصر على أن الدين مؤسسة اجتماعية تعتبر ازدهار حق التجمع الحر – أي حق المتآخين دينياً بتشكيل جماعات أخلاقية يمكن أن تضم آخرين أو لا تضمهم، حسبما ترغب - حقاً مهماً بقدر أهمية حق التعبير الفردي. فالتعددية ملازمٌ ضروري للبرالية، لأننا، بالتحديد، مخلوقات اجتماعية، وجودها الاجتماعي شرط مسبق لكل شيء آخر نعزُّه.
ويمكن الإشارة أيضاً إلى أن التمييز بين الفهمين "السلبي" و"الإيجابي" للعلمانية يتوازى مع مفاهيم منافسة لمدى ومعنى النشاط العلماني الذي نسميه "العلم". فمنذ ظهور العلم الحديث، ظهرت ميول قوية تعتبر دعاواه منافسة لدعاوى الدين التقليدي ومنتصرة عليها. مثل هذا الأسلوب في النظر مضرٌ بالعلم بقدر ضرره بالدين، إذ يميل إلى تضخيم دعاوى العلم، ويحولها إلى "علميَّة" تقليصية reductive “scientism، مليئة باليقينين الميتافيزقي والكوني بأن العلم، باعتباره علماً، لا يستطيع الاستمرار لوحده. ويرى فهم "سلبي" للعلم أكثر تواضعاً بأن العلم بالضرورة شكل من المعرفة تجريبي ومؤقت، محدد بخضوعه الصارم لأنماط إجرائية تشمل تشكيل فرضيات وسلاسل من الاستنتاجات، وبالانجاز الدقيق للتجارب القابلة للمراقبة والقابلة للتكرار لاختبار تلك الفرضيات. فالعلم، وفق هذا الرأي، غير قادر، بحكم طبيعته، على تأكيد أو انكار دعاوى غير قابلة للاختبار مثل طبيعة الحقيقة المطلقة. فمطلوب من العلم أن يفترض الطبيعيَّة naturalism منهجياً – وليس أنطولوجياً. ومثل هذا الفهم المحدود يمنح إنجازات العلم الغربي الرائعة مقياس احترامه المزخرف، دون إجبارنا على تفسير العلم بأنه شكل من الميتافيزيقيا وعدوٌ حازم للدين.
مثل هذه التمييزات ظلت بعامة غائبة عند العلمانيين المتطرفين الذين يمكن أن ندعوهم علمانيين مؤسساتيين establishmentarian أو علمانيين "إيجابيين" positive . لقد عرف ماركس بالضبط ما كان يفعله وهو يهاجم الدين، ولكن علمانيي اليوم الإيجابيين غير واضحين. ففي عديد الحالات، لا يستطيعون تخيل أنهم يفرضون أي شيء على أي شخص، وهذا سبب وصفهم لأنفسهم باستمرار على أنهم المدافعون الأبطال عن الحريات المدنية، أو تسمية أنفسهم – بتواضع أكبر – "المدافعون عن الطريقة الأمريكية" في العيش People for the American Way . وفي الحقيقة، يُعبِّر ذاك الاسم، الذي تُقارب صفاته المنظمة الذاتية الأخّاذة أي هجمات موازية قام بها تجمع "الأغلبية الأخلاقية" Moral Magority ، بدقة عن الافتراضات الضمنية لمؤسستنا العلمانية غير الرسمية. وقد ركزت هذه المؤسسة جهودها على خلق "الساحة العامة العارية" وفرضِها. فتحت مَظهرِ فصل الكنيسة عن الدولة، تسعى إلى استبعاد الفكر الديني وخطابه من لعب أي دور جدي في الحياة العامة، وإلى حصر العقيدة والممارسة الدينيتين، بأكبر قدر ممكن، في مجال النزوع الخاص والذوق الفردي.
