|
السرد المكتنز:قراءة في (طقوس للمرأة الشقية)
فيصل عبد الوهاب
الحوار المتمدن-العدد: 1592 - 2006 / 6 / 25 - 05:50
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
يمكن توزيع القصص القصيرة جدا في المجموعة القصصية ((طقوس للمرأة الشقية)) محمود شقير إلى أربعة أقسام: هم الوطن والهم الاجتماعي والهم العاطفي والجو السريالي (الفانتازيا). إن معظم قصص المجموعة تنتمي إلى هذا الفن الرفيع ((القصة القصيرة جدا)) بمكوناتها الرمزية والشعرية والإيحائية والبعض الأخر لا ينتمي حقيقة إلى هذا الجنس بسبب نثريته البالغة وتقريريته التي تقربه كثيرا إلى ((الخبر)) أو ((الحكاية)) أو ((المقالة)). في مجال هم الوطن تبزغ قصة ((الأغنية)) لتأخذ الصدارة في المجموعة في التعبير عن مأساة الشعب الفلسطيني الذي سرقوا منه الأغنية كرمز للفرح المفقود.. كل الشعوب تغني إلا هذا الشعب... وعليه أن يصبر مئة سنة على الأقل لكي يستعيد الأغنية التي تعني الوطن أو هي المعادل الموضوعي له.. فالقاص هنا يهمل الأغاني الحزينة التي تؤرخ لهذه المأساة ويقتصر رمزه على الأغنية _الفرح_ الوطن) . وتلتقي هذه القصة برمز الأغنية مع قصة ((النشيد)) إلى حد ما مع اختلاف في توظيف هذا الرمز. وقصة ((عهد)) تميل إلى المباشرة قليلا فبطل القصة يتخيل وطنه البعيد عنه تغمره المصفحات فيكتب عهدا على صفصافة القلب ولا يحتاج الكاتب للتعريف بهذا العهد. يوظف الكاتب رمز المطر بجانبه السلبي فعندما يتوقف المطر يكتب بطل القصة عهده. وفي قصة ((قتل)) لم يحسن القاص توظيف رموزه جيدا مثل رمز((القمح)) وكانت النهاية مباشرة جدا مما قلل من فنية القصة واتجه بها نحو((الخبر)). وموضوع هذه القصة يلتقي مع موضوع اثنتين من القصص الأخرى هما ((الوقوف في الظلام)) و ((أرغفة)) وهو مسألة التعذيب في المعتقلات. ويحسن القاص في قصة ((أرغفة)) توظيف رمز الرغيف الذي يقابله الدم فلا يمكن الحصول على الرغيف إلا بالدم في وطن سليب، إضافة إلى إمكانية تحميل هذا الرمز معان أخرى كثيرة في سياق القصة. وترتفع قصة (افتقاد) إلى المرتقى الرمزي الرفيع في نهايتها التي عبر فيها القاص عن غياب البطل الشهيد بان (البيت كان مسكونا بالصمت، وعلى جدرانه تتكاثف الظلمات). كما يشير برمز الظلام إلى ظلمة السجون ووحشيتها في قصة ((الوقوف في الظلام)) انه الليل يتقدم. وبهذا المعنى أيضا يوظف القاص رمز الظلمة في قصة ((وداعة)). وفي قصة (صالة) يتكاثف الحنين إلى الأوطان في الغربة إلى درجة التمتع بارتياد المطار يوميا لا لشيء إلا لأنه المقترب الأول أو المفتاح الرئيسي للوصول إلى تلك الأوطان. وفي قصة (مدى) يترافق المطر مع الريح ليتوافقا مع رمزي الشرطي والظلام للدلالة على القوة الغاشمة التي تحكم في وطنه والتي يقابلها صحو البطل (تشتعل في قلبه حالة صحو حارقة). وفي قصة (مهاجر) تتكاثف الرموز لتكوين قصة تلخص مأساة الشعب الفلسطيني. فالمهاجرون القادمون من شتى بقاع الأرض الباحثون عن وطن يلتقون مع المناضلين الفلسطينيين الباحثين عن وطن مفقود