وهكذا نعود إلى سؤال مفتاحي: هل العلمانية نفسها نوع من الإيمان، ديننا المُمأسس الجديد؟ إم إنها، إن فُهمت بدقة، شيء مختلف عن الدين، بالطريقة نفسها التي يختلف بها العلم، باعتباره نمط تحقيق، عن الدين؟ وهل توجد طريقة نستطيع بواسطتها التمتع بثمار العلمانية دون جعلها أرثوذكسية بديلة، دون تحويلها إلى مؤسسة جديدة، ليست دينية، بل لادينية؟
يُذكرنا استخدام الصفتين "سلبي" و"إيجابي" هنا بمقالة آيزيا برلين المنشورة سنة 1958 والمعنونة "مفهومان للحرية" التي ألمعت إلى عنونها، دون خجل، في عنوان مقالتي هذه. إنني لم أفعل ذلك لمجرد ما لتعبير الحرية من أثر، بل لأن ثنائية تعبير "مفهومان" البرليني يساعد في توضيح مفهوم العلمانية، فالتنائية تظهر فوراً تقريباً. انطلق برلين في مقالته ليحلل "حدود الإكراه المسموح به" في الحياة السياسية. واهتمامنا هنا ليس على الإطلاق غير مشابه، لأننا نتعامل بالحدود الملائمة لما دعوته "مؤسسة"، التي هي نفسها نوع من الحد الفكري الأخلاقي المُقَيِّد. غير إن إيحاء برلين لا يقف عند ذلك، إذ يمكن تتبعه إلى قلب المقالة، وإلى تمييزه بين الحرية السلبية negative freedom التي تعني حريةً من التدخل الخارجي، وهي حرية يجب أن تترك وشأنها، وبين الحرية الإيجابية positive freedom، التي تعني حرية الحكم الذاتي والإدارة الذاتية، وأن يكون "المرء سيد نفسه".
بعد أن قُررا بهذه الطريقة – كحرية من التدخل، مقابل الحرية في أن يكون المرء سيد نفسه – قد لا يبدو مفهوما الحرية مختلفين كثيراً. ولكن لكل منهما تبعات دفينة فيه ستؤدي، في النهاية، إلى تفارق المفهومين بشدة، فيصلا إلى مقصدين مختلفين ونتائح مختلفة جداً. فالحرية السلبية حرية مِنْ؛ إنها حرية تشمل اجتناب المعوِّقات وحماية الخصوصية، من أجل خلق "منطقة فعل حرة" قصوى. وكان للحرية الإيجابية أهداف أعلى وأنبل. وسعت لتحرير الكائنات البشرية كي تحقق أكثر عناصر طبيعتهم رفعة. ولكنها كانت أيضاً، في عيني برلين، أكثر خطورة من الحرية السلبية، لأن مسعاها قد يؤدي بسهولة إلى تدابير دكتاتورية أو سلطوية.
وللمنطق الذي وصل به برلين إلى هذه النتيجة علاقة بما نقول. فقط أكد أنه كي تصبح الكائنات البشرية سيدة نفسها عليها أن تكون قاهرة لنفسها، فتضع عناصر الجموح أو الوعي الزائف الموجودة في بنيتها تحت سيطرة ملكاتهم العقلانية و"ذواتهم الأفضل"، ولذلك ممارسة إكراه ذاتي لا يكِلُّ، باسم "حرية أعلى"، هي بالضبط ذاك النوع من النشاط الذي يمكن أن ندعوه "الانضباط الذاتي". ولكن ما يبدأ كإكراه ذاتي قد يصبح مع الزمن عصياً على التمييز من الإكراه الخارجي، لأننا، كما لاحظ برلين، نعترف بـ"أن من المبرر ... في بعض الأحيان، إكراه البشر باسم هدف معين (دعنا نقول إنه العدالة أو الصالح العام)؛ ينشدونه، لكنهم لا يفعلون، لأنهم عُمي أو جاهلون أو فاسدون.
وهكذا، يُفتح الباب للإكراه، باسم تكريم "الذات الحقيقية" وتحريرها من الوهم، من أن "تحكمها الأساطير"، ومن أشكال متنوعة من "التبعية"، أو السيطرة الخارجية. فالحرية الإيجابية لا تطمح لأقل من استقلالية وسيادة ذاتية شبه إلهية. وهي إذ تفعل ذلك، تعتمد على قدرة العلم الحديث على كشف الأوهام التي تدعم اللاعقلانية. كان عظماء مفكري القرن التاسع عشر، من مثل كونت وماركس، أنصار أشكال متنوعة من الحرية الإيجابية، وآمنوا، كما كتب برلين، بإن "فهم العالم يعني التحرر"، ولكن معظم الناس "مُستعبَدون من قبل مؤسسات استبدادية ومعتقدات أو مخاوف – لا يمكن التخلص منها إلا بتحليلها وفهمها". فمعظمنا "مسكون بأرواح شريرة نحن ... خلقناها، ولا يمكن طردها من ذواتنا إلا بأن نصبح أوعى، وبأن نتصرف بشكل ملائم". باختصار، إعرف الحقيقة – الحقيقة العلمية العلمانية الطبيعية – وستجعلُكَ حراً.
ولكن المعتقدات التي تمكِّن المرء من اختراق ضباب التشوش اللاعقلاني يمكنها أيضاً أن تغري المرء "بتجاهل الرغبات الفعلية للبشر والمجتمعات، لإرهابهم واضطهادهم وتعذيبهم باسم، وبالنيابة عن، ذواتهم "الحقيقية"، مع معرفة أكيدة بأنه مهما كان هدف الإنسان الحقيقي ... فإنه يجب أن يكون متطابقاً مع حريته – الخيار الحر لذاته ’الحقيقية’، رغم أنها قد تكون في الأغلب مغمورة وغير متماسكة". وفي النهاية، بدا لبرلين أن مثال الحرية الإيجابية خطِرٌ جداً – فضٌّ جداً وجلِفٌ، مُعَرَّض جداً للوقوع في الأحادية و"الحلول النهائية"، سيطريٌّ جداً ومُلغٍ جداً للشخصية الفردية – ليُؤيَّدَ. ولذا، يفضل برلين الحرية السلبية والتعددية التي تُنتجها، ويعتبرها متالاً "أحق وأكثر إنسانية من أهداف أولئك الذين يبحثون عن السيادة الذاتية ’الإيجابية’ في الُبنى العظيمة المنضبطة السلطوية."
كانت التعددية، طبعاً، الفكرة السياسية الاجتماعية المركزية التي تمحور كَارُ برلين حولها. فقد أكَّد مراراً على وجود حسنات كثيرة في العالم، وهي حسنات لا ينسجم بعضها، بالضرورة، مع بعضها الآخر، وقد تكون حسنات حصرية، ولكنها، رغم ذلك، لا تتوقف عن أن تكون حسنات. فالحرية تعيش حالة توتر واضح مع حسنات أخرى، مثل المساواة والعدالة والسعادة والأمن والنظام. ولذا، فإن النظام السياسي الذي يمنح أكبر مدى ممكن من تنوع الحسنات الإنسانية مُفَضَّلٌ على نظام يصرُّ على واحدة منها فقط. فقد تُمثل الحياة المكرَّسة لهدف نبيل طموحاً نبيلاً جميلاً، وربما أعلى هدف يمكننا التطلع إليه ككائنات بشرية فردية. ولكن ما لم نشعر داخلياً أننا مدعوون إلى ذلك الهدف، فإننا نكون قد وضعنا قاعدة سيئة جداً لفلسفة عامة.
وتظل مقالة برلين، "مفهومان للحرية"، حتى بعد نحو نصف قرن، تحليلاً مُلهِماً، تمتد معانيه وتبعاته إلى أبعد من المدى الذي ربما رآه برلين نفسه. فطريقته في تقسيم مفهوم الحرية ثبت أنها طريقة تنسجم بشكل رائع مع فرعي العلمانية المختلفين. فالعلمانية "السلبية"، علمانية اللامؤسسة، تمتلك الفضائل نفسها التي تمتلكها الحرية السلبية – انفتاح على منظورات متنوعة، سواء أكانت دينية أو لادينية، والتزام بالبحث الحر، والتعبير الحر، والتجمع الحر، و"تحرر من" إكراهيَّة أي منظور "رسمي"، بما في ذلك المنظور المتطرف.