أيضا يتوزعهم رمز الليل الزاحف ببطء والشرطي رمز القوة الغاشمة الذي ((ينوء تحت وطأة الوظيفة وعبء الانتصار والعيون التي تخترق الكوى بحثا عن وطن)). فالمهاجرون إلى وطن والمهجرون من وطن كلاهما يبحثان عن وطن في ليل دامس. وتلخص عبارة ((عبء الانتصار)) مشكلة إسرائيل و مأزقها في المحافظة على انتصارها على العرب بما تدفعه من خسائر باهظة. وقد برع القاص هنا في توظيف رمز الشرطي ليكون القوة الغاشمة التي تبطش بكلا الطرفين؛ المهاجرين إلى إسرائيل والفلسطينيين المهجرين منها في معتقل كبير اسمه (إسرائيل). وقصة ((البحر)) توحي بالكثير عن هم الوطن والحنين إليه حيث يتكاثف هذا الإحساس بالمقابلة بين (وطن غير مكبل) وهو الوطن المنفى و (البلاد الأسيرة) وهو الوطن الحقيقي (فلسطين). وقد ابتدأ الكاتب قصته بهذه الجملة الموحية التي تعبر عن هذا التقابل (بلاد وافرة الخضرة تذكره ببلاد أخرى يشتاق إليها فتظل بعيدة) واختتمها بنهاية موحية أيضا (وازداد شعوره بالوحشة، أصغى إلى همهمات البحر، فأدرك انه وحيد كطفل، حزين كبلاد أسيرة). وما بين البداية والنهاية هناك بحر وسفينة تبحر إلى جهة معينة يتخيلها البطل أنها تبحر إلى وطنه الأسير، فيظل البطل يرقبها إلى أن تختفي تماما. وفي قصة ((تفاحة)) تكرس الفتاة نفسها لحبيبها الذي قتل ثلاثة من الجنود الإسرائيليين وتنتظره مدة محكوميته البالغة خمس وعشرين سنة ولكن هذه المدة غير معقولة قانونيا ومدة المحكومية في مثل هذه القضية لا تقل عن ستين سنة. أما قصة ((نزهة)) فتتحدث عن الانتهاكات التي تحصل في المخيمات وفي نهاية القصة بارقة الأمل التي لا تنطفئ مهما تكاثف الظلام (ثم يغادرون المخيم ترقبهم وجلة من مخبئها زجاجة حليب لم تنكسر، وشمعة قرب جثة الطفل لم يقتلها الرصاص، فظلت تضيء إلى ما بعد الفجر). وفي قصة ((فراق)) ولنسميها (فراق 1) لأن هناك قصة أخرى تحمل العنوان نفسه، يقترن اللون الأبيض بالموت ويتحول رمز البياض من اللون المحبوب لدى البطل إلى لون مقيت لدى الزوجة لأنه لون الكفن بعد استشهاد الزوج لكن مدلولات هذه القصة تسير بشكل معاكس لما أراده القاص لها. أما في قصة ((فراق 2)) و ((بلاد)) فإنهما تتحدثان بلغة مباشرة عن التهجير إلى خارج الوطن ومشكلة الحدود كما إن قصة ((مدينة ما)) يمكن تلخيصها بالسطرين التاليين: (تحاول أن تتناسى الأمر خاصة وان أعين الشرطة تهوم بعيدا عن البيت بحثا عن رجال خطرين يهددون امن المدن المبهمة). أما قصتي ((شقق)) و ((رحيل)) ففيهما إدانة واضحة للحروب حيث إن القصة الأولى تنحو منحى طبقيا في تحميل الطبقة الفقيرة أعباء تلك الحروب فيما تغص الطبقة المترفة في ملذاتها. وفي الهم الاجتماعي يركز القاص على العلاقات الطبقية وانعكاساتها على الهم الوطني ففي قصة ((الحرب القادمة)) يوظف القاص المفارقة الساخرة irony في كشف العلاقات الاجتماعية وصلتها بالحرب ليوحي لنا إن الحرب لا يستعد لها الأغنياء والمترفون وإنهم غير معنيين بها تماما مثل قصتي ((شفق)) و ((رحيل)). وفي قصة ((كاترجينا)) يطرح