وبالمِثل، تُثبت العلمانية الإيجابية، علمانية اللاإيمان المُمأسس، بأنها تعاني من النقائص نفسها التي تعاني منها الحرية الإيجابية. فالعلمانية "الإيجابية"، بتأكيدها أن المثال العلماني مُعتقد مطلق وبديل شامل، تعتنق، في الحقيقة، مثال السيادة الذاتية. وإذ تفعل ذلك، فإنها تشمل أيضاً التزماً بتبديد سوء المفاهيم المُضِرَّة التي تفترس عقول آخرين، والتزاماً بتحريرها من سحر الكهنة والمبشرين التلفزيونيين وغيرهم من ناشري الوهم، الأمر الذي يسمح لهم باكتشاف "ذواتهم الحقيقية" ويساعدهم على السير بـ"استقلال" أكبر فأكبر. وسواء أخذ هذا الأمر شكل إكراه أم لا، تظل العلمانية "الإيجابية" مثالاً مُحارِباً – ذلك المثال الذي حذّر برلين منه.
في الفقرة ما قبل الأخيرة من مقالته، يقدم برلين الكلمات التي تشكل الضربة الحاسمة في دفاعه عن التعددية، والتي تعبر أيضاً عن أهمية الإيمان الديني في الخبرة البشرية: "في النهاية، يختار البشر بين قيم مطلقة؛ يختارون كما يشاؤون، لأن حياتهم وفكرهم محددان بمقولات ومفاهيم أخلاقية جوهرية تُعتبر، في أي مدى زماني أو مكاني، جزءاً من كيانهم وفكرهم وحسِّهم بهويتهم؛ جزءاً مما يجعلهم بشر."
وبالكاد كان يمكن لبرلين أن يزودنا بسجل مناسب أفضل للأسباب التي تجعل حياةً دينيةً تعدديةً متنوعةً الحياةَ الأكثر ملائمةً والأكثر احتراماً ممكناً لكرامة الشخص الإنساني. إذ ما هو الدين إن لم يكن أكثر تعبيرات القيم المطلقة قوة؟ فما اعتبرته "العلمانية"، بخوف وازدراء، عبئاً تريد "ذواتنا الأفضل" التحرر منه، يعتبره المُعَلْمِنُ "السلبي" negative secularizer عنصراً أساساً في سداة ولحمة إنسانيتنا.
وقد يساعد هذا الفهم لعلمانيتين في شرح الوضع المفارق الظاهر في بداية هذه المقالة، الذي تبدو فيه العلمانية منتصرة ومهزومة في الوقت نفسه. بمعنى ما، كلا الزعمين صحيح. فقد قبل الأمريكيون بعامةٍ العلمانية السلبية كقاعدة أساس للتعايش السلمي في مجتمع تعددي دينياً. وأية إحيائية أو حماسة دينية أساس، يحتمل أن تشهدهما الولايات المتحد الأمريكية في الأعوام القادمة، ستكون قد قبلت القيد المسبق الذي تفرضه العلمانية السلبية كشرط مسبق لوجودها ذاته. ومن المؤكد أن قاعدة لاهوتية، يتم اختيارها بعناية، لاحترام "الآخرين" الموجودين خارج ناموس المرء، ستكون ضرورية لأي دين يأمل كسب حضور عام. ومن المرحج أن يستمر النشاط الديني والتعبير عنه بالنمو، وأنه سيسارع في تآكل العلمانية الإيجابية – لكنه سيفعل ذلك أساساً في إطار فهم علماني سلبي لـ"العالم". وليس من المحتمل أن تكون عودة الإيمان الديني "عودةَ المقموعِ" المرعبة، على الأقل ليس في الولايات المتحدة الأمريكية.
ورغم ذلك، يستنتج المرء أن على المعتقدات الدينية أن تمر بدرجة ما من التواؤم وهي تُعدِّل نفسها للعلمانية السلبية. وبداية، يجب عليها، كما يحصل، تعلُّم كيفية التَّصرف أمام الغرباء. فالسؤال الأساس الذي يجب أن يسأله الملتزمون بالدين هو: هل يُمثِّل ذاك التواؤم مساومة على عقيدتهم، أم إنه يعمِّقها ويوضحها؟ قد يكون الجواب مفاجئاً لمن يفكِّرون فقط في "الحرب بين العلم والدين،" أو في الانتصار النهائي أو الهزيمة النهائية للعلمانية الإيجابية، ولمن يفترضون أن كل تواؤم مجرد ديكور أو تبادل ثقافي. وقد تخلق هذه المشكلة عقبات للرؤى الدينية المتصلبة، يصعب التغلب عليها، وذلك لما تحمله هذه الرؤى من فهم جلف أو فقير لـ"العالم" وعلاقته بالمطلق. وستكون، وهذا مفهوم تماماً، مُقاوِمة لأي تواؤم يتنازل لأية سلطة على العالم.
ولكن لا يجب أن تكون الحال كذلك. فإذا تحدثنا للحظة عن العقيدة المسيحية، نقول إن نتائج مثل ذاك التواؤم ستكون بعامة إيجابية ومثالاً مهماً على ما دعاه اللاهوتي جون هنري نيومان "تطور المبدأ" development of doctrine . وسيفيد التواؤم في تذكير المسيحيين بشيء لا يرونه أحياناً: إن عقيدتهم تؤكد أن العالم ليس خيراً مطلقاً، مكتفٍ بذاته؛ إن العالم ليس بؤرة حصرية لطاقاتهم، وليس متلقٍّ نهائي تدور أمامه دراما حياتهم، ولكنه خيرعظيم جداً، عالم خيره ونظامه أصيلان، لأنه عالم منحه الله الخالق صفات الانسجام والجمال والقيمة والقابلية للإدراك، تلك الصفات التي لم يمحها الإثم. فحتى أكثر سكان ذاك العالم ضلالاً لا يزالون يقبلون صورة الإله، ويستفيدون جميعهم مما يدعى "النعمة العامة"، الأمر الذي يعني أنهم ما زالوا قادرين كليّاً على القيام بأفضل أفعال النبالة والعدالة والحب والحكمة. فليست صفات العقل والروح المبجلة حقيقة ملحوظة فقط، بل وحقيقة لاهوتية تؤكد أنها ليست ملكية حصرية للأخوة في الدين، وليست ممنوعة على الفنان أوالمفكر أوالسياسي غير المؤمنين.
ولذا، لا يجب النظر إلى مزية العقل التي نسميها "الإنسانية" كوليد آثم للعلمانية الإيجابية، بل كطفل حيوي للعلمانية السلبية، طفل يحمل وجهة نظر إيجابية واقعية عن المحتمل الطبيعي المتأصل في العقل والخيال البشريين. يكتب الناقد الثقافي كين مايرز "من المهم أن لا يعتبر (المسيحيون) الفن أو العلم أو العلوم الإنسانية تَبشيريَّةً evangelism تُبلَّغ بوسائل أخرى." ولا، قد يقول المرء، أن يكون الانسحاب الكامل إلى الآخروية العرفانيةGnostic otherworldiness، أو إلى أي شكل من أشكال الإدانة المتطرفة، هدفاً جماعياً. بدلاً عن ذلك، يجادل مايرز، إن هدف هذه المساعي البشرية، مثلها مثل هدف الحكومة أو السياسة، هو "بكل بساطة، الحفاظ على حياة بشرية خاطئة، ورغم ذلك ثرية، على هذا الكوكب." وحتي وصية يسوع "اعط ما لقيصر لقيصر" تمثل التزاماً حقيقياً من قبل المسيحيية بشرعية حتى أكثر الحكَّام السياسيين لاإيماناً، ولذا، من منظور مسيحي، تُمثِّل التزاماً بجدارة وكرامة مهمة الحكم السياسي الدنيوية.