الكاتب معادلة الماء والنفط بطريقة توحي بالفوارق الطبقية بين الدول الغنية المتخمة بالبترول والدول الفقيرة اللانفطية. فبطلة القصة التي تنتمي إلى الدول اللانفطية الأجنبية تتمنى أن يتحول الماء نفطا بينما بطل القصة يتمنى أن يتحول النفط ماءا أي أن تذوب الفوارق بين الدول النفطية والدول اللانفطية. وفي قصتي ((تفاهم)) و ((كآبة)) نرى الهم الاجتماعي مجسدا بهموم الحصول على الرغيف. وفي قصة ((أم)) تتماهى التوصيفات بين الأم والزوجة لإتحاد الوظيفة الاجتماعية بينهما. في قصة (انسجام) يكشف القاص ممارسات الطبقة المترفة وانفصالها عن الهم السياسي وانغماسها بالملذات. وفي قصة (زقاق) نجد اللامبالاة تجاه الموت العبثي للعروس في ليلة زفافها. وفي قصة ((امرأة)) تبدو المبالغة جلية في انتظار المرأة لرجلها المسافر ووقوفها عند الباب. أما في الهم العاطفي ففي قصة ((هموم)) يجعل القاص من المطر رمزا مكثفا للأمل والخير القادم. وفي قصة ((اشتباك)) يقترن رمز المطر بالحياة والموت معا فهو يترافق مع جنازة الرجل العجوز مثلما يترافق مع الحبيبين اللذين ينويان الزواج ولكن القاص هنا يحمل المطر إيحاءا جنسيا ((البنت التي أشعلها المطر) كرمز للغريزة وباتجاه يخدم الإقبال على صنع الحياة. وفي قصة ((لقاء)) لم يجد الحبيب طريقة للتعبير عن ثبات حبه لحبيبته وخلوده غير أن يحفر اسميهما على جذع شجرة البلوط. انه الارتباط الروحي بالأرض والطبيعة أيضا. إن الطابع الرمزي لهذه القصة لا يتعارض مع مسحة الرومانسية الشفيقة التي تغلف القصة. إضافة إلى البعد الواقعي المتجسد في التشبث بالأرض وهو ما يحمل دلالة خاصة بالنسبة لوضع فلسطين الخاص. وفي قصة ((المضيفة)) يكثف القاص رموزه بالتقابل بين الحب الروحي الذي يمثل طرفيه المضيفة والمسافر وهما في أعالي السماء وبين الحب الواقعي إن صح التعبير أو تحطم ذلك الحب على صخرة الواقع. وقد كثف القاص هذه الفكرة في منتصف قصته بطريقة موحية: ((تهبط الطائرة في المطار، يشعر أن العواطف التي تتشكل فوق الغيوم قد لا تصمد بالضرورة أمام وطأة الممرات الصقيلة وعيون المستقبلين وإجراءات الكمارك وغيرها من إجراءات)). وفي قصة ((تمرد)) نرى ثورة الأنثى على اللامبالاة التي تحيطها وضد العالم الذي لا يكترث لامرأة عطشى للحب والحنان وبحاجة إلى تحقيق ذاتها من خلال طفل تنجبه يملأ عليها الدار فكانت نهاية القصة مكثفة وموحية برمز الماء الذي يمثل استمرار الحياة: ((تقع عيناها على تمثال الرجل البرونزي، تتأمله، ثم حينما تكتشف صمته الأبدي تقذف به من الشباك، يتسلل الماء إلى بلاط الغرفة ثم يستلقي هناك، ترتمي عارية فوق البلاط حيث الماء، وفي الخارج يتمطى العالم على رسله، دون أن يفكر ولو بإطلالة خاطفة من وراء الشباك)). وفي الجو السريالي تبدو لنا واحدة من أجمل قصص المجموعة وهي قصة ((طقوس المرأة الشقية)) والتي تحمل عنوان المجموعة حيث يوظف القاص العناصر السردية فيها بشكل مشوق ومنها عنصر الخيال الذي يتبدى في صورة ملك الموت الذي يقف حائرا أمام الجمال المبهر