من هذا تبرز ملاحظة أخيرة، أخشى أن تعيدنا إلى بعض التعقيد المتشابك الذي حاولت حلَّه. فإذا أخذنا بالاعتبار احترام العلمانية السلبية للعالم كما هو، فهل من غير الضروري أن نكون مستعدين لتأييد طقم من المعايير الأساس المتأصلة في الطبيعة – محددات وحدود أصيلة تأخذ العلمانية السلبية منها حسُّها بجمال العالم ونظامه وترتيبه وتدبيره الأخلاقي؟ و، كي نذهب إلى قلب المسألة، إلى أي مدى زمني يمكن أن يظل الحديث عن الحرية الشخصية ذا معنى ونحن نقترب بسرعة من النقطة التي تُعتبر الحرية عندها شاملة للحق الكامل بأن بفعل المرء أي شيء يريده بجسده وعقله الإنسانيين، بما في ذلك إعادة تشكيلهما جينياً وعقاقيرياً بشكل شامل؟ وفي مثل هذه الظروف، هل سيكون مفهوم الحرية الفردية مفهوماً إلا إذا افترضنا وجود مقياس ما للمُسْتَقِّر والمُحَدَّد في الشخص، ووجود مقاومة في الوسيلة التي يستخدمها؟ وهل سيتبخر مفهوم الحرية نفسه حين يكون انتصاره كاملاً، تماماً مثلما تتحوَّل مؤسسة أعمال إلى شيء مختلف حين تصبح احتكاراً؟ وهل يوجد أي سبب قوي بما فيه الكفاية ليقنعنا بأن لا نُسَمْكِرَ بذلك الاستقرار، ولذا نخاطر بجعل أنفسنا أول مخلوقات ما بعد بشرية – أي سبب، بالتحديد، ما عدا الفهم المسيحي- اليهودي للشخص الإنساني ككائن مخلوق كرامته وصفاته الجوهرية منحة إلهية من ذالك الخالق؟ وأين، وفق تقاليد أي شكل من العلمانية، يجد المرء دفاعاً كافياً ضد ذاك الإغواء؟
مثل هذه الأسئلة لا تأخذنا بعيداً عن العلمانية الإيجابية فحسب، بل وقد تجبرنا أيضاً على أن نعيد النظر بأي شيء يشبه مؤسسة دينية، وتطرح إمكانية قيام علمانية محترمة، قابلة للاستمرار، لا يمكن أبداً أن تكون موجودة بالكامل كنظام غير مؤسساتي، أي دون افتراض وجود عالم منظم محدد يقيِّدها. وليست المسألة مجرد حاجة إلى نوع ما من البدهيات والأنماط الاجتماعية والسياسية، بل أيضاً مسألة امتلاك البدهيات الصحيحة – بدهيات توفر فكرة متماسكة عما يعنيه كون المرء شخصاً إنسانياً. فمن دون مفهوم، كالمفهوم المسيحي- اليهودي عن النظام المخلوق الذي يشكِّل أعمال المجتمع العلماني والفكرة القائلة إن الشخص الفرد له كرامة مقدسة لأنه، بكل بساطة، مخلوق من قبل الله، قد لا توجد وسيلة فعّالة لاحتواء الدوافع القوية التي ستعمل على تقويض ذلك النظام. ونشاهد اليوم إشارات أولى لذلك الاحتمال في السهولة التي تتحول بها تدخلات غير استثنائية، من مثل الجراحة التجميلية أو استخدام المخدرات لعلاج خلل نفسي عسير، إلى تدخلات مشكوك فيها، من مثل تبديل الجندر، إعادة صناعة الذات عقاقيرياً، وإعادة تشكيل الأنواع (الأجناس)، دون رسم أي خط فاصل إلا تعسفيا. وسواء عرف مؤيدو هذه التدخلات أم لا، فإن عمل العلمانية الذي يؤكد العالم اعتمد دائما ضمنياً على المُعطى وعلى الصحة المطلقة لطبيعة منظمة، مداها وعظمتها عظيمان جداً ليمكن التغلب عليها بالإرادة البشرية. بالمفارقة مع ذلك، أدى الإيمان بوجود اعتبارات أبعد من أن يفهمها العالم إلى منح العالم تماسكه، لضمان الكرامة الإنسانية ولضبط الإرادة البشرية. فكرامتنا في التغلب – وفي عدم التغلب. فما الذي سيحل محل هذه الاعتبارات حين يتحول كل ما كان صلباً إلى طين، إلى قابلية للتطريق اللانهائي.