لتلك المرأة الشقية التي تنوي الانتحار. ويكثف القاص رموزه ومضامينه فيها فلم يذكر لنا أسباب ميل هذه المرأة الجميلة للانتحار غير إن ((الطفلة التي تبكي في داخلها لا تكف عن البكاء)) وهي عبارة تشي بعشرات الأسباب والتي يمكن أن تترك القارئ يتخيلها وفق ما يريد. وفي قصة ((اجتماع)) يتبدى الجو السريالي اللاواقعي حين يأكل المجتمعون بعضهم بسبب الجوع. ويمكن تفسير هذه القصة مجازيا باعتبار إن الأكل هنا يعني التعدي على حقوق الآخرين. أما قصة ((صفقة)) فلم يشفع الجو السريالي لضعفها فالمبالغة أفسدت الناحية الفنية فيها وقد أكدت نهايتها هذا الجانب الضعيف. ولم يحسن القاص توظيف الجو في قصصه ((اختطاف)) و ((عقوبة)) و ((جنازة)) فجاءت قصصه تحمل معنى المبالغة فقط. أما في قصتيه ((تمثال)) و ((قلب)) فان القاص يوظف الجو السريالي عاطفيا على نحو أخاذ بحيث يتطابق الشكل مع المضمون المكتنز.
#فيصل_عبد_الوهاب (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الاعلام الموضوعي
-
مع المتنبي
-
السرد المكتنز:قراءة في - طقوس للمرأة الشقية
-
الحوار بين الشرق والغرب
-
تأويل النهار
-
الاستشراق الامريكي
-
مسرحية لغة الجبل لهارولد بنتر
-
التفسير السيكولوجي للنص
-
حول العلاقة بين الناقد والمبدع
-
قراءة نقدية في المجموعة القصصية - البئر
-
سلبيات الديمقراطية وايجابيات الديكتاتورية
المزيد.....
-
هل يعارض ماسك الدستور بسبب حملة ميزانية الحكومة التي يقودها
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وأخرى تستهدف للمرة الأولى-..-حزب
...
-
حافلة تسقط من ارتفاع 12 مترا في حادث مروع ومميت في فلاديفو
...
-
بوتين يتوعد.. سنضرب داعمي أوكرانيا بالسلاح
-
الكشف عن التاكسي الطائر الكهربائي في معرض أبوظبي للطيران
-
مسيرات روسية اختبارية تدمر مركبات مدرعة أوكرانية في اتجاه كو
...
-
مات غيتز يتخلى عن ترشحه لمنصب وزير العدل في إدارة ترامب المق
...
-
أوكامبو: على العرب الضغط على واشنطن لعدم تعطيل عمل الجنائية
...
-
حاكم تكساس يوجه وكالات الولاية لسحب الاستثمارات من الصين
-
تونس.. عبير موسي تواجه تهما تصل عقوبتها للإعدام
المزيد.....
-
-فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط- استعراض نقدي للمقدمة-2
/ نايف سلوم
-
فلسفة البراكسيس عند أنطونيو غرامشي في مواجهة الاختزالية والا
...
/ زهير الخويلدي
-
الكونية والعدالة وسياسة الهوية
/ زهير الخويلدي
-
فصل من كتاب حرية التعبير...
/ عبدالرزاق دحنون
-
الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية
...
/ محمود الصباغ
-
تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد
/ غازي الصوراني
-
قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل
/ كاظم حبيب
-
قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن
/ محمد الأزرقي
-
آليات توجيه الرأي العام
/ زهير الخويلدي
-
قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج
...
/ محمد الأزرقي
المزيد.....
|