ويبدو أن برلين اعترف بشيء مثل هذا في أواخر حياته؛ اعترف بأن كلا الحريتين الإيجابية والسلبية يجب أن تكونا محصورتين، بشكل ما، في مدار معين. وآمن بأن ذلك المدار يمكن الوصول إليه بوسائل تقليدية تماماً، وواصل حتى النهاية ليرفض حاسماً أية فكرة عن أنماط عامة صالحة بالمطلق. واعتقد بأنه لو آمن بالعكس لانتهك فهمه للتعددية. ولكن ذلك الفهم قد لا يكون سهلاً جداً علينا. فأضعف نقاط عمل برلين وأكثرها إحباطاً، تظهر في تلك اللحظات التي يكون فيها مُجبراً على الاحتكام إلى معيار تقليدي مبهم لـ"تلك المبادئ التي قبلها معظم الناس لمدة زمنية طويلة" بدلاً عن ارتكاب إثم الإعلان غير المغفور للمطلق. وربما لم يستطع رؤية المدى الذي جعله اعتماده الإنجليزي على رواسب الممارسة الثقافية الغربية، كقوة موازنة للحرية – وبالتالي للعلمانية – يطرح افتراضات لا نستطيع من بعد افتراضها، ولا الاعتماد عليها. لقد قاوم برلين الأحادية، استبداد الحقيقة الواحدة. ولكنه ربما كان بحاجة إلى أن يكون أكثر نقداً لنقده هو، تماماً كما يحتاج المرء دائماً أن يكون معتدلاً في اعتداله. ففي بداية قرن جديد، يبدو أن العلمانية السلبية نفسها قد تحتاج عودة إلى الوراء، لتعتمد على أدوات أقوى من مجرد التقليد، إن كان لها أن تبقى وتزدهر.
#غازي_مسعود (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
العولمة والإمبراطورية
-
بي بي سي: ماركس أعظم فيلسوف في التاريخ
المزيد.....
-
في ظل حكم طالبان..مراهقات أفغانيات تحتفلن بأعياد ميلادهن سرً
...
-
مرشحة ترامب لوزارة التعليم تواجه دعوى قضائية تزعم أنها -مكّن
...
-
مقتل 87 شخصا على الأقل بـ24 ساعة شمال ووسط غزة لتتجاوز حصيلة
...
-
ترامب يرشح بام بوندي لتولي وزارة العدل بعد انسحاب غايتس من ا
...
-
كان محليا وأضحى أجنبيا.. الأرز في سيراليون أصبح عملة نادرة..
...
-
لو كنت تعانين من تقصف الشعر ـ فهذا كل ما تحتاجين لمعرفته!
-
صحيفة أمريكية: الجيش الأمريكي يختبر صاروخا باليستيا سيحل محل
...
-
الجيش الإسرائيلي يوجه إنذارا إلى سكان مدينة صور في جنوب لبنا
...
-
العمل السري: سجلنا قصفا صاروخيا على ميدان تدريب عسكري في منط
...
-
الكويت تسحب الجنسية من ملياردير عربي شهير
المزيد.....
-
ما بعد الإيمان
/ المنصور جعفر
-
العلمانية والدولة والدين والمجتمع
/ محمد النعماني
المزيد